صفحات الثقافة

عن أمجد ناصر: مجلة «نقد» الفصلية


بطاقة أمجد ناصر

العدد 6 – خريف 2011

ولد أمجد ناصر في المفرق بالأردن العام 1955. عمل في الصحافة العربية في بيروت وقبرص، ويُشرف حالياً على القسم الثقافي في جريدة «القدس العربي» التي تصدر في لندن. صدر له في الشعر: «مديح لمقهى آخر» (1979)، «منذ جلعاد كان يصعد الجبل» (1981)، «رعاة العزلة» (1986)، «وصول الغرباء» (1990)، «سُرَّ من رآكِ» (1994)، «مرتقى الأنفاس» (1997)، «حياة كسرد متقطّع» (2004)، «كلّما رأى علامة» (2005)، «فرصة ثانية!» (2010). صدرت طبعتان من أعماله الشعرية الكاملة في كل من بيروت وعمّان. وله في أدب الرحلة ثلاثة كتب، ويُعتبر من الكتّاب الذين أعادوا هذا الجنس الكتابي – الذي له أعلام كبار في التراث العربي – إلى المدوّنة الكتابية العربية مرّة أخرى. تُرجمت أعماله إلى الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية. له رواية واحدة بعنوان «حيث لا تسقط الأمطار» (2010).

 مجلة «نقد» الفصلية، العدد 6، خريف 2011

أمجد ناصر… حطام ما يطير

ماهر شرف الدين

العدد 6 – خريف 2011

منذ ديوانه الأول «مديح لمقهى آخر» (1979)، كان أمجد ناصر يُرسل برقيةً ما، تَبيَّن في ما بعد ألا رجوع عنها. فهذا الديوان التفعيليّ افتتحه الشاعر بقصيدة نثر: «أبواب للسماء ولكنها ضيِّقة»، وأنهاه بقصيدتَي نثر: «كونكريت» و«نشيد وثلاثة أسئلة» (ثمة مقطع نثري في كل من قصيدتَي «مديح لمقهى آخر» و«الفتى»، يبدو على سبيل التجريب).

تقريباً، كان ذلك بداية «الحصار» الذي ضربه أمجد ناصر على الجانب الكلاسيكي في تجربته التي كان يُعدُّ لها لأن تكون طليعيَّة.

ولم يلبث أن استكمل ذلك في ديوانه الثاني «منذ جلعاد كان يصعد الجبل» (1981)، وليس فقط بأن جاء خالياً من القصيدة التفعيلية، بل بأن اختار الانحياز إلى مفهوم معيّن للشعر. وإذا طُلبَ منِّي شرح ذلك المفهوم بمثال سأختار المثال الآتي:

في ديوانه الأول كان ثمة أكثر من معجم للمصطلحات التي في إطارها العادي لا يمكن أن تكون من طبيعة المعجم الشعري في شيء، ومن تلك المعاجم: معجم المقاومة (أو الشعر المقاوم) حيث تكثر مصطلحات مثل: البندقية، دماء الرفاق، الطلقات، البيان الشيوعي، نار المواقع، القصف، السترة العسكرية… إلخ. ومعجم البداوة حيث تكثر المصطلحات التي تمتُّ إلى البداوة بصلة، حتى أن بعضها يغدو غير مفهوم لدى القارئ العادي، مثل: العِجيان (الأولاد)، الحَلال (الأغنام)… لكن أمجد ناصر في ديوانه الثاني تخلّى عمَّا أسميناه «معجم المقاومة» في مقابل إبقائه على (بل وتعزيزه لـِ) ما أسميناه «معجم البداوة».

إذاً، في وسعنا القول إن أمجد ناصر بهذا الاختيار بلورَ فكرته عن الشعر، حيث خلّصه من أصفاد الأيديولوجيا ليُطلقه في براري الفن الحرّ.

قصائد «اشتراكية» مثل «عمَّال النسيج» لم يعد لها وجود في الديوان الثاني رغم أنه يُشكِّل امتداداً فنياً للأول. بل إنه يُكرِّر تجربته مع قصيدة من الديوان الأول كتبها موزونة (قصيدة «الشافعي») لـ«يُعيد» كتابتها نثراً في الديوان الثاني (قصيدة «صلاح الشافعي، أيضاً»).

بالطبع، بصمات السابقين كان لها حضورها في بدايات أمجد ناصر (سعدي يوسف، محمد الماغوط، محمود درويش…). فنحن لا نستطيع مثلاً قراءة قصيدة «هجاء» من ديوانه الثاني دون التفكير ببُنيتها الماغوطية: «كصقر محطَّم القلب/ كعاصفة بلا أسنان/ سأتكئ على حافة المدينة/ وأصدُّ بظهري شظايا الأصدقاء…».

وربما سببُ ذلك وضوحُ الرغبة التجريبية لدى ناصر، حيث نجد في دواوينه المبكرة أشكالاً عدّة للقصيدة، وسعياً محموماً لإنجاز النموذج الذي سيرتاح إليه الشاعر في ما بعد ويقول: لقد وجدتُ طريقي.

الديوان الثالث «رعاة العزلة» (1986) كان ديوان النضج وتشكُّل الملامح الأساسية في تجربة الشاعر. والأهم العثور على خيط الإيقاع الخاص به، والذي سيُسجَّل باسمه في دواوينه الأخيرة. ويمكنني أن أسوق قصيدة «مبارزة» كمثال على تلك اللقيا الإيقاعية التي وقع عليها الشاعر في «رعاة العزلة».

الديوان الرابع «وصول الغرباء» (1990) هو ديوان تبلورِ الصوت الخاص بالشاعر بطريقة فذّة. بل إن قصيدة «وصول الغرباء» التي حمل الديوان الصغير اسمها، تكاد تكون المقدّمة الفعلية للديوان المهم «حياة كسرد متقطّع». في أجوائها تجد المعادل الشعري لمصطلح «الواقعية السحرية» المتصل بالرواية، وفي سيلانها تجد السرد حلالاً، وبلا حَسَك.

مع «سُرَّ من رآكِ» (1994)، الديوان الخامس، تبدأ الذُّرى في أعمال أمجد ناصر. ديوان إيروتيكي خالص. عنف عذب، أو ربما – على العكس – عذوبة العنف. لقد نجح أمجد ناصر في ديوانه هذا بتقطير العذوبة من العنف، باستخلاص الرحيق من زهرة الشوك: «يا بدوية البرد/ باعدي قليلاً ليصل الهواءُ/ إلى الكمأة التي تنبلجُ/ تحت المحراث».

بل إنك تكاد تفكِّر بأن هذا البدوي الرقيق الذي يسكن لندن، لا بدَّ أن يُذكرك بحكاية علي بن الجهم، الشاعر العبّاسي الذي قطَّر بفطرته البدوية أرقّ ما في مدنيَّة بغداد في ذلك الزمان.

في «مرتقى الأنفاس» (1997)، الديوان السادس، الذي يبلغ فيه الحضور المعجميّ أشدّه، يُعيد أمجد ناصر كتابة سيرة أبي عبدالله الصغير آخر ملوك الأندلس، وكأنها سيرة شخصية لكل شاعر يخرج من غرناطته الخاصة/ أماكن طفولته. وكأن الهزيمة هي وجه من وجوه الكينونة الشعرية، أو هي القَدَر الوجداني الخاص بكل شاعر. ديوان ملؤه الحنين المحفور على قطعة ألماس.

في «حياة كسرد متقطِّع» (2004)، الديوان السابع والأكثر خطورة في تجربة أمجد ناصر، غالباً ما نجد أنفسنا أمام حُطام قصيدة، فلا الشعر شعر ولا النثر نثر. لكنه حُطام أشبه ما يكون بحطام طائرة. أشبه ما يكون بذلك الحطام الذي هو حصيلة طيران وتحليق وليس حصيلة اصطدام؛ حطامُ ما يطير. حصيلة الذهاب إلى الحد الأقصى، حصيلة التخوم التي ليس بمستطاع الشعر ارتيادها بلا انفجار.

أمجد ناصر مع هذا الديوان بات أحد آباء القصيدة العربية الحديثة.

«كلما راى علامة» (2005)، الديوان الثامن، هو بمثابة عودة خاطفة إلى «مرتقى الأنفاس»، أو بالأحرى إلى مرحلة ما قبل «حياة كسرد متقطِّع». إنه كتاب قيافة الأثر بالشعر، وإتمام النحت بإزميل لا يفلّ.

في «فرصة ثانية» (2010)، ديوانه التاسع والأخير، استطاع أمجد ناصر – بخلطته النثرية التي اجترحها في «حياة كسرد متقطِّع» – تكريسَ انتصاره على الذهنية الأخلاقية في مسألة وجوب تحديد النوع، والذهنية السياسية في إقامة الحدود بينها، والذهنية الدينية في لزوم وضوح الجنس.

كتاب متقشِّف أحياناً في صوره واستعاراته حتى لتكاد تظن أن الشعر فيه يمشي حافي القدمَين. لكن غناه الباطني هو الأصل.

فأحياناً يخطر لي بأن صور أمجد ناصر المبتكرة شبيهة بالكمأة. شبيهة بتلك الثمرة المطمورة في التراب والتي تكشف عن نفسها بشقَّ مميّز في الأرض، ليس كبقيّة الشقوق. هنا يتفوَّق البدوي بحاسَّته الإضافية فيعرف الشقّ الثمين من الشقّ الذي لا يدل إلى الكنز.

قصيدة أمجد ناصر في هذا المعنى هي قصيدة تلك الشقوق المضيئة.

وفي طريق الوصول إلى تلك الشقوق، ثمة مضائق صعبة تعبرها القصيدة، مضائق سحرية للغاية، الجملةُ التي تنجو منها تنجو إلى الأبد.

 مجلة «نقد» الفصلية، العدد 6، خريف 2011

النثرية المفتوحة

عبد القادر الجنابي

العدد 6 – خريف 2011

«… البَدءُ من جديد، هو عنصرٌ من الشمس»

                         تشارلس أولسن (بتصرّف)

 حرصَ أمجد ناصر، إلى الآن، على الانطلاق من زاوية جديدة في مدى الكتابة؛ مُديراً ظهره لما نُشر، ليبدأ بمغامرة جديدة مفتوحة غير محصورة بتسمية: رواية، سيرة، قصائد نثر… تاركاً للقارئ مهمَّة حصرها في جنس أدبي ما.

وفي الحقيقة هناك ثلاثة «أمجدات» ناصر: أمجد الشاعر الذي كان يبحث عن جغرافيَّة صوته الشعري وعن أناه بين الغنائية الفردية وحلم القضية «بمزيج من الألياف والخوف»؛ وأمجد الشاعر الملقى وجهاً لوجه مع الغرباء من كل طينة فكان عليه أن يُصفِّي هذا الصوت من شوائب الخارج ليلج صلب اللغة مُشرفاً على مُرتقى بُعدها الإيروسي؛ وأمجد الناثر الذي حشَّد كلَّ لغته لدفع الصوت الشعري إلى الخوض في مياه النثر. وهكذا كان لكل «أمجد» حصيلةٌ لها مكانُها في تاريخ القصيدة العربية الجديدة (أُفضِّل «جديدة» على كلمة «حديثة» التي لم تعد مناسبة لما يكتب حديثاً، فهي أقرب إلى إنتاجات الخمسينيين والستينيين). على أنه، وهو المتشوِّف إلى اكتشاف مخزون شعري آخر، لم يرد أن يُوسِّع دائرته بالتكرار، على طريقة عدد من شعرائنا الذين لا همَّ لهم سوى التراكم، وإنما أن يتابع مصيره الشعري، وهذه المرَّة، من زاوية جديدة مانحاً اللغة فرصة ثانية لكي تُعبِّر عن نفسها.

***

هناك من يقرأ كتاب أمجد ناصر الأخير «فرصة ثانية» (إصدارات التفرُّغ الأدبي، عمّان 2010)، باعتباره سيرةً على نحو مختلف، أو رحلةً اكتشافيّة لمسقط الرأس، أو مراجعة لماضٍ ولعلاقات، أو ريبورتاجاً جغرافياً للمكان البدوي… لكنَّ خيطاً واحداً يربط بين هذه القراءات المختلفة، وهو أن متعة قراءة «فرصة ثانية» لا تنبع فقط من المقاربة التخيُّلية للحواضر، وإنما كذلك، وبالأخص، من الأسلوب النثري المتماسك الذي يُحوِّل الوقائع إلى كثبان رملٍ مشرقة. فأمجد ناصر المولع بالإثارة التفصيلية، يحافظ، طوال السرد، على شبكة مجازية من الصور والتعريفات: «ليس بخارطةِ الأنفاق يمتلك المرءُ مكاناً ولا بجلوسه في طبقة عُليا لحافلة حمراء يصبح مواطناً تلقائياً للمطر والهدير»، «فكَّرَ البدويُّ في حيلة يمتصُّ بها نزّاً شحيحاً تذرفه عينُ صخرة مخضرّة»، «العزلة ليست وصفة جاهزة للاستشفاء»، «الصقيع لا يتأخَّر في نوبته الليليّة»، «الوادي… شقفة قمر سقطت في ليلة هاربة». كتاب بهذا الدفق النثري لا يمكن تلخيصه، لكن يمكننا إعطاء ملخَّص له، ليس بالضرورة دقيقاً أو كاملاً: في مقهى «يضجُّ بأصوات ما تعتم أن تتلاشى»، و«بحكِّ خاتم اشتراه من بائعةٍ جوَّالة»، يجد شاعرٌ، فجأة، أنّ غَشْيَةً trance ليست بالمعنى الصوفي وإنما بالمعنى الدنيوي «استغراقاً ذهنياً»، انتابته، فاستسلم إلى محاورة نفسه بأقاصيص ومرويات، بمدنٍ وأوابد، بأماكن وآثار، بأشخاص حقيقيين ووهميين، وبلغة ينضمر فيها ويتلاشى «أنا» المتكلم أمام «أنت» المخاطب المنطوي، أيضاً، على بقيَّة الضمائر: أنا، هو، نحن… وهم الذين يُشكِّلون جزءاً لا يتجزأ من مساءلته للدال وللمدلول في عالم أشبه بـ«ريزوم» جيل ديلوز حيث كل شيء متَّصل، وفي الوقت ذاته ليس له جذر.

***

«فرصة ثانية» عمل جديد يتميّز بنثر استكشافي، أودُّ أن أسمِّيه «النثر الحرّ» على غرار الشعر الحرّ، رغم علمي بأنه لا يوجد شيء اسمه «نثر حرّ» لأن النثر بطبيعته حرّ. لكنه، هنا، حرٌّ بمعنى المتخلِّص من كل شوائب ورتابة النثر السردي بهيئتَيه الروائية والفنية، وخصوصاً من مستلزمات وقيود السرد المعتمد في السِّيَر. من هنا أُقدِّم مصطلحاً جديداً لهذا النوع من النثر: «النثريّة المفتوحة» القائمة على سرد متقطِّع إلى فقرات وشظايا تمنح النثر زمنيّة سرمدية، وتُخلِّصه من الزمن الروائي (الحبكة والمخطَّط) ومن التسلسل الزمني، كما في السيرة، المرتكز على التقويم والنمو التاريخي للحدث وعلى قواعد «قبل» و«بعد» وعلى منطق العلّة والمعلول.

***

في النثريّة المفتوحة طريقة السرد والمضمون المراد إيصاله يُكوِّنان وحدة عضوية، فلا يمكن فصلهما. ذلك أن محتوى النثرية المفتوحة امتدادُ شكلها. ليس في النثريّة المفتوحة ماضٍ من حيث هو هو. والوقائع تتكشَّف من دون أي استغراق فيها. النثر فيها سريع وفي حركة دائمة وتوتُّر لا يقرُّ له قرار بحيث تشعر أنّ المكان يتحرَّك مع السرد، وكأن اللغة هي اللبنة اللازمة لبناء ما تُصوِّر. نثرية تقوم على نَفَس طويل لا تكتفي بما تحصل عليه من تشخيص معيّن، وإنما تطمع في المضي أبعد من هذا. ذلك أن «على كلّ إدراك أن يُفضي مباشرةً وفوراً إلى إدراك أبعد»، كما قال الروائي الأميركي إدوارد دالبرغ.

***

«النثريّة المفتوحة» موشورُ أحاسيس متناقضة تتهيَّأ فيه كلُّ أصوات النثر وصوره المرئية، حيث للتعبير سرعتُه؛ طرقُه الأقصر إلى الهدف. وللسرد ميتافيزيقيتُه التي بها يحيا النثر.

***

«فرصة ثانية»، متكوِّن من 15 فصلاً مرقَّمة (وكل فصل مُقطَّع إلى فقرة، فقرتَين أو فقرات عدَّة، مع إبراز اسمَين لاتينيَّين بالأسود الثخين لخلق صورة بصرية)، وهي بمجموعها تُشكِّل متن الكتاب، ومن 26 مقطعاً مطبوعاً بحرف ثخين أسود، تتقاطع الفصول. والمقاطع هذه، القريبة من قصائد النثر، لم تتخلل المتن كما في كتابات ما يُسمَّى بـ«تيَّار اللاوعي»، وإنما استقلَّت لوحدها ألواحاً عمودية محفورٌ عليها رجع صدى أفق الفصل الذي انتهى وتباشير الفصل الذي يلي، وكأن الفصل نثرٌ أفقيٌّ يتوغَّل في المنظر حيث ينتصب كل واحد من هذه المقاطع الثخينة السوداء وكأنّه شبح الأنا – الأنت: إنه قرن استشعار السارد، محذِّراً إيّاه من مخاطر السرد الطويل؛ كي يكون في مقدور النثر، إثر كل لوح – سهم، التنقُّل بإيقاع متوثِّب، من وجهة إلى أخرى. ففي كل فقرة يكاد السارد أن يتَّخذ وقفة جديدة أشبه بالوقفة الخاصة stance التي يتَّخذها لاعب الغولف ليضرب كرته. الفارق الوحيد هو أنه ليس هناك في «فرصة ثانية» حفرة؛ وجهة محدَّدة ليستقرَّ النثر فيه، وإنما عليه أن يتقدَّم إلى الأمام قاطعاً أفق التراب والإسفلت، المسكون بتجارب الليل والنهار.

***

«فرصة ثانية» ليس سيرة – شاشة ينفرط شريطُ عمرٍ كامل على سطحها، كما يبدو للوهلة الأولى. فليس فيه عرض إنجازات شخصية أو استعراضٌ ثقافيٌّ كما عوَّدنا كتَّابُ السِّيَر. في هذا العمل، ليس هناك منطلقٌ زمنيٌّ تشعر الذاكرة بالحنين إليه، الذاكرة هنا لم تعد بمعناها الشائع حنيناً وتجربة تأمُّل، وإنما بالمعنى السردي للكلمة عدَّة لبناء متن عمودي صلب صلابة اللغة السليمة من شوائب الاستعمال. وكأنَّ السرد سياحةٌ بين أطلال معرفيَّة تتشكل أمام بصيرة السارد. فالنثر، هنا، لا تُوجد فيه أيُّ مرايا تتقابل فيها نصوص، وبالتالي توقُّف واسترجاع… كلا. إنه نص السير إلى الأمام. وهذا يعني أن التسلسل الزمني مفقود، لغياب أحداث بالمعنى المتعارف عليه: أي: «بعد أن استيقظتُ، ذهبتُ… ثم… وجاء اليوم التالي… إلخ»، كما أن الوقائع هنا، الفعلية والمتخيَّلة، لها قصصها هي، توحي للسارد أفكاراً، تأمُّلات، تداعي ذكريات… إلخ، وكل هذا يتدفَّق بلا تنظيم، أي بلا ماضٍ مُستَذكَر، ولا توجد آفاق منظورة: فليست هناك نقطة انطلاق محدَّدة، ولا وجهة مقصودة. إذاً، الزمن في «فرصة ثانية» موجود على نحو أسلوبي باعث على التأثير، أي عبر استجابات ومشاعر السارد نفسه إزاء ما تُثيره هذه الأماكن بهيئتها التي كانت وما آلت إليه بسبب التغييرات العولميَّة، من وهادٍ وأغوار وأخيلة سرابيَّة.

***

تكاد النثريّة المفتوحة في «فرصة ثانية» أن تكون عملاً أركيولوجياً ليس كتنقيب مكانٍ معينٍ وإنما حفر في التواريخ والبيئة… وتفرشها مثلما يفرش الآثاريون ما يعثرون عليه من العاديات والشظايا. وها أن كلَّ فقرة في «فرصة ثانية» شريحة مكانيّة.

***

لدى أمجد ناصر، القضية تتلخَّص في مسألة اللغة. وتجربته كشاعر تقوم أساساً على الاختيار اللغوي؛ اللفظة المنحرفة عن معناها التراثي إلى انزياحها العصري. إذاً ليس عبثاً أنه يبدأ رحلته من مساءلة اشتقاقية لكلمة «ثِفال» وانزياح معناها الوظيفي عبر التاريخ.

***

السرد، في «فرصة ثانية»، ليس في خدمة الوقائع، وإنما الوقائع هي في خدمة السرد، بحيث أن عواطف اللحظة مُسيطَر عليها بنحو يتحقَّق فيه معادل موضوعيٌّ إيليوتيُّ. وهنا يكشف السارد عن طاقة حياتيَّة مليئة وقدرة على تسجيل ما يتراءى أثناء الدفق الكتابي، طوال شريط السرد، وفق ما يُثيره المكان من دلالة دون استنباط رسالة أو حكمة أخلاقية منها إلى القارئ، كما تأملُ جميعُ السِّيَر. فكل شيء يصلنا، من خلال الصور المحسوسة والتفاصيل الانطباعية، دون إيضاح من المؤلف، ومع أنها تُثير في عقولنا مجموعةً من الأحاسيس والذكريات، لكنها تجعل أيَّ تفسيرٍ واضحٍ لها مجرَّد تخمين، وأيَّ شرح لها سيبقى ذاتياً محضاً. فالمكان البدوي المنبسط نثراً ملائماً في حركته إلى مزاج الفقرة، موصوف كما هو ينبض بأحيائه وجفافه، بترابه وشمسه الحارقة، بطقوسه وعاداته، بعبارات لا تزيد ولا تنقص. فلكلِّ كلمةٍ حصَّتها من الاستكشاف.

***

«فرصة ثانية» هو أيضاً، نثرٌ في الكتابة؛ لغةٌ متوهِّجةٌ، صلدة المعرفة بما يضمن مسارها النثري بتواريخ ومراجع. إنه مخيِّلة العناصر الأربعة حيث تتشرَّب الألفاظُ الأمكنة، فيأتي الوصف صافياً من التفاصيل التحليلية، باعثاً حيواتٍ وأسماء منسيَّةً… وكأننا نطرق أبوابَ الأركيولوجيين والمستشرقين، وشياطين الشعراء.

 مجلة «نقد» الفصلية، العدد 6، خريف 2011

ميتافيزيك الجسد

محمد علي شمس الدين

العدد 6 – خريف 2011

في «سُرَّ من رآك» و«مرتقى الأنفاس» يكتب أمجد ناصر ما أُسمِّيه «ميتافيزيك الجسد». وهي كتابة ذات سحر خاص وكيمياء شبيهة بالرائحة الطالعة من الزهرة. الزهرة جسدية مادّية ذات صورة ولون وحجم وشكل، في حين أن عطرها طالعٌ منها وليس هو هي. أُرجِّح أن أمجد ناصر يكتب إيقاع الكائنات لا الكائنات. الناحية اللامرئية من المرئي، والغائبة من الحاضر، والغيبيَّة من المشهود… وهو ما قصدنا إليه باعتبار شعره يعلو على الجسد (الجسدية) وإن كان ينطلق منه. ينطلق منه من الجذور والأوحال والأخلال ذاتها، لا من الذؤابات والأعالي وحدها، لكي يتبخَّر فوقها كغيوم تُشكِّلها الشمس من البحار والأنهار وفسوخ المياه والمستنقعات والألسن… لكنها في النتيجة هي الغيوم. ولا يمرُّ ذلك من دون سرد، وطحن للكلمات، وإعادة تشكيل لطين الأشياء والكلمات، بأشكال هندسيَّة شفافة، فائقة الشفافية وهي تماماً رائحة الشيء، وأنفاس الكائنات، والغيب اللامرئي في ما هو مرئي، والماضي والقادم معاً المستوران في الحاضر الشاهد، وبكل حال فإن «سُرَّ من رآك» التي يُظهر للعيان وكأنها بنت «سُرَّ من رآك» أو «سامراء» هي غير «سُرَّ من رأى» ومثلها «مرتقى الأنفاس».

في «سُرَّ من رآك» فرح، واحتفال كأنه استقبال عروس، وبلاغة مهصورة ومروَّضة في مجرى الشعر الجديد، كالقباب التي تحصحص – على سبيل المثال – والاحتقان الهاصر للعظام التي تُطقطق ويبعث الحشرجات من الرميم، والدخول مدخل مضيق… وما إلى ذلك من بلاغة مهصورة ومُستسلمة لسياق شعر أمجد ناصر. و«سُرَّ من رآك» قصائد حب… والمرأة امرأة وإلهة في وقت واحد. وهي – كامرأة – جسدٌ وشفتان وعينان وقدمان وسرَّة وشهوة واشتهاء إلى ما هنالك من مُحسِّنات المرأة وجسديَّتها. إلا أنها كإلهة (ما يُذكِّر بالعصر الوثني)، يستقطر منها الشاعر ميتافيزيك المرأة حيث تُغسَل قدماها بماء النذور، حيث تُولد وتشبُّ وتشيب الكائنات في بارق كاحلها. يقول في قصيدة «تعويذة لدخول البيت»: «الدهر سيَّاف الفصول يحني هامه/ فنشبُّ ونشيب في بارق كاحلك». وهي، كما هي طقوس الحب والأعراس القديمة، في بلاد الهلال الخصيب التي ينتمي إليها أمجد ناصر (سوريا وفلسطين والأردن ولبنان والعراق)، تطبع ليلة العرس بكفِّ الحنَّاء على قنطرة البيت، وتضع قدمها المباركة على العتبة فتبيضُّ العتبة طائعةً أو مرغمةً.

تلوح أحياناً أطياف من «نشيد الأناشيد» في كتابة أمجد ناصر. عشق بدائي طاهر مباشر وفاحش في وقت واحد. جمال الوعر البكر في المحبوبة: «يا فائقة النمش/ بدوية البرد/ باعدي قليلاً ليصل الهواء/ إلى الكمأة المنبلجة تحت المحراث/ أمطاري جافة/ وشفتاك بليلتان» (من قصيدة «وردة الدانتيلا السوداء»).

فالبذور الرعوية للحب القديم تأخذ مكانها في هذا النص. هناك وهنا أيضاًً، لا تبتعد المرأة بأعضائها وأوصافها عن الشهوة والقداسة في وقت واحد. فالشهوة بريئة ومقدَّسة لأنها بدائية. وهكذا يكتبها أمجد ناصر في «سُرَّ من رآك». ثمة، إلى ما ذكرنا، يُضاف قطافٌ، وقرنا ثور، وحقلان محروثان: عدَّة الرعاة القدماء والحب الرعوي الرائع الذي مجَّده العهد القديم في «نشيد الأناشيد».

طقوس الحب لدى أمجد ناصر قائمة على حدَّين، وهي كما لو أنها تطلع من جوف الأساطير، إلا أنها راهنة ويوميَّة. والحدَّان هما الراهن وما فوقه الأسطوري أو الميتافيزيقي. فثمة على سبيل المثال جنسٌ «أبيض هو الأشقر المحروس بعشب ساهر/ عشب الوحش اللطيف الهائج في السفح/… وردة الدانتيلا السوداء/ في أعالي الفخذ» (من «وردة الدنتيلا السوداء»). واحتلام جنس متهوّم: «احتلمنا به في أحضان نسائنا/ فتدفَّقت سخونة في القطن/ الملاءات تبقَّعت بجوز الهند» (من «معراج العاشق»). لكن في الوقت عينه، ثمة طقوس عبادة يُسمِّيها «امرأتنا كلنا» ويقول «يدك فوق أيدينا»… وطقوس العبادة تتجلَّى في ثنايا النصوص والأوصاف: «بين الأشجار شممناك/ ركضنا وراء الرائحة/ فأوصلتنا إلى ثيابك/ مرَّغنا وجوهنا/ واستنشقنا بالمجامع» (من «معراج العاشق»). ثم هناك المجاز الصرف: «يكشف نور الكاحل صعداً/ نعمة النظر إلى الهيكل/ فأرى/ ذهباً/ محروساً/ بوحش» (من «لص الصيف»).

على هذا المنوال، تتداخل في نصوص أمجد ناصر، طقوسُ الجسد بالتقديس، وتتحوَّل الحبيبة إلى معبودة، من خلال خيط شعري يحمل الراهن إلى المنتظر أو الغائب، والواقعي إلى الأسطوري، وذلك من خلال قوَّة المخيِّلة التي تروح وتجيء بين الأزمنة والأمكنة والتواريخ. فليس بعيداً الغد هنا عن البدائيين «سأحرِّرك بقوَّة البدائيين/ وأحفر كنوزك بيدَين تقودان القرن إلى استغاثة تدمي أديم الأرض الممتن لنفسه» (من «غريب مكلوم بمنجم العذراء»). وهو ما قصدنا إليه بعطف الغياب على الحضور، والميتافيزيك على الجسد في أشعار الشاعر.

تبقى نقطة أخيرة في التقنية الشعرية لدى أمجد ناصر. فهو من خلال الكلمات والعبارة، ممتلئ بالتراث. لكن كتابته الشعرية فائضة عن التراث لجهة الإيقاع والاسترسال والتوليد، بدءاً من العنوان «سُرَّ من رآك» وليس انتهاء ببعض عبارات النصوص «سيف على مخمل يكاد حدُّه يضيء (عطفاً على يكاد زيتها يضيء) و«بيضاء من غير سوء» وهي قرآنية كما هو معلوم. اختار أمجد ناصر بعد قنطرة البلاغة والوزن، قصيدة النثر، والسرد الشعري المرسل. وهو صنيعه في «سُرَّ من رآك» و«مرتقى الأنفاس». وجمله الشعرية ذات إيقاع ولكنها بلا وزن. والفرق بينهما هو أن في الوزن إيقاعاً في حين أن الإيقاع حرٌّ وليس محدوداً بوزن. فالوزن تكرار نمطي دقيق ومحسوب لمتواليات بعينها بين الحركة والسكون تُشكِّل مجموعاتها ما يُسمَّى «التفاعيل»، وضعها الخليل بن أحمد الفراهيدي من خلال تأمُّله في ما سبقه من شعر عربي بدءاً بأشعار الجاهليين حتى يومه، وألفها في ما سمَّاه علم العروض والقافية… فنحن إذاً هنا أمام «علم» بمقاييس محدَّدة محسوبة وأوصاف ونسب وعلاقات ومنطقية تمتُّ إلى العلم بصلة أكثر مما هي «فن».

حسناً… أخرجت العصور الحديثة الشعر من أحد قيدَيه (الوزن)، ولم تمسس الحدَّ الثاني (المخيِّلة) أو ما سمّاه اليونانيون «المحاكاة» على ما رأى أفلاطون وأرسطو بخاصة في «كتاب الشعر». لكن هذه العصور استبدلت الوزن بالتوازن والإيقاع. الأوزان على قابليتها للتوسُّع، محدودة، في حين أن التوازنات والإيقاعات حرَّة ومُفاجئة ولا محدودة. والتوليدُ الشكليُّ من خلالها أكثر طواعية وتحريضاً على الابتكار.

شخصياً، أرى الشعر أكبر من أشكاله. وباستثناء الاستفادة من المنجز التاريخي بكامله، وفي الأساس، من منجز الأوزان بصورها واجتهاداتها كافة، كما باستطاعتنا التجاوز… وندعو للقصيدة المركبة الحرّة في أن تأخذ حرّيتها في ما لا تأخذ… إلخ. لكن بعيداً عن هذا الحوار، أو إلى جانبه تماماً، نرى أمجد ناصر يستفيد من إحدى طرق الأداء الشعري، في الشكل والمضمون في وقت واحد، من خلال اللعب على «نواة – كلمة» في القصيدة والدوران بها وحولها كلاعب سيرك مدرَّب، حرّ ولكنه شديد التوازن، وإلا لكان وقع… هذه «الكلمة – النواة» هي «أبيض»… ظهرت في قصيدتَين: مقطع من قصيدة «وردة الدانتيلا السوداء» (ص ص 23 – 24)، وقصيدة بكاملها بعنوان «تعزيم». وعلى الرغم من أن الشاعر يميل إلى تشذيب نصوصه، واللمح، فإنه هنا في «تعزيم» يلجأ إلى الحشد والاقتحام برأس حربة «الأبيض» بالقول: «يدكِ الجاهلة على الركبة البيضاء بيضاء/ الكاحل الذي يلمع في ليل عينيَّ أبيض/ كتفاك الهشَّتان بيضاوان/ ولوح الصدر أبيض/ يمامتاك جافلتان وبينهما برزخ أبيض/ قبَّتك بيضاء/ وسفحها أبيض/ نوم البنفسج بين رخامتَين بيضاوَين/ أبيض/ مشيتك بيضاء/ ومجالها أبيض/ قميصك المتروك كيفما كان أبيض/ ورائحتك فيه بيضاء/ لمستكِ طرف الوصال بيضاء/ وتنمُّرك في السرير أبيض/ شهقتك بيضاء/ ودمي الذي تسفكين/ أبيض/ أبيض». في هذه القصيدة يتسيَّد الأبيض تسيُّداً مطلقاً. هذا الأبيض الكثير المتكرِّر المحتشد، واحد وسيِّد ومختصر البيان.

 مجلة «نقد» الفصلية، العدد 6، خريف 2011

شعرية المنفى وجماليات التجاور

محمد السيّد إسماعيل

العدد 6 – خريف 2011

لم يعد الشاعر، كما عهدنا ذلك كثيراً، مجرَّدَ شاهد على الحياة، يقول كلمته، بصوت العارف، ويمضي مخلِّفاً العالم وراءه؛ أو ذلك الكائن – نصف النبي – الذي يتأمَّل الحياة في تناقضاتها الكلية؛ وهو بمنأى عنها؛ بعيدٌ ومكتفٍ بذاته، بل أصبح بضعة منها، أسير تحوُّلاتها وانقلاباتها، يعيش ماضيه كأنه لحظته الراهنة. هكذا يبدو لي أمجد ناصر في ديوانه «حياة كسرد متقطِّع» الذي يمكن أن نُسمِّيه، أيضاً، «شعر كسرد متقطع»، حيث الشعر هو الحياة دون تجاوز «جمالي» مزعوم أو تداولية فجَّة بادِّعاء «محاكاة» الواقع أو كتابة القصيدة اليومية، إنه الشعر الذي يساوي الحياة و«يتخلَّق» داخلها وبها.

قصيدة أمجد ناصر، في هذا الديوان، لا تُثبت، فحسب، أن كل شيء قابل لأن يكون شعراً، بل هو شعر على وجه الحقيقة، شعرٌ بالقوَّة في انتظار أن يصبح، مع القصيدة، شعراً بالفعل، ولعلَّ هذا ما يُفسِّر اقتراب – ولا أقول تماهي – هذه القصائد مع طبيعة «اليوميات» أو التجارب اليومية المباشرة، يستوي في ذلك أن تكون «استرجاعاً» للماضي أو «تقديماً» للراهن، ونشاط حركة «الوعي» الذي لا يكفُّ بين هذين البعدَين: الماضي والحاضر، أو بين أمكنة متباعدة: الأردن، لندن، المغرب، رام الله…، وتماهي، ليس فقط تداخل، الحقيقة والوهم؛ والعابر والأبدي، والظاهر والباطن، والرؤية العينيَّة المباشرة التي تمثِّل مستوى الحياة الأفقي والرؤيا العرفانية التي تتَّجه صوب «الجوهر»: السرّ المكوّن الذي يمثِّل مستوى الحياة الرأسي.

هناك، دائماً، هذا التمييز لكنه لا يصل إلى حدِّ الانقسام أو التدابر، بل يتَّجه صوب «التوحُّد» الذي يُشكِّل كلاً متجانساً، بحيث لا ينفصل «الشيء» – العلامة – عن «سرِّه»، هذا «السرّ» الذي يظل متأبِّياً على الإدراك البشري في ما يُشبه «المعرفة المحرَّمة» أو الطلسمية، ففي قصيدة «نجوم لندن» نجد ظلالاً من قصة الغواية والشجرة المحرَّمة ويبدو الشاعر أشبه بديوجين الباحث عن العلامة – السرّ – في رحلة إلى العمق الخفي من: الساقية، إلى النبع، إلى السفح (حيث غصن وأفعى) ثم إلى الغرفة المحرَّمة المظلمة، حتى يصل إلى «الوصية»، حكمة النهاية أو البدء – لا فرق: «لا تلتمسني في المثل أو الشبه فكل من هو مثلي ليس أنا وكل من يشبهني هو غيري، لست بعيدة ولا قريبة، علامتي أقرب إليك من حبل الوريد» (حياة كسرد متقطِّع، ص 21).

هذه «العلامة» – إذاً – لا نستطيع معاينتها مكانياً أو قياس مسافتها لأنها متعلِّقة بقابلية «التفتُّح» عليها والتهيؤ لاكتشافها، كما أنها تستلزم «التنزيه» كما لو كان التدخُّل الإنساني يُفقدها سرَّها، يظهر ذلك في «الخاتم القيرواني» – عنوان إحدى القصائد – حيث يتراوح وصف هذا «الخاتم» بين بُعدَين: المادي والروحي، فهو خاتم فضِّي مُفلطح في طغرائه شرخ، لكنه كان في الأصل لمتصوِّف قيرواني ورثه الابن الذي سار على خطى أبيه مما يُقرِّبه من «خاتم الولاية» أو «خرقة الصوفية»، ثم أعطاه هذا الابن لسعدي يوسف الشاعر الذي أعطاه – بدوره – لأمجد ناصر. هذه هي الحركة الأولى للقصيدة/ القصة، والممهِّدات الفورية لتقبُّل النقلة الثانية في طبيعة هذا «الخاتم» الذي يصبح المساس به مساساً بطبيعة حامله وتبدُّلاً لها.

تقوم شعرية هذا الديوان على تحويل «الشيء» سواء كان خاتماً، منديلاً، رقيماً إلى ما يتجاوز طبيعته المادية، فـ«طغراء» الخاتم سرٌّ مغلق يتحوَّل مجرَّد الاقتراب منه إلى ما يشبه «اللعنة» وكأن فاعلَ التغيير ارتكب «شيئاً إمراً»، ويتحوَّل «الرقيم» الطيني الذي رآه الشاعر – أول مرَّة – في ساحة شعبية بعمَّان إلى عالم مليء بآلهة وملوك ونمور وأُسُود وأسرى وعازفين بما يتجاوز قدرة الجسد الآدمي على التحمُّل، ولم يكن أمام الشاعر سوى أن يرمي – كما نصحه الهاتف – هذا الرقيم لأنه ليس باليد التي سيأكلها الدود يستطيع أن يحمل «عبء الأبد».

من السهل أن نردَّ هذه الآلية إلى النزوع الصوفي البادي في أغلب نصوص هذا الديوان، وبالتحديد إلى ما يُسمَّى بـ«وحدة الوجود»، لكننا نستطيع وصفها بالرؤية الشعرية للحياة، وهو ما يكاد يُصرِّح به الشاعر في «المرايا المتقابلة» حيث «الموجودات مثل مرايا متقابلة توجد جميعها في كل واحدة منها، فأنا أنت وأنت أنا وكل ما أردت وما لم أرد» (ص 71).

إن لعبة «المرايا المتقابلة» أو التناهي بين الأنا والآخر، يضعنا أمام سمة أخرى يتواتر تردُّدها في هذا الديوان، وأعني بها شيوع «القرين» الملازم لوجود «الأنا»، فبعد أن يستعرض الشاعر – في «الشخص الآخر» – روَّاد المكتبة العامة في هانسللو، نراه يتحدَّث عن شخص آخر كأنه الوجه الآخر لذاته، يفعل ما يفعله «بالضبط»، ويكتب بخط يده الرديء نفسه.  ويبدو أن حسَّ الهروب هو أبرز الصفات الجامعة بينها، والغريب أن حيلة الهروب تُوقع هذا الآخر في شراك «مغربي» بفعل لعبة المصادفات حيث كان «يُوقِّع ما يكتبه باسم شخص ظن عندما ألفه من نوافل الأسماء أنه لم يوجد قط حتى اكتشف لاحقاً أنه شخص من لحم ودم يقيم في المغرب هارباً، بدفع حدس غامض/ من عواقب اسمه التي ستكشفها له الأيام» (ص 28).

إنها حالة من حالات «التورُّط» في «الآخر» ومعه، ومهما بالغت «الأنا» في «الهروب» و«التخطي»، بما يعني أن وجودنا محكوم بوجود الآخر الذي قد يكون شبيهاً في بعض الصفات كما في النموذج السابق، أو شريكاً في الفعل فقط كما في قصيدة «طريقة أردنية» حيث يُوالي الشاعر النظرات إلى سيّدة في «مقهى تريتي سنتر» «وفجأة تنهض من مقعدها وتتَّجه إليه قائلة: لماذا تنظر إليَّ هكذا؟/ فقلت: لست أنا/ وأشرت بيدي إلى الخلف/… في المرآة. كان شاب صغير يتراجع مبهوتاً بظهره إلى الوراء ويُمسِّد شعره بيده» (ص 34). هذا الشاب الشريك في الفعل نفسه لا يظهر إلا في نهاية القصيدة، لكن الشاعر يكتشف وجوده منذ البداية؛ فهل يكون هذا الشاب هو الشاعر نفسه في مرحلة عمرية سابقة؟ هل عاد الشاعر إلى مثل هذا العمر وهو يمارس نظراته الميدوزيَّة؟ إن شبه الجملة «في المرآة» الوارد في بداية السطر الأخير يحمل إلى مثل هذا التأويل، حيث أن «المرآة» لا تعكس «الراهن» بل تعكس «ما كان»، كأنها مُسلَّطة على الماضي المفقود، الماضي الذي يُفلت من «الأنا» في غفلة منها: «كنت أتطلَّع وأُمسِّد، بين حين وآخر، شَعري الذى زحف عليه البياض في غفلة منِّي عن ورشة الزمن الكسول التي ما إن نُدير لها ظهورنا حتى تروح تكدح بدأب»، ولنلاحظ أن تمسيد الشعر من العلامات التي تربط الشاعر وهذا الشاب مما يُعزِّز مثل هذا التأويل. وفي قصيدة «وجه شبه» نجد قريناً آخرَ مشابهاً في العمر والتجربة، ويتَّخذ الشاعر وضعية السارد الخارجي الذي ينقل كلمات هذا القرين عن النساء اللائي رفضنه أو تمنَّعن عليه، ويحدث الاندماج بين الطرفَين (الشاعر والقرين) من خلال الصوت الذي لم نعد ندري صوت أيّ منهما لأنه «الصوت نفسه/ بل النبرة الطافحة بالأسى ما غيرها/ وقبضة اليد ذاتها التي تهوي بانفعال على الطاولة/ والقصص إياها التي تترك طعماً مُرَّاً في الحلق» مما يُمهِّد لقوله «خفت أن أتلفَّت ورائي فأراني» (ص 118).

ويبدو لي أن تيمة «القرين» التي تستدعي هيمنة «السرد» هي حيلة فنية للتغلب على الغنائية التي تدور حول محوريَّة «الذات»، إن تفعيل «السرد» قد ينأى بهذه التجارب عن الغنائية حيث أصبحت القصيدة، كما يقول صبحي حديدي، أشبه بسردية قصيرة حول لقطة إنسانية بالغة الخصوصية، ثم تبدأ «النقلة» الشعرية من «الآخر» (الشخصية السردية المقدّمة) إلى «الأنا» على عكس، ما اعتدنا كثيراً في الشعرية العربية.

وتتوازى مع حيلة «القرين» تقنية أخرى بالغة الأهمية هي ما نلاحظه من شيوع «التوهُّم» الذي تلتبس فيه الحقيقة بحيث لم نعد ندري – في قصيدة «فتاة في مقهى كوستا»، على سبيل المثال، هل هي فتاة حقيقية أم فتاة يحلم الشاعر بالكتابة عنها أم الأمر كلّه لا يتجاوز «ملصقاً إعلانياً» كبيراً لفتاة تجلس وحيدة تُدخِّن وتحتسي قهوة وتظهر بزاوية منحرفة من عينَيها في مقهى يُشبه هذا المقهى! واللافت أن أمجد ناصر يصف هذه القصيدة بأنها «القصيدة التي فكَّرت في قصيدة أخرى وكتبتها» مما يُرجِّح طابع «التوهُّم» وأن الشيء الحقيقي الوحيد هو هذا الملصق الإعلاني الكبير للفتاة. لقد حلَّ «الشيء»، بالمعنى العام للكلمة، محل الإنسان واستعار حياته المفترضة؛ بحيث لم يعد هناك فرق بينهما مما يعزز ظاهرة التشيُّؤ التي تشيع – أيضاًً – في هذه النصوص كما نرى في قصيدة «آكل الشوكولاته في المكتبة العامة» التي يتحوَّل فيها الشخص المحوري إلى كيس شوكولاته يأكل نفسه حبَّة حبَّة: «يُحرِّك نظارتَيه من صحيفة إلى أخرى ويده تجوس في الكيس الزهري وعندما تعود خاوية يضع رأسه على الصحف وينام حالماً، كما يوحي لي كيانه الرخوي الذي يتماوج بين لحظة وأخرى، إنه صار كيس شوكولاته يمدُّ إليه يده ويأكله حبَّة حبَّة» (ص 26)، بل أن هذا «الشيء» يمتلك – في بعض النصوص – قوَّة حضور تتجاوز حياة صاحبه ربما لأنه يعكس أسرارها الخبيئة، هذا ما نلاحظه – مثلاً – في «موت مُفترض للاعب سيرك» الذي يختلف عن «لاعب السيرك» عند أحمد عبد المعطي حجازي؛ فلاعب السيرك عند حجازي مطالبٌ – وحده – ألا يُخطئ «في العالم المملوء أخطاء»، أما لاعب السيرك هنا فإنه يهرب من «خطأ» ارتكبه بالفعل وأخفاه عن الجميع ولن يكشفه سوى الموت: «ماذا لو مات الآن لأي سبب تافه، مثلما يموت الناس عادة، وقاموا بإفراغ محتويات أدراجه و«وجدوه» في المغلف المطبوعة عليه قلوب القديس فلانتاين الحمراء؟» (ص 93). ولا تكشف القصيدة عن كنه هذا «الشيء» الذي وصفته بـ«السقطة» التي سيُنهي بها لاعب السيرك حياته المتأرجحة على حبال رفيعة، أو النكتة التي سيتندَّر بها عليه زملاؤه إلى أمد طويل؛ ولا يهمّنا – طبعاً – معرفة هذا «الشيء»؛ بل يهمُّنا تأكيد أن حياة الإنسان ليست سوى مجموعة الأسرار التي تخصُّه وأن انكشافها هو الموت الحقيقي الذي تفزع الذات من وقوعه.

في قصيدة «في ضريح ابن عربي» يعود الشاعر إلى ما أسميته بآلية «التوهُّم» حيث نكتشف – في السطر الأخير من القصيدة – أن التجربة كلَّها لم تكن سوى قراءة في كتاب «ترجمان الأشواق»، وأن خيال القراءة قد تحوَّل إلى تجربة حقيقية، وعلى مستوى القصيدة نلاحظ التداخل بين ثلاث شخصيَّاتٍ نسائيةٍ، امرأة وفتاة شديدتَي الشبه لكنَّ تشابُهما لم يكن «كتشابه أختَين أو أمّ وبنتها ولكن كصبا وكبر شخص واحد جنباً لجنب» (ص 63)، ثم تماهي هاتَين الشخصيتَين، أو لنقُل الشخصية الواحدة، في عمرَين مختلفَين مع النظام (اسم الفتاة التي صحبها ابن عربي في مكَّة وكرَّس لها عمله الشعري «ترجمان الأشواق»).

وكما تحدث حالة «التوهُّم» في تماهي شخصيات مختلفة أو مؤتلفة، نجدها أيضاًً على مستوى الأماكن في قصيدة «de ja va» وهي – كما يُشير الشاعر في هامش القصيدة – «إحساس ينتاب المرء أنه يعيش اللحظة حدثاً أو يسمع كلاماً عاشه أو سمعه من قبل، بينما هو، في الحقيقة، يعيش تلك التجربة أو يسمع ذلك الكلام لأول مرَّة، أو هي: تهيُّؤات لحظية تحاول العودة إلى تجربة ماضية هي، أصلاً، غير موجودة»، وهكذا يحدث التداخل بين لندن ورام الله: «تسلَّلت يده إلى خصرها وأمسك الخيط إياه وأخذ يشدُّه ولكنها سرعان ما نزعت يده وقالت بنبرة مستنكرة: أين تظن نفسك؟ فأجاب: في لندن، فقالت: بل في رام الله» (ص 131). وعلى الرغم من حالة الانشطار التي تقسم القصيدة بين المكان الحقيقي والمكان المتوهَّم فإن القصيدة تضع نوعاً من المصالحة حين يجمع الشاعر بين علامات دالة على المكانَين بعد تحرُّره من أسر المكان : «إنه الآن حرٌّ/ إنه الآن خفيف/ إنه الآن يدندن في القطار الأخير إلى غرب لندن: ودي أغنِّي لنسمة الحرّية…» (ص 133). إن السطر الأخير يعكس وجودَين متناظرَين للشاعر: الوجود الجسدي (في غرب لندن)، ووجود «الوعي» الراحل إلى رام الله التي تتعشَّق «نسمة الحرّية»، مما يدلُّنا إلى أن انشطار المكان المتبدِّي على سطح القصيدة ليس سوى انشطار هذه الذات المهاجرة. ولا شك أن هذا ما يُفسِّر تشغيل آلية «الاسترجاع» واستحضار فترات زمنية ماضية متعلِّقة بتاريخ الشاعر وعائلته ووطنه، وهي فترات أو مشاهد فاصلة أو كما يُطلق عليها في السرد اسم «الأحداث الوظيفية» التي تنتقَّل بالشخصية السردية من وضعية إلى أخرى، ففي قصيدة «ذكرى» تصبح «الرصاصة» التي أطلقها الشاعر في صباه «في الدرفة الوسطى من أول خزانة ثياب اشترتها العائلة» (ص 29). «علامة» على انتهاء مرحلة وبداية مرحلة مغايرة، هذه «العلامة» التي تركتها العائلة «لتظل مادة للكلام عن بكر العائلة الذي خرج ولم يعد»، وقد تكون الحادثة حقيقية لكنَّ بُعدها الرمزي هو الأكثر حضوراً من خلال التأويلات الممكنة لبعض الدوال الواردة (الرصاصة والثياب على وجه التحديد). هذه «الذكرى» لا تحيلنا – فحسب – على آلية استحضار «الماضي» بل على التردُّد المطَّرد لفكرة «الزمن» الذي يُشبِّهه في بعض النصوص بـ«السم البطيء» الذي يُفسد الذاكرة بوصفها خصيصة الكائن الإنساني؛ التي لا يعني اختلاطها وتشوُّشها سوى الاقتراب من الموت – النهاية.

إن التفسير القريب لتشغيل آلية «التذكر» ونشاط الوعي الذي لا يكفُّ عن استخصار الماضي على مستوى المكان والأحداث والشخصيات يمكن تلمُّسه في شعرية «المنافي» العربية في المدن الغربية حيث كل شيء يُذكِّر بعالم «الذات» الأول كما لو كنَّا أمام حركة لاشعورية لتثبيت «الهُويَّة» المنفتحة على «الآخر». وربما كانت قصيدة «قتل الأب» من أكثر النماذج تعبيراً عن ذلك، فهي تطرح هذا الشعار الذي شاع في بعض الفترات بطريقة ساخرة، حتى أصبح «قتل الأب» الذي واصل الشاعر اقترافه بإصرار وعناد لا يدرك أسبابه فعلاً عبثياً، لأنه وجده (الأب) ما زال حياً يُرزق في زاوية مهملة من نفسه يرقب خطى الشاعر وصفاته التي تتماهى مع صفات الأب، وسوف نلاحظ أن مجرَّد مرور الزمن هو الذي قارب بين الطرفَين حيث أبعد الشاعر عن «وجه الفتى المقبل على الدنيا، عندما كانت الحياة تكيل له الوعود بالقنطار، وكان القلب مُهراً جامحاً يركض في الجهات الأربع معاً» (ص 108)، في الوقت الذى يُقرِّبه من وجه أبيه.

وهكذا تصبح حركة الزمن ذات بُعدَين متقابلَين من حيث الظاهر، ومتماهيَين على مستوى الحقيقة: حركة التقدُّم في الزمن، وحركة العودة إلى الماضي، حيث تؤدِّي الأولى إلى الثانية، سواء على المستوى الخارجي (الملامح المتشابهة في قصيدة «قتل الأب») أو مستوى الاستدعاء كما نجد في «نجوم لندن»: «نفساً وراء نفس تدفعني الأيام قُدُماً لكن عينيَّ ظلَّتا ورائي تبحثان عن علامة تراءت وأنا مُستلقٍ ذات ليلة على سطح بيتنا في المفرق أعدُّ النجوم وأخطئ ثم أعدُّها غير مبالٍ بالثآليل التي تطلع في يدي وتنطفئ» (ص 21).

إن دراميَّة هذه السطور لا ترجع – فقط – إلى ازدواجية الزمن: أمام – وراء، بل إلى اختلاف طبيعتَي حركتَيهما: فالتقدُّم في الزمن هو حركة «دفع» اضطرارية مستمرَّة «نفساً وراء نفس» تنعدم فيها فاعلية الذات، بينما تبدو الحركة إلى «الوراء» حركةً اختياريةً واعيةً تتأكد فيها طاقات الذات وإمكاناتها: الرؤية والرؤيا، واستدعاء الأساطير الشعبية المتمثِّلة في تلك «الثآليل» التي حذَّرت منها الجدَّة في قصيدة أخرى. هذه الحركة الارتدادية الواعية تستدعيها علامات «المكان» الحاضر «نجوم لندن» التي تجلب نظيرها «نجوم المفرق»، لكن هذا الجمع بين النظائر يظل – فقط – على مستوى الرغبة المستحيلة، حيث كل شيء قد تغيَّر، وأصبح من الصعب على الشاعر الذي يُقيم – لاحظ دلالة الإقامة وليس العيش – «هناك» بقناع شخص وهمي «أن يستلقي على سطح بيته القرميدي المائل ويعدّ نجوماً هجرت مواقعها».

لكن هذه «النجوم» التي هجرت مواقعها شبيهة بـ«الأشياء التي لا تموت» ولا شك أن هذه الطبيعة البرزخيَّة بين الموت والحياة هي سرُّ شعريتها، فهل يصنع ذلك ضرباً من الرومنسية أو شعرية الحنين والفقد، هذا ما يبدو على أغلب هذه النصوص لكنها – بالتأكيد – ليست رومنسية متفجِّعة وقد عصمها من هذا إدراكها الموضوعي لطبيعة الزمن أو طبيعة تبدُّلاته المتسارعة في الشعر والغناء والثياب، هذا ما يرصده الشاعر – بحياد – في «مياه كثيرة جرت تحت الجسر» دون تفجُّع أو بكائيات مريرة. وفي قصيدة «السبعة جسور» تقوم آلية المقارنات بهذا الدور (كبح العاطفيَّة كسمة ملازمة للحنين الرومنسي)، حيث يتمُّ اكتشاف «مكان» الذات من خلال «أمكنة» الآخر، هكذا يُوضع جسر «السبعة جسور» في مقارنة مع «جسر لندن» و«جسر بروكلين»، فنكتشف تاريخية «المكان» و«أسطوريته» وحمولاته الشعبية حيث كانت «النساء يربطن لأزواجهن بأحجاره والليل ينتدبه حارساً مثالياً لظلمته»، هذه الحياة الكاملة التي يحتضنها المكان جعلته أكثر حضوراً في ذاكرة الشاعر رغم أنه لم يكن أكثر رهبة ودهاء من أمكنة الآخر.

سيمكن القول إن تداعيات هذه الشعرية واسترجاعاتها الماضويَّة وآلية المقارنات الدائمة التي تعقدها تبدأ من «أشياء» مادّية تكاد تحيط بحياة الشاعر، ففي كل زاوية «شيء» يُفجِّر الذكرى ويستعيد ما يُناظره – أو يخالفه – في ماضي «الذات» القريب، وهكذا تستمرُّ ثنائية «الأشياء» التي لا تموت ولا تحيا، لا تغيب تماماً ولا تحضر كما كانت. نحن إذاً أمام «ذات» تقيم – دون أن تحيا حقيقة في واقع مُغاير وتعجز في الوقت نفسه عن استعادة حياتها الماضية بأماكنها وشخصياتها وأحداثها. ففي قصيدة «جيرة» تتكشَّف طبيعة العلاقة بين الشاعر ومسز مورس التي لم تتجاوز تبادل التحيَّات والكلام العابر عند مدخل بيتَيهما، ثم نكشف – مع نهاية القصيدة – أن هذا الاسم (مسز مورس) هو مجرَّد اسم أطلقه الشاعر عليها إذ لم يكن اسمها «مسز مورس»: «هذا ما سمَّيتها به لأعرف على أيِّ جنب سأنام بين جاري مستر شارما وبينها في هلال لم تلمع وسطه نجمة واحدة. فلم أعرف اسمها قط رغم تبادلنا التحيات أو الكلام العابر عند مدخل بيتَينا اللذين تفصل بينهما حديقتها المحسودة منَّا نحن الذين كلما رأينا عِرقاً أخضر فكَّرنا بماشية في البعيد تأكل الأكياس وقشور البطيخ» (ص 89). ويهمُّني في هذا النموذج الإشارة إلى ما ذكرته من أن رحلة التداعيات والاستداعاءات تبدأ غالباً من «شيء» مادِّي على نحو ما يبدو في السطر الأخير.

أشرت – سابقاً – إلى ما أسميته بـ«كبح العاطفيَّة» وأرجعت ذلك إلى سمتَين: الإدراك الموضوعي لطبيعة «الزمن»، وتفعيل آلية «المقارنات»، ويمكننا إضافة سمة أخرى تتمثَّل في وجود «مسافة» تُتيح حركة التأمُّل الواعي بين الشاعر وتجاربه المستعادة أو الراهنة، ومن هذه التجارب المستعادة رثاؤه للأم في قصيدة «البيت بعدها»، وهي تجربة – بحكم طبيعتها – كان من المتوقَّع أن تثير درجة عالية من العاطفيَّة، لكن الشاعر يتأمَّلها بهدوء من خلال واقع البيت الذي لم يتغيَّر فيه شيء يذكر، فلا يزال البيت على عاداته القديمة وكأنها سنن كونية: الهال صباحاً، الكركم ظهراً، النعناع مساء، وتأخذ الأخت الكبرى دور الأم، كل شيء يبدو – ظاهرياً – على حاله، لكن مفاجأة القصيدة تأتي مع السطر الأخير الذي يُشير إلى غياب «اليد التي يخضرُّ لها التراب» والتي لم تكن سوى يد الأم الغائبة.

في الديوان المذكور مجموعة من القصائد تقترب مما كان يُسمَّى – في الستينيَّات – بقصيدة القناع، لكنها تختلف عنها حيث لا نجد ذلك الإبهام بالتماهي الكامل بين الشاعر وقناعه. في قصيدة أمجد ناصر نجد وعياً واضحاً بالمسافة الفاصلة بين الوجه الحقيقي والقناع، ويبدو ذلك في عناوين هذه القصائد (محاكاة مارك أنطونيو، محاكاه فاوست) فالفعل – هنا – فعل محاكاة وليس فعل «تلبُّس» أو «اندماج» أو «تماهٍ» كما في قصيدة القناع. وتحمل «محاكاة فاوست» مفارقة أليمة حين يُقايض المسرود عنه – وهذه سمة فاوست الرئيسيَّة – «بالعشر، الخمس عشرة سنة المتبقية من عمره مقابل أن تعيد إليه الفتاة ولو أياماً، من شبابه الذي لا يعرف كيف ذهب هدراً» (ص 123). ثم يتضاءل هذا المقابل حتى يصبح «ليلة يقضيها معها» لكنها – الطرف الآخر في المقايضة – «هزَّت رأسها بأسف وغادرت». وتأتي المفارقة في أنه لم يعش – كما كان يتوقَّع – «العشر، الخمس عشرة سنة» الباقية من عمره، بل أياماً معدودات.

يحتل «الجسد» مساحة واضحة في الديوان، حيث قُدِّم بصور مختلفة: الجسد الشهواني، الجسد المنكفئ على نفسه، الجسد الاستهلاكي. فالجسد الشهواني – مثلاً – كما يقول صديق الشاعر في «قمصان واسعة» لا تعرفه من العينَين الفارغتَين والفم المتحلِّب واقتراحات اليدَين فحسب بل من «رائحة المادة التي لا يشمُّها إلا كبش الهداد»، وهو الكبش المخصَّص للتلقيح.

إننا أمام ما يُسمَّى بلغة الجسد وإيماءاته العلاماتية من خلال شكل الأعضاء وحركتها ورائحتها. والجسد الشهواني جسد حضور كامل مهمين لا سيطرة عليه في مقابل الجسد الاستهلاكي: جسد البيع والشراء الذي تنفصل عنه صاحبته لتحسب عدد «المرات» وما تطلبه من «ثمن»، إنه أشبه بالجسد الميّت الذي تتكلم صاحبته نيابة عنه وتُقايض عليه كما لو كان شيئاً منفصلاً عنها. وهناك الجسد «المشتهى» الذي يظل حلماً يُعرِّيه الشاعر بعينَيه حتى يبلغ ورقة التوت: «واضح أنني تركت عينيَّ تنضوان ثيابها قطعة قطعة فلما بلغتا ورقة التوت نهضت فجأة من مقعدها…». وهناك الجسد «الملغز» الذي «يصدُّ ويردُّ» ولا يعرف أسراره أحد، الجسد الذي يُشبه «القلعة» – هذا هو عنوان القصيدة – المنغلقة على نفسها والتي يجهل إعجازها «الخدم والأوباش».

لا نستطيع موافقة أمجد ناصر حول ما يُشير إليه صراحة في «مياه كثيرة جرت تحت الجسر» حول «تمترس ذائقته الشعرية عند ما يكتبه السبعينيون»، وفي تصوُّري إن شعريته – في هذا الديوان تحديداً – وإن لم تهجر هذه الذائقة تماماً، لكنها لا تقع في قلبها، وإن ظل «المجاز» وهو خصيصة السبعينيين الرئيسية – فاعلاً في هذه الشعرية، لكن الشاعر أفسح مساحاتٍ واسعةً لما يمكن أن نُسمِّيه شعرية «المشاهدات» التي تقوم على الرصد الدال لمشاهدات الرؤية المباشرة، ويمكننا الاستشهاد بقصيدة «30 – 30 – 30» التي تجمع بين السمتَين: «النهار أقصر من فرحة العربي/ درجة الحرارة 11 مئوية/ السماء، كعهدها، قبَّة من الرماد/ بوَّابات «كنغز مول» الأتوماتيكية تنفتح وتنغلق كجفن مذعور» (ص 85). حيث تقوم هذه السطور القليلة على تفعيل حاسة الرؤية في رصد أحد نهارات لندن مع انحرافات مجازية تقوم على التشبيه بصورة أساسية، وأعتقد أن هذه الانحرافات المجازية هي التي أبعدت هذه السطور – وغيرها – من الرصد المجاني الذي نلحظه في العديد من النماذج الشعرية الجديدة.

ولا يتخلَّى الشاعر عن هذا المجاز مع بنية القصيدة السردية التي تُغري بمجرَّد الرصد ومتابعة الانتقالات الحديثة، ففي قصيدة «فتاة في مقهى كوستا» نجد مجاورة لتقنيتَي الوصف والمجاز: «في مقهى كوستا بهمر سمث جاءت وجلست إلى الطاولة أمامي مع أن المقهى خالٍ من الروَّاد في ضحى – يجاهد عبثاً لانتزاع شعاع من سماء لندن الطلساء» (ص 23). هناك تحديد للمكان وحركة الشخصية والزمان وهي عناصر السرد الأساسية، ويبدأ المجاز – أو الصورة الاستعارية – من قوله «في ضحى يُجاهد عبثاً لانتزاع شعاع…»، والحقيقة أن هذا الجمع بين المحايد والمجاز يأتي غالباً في القصائد التي تعتمد على البنية السردية، بينما تتزايد تردُّدات المجاز في القصائد التي تنأى عن هذه البنية كما يبدو من خطابه الموجَّه إلى ابن عربي: «أنت سيِّد السرِّ/ الكتمان أصغر مريديك/ لكن سيِّد السرِّ يحبُّ مثل الذي كلما فاه/ فضحته الفراشات التي تطير من فمه»  (ص 68). هذا نموذج يتجاوز «المجاز» إلى ما يمكن أن نُسمِّيه بالخيال العرفاني الذي يعلو على منطق التعبير الاستعاري وتبادل المواقع بين أطراف التشبيه. هذه السمات التي تعتمد «التجاور» والتفاعل في ما بينها تجعل من الصعب وصف لغة أمجد ناصر وصفاً نهائياً، وهو أمر ميسور بالنسبة إلى شعراء كثيرين. إن اللغة – هنا – أقرب إلى ما أسماه باخنتين بـ«اللغة البولوفينية» التي تتعدَّد أصواتها ومستوياتها والتي تجمع – أو تسبك – الدارج والمجازي وأحياناً قليلة الأجنبي، وهي سمة لغوية تتجاوب، في تصوُّري، مع تعدُّد الأماكن وتنوُّع التجربة الشعرية التي تجمع – هي أيضاً – بين الحسِّي والعرفاني والأسطوري وتنوُّع الشخصيات التي تتوازى في هذه التجارب.

إن شعرية أمجد ناصر – من خلال جماليات التجاور التي أُشير إليها – تطمح إلى كتابة قصيدة كوزموبوليتية دون أن تتخلَّى – لحظة واحدة – عن جذورها في المفرق؛ هذا المكان شبه المجهول بين مدن الأردن.

 مجلة «نقد» الفصلية، العدد 6، خريف 2011

حياة اخترعها الشعر

فاروق يوسف

العدد 6 – خريف 2011

لولا «طريق الشعر والسفر» لكانت قراءتي لـ«وحيد كذئب الفرزدق» ناقصة. في الكتاب الأول يروي أمجد ناصر حكايته مع الشعر وفي الكتاب الثاني يقدِّم صبحي حديدي مختارات من شعر ناصر تَهَبُ تلك الحكاية أدلَّة إثبات. وكما يبدو لي فإن الشاعر كان مصيباً حين نأى بنفسه عن مسألة المختارات فكانت القراءة النقدية التي قام بها حديدي بمثابة تأكيد لما يعرفه حدسياً عن حياته وعن شعره. وكل مختارات شعرية هي في حقيقتها قراءة نقدية. في الكتابَين يتَّفق الشاعر والناقد على أن كل الشعر الذي كتبه ناصر في مراحل مختلفة من حياته إنما كان تعبيراً عن الرغبة في الوصول إلى «حياة كسرد متقطع» وهو الكتاب الشعري الذي في إمكانه، كما أزعم، أن يضع ناصر على خارطة الشعر العربي الحديث في صفته فاتحاً. كان ذلك الكتاب خلاصة حياة في الشعر وخلاصة شعر في الحياة. الخلاصتان تتشابكان في الحكاية التي يرويها الشاعر في «طريق الشعر والسفر» شهادته غير أن «الشهادة هي حكاية من بين حكايات أخرى» وهي حكاية كانت عميقة ومؤثِّرة في صدقها الذي لم يستثنِ شيئاً من بياض سريرته. لقد حرص ناصر على أن ينظر إلى وقائع حياته بعينَي الكائن الذي عاش تلك الوقائع وحلم أن يكون لها حضور في مستقبله الشعري. وقائع تسلَّقها الشاعر من دندنة الكلمات الأولى إلى قصيدة الكتلة ورواية الحقيقة. ومثلما يقنعنا السرد المتقطِّع الذي قدَّمه ناصر في كتابه الشعري الأخير بأنه جزءٌ من حياة عاشها الشاعر واقعياً فإن تلك الشهادة تُجهِّز أمامنا مائدةً تثق بقوَّة ما عليها. يعرف أمجد ناصر أن في إمكانه أن يروي حياته بطريقة أخرى. غير أنه يعرف في المقابل أن ليس في إمكان شعره سوى أن يقول الحقيقة. ذلك لأن أمجد ناصر قد اختار، منذ البدء، أن يخضع لمشيئة ذلك الكائن الذي يكتب الشعر، وهو الكائن نفسه الذي فتح أمامه طريق المنفى من غير أن يُلقي نظرة جادَّة على أفكاره السياسية. في البدء كان التمرُّد، وقد اتَّخذ ذلك التمرُّد طابعاً سياسياً، الأمر الذي وجد فيه ذلك الكائن الشعري مناسبة للذهاب إلى حافات الموقف الإنساني غير أنه كان يضمر فكرةً أخرى عن حياة متمرِّدة لن يكون في إمكان حياة عامة أن تستهلكها، وهي ذاتها فكرة الشعر عن نفسه: التفاؤل بما لا يمكن سوى أن يُستعاد كما لو أنه لم يحدث من قبل. في بيروت، وهي ورطة أمجد ناصر الأولى في حياة صار الكثيرون يشاركونه فيها، يتحدَّث الشاعر عن كائنَين: السياسي والشعري. ويتذكَّر أن أحدهم قال له ذات مرَّة، أو أنه صاغ ذلك الكلام بقوله: «اصغِ إلى تكتكة الساعة وهي تقضم الدقائق، بجنان ثابت، وإلى العندليب يشهق في مرتفع الهواء». كان الشاعر فيه لا يثق بالسياسة.

كانت فكرة الشاعر مثقفاً ثورياً يسعى إلى تغيير العالم قد جرت خطاه إلى الفاكهاني غير أن عينه ظلَّت على الحمرا. «سأميل إلى القصيدة اللبنانية الجديدة رغم انتمائي إلى اليسار الفلسطيني». يقول ولكنه جاء إلى بيروت بعدما اكتشف ثلاثة من الشعراء العراقيين الذين سيكون لهم تأثيرٌ قويٌّ في تجربته: سعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر ويوسف الصائغ. وهو ما جهَّزه بقوَّة جمالية نادرة يفتقد إليها الكثير من الشعراء العرب ممن لم يتعرَّفوا، حتى اللحظة، إلى تجربتَي جعفر والصائغ بعدما صار سعدي يوسف متاحاً للجميع. أمجد ناصر هو الشاعر العربي الأول الذي تعرَّف بعمق إلى تجارب ثلاثة من أهم شعراء الحداثة في العراق: اثنان منهما لا يزالان مغمورَين عربياً بظلم وكسل واضحَين. وإذا ما كان ناصر يعترف بأن زكريا محمد هو الذي نقل إليه عدوى أولئك الشعراء الثلاثة غير أن الاحتكام إلى الإنجاز الشعري يمكن أن يقودنا إلى الإقرار بأنه قد سبق صاحبه إلى تمثُّل تلك التجارب الشعرية المهمَّة. «كان العراق الذي سيقدِّم لي مرَّة أخرى ما رأيتُ أنه يُشبهني، يُعبِّر عني» المرّة الأولى كانت مع السيّاب. «سأتعلَّم من سعدي خصوصاً أن القصيدة يمكن أن تبدأ من الصغير والجزئي والشخصي» إذاً ذهب ناصر إلى بيروت وبرفقته نوع غير مؤدلج من القصيدة العراقية بالرغم من أن الشعراء الثلاثة كانوا شيوعيين. هي فكرة أخرى سيكون من شأنها أن تدعم تمرُّده على أخلاق الشاب المتمرِّد سياسياً. ذلك الشاب الذاهب إلى بيروت ليكون فلسطينياً وجد أن الشعر يقيم أحياناً في الجبهة الأخرى. كان أنسي الحاج يُقيم في الجزء الآخر من المدينة. الجزء العدو. ولأنه قد جعل من قصيدة النثر خياراً شعرياً، وربما سياسياً مضاداً، كما يقول فإنه يشير إلى أنسي الحاج باعتباره تيَّاراً شعرياً. الآن يمكننا أن نفهم معنى هذا الكلام الذي كان يُمثِّل في لحظته نوعاً من الخيانة. كان أمجد ناصر شجاعاً بل انتحارياً وهو يتبع خياره الشعري. ولكن السجال حول قصيدة النثر بالنسبة إليه كان سجالاً نضالياً. وكما يبدو لي فإن أمجد ناصر الذي قرَّر منذ رحيله من بلدته الزرقاء إلى العاصمة عمَّان أن يخلص إلى التمرُّد، شعراً وسياسة، قد اكتشف التناقض جلياً بين ما هو شعري وبين ما هو سياسي في بيروت، فاتَّخذ قراره الصارم في الانحياز إلى الشعري كونه يُمثِّل روح ذلك التمرُّد النقيَّة. وهو في ذلك يقول: «الشعر ليس تعليقاً على العالم، إنه اشتباك فيه» ويضيف «ليس الشعر تعبيراً عن قضية إنما هو نفسه، على نحو ما، قضية».

«يبدو أن صداقاتي تتمحور حول الشعر». تعالوا أيها الشعراء إلى هذا الاعتراف النادر في نقائه وترفُّعه النبيل وحميميته. يضعنا الشاعر في شهادته أمام درس مدهش في الوفاء وهو يفيض في الثناء على كل من مدَّ يده إليه ولو على شكل إيماءة. أحياناً يشعر المرء أن الشاعر لا يزال ينظر بإعجاب إلى تجارب أصدقائه الشعرية التي تجاوزها شعرياً. لا يتحرك كائنه الشعري وفق سياقات واقعية. لا يزال ذلك الكائن الذي يقود خطاه يُقيم في مكان آخر، مكان لا علاقة له بخيانات ومكائد الزمن، التي كان بعضها مريراً. خرافة الشعري هي ما تصنع معنى لحياة هي كسرد متقطِّع. وكما أرى فإن صدق أمجد ناصر في انحيازه الشعري هو مصدر كل صدق في حياته. لم تعد المصائر التي انتهى إليها الآخرون تهمُّه كثيراً. يهمُّه أنهم يُقيمون في ماضيه الشعري، الذي هو في الوقت نفسه ماضٍ شخصيٌّ. هم جزء من حياته التي تحضر في كل لحظة إنصات إلى الحقيقة. ولأن ناصر عاش حياته وهو ينصت إلى ما ينبعث من بين قدمَيه من أصوات مفاجئة، فقد أدرك مبكراً أنه شخصياً مجموع تلك اللقاءات الخفيَّة بين ما هو متوقَّع وبين ما تجلبه الصدفة معها من وقائع. وهي وقائع صنعت حياةً صدر عنها كل ما نحن في صدده من شعر.

قبل أن أتعرَّف إلى أمجد ناصر كنت أظنُّه فلسطينياً (كلنا فلسطينيون بطريقة أو بأخرى). كان ناصر ماكراً في التماهي مع هُويَّته الشعرية. لنتذكر أن اسمه كان «يحيى» يوماً ما. شيء من شخصية هذا الشاعر هو صناعة شعرية. صناعة يقترحها خيال كائن شعري ينتقي عذابه بطريقة مخمليَّة. علينا أن نتذكر دائماً أنه كان مقيماً في بيروت الغربية فيما كانت أيقونته في بيروت الشرقية. حين جاء إلى بيروت لم تكن لديه سلعة ليروِّج لها، بقدر ما كان يبحث عن الرسولة. وقد وجدها هناك. وهي الرسولة التي تحرس خطاه بأدعيتها أينما مضى.

مجلة «نقد» الفصلية، العدد 6، خريف 2011

صيرورة النص الشعري

صلاح بوسريف

العدد 6 – خريف 2011

ما نزال نتعثَّر في فَهْم ما يجري في المشهد الشعريّ العربيّ المعاصر. النقد الذي كان، إلى وقت قريب، يقوم بدور الوساطة، بين القارئ والشاعر، في تفسير بعض مشكلات الشِّعر، أو تقريب النص من القارئ، أصبح هو، أيضاًً، في حاجة إلى تجديد مفاهيمه، وآليات قراءته، التي كانت، ربما، صالحةً، لقراءة نصوص «الشعراء الروَّاد»، أو شعراء ما أُسمِّيه «قصيدة الحداثة»، التي بقيت مُخلِصةً، في جُملةٍ من مُكوِّناتها النصِّية، للقصيدة، أي لنمط بنائها، كما بقيَ الوزن، بالمعنى الخليلي، أو كما استنبطه الخليل، وتمَّ تقعيدُه، بعده، وفق القوانين والقواعد المعروفة، هو الدالُّ الأكبر، أو المهيمنُ، في تعريف الشعر، وفي تحديد، مفهومه، بحَصْره في القصيدة دون غيرها.

النَّقد، وما صاحَبَه من نظريات لها صلة بالشعر، لم يخرج على سياق هذا المفهوم، وكان الشعر، هو ما استجابَ لمعايير القصيدة، أي لشروط بنائها، والوزن، طبعاً، ظل هو شرط الشعر؛ ما جعل الشعرَ المعاصرَ، في التصوُّر النقدي العام، «ظاهرةً عروضيةً»، ليس أكثر.

***

لم يتمّ النظر إلى الانشراح الشعريّ الذي عرفه الشعر العربي المعاصر بعد تجربة «الروَّاد»، باعتباره إضافةً، أو تحوُّلاً في مفهوم الشعر، وفي طُرُق كتابته، ما حدثَ كان نوعاً من السعي إلى تكريس «قصيدة الحداثة»، واعتبارها شكلاً مقبولاً، بعد النقاش الطويل الذي دار حول شرعيتها الشعريّة، وتمَّ تحويل النقاش، ومشكلة الشرعيَّة الشعريَّة إلى «قصيدة النثر»، وإلى ما جاء بعدها من مُقترحات شعرية، لم يستطع النقد مواكبة جُرأتها في التغيير، وفي قلبِ المفاهيم والتصوُّرات.

***

بقيت مساحةٌ واسعة من الشعر المعاصر بعيدة عن النقد، وعن القراءة النقدية، أو النظرية التي صاحَبَت  قصيدة الحداثة عند «الروَّاد»، بشكل خاص، ما أفضى إلى تعتيم المشهد الشعري العربي المعاصر، وإلى اختزاله في نمط شعريٍّ مُحدَّد، وفي أسماء، هي نفسها التي ظلَّت تُستعاد، وهو ما كرَّسته بوضوح دراسة جابر عصفور الصادرة لدى «المركز الثقافي العربي»، عن الشعر، حين اختزلَتْه في بعض هذه النماذج دون غيرها.

***

النقد الجدير بصفته، هو ما لا يتردَّد في متابعة كلِّ ما يظهر من مقترحاتٍ، وفي قراءتها، باعتبار ما تقترحُه، وفي اختبار القيمة الشعرية التي تَختزنها هذه المقترحات، وليس بنفيِ الشعريَّة عنها، كونها خرجت على نمطٍ شعريٍّ ما، أو لم تَنصَع لمعاييره التي أصبح النقد بها يحكُم على قيمة النص، أو يُحدِّدها بالأحرى.

اتَّسعتْ أراضي الشعر. ومفهوماتُه بدورها خرجت على سياق المعايير السابقة، ولم يعد يكفي للحكم على ما يجري في المشهد الشعري الراهن، الاكتفاءُ بالمفاهيم والتصوُّرات القديمة. فالنص، اليوم، أصبح أرضَ مفهوماتٍ وقيم شعرية وجمالية، يكفي الإنصات إليها، وقراءتُها بنوع من الانشراح، لوضع اليد على ما فيها من نبضٍ شعريٍّ جديد، وما فيها من جرأةٍ واختراق.

***

أمجد ناصر، واحدٌ من الشعراء الذين استشعروا الحاجة إلى التغيير، وإلى وَضْع الشعر في سياق زمنه. فهو أحد الذين اختاروا ما سُمِّيَ بـ«قصيدة النثر»، رغم أن بداياته الأولى، انحازت، في بعض اختياراتها إلى القصيدة، أي الوزن. فمنذ التجارب الأولى التي، كان لمجلة «شعر» دور في دعمها، وكانت مقدِّمة ديوان «لن» لأنسي الحاج، بمثابة الضوء الذي قادَ نحو هذا الاختيار، شَرَعَت «قصيدة النثر» (والمفهوم، هنا، بدوره، تعبير عن خلل في التسمية) في الانتشار، وفي إثارة الأسئلة حول شعرية نصٍّ تَركَ الوزن، واختار الكتابة وفق إمكاناتٍ، ستعمل اللغةُ على تَفتيقها، وعلى اقتراح دَوَالّ جديدة، لم تكن من قبل تحظى باهتمام الشعراء الروَّاد، أو لم تكن من الدوالّ المهيمنة في تجربتهم.

الوعي الكتابي، كان هو نقطة الحسم في نقل بنية الصورة، والتعبيرات المجازية، وفي جعل الوزن أحد مكوِّنات النص، وليس دالَّه الأكبر، في تجربة أمجد ناصر، وفي تجربة بعض الشعراء الذين اختاروا الكتابة وفق هذا الشكل الشعري الجديد، من مثل قاسم حداد، محمد بنطلحة، عبد المنعم رمضان، عباس بيضون، عبدالله زريقة، نوري الجراح، وغيرهم.

في تجربة ناصر، لم تَعُد مشكلة العلاقة بين الشِّعر والنثر، مطروحة بهذا المعنى الضدِّيِّ، بل إن الشعر، سيلجأ للسرد، أو بتوسيع مساحة السرد في الشعر، باعتباره أحد إمكانات تخفيف الشعر من ثقل الصور البلاغية، والبنيات التعبيرية التي كانت تتسرَّب إلى الشعر من خلال الوزن، أو من خلال أنماطه الوزنية التي، لم تتخلَّص من وعيها الشفاهي، أو الإنشادي.

النصوص الأخيرة لأمجد ناصر، تعكس بوضوح، هذا الحضور السردي الذي اختار بنيةً تعبيرية أكثر مَيلاً إلى المكتوب، وشرعَت في التحلُّل من ثقل الشعريِّ في النص، أو من نمط الجُمَل ذات البناء الصوتي الشفاهيِّ، القابل للإنشاد بسلاسة.

صحيح أن أمجد ناصر لم يتخلَّص من بداوة اللسان، أي من المعجم الذي يعود بالقارئ إلى ماضي الشعر، أو إلى أصله الرَّعويّ، وهذا اللسان بقيَ حاضراً في تجربته، لكن تفسير هذا الحضور، أو قراءتَه، معجمياً، دون وضعه في سياق الصورة، أو النص، باعتبار العربية ليست لغة معجمية بل لغة سياق، سيُفضي بالقارئ إلى اعتبار تجربة ناصر آتية من ماضي الشعر، ولا علاقةَ لها بـ«قصيد النثر»، أو بشعر الحداثة العربية.

ثمَّة ما يُضيء هذا المعطى في تجربة أمجد ناصر، ويُفسِّره. وهو ما يمكن أن نجده عند شاعر آخر تختلف تجربته كلياً عن تجربة ناصر، وهو الشاعر محمد عفيفي مطر. فتأثير البادية في ناصر له أثرٌ في هذا «الحنين إلى الماضي عبر الأطلال». فقط علينا ألاَّ نفهم الأطلال هنا بمعنى بقايا البيوت، أو ما بقيَ من رسوم وآثار. الأطلال هنا، هي هذا الحضور اللفظي أو المعجمي الذي لا يمكن للصورة أن تستقيم، أو تَبْتَني دلالتَها دون استعادته. فهو، من جهة، انعكاسٌ للذاكرة، بكل ما تحمله من آثار وجروح، وهو، من جهة ثانية، دالٌّ لغوي لا يمكن استبداله بغيره من الألفاظ الحديثة، أو ذات الطابع الحضري، التي لا يمكنها أن تشي بمدلولها، أو تدلّ على معناه.

مَن يختبر هذا المعجم، سيجده مرتبطاً بهذين السياقَين، وليس بغيرهما مما يمكن اعتباره استعادةً لماضي الشعر العربي، رغم أن أمجد ناصر من مُحبِّي قديم الشعر، ومن المُداومين على قراءته.

***

حين يُصرُّ أمجد ناصر في بعض حواراته على نفي «الخصوصية» و«الصفاء الشعري»، عند أيِّ شاعر، وحتى في تجربته هو، فإنه يعكس بوضوح وعيه النظري بالشعر. ولا يسعى، مثل الكثيرين، ممن يعتقدون بوجود هذه «الخصوصية» في كتاباتهم، إلى ادِّعاء قُدومه من فراغ. ليست هناك خصوصيات، بل تجارب، وكل تجربة تتميَّز بفَراداتٍ، أو هي، بالأحرى، تُوسِّع من مساحاتِ دوالِّها، في الوقت الذي تتجاوَب فيه مع غيرها من تجارب، ليس بنوع من التماهي، بل بترويض الذات على صوتها، وعلى ندائها الذي هو أحد نداءات الشعر المتقاطعة مع غيرها، لكن دون أن تكون صدىً، أو استعادةً لصوتٍ آخر.

فتجربة ناصر، بقدر ما حرصت على التَّصادي مع الآخرين، فهي حرصت على صوتها المُفرَد، وعلى شعريتها الكتابية، التي ابتعدت عن الإنشادية الغنائية، أو وسَّعت من مساحة السرد، في مقابل الغنائية الشعرية التي كانت حاضرةً في تجاربه السابقة.

لا تنتفي الغنائية في الشعر، بل إنها أحد مكوِّنات الشعر التي تُتيح للنص أن يُعدِّد أصواته، لكنها تتَّخذ أوضاعاً نصِّيةً جديدةً، كما تتغيَّر وظيفتُها أيضاًً. هذا ما حدث في تجربة أمجد ناصر، خصوصاً في أعماله الشعرية الأخيرة. للسرد دورٌ في هذا الانزياح الطارئ في تجربته، وهو ما انعكس على تجارب شعراء آخرين انحازوا إلى الكتابة وفق هذا الاختيار الشعري. وهذا من أهم المتغيِّرات التي طرأت في الشعر العربي المعاصر، خصوصاً في تجربة شعراء «قصيدة النثر».

***

من بين أهم الدَّوالِّ التي أفرغتِ الشَّكلَ الشعريَّ «الحرّ»، أو قصيدة الحداثة، بالمفهوم الذي نقترحه هنا، من استيهاماتِ «القصيدة»؛ التوزيع الكتابي، أو الغرافيكي للنص. فتجربة أمجد ناصر، هي الأخرى، اختارت التحرُّرَ من التوزيع «العمودي» للجمل أو «الأبيات»، وحَرَّرت الصفحة الشعرية من شكل قصيدة الحداثة، التي اعتبرها النقد المُصَاحب لها، كافية لتمييز الشعر عن النثر. تشويشُ العلاقة بين الشعر والنثر، طالَ هذا الدَّالّ أيضاًً، وأصبح التوزيع «الأفقي»، أو الكتابة وفق معايير التوزيع النثري للصفحة، أحد ما تتميّز به هذه الكتابة، وهي من الدوال الخطية التي جاءت انعكاساً للوعي الكتابي في الشعر المعاصر.

لم يَعُد ممكناً تمييز الشعر عن غيره بمجرَّد شكل توزيعه على الصفحة، فهذا المعطى البصري تَمَّ خَرْقه، أو تشويشُه، وهو ما جعل طبيعة العلاقة بين الشاعر المعاصر، في حداثة الكتابة، هذه المرَّة، وليس في حداثة القصيدة، والقارئ، لا تحظى بالاستجابة الفورية مع النص، كما كان شأن علاقته بقصيدة الحداثة، وأصبحت العلاقة بين الطرفَين مطبوعةً بنوع من القلق، والتوتُّر. لم تتنازل تجربة الكتابة، بالمعنى الذي أشرتُ إليه من قبل، عن صوتها، مقابل صوت القارئ، فهي، أصبحت أكثر إلحاحاً على قارئ مُغايرٍ، قارئ، يذهب إلى النص بوعيه الكتابي، وبأفقٍ حداثيٍّ يُتيح للعلاقة بين الشاعر والقارئ أن تكون خلاَّقةً بامتياز؛ بقدر ما يبتدع الشاعر دَوَالَّه، بقدر ما يعمل القارئ على ابتداع طُرُق اختراق النص، أو تفكيك دَوَالِّه.

في «قصيدة النثر»، ضاعفَت الدوال من حضورها في النص، بدءاً من الصفحة، وانتهاءً ببنية الصورة، أو الجملة الشعرية، التي لم يَعُد فيها مفهوم «البيت الشعري»، يحظى بشكله الذي كان النقد يستطيع وَضْع يده عليه بسهولة. انتفى البيتُ في تجربة أمجد ناصر الأخيرة، وأصبح النص مفتوحاً على اللانهائيِّ، نصٌّ هو عبارةٌ عن دُوارٍ، نَفَسٌ يَلي نَفَساً بوتيرةٍ متصاعدةٍ، أو ما كان أمجد سمَّاه في أحد أعماله بـ«مُرتقى الأنفاس».

أيُّ قراءة إذاً ستسعفُ في مقاربة مثل هذه التجربة، إذا لم يعمل القارئ على إعادة تربية نفسه على هذا النوع الشعريّ المُغاير، الذي هو اختراق لكل معايير «القصيدة» التي ما يزال النقَّاد وحتى الشعراء، يتمسَّكون بها، كأن المفهوم بريء من ماضيه، ومن انتساباته التي جاءتنا من زمن التدوين، أي مما لا صلةَ له بواقع النص، وبأشكاله التي تمَّ اختزالها في «القصيدة» كشكل يتيم.

***

ما يُميِّز تجربة أمجد ناصر، هو صيرورتها، فهو من الشعراء «المُترحِّلين»، أو الذين يخوضون الكتابة بنوع من القلق الشعريّ النادر. لا تطمئن الكتابة في تجربته إلى شكل، أو نمط معيَّن، فهي تتَّسم بصفة النهر، رغم أن الملامح المائزةَ لتجربته، أو لفرادته، ما يمكن اعتباره هنا، توقيعه الفردي، تبقى حاضرة، باعتبارها «أثر العابر» في كامل تجربته، بما فيها تلك البدايات الرعوية البعيدة.

شخصياً، أعتبر استقرار الشكل عند الشاعر، هو نوع من العجز عن تجاوز الشاعر لذاته، أو لمعرفته الشعرية، وهو نوع من الاطمئنان للمُكتَسَب، وهذا ما يُزوِّد النقد التقليدي، الذي ما يزال سائداً عندنا، في المدارس كما في الجامعات، وفي عدد من الأطاريح الجامعية، والدراسات التي تصدر هنا وهناك، بِدَمِه القديم، أي بالمعايير التي هي من سِمات الثبات.

***

في تجربة أمجد ناصر، النص مثل الشمس، بتعبير هيراقليط. فالشمسُ التي نَنْعَم اليوم بضوئها، ليست هي الشمس نفسها التي كنَّا نَنْعَم بضوئها البارحةَ، فهي باستمرار تتجدَّد، وتَفتأُ تولدُ بغير ما كانت عليه من قبل.

 مجلة «نقد» الفصلية، العدد 6، خريف 2011

عبور العائلة

لينا الطيبي

العدد 6 – خريف 2011

«فكَّر في نهار من النعناع يقود موكباً من البُزاق الأعمى إلى مجزرة على أطراف الخضرة، ونسوة يرمين مراييلهنَّ على الأرائك ويطعمن أطفالهن ثريد جيران أولموا لرجال عادوا من مناسك مبهمة في الوطن الأم».

هكذا فكر الشاعر أمجد ناصر في قصيدة «وصول الغرباء» بينما تقتات أصابعه من ذاكرة ظلَّ يعيش في نهم لقائها.

الشاعر الذي ارتحل كثيراً، وهو يتلمَّس مساءاته البعيدة، يحنُّ إلى ترحال أول، لم تركن أصابعه إلى الهجرة حتى وهو مهاجر قديم.

الشاعر الذي قدَّم ديوانه الأول إلى قرائه وهو يخط بأصابعه مسيرة عُمْر من شعر، إذ لم تكن بداياته أبداً بلا تخطيط، ولم يكن لديوان سطَّره خطوة عابر أو ظلّه، تقدَّم بوصفه صاحب مشروع شعري كبير، وظلَّ على دأب مشروعه محتضناً ذاكرته القديمة سائراً في دروب ساقته إليها قدماه.

في لقائي الأول به، كنت أُقارن بين الشاعر وبين الشخص. صنوان من عجينة واحدة، كلاهما متفلِّت من رتابة الحياة، تائقان إلى الصحراء الأولى، متشبِّعان بروح الماضي، ينظران إلى الحاضر بوصفه شيئاً جديداً يستطيع أن يواصل حضوره في ألق الذاكرة. شاعران هو. في طريقة عيشه. والشاعر في شعره، يتبادلان الأدوار في خفَّة تكاد لا تُرى، معاً يصوغان تعابير خطوته وتجاعيدها بينما تحفر عميقاً في أخدود الأرض.

ربما كانت تجربة أمجد ناصر الشعرية هي التجربة الأكثر اكتمالاً في مراودتي، التجربة التي تمثَّلت بلغة شعرية وعرة وليِّنة، وبصور تغزو المخيِّلة، وبصحراء شاسعة تجعلني بينما أقرأه أتلفَّت كثيراً قبل أن أستطيع الخروج من القصيدة.

شاعر مشروع، ومع ذلك لم أظن للحظة واحدة بينما أقرأ كل إصدار شعري جديد له، أنه يبني ضمن بنيان مدروس، ومع أنني، في كل قراءة له، أقرأ المشروع إلا انني لم أتلمَّس، مرَّة واحدة، إصراره على مشروعه، لأنه ببساطة يمضي في البناء وهو يعجُّ بالشعر لا بالفكرة التي تقف خلف الشعر، وأعود لأتساءل: ألا يبدو المشروع واضحاً؟ إلا أنني أتوقف دائماً عند فكرة أنه يبني من الشاعر فيه، وليس من المفكر الذي قد يقتل الشاعر أحياناً، على الأقل بالنسبة إليَّ.

تجربة أمجد ناصر الشعرية وضعته في مقدِّمة أبناء جيله ومن لحقه، كما وضعته أيضاً في مصاف التجارب الأخرى في من سبقه، لأنها تجربة مسكونة بهاجس التتويج بالشعر لا بأداءاته.

مع ديوان «مرتقى الأنفاس» كان الشاعر بالنسبة إليَّ قد أصبح نموذجاً لما أراه في معنى الشاعر الذي يُراودك ليصبح جزءاً لا يتجزأ من تكوين ذائقتك ودفعها دفعاً نحو التطلع إليها كطموح مشروع.

مع «حياة كسرد متقطع» توقفت طويلاً وأنا أقرأ: «بعد كل هذي السنين من قتله المتواصل لأبيه وإصراره، بعناد لا يُدرك أسبابه، على فعل كل شيء عكسه، وجده حياً يُرزق، في زاوية مهملة من نفسه يرقب، بضحكة ماكرة، خطاه». تساءلتُ: أين الأب في تجربة أمجد ناصر؟ وهل أطاح به الابن فما عدنا نتلمَّس خطاه؟

أقرأ مجموعات الشاعر على اختلافها، فتأسرني ما تجود به المخيِّلة من صور، كما تأسرني اللغة التي تُتوِّج القصيدة بإيقاع منفلت وخارج على أيِّ سرب، إيقاع روحي يُوقِّع خطواته بصلابة ولين، يتجاوز نفسه في كل مرَّة، كأنما في ركضه المتأني يُدرك أن السباق معه وعرٌ وصعب.

ارتكزت تجربة أمجد ناصر الشعرية على قصيدة النثر، وهي التي خطت بداياتها في أرض التفعيلة، وحينما ساقت مخيِّلة الشاعر شعره نحو قصيدة النثر كانت قصيدته تبدو، بالنسبة إليَّ، كأنما يتيمة بلا آباء ولا عائلة، قصيدة تمتلىء بالقراءات وثقافاتها، لكنها عندما تكتب تنسف من ذاكرتها احتشاداتها ولا تعود سوى بنت مخلصة لمخيِّلة أولى تتجدَّد باستمرار.

شاعر مجدِّد كلما قرأته انتبهت أن عليَّ أن أُغاير لأعبر نموذجه.

ملحمة الفحولة

عبد الله كرمون

العدد 6 – خريف 2011

«الحوار هنا بين الذات والآخر (الأنثى) يستحضر تاريخاً معقَّداً من الامتلاك، العنيف أحياناً، والرجاء المتذلِّل. إنه أيضاً تاريخ الحب، بصرف النظر عن الظرفية التي يولد فيها. فالظرفية، هنا، رغم أهميتها كحاضنة أولى للعمل، ليست سوى خلفية شاحبة لا تصلح مرجعاً».

أمجد ناصر، طريق الشعر والسفر

سَمَوْتُ إليها بعدما نام أهلــها        سُمُوَّ حَبَاب الماء حالاً على حالِ

فلمَّا تنازعنا الحديث وأسْمَحَتْ         هصرتُ بغصن ذي شماريخ ميَّالِ

وصرنا إلى الحسنى ورقَّ كلامنا         ورُضْـتُ فذلَّـتْ صعبةً أيَّ إذلالِ

امرؤ القيس

لو افترضنا بأن ديوان «سرَّ من رآكِ» لأمجد ناصر ليس مجموعة شعرية إيروسية فحسب، وإنما يتعلَّق الأمر بشيء آخر، مخالف لما قد جرت على القول به كل القراءات السالفة له… ألن تتغيَّر إذاً أشياء كثيرة لو تحرَّينا عميقاً في هذا المنحى؟

نشير أولاً إلى علامات مهمَّة:

1- فصلنا بين المصطلح القديم، الذي يجعل نَسيباً كل ما يُحيل على التشبيب أو وصف أعضاء المرأة، أو حتى إخلاص مشاعر التعلُّق بامرأة معيَّنة، وبين ما تعنيه الإيروسية من الجرأة على الكشف عن جلال الإباحية وفضل المجون، في العلاقة بكسر قدسيَّة معتقدات سياسية وأخلاقية وغيرها.

2- التذكير بأن قصائد أمجد ناصر في ديوانه هذا تفوق ما حُدِّد بمصطلحَي المجالَين سالفَي الذكر.

3- كون نصوص هذه المجموعة قد صيغت بمنتهى البراعة، سواء على مستوى الرصانة اللغوية أو على مستوى الإيقاع المنسجم، ما يُحدث وقعاً حسناً في النفس، سبكاً ومعنىً. أكثر من هذا فهو ديوان يُضاف إلى سجلِّ أروع ما صيغ في جماليات المشاعر الإنسانية. وقلَّما نجد، بجِدٍّ، أعذب منه في شعرنا الحديث.

4- إزاحتنا كل معنى صوفي، قد يلصقه البعض عن استيهام وتلفيق، بنصوص «سرّ من رآكِ». وكأن الحديث عن جمال المرأة والرغبة في جسدها، أو الحديث عن المدامة وسحرها لا بدَّ من ردِّهما دائماً، قصد القبول بهما، إلى الترَّهات العرفانية!

5- أهمية الإشارة إلى قصَّة يوسف. فإذا كان محمود درويش قد وظَّفها في معنى علاقة يوسف بإخوته، وتعويض كراهيتهم له بالغلبة العليا لحب الأب، في معانيه السياسية، فإن أمجد ناصر (في إشارة بسيطة إليها لكنها مهمة) قد قوَّض المعنى والتحم بيوسف المفترى عليه، وأعاد ترتيب التسلسل الزمني لحوادث حياة يوسف، وتحوَّل الفعل الذي جاء بيوسف إلى حكاية الرداء الذي قدَّ من قُبل أو من دُبر، إلى السبب الذي غيَّبه في الجبِّ. ومسوِّغات هذا الاختيار أهم بكثير، لأن الاستناد إلى هذا المرجع الرمزي كفيلٌ بالإحاطة بالتفاصيل المؤسِّسة لحروب الغواية.

نكاد ننسى الصراعات النقدية القديمة والمتباينة، حينما يتعلَّق الأمر بتقييم الشعر، معتبرين تارة بأن الحقيق منه هو الذي يصدر عن الذات الفردية (الذاتي) وتارة أخرى، في الجهة المقابلة، عن الذات الجمعيَّة (الموضوعي). ضاعت واشتبكت الآراء حول ما قد يكون مصدر ارتياح، ولو على المستوى الإجرائي، لمضمونٍ مَرِحٍ بخصوص نظرية أو أخرى. لكن الأمر، يحيل على نقاش سطت عليه تلاطمات آراء أخرى، استقى جلّها خلفيتها المعرفية – ولا أقول بأن ذلك مستهجن – من خلال مواقع لا علاقة لها بشكل مباشر بالأدب. سياسية كانت أم أيديولوجية. لكن، هل على الأنا إذاً أن تظهر معبِّرة في النصوص الأدبية أم لا؟ أم هل على التعبير أن يكون بالضرورة عمومياً، هلامياً وعائماً؟

أمر آخر، هو أن كثيراً من الشعراء والكتَّاب لا يستمرئون التعبير الإيروسي في أدبهم، ما يرونه، على كل حال، فجَّاً، ويُحجمون عنه عن تقيَّة أكثر منه عن اعتقاد. ويخلقون بذلك من تلقاء أنفسهم، جبهة صلبة ضدَّ الرؤية الإيروسية الحرَّة، بجعلهم الأمر غير لائق جراء تمنُّعهم واتهامهم غيرهم بتصرُّفهم ذاك، ممن يمارسونه – دون قصد معلن -، بأنهم مجرَّد فجرة، أو بأنهم يصدرون عن أعطاب نفسيَّة!

كُتبت قصائد «سرَّ من رآكِ»، استناداً إلى تواريخها، خلال فترة زمنية تتراوح ما بين نهاية الثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي. لكنها تشهد عموماً على وقائع مستعادة. بمعنى أنها تحاول الإمساك بمجريات ماضية، ما لا يعني أبداً أن سِرَّ نشأتها قد كفَّ عن استمراره في الحياة. ولأن الأمكنة الجغرافية الواضحة المعالم، والتي كان بوسعها منح إضاءات إضافية وتزكية لأزمنة مشاغل الشاعر، غائبة عن نصوص الكتاب. إذ الحيِّز المكاني فيها ليس طبوغرافياً.

الذكرى والتذكُّر هما إذاً محرِّكان من أكثر محرِّكات «سرَّ من رآك». لأن المادة الغزلية الخصبة في المجموعة ليست سوى استطلاع آنيٍّ على وقائع تنتمي إلى زمن آخر، إنها ما قد نُسمِّيه استعادة لملحمة. سوف نرى أنها ملحمة كبرى تلعب فيها الرجولة والفتوة والفحولة دوراً أساسياً. من هنا لا يلزم الاستخفاف بحمولة العنوان، أو اعتباره مجرَّد صيغة إنشائية بديعة، مع كل ما تعنيه من جمال بالتأكيد، لأن الأمر على ما قد يبدو يفوق هذا الإدراك العام، بمعنى أنها تتعلَّق بشكل جدِّي بالسرور؛ سرور من رآها. نتبيَّن الآن أن هذه الحالة النفسية الخاصة ليست من نصيب الآخرين. مَن؟ هناك إذاً نوع من المشاداة والنزاع؛ بل العراك المعنوي كي يتحقَّق حلم الرؤية هذا (أي الامتلاك الحميمي)؛ بل أكثر من ذلك حلم الفوز بـ«ها» في آخر المطاف. يعكس الديوان إذاً (وهو مليء بكثير من آلات الحرب) ميداناً لمبارزات بين كثير من المتطلِّعين إلى وجه جميل. من جهة، يوجد الشاعر، وفي الجبهة المقابلة يتراصّ الآخرون، وإن كانوا مستترين. إنَّ القصائد على كل حال هي خلاصة وصفيَّة معقَّدة لهذه المبارزة، لكن الذي يبقى أزلياً هو سِر: «سُرَّ من رآها»!

في الوقت الذي تلتبس فيه الأمور ويُخيَّل إلينا أحياناً أن الشاعر إنما يُوظِّف صيغة الجمع فقط كي يتحدَّث عن نفسه وليس عن سواه. ما تؤكِّده بعض المقاطع وتنفيه أخرى. الشيء الذي يقارب نفي النفي أو تخريجاً رياضياً أكثر قسوة بقوله بالنفي. ما يهمُّ هو أنه لا داعي لأن تذهب كثرة العلم بأحد كي يؤكد بأن الأمر يتعلَّق بمجاز جريء حول «مدينة عمرانية»، مع العلم بأن لا أحد يقبل أن يكون لـ«مدينة مقدَّسة» نهدان دافئان لما يطلان من خدرهما!

تنزع تلك القصائد بهذا المعنى إلى تسطير كيمياء أوديسة عاشقة. حيث تتَّخذ الحبيبة وجهاً أكثر نصاعة، ما دامت هي التي تُشكِّل موقع نزاع بين عشَّاق كثر، يتطلَّعون إليها جميعهم، ولن ينفرد بها سوى من عنَّ وحُسم بأنه أقواهم؛ أي الذي تختاره هي من بينهم جميعاً. ألم يكتب أمجد ناصر:

«جمِّلينا بالأسلحة

اصطفينا من الجمع

لنقوى»؟ (معراج العاشق).

من الواضح أن حضورها مروي، وليست تكشف عن نفسها أبداً – ما خلا في مقطع ملتبس من «غريب مكلوم بمنجل العذراء» – ما دام الشاعر لم يترك لها مجالاً للبوح، مهما كان. لأنه هو الوصيّ الوحيد عليها. كما أنها لا تحمل اسماً أبداً، وإن كتب أمجد ناصر: «مع أن فمي ناداك وسمَّى عليك». أو إذا اعتبرنا كلمة «بشرى» هي علم مؤنَّث وليست تيمُّناً بالبشارة في:

«جنحت إليك بلا دليل

قلت يا بشرى هذه أرضك لاحت

وقبابك حصحصت».

فهي بمعنى ما محط جدال ونزاع. تظلُّ منزوية في ركن، في انتظار الحكم النهائي الحامل لشعار مُبهم ومتألِّق في آنٍ واحد: سرَّ من رآك!

لا يفوتنا منذ البدء أن ندرك أن من فاز بها هو الذي تكلَّم عليها، وجعل ينسج خيوط بلاغة ملتصقة به، وإن جاءت صيغة عنوان المجموعة مبنيَّةً على الإبهام. ما لم يخلُ من مغزى. علينا إذاً أن نعرف، أولاً، كيف فاز الذي فاز، قبل أن نضع اسماً على من سُرَّ بما امتلكه، وسرَّ به. «أنّى لهم أن يدركوا طُرقي إلى المُعرَّى في الريش، مزيّحاً بدم الشفتَين» (لص الصيف). إضافة إلى حرص فنِّي مهووس من أجل بناء جناس (غير تام) خاص مع تكتُّل عمراني غير مجهول يحمل اسماً نبرياً مشابهاً.

قد لا أُغالي إن زