صفحات العالم

عنف شاذ على شريط الفيديو

شاكر الأنباري

أثار الفيديو الذي بثته قنوات فضائية عدة، ومحطات التواصل الإجتماعي، عن معارض سوري يأكل قلب قتيل من جيش النظام استنكارا أخلاقياً واسعاً بين المثقفين، والسياسيين، ومؤسسات المجتمع المدني، حتى وصل صدى هذا التسجيل البشع، والبربري، الى أروقة الأمم المتحدة، والدول الكبرى، ومنها الولايات المتحدة الأميركية التي أدانت المشهد بأقوى الكلمات. وكأن هذه اللقطة تذكر المشاهد بأفلام زومبي، ودراكولا، وأكلة لحوم البشر، التي طالما عرضتها سينما الرعب الغرائبية، باعتبارها ظواهر شاذة يرتكبها أفراد لديهم خلل جسدي أو نفسي يقودهم الى ارتكاب فظاعات مثل تلك. وهي فظاعات أخلاقية بالدرجة الأولى، اذ ليس هناك أي دين أو تعاليم وضعية تسمح، أو تبرر وتشجع على أكل لحوم البشر أو التمثيل بهم أحياء أو أمواتا، اضافة الى خروج هكذا أفعال على الذوق العام والسلوكيات السليمة.

لقطة مقززة بحق، وهي كذلك، لكن حين يضعها المحلل، والدارس، والمحايد، في عدسة الفحص يصل الى نتيجة مفادها أن الأمر متوقع، ومفهوم، وعشناه سابقا بطرق أخرى، لكن لم تسلط عليه عدسة الكاميرا بهذا القرب. هكذا نمط من الأفراد هو نتاج ظروف غير طبيعية، والظروف غير الطبيعية عادة ما تخلق أناسا شاذين، ومشوهين، ومختلين في الرؤية والسلوك. جميعنا يتذكر فترة الحرب العراقية الايرانية، ومفارز الاعدامات التي كانت تقف خلف القطعات لاعدام أي جندي يتراجع الى الخلف، وجميعنا يتذكر الجثث المقطعة لـ”أعداء”، في التلفزيون والواقع، والتي يتعامل معها الجنود بشكل يومي، دون أن تمنعهم فظاعة المشاهد من تناول وجباتهم اليومية في الغداء والعشاء. اعتياد القتل يجعله ممارسة روتينية لدى القاتل، مثل الأكل والشرب والنوم. وماذا عن وضع عبوات ناسفة في جيوب أشخاص يركنون في حفرة ثم يتم تفجيرهم عن بعد، أو القصص المرعبة عن اطلاق كلاب وحيوانات على سجناء، وماذا عن عمليات التعذيب في السجون من بقر للبطون وفقء للعيون وحفر الرؤوس بالآلات الحادة، وحرق الأجساد بالسجائر وغير ذلك الكثير. الحقيقة أن هذه الفظائع لم تمارس في العراق فقط، سواء في السجون أو على الجبهات، انما في بلدان عربية كثيرة، ومن بينها سوريا أيضا، منشأ الفيديو المثير بدركه البشري الذي فاجأ الجميع.

هذه الدوافع على ارتكاب العنف، وتقبله، والاستمتاع به، ليست صناعة فردية فقط، وان كان جزء منها له علاقة بالمؤسسة الأمنية وبربريتها، أو العقيدة الاقصائية والمنغلقة التي تضخ كل يوم في عقل الشخص المنتسب، لكنها بالأساس صناعة مجتمع. صناعة للعنف متوارثة جيلا بعد جيلا، تكمن في ثقافة الفرد، وهي تجبل فيه استعدادا لقتل الآخر المختلف. وهذه الصناعة لها مكونات عديدة، ومعادن مميزة، من ذلك غياب روح التسامح ولغته، وهيمنة الذكر في البيت والشارع والمؤسسة، وقمع أي حوار مع الأبناء والأحفاد، وتهميش واقصاء المرأة سواء كانت أما أو زوجة أو حبيبة، ونعرف جيدا ما للأنوثة من دور في تخفيف عدوانية البشر، ومن توجيه الى ادامة الحياة وحفظها لا تحطيمها وقتلها، وقديما قال الصوفي العالمي، ابن الثقافة الاسلامية المتسامحة محي الدين بن عربي: كل ما لا يؤنث لا يعول عليه.

اذن هي بيئة اللامنطق، واللاحوار، والقادمة من بطون التاريخ المظلمة. وفترات الحروب تخلق مشوهين ووحوشاً، فليتخيل المرء وهو يرى صاروخ سكود ينفجر في بيته ويقتل أبناءه وبناته وأعزاءه، أو يتخيل طائرات تقذف حممها من الجو على أبناء مدينته أو قريته، أو يتخيل قطاع طرق وجنودا نظاميين يرتكبون مجازر مروعة بالسكاكين والبلطات والسواطير، ويخلفون بعد مرورهم مقابر جماعية على أديم التاريخ، كما حدث لجيوش البعث أيام حروبها وانتقاماتها ومجازرها، وكما يحدث في معظم حروبنا، ومنها الليبية والسورية والصومالية والافغانية، وقبلها العراقية واللبنانية، التي عاثت بنفوسنا فسادا. هل يمكن الطلب من الناجين البقاء بشرا أسوياء؟ أعتقد أنه طلب ظالم، ويدل على خلل في ضمير المراقب، أو الحاكم على الحدث مهما كان بربريا وقاسيا. نحن عادة ما نبحث عن سبب ودوافع ما يجري، لقراءته قراءة معرفية، تصبح درسا أخلاقيا للأجيال القادمة كي لا تتكرر المشاهد البشعة بتفاصيلها.

من يعتقد ان الحروب الأهلية نزهة عابرة فهو واهم، ومن يعتقد أن خلخلة السلم الأهلي لعبة سياسية تعود بالمنافع فهو واهم. وقد كنا شهودا على المجازر الشاذة والتشوهات الحاصلة أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، حتى ان اشاعات سرت ذلك الحين ان المشاهد المقززة التي حدثت في تلك الحرب ارتكبها أشخاص كانوا فاقدي الوعي الطبيعي نتيجة لتناولهم المخدرات. لكن ماذا عن المشاهد الأكثر بربرية التي عشناها بالمرحلة القريبة في العراق، وقد ارتكبت من ارهابيين عراقيين يدّعون التدين والجهاد والثبات على المبدأ، لم يتناولوا المخدرات اللهم الا مخدرات الكره والضغينة؟ وكذلك ما شاهدناه في حرب اسقاط القذافي، وكيف كانت كثير من الفضائيات تتفادى عرض المشاهد الدموية على شاشاتها كونها شاذة، ومقززة، وكريهة، نقرأ فيها المدى البشع من الانحطاط الذي وصلت اليه شرائح من مجنمعاتنا، دون أن يفرمل من بربريتها دين، أو أخلاق، أو “أتكيت” سياسي أو مهني؟

أكل قلب العدو مشهد مقزز، وبربري، لكنه متوقع، ودور النخب ذات الضمير، وذات الثقافة الانسانية الحية، والمشتغلين في حقول التسامح الديني، هو ليس فقط القفز الى منطق الادانة، انما في منع تكرار هكذا أعمال. لكن المنع يأتي بالدرجة الأولى في تفهم دوافع هكذا أعمال، واشاعة ثقافة التسامح، وجعل الحديث في الترويج للحروب، والتحريض على الكره الديني والمذهبي والطائفي خطوطا حمر، تأتي في أولويات أي تحليل أو تنظير حول موضوعة العنف. بعض التحليلات الطائفية والموتورة تصل بشاعتها الى مستوى مواز لأكل قلب جندي ميت. اذا ما فشلنا في ذلك فلا يتوقع احد أن تتوقف مثل هكذا أعمال كونها ستخدش مشاعر الناس، أو لن يرضى عنها مفكر هنا أو شاعر هناك، أو لأن الدين يحرمها، والا لنسأل دائما لم تسلسلت، وتتابعت، وتطورت لتصبح أشد بشاعة. مدن بكاملها تباد، كما في حلبجة وحمص وطرابلس وغيرها وغيرها من المسلسلات العربية، وجرائم العنف الفردية أو الجماعية منذ الثمانينيات وحتى الآن؟

الحقيقة من يتجرأ على قصف مدينته بالطائرات والصواريخ يمكنه بكل بساطة أكل لا قلب عدوه فقط بل اللسان والكلى والكبد. ومن يتجرأ على أكل قلب عدوه أمام الكاميرا قادر هو الآخر على قصف مدينته بالصواريخ ومختلف أنواع الأسلحة، لذلك تظل الجريمة هي الجريمة، سواء كبرت أو صغرت. ويظل المهم لا ادانتها فقط، انما تحليل دوافعها، ومعرفة الظروف التي رافقتها، لكي نحاول بذلك ان لا يتكرر السيناريو ذاته كل يوم. كي لا يتحول أبناؤنا الى دراكولات معاصرة يطاردون ضحاياهم في كل زقاق وشارع.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى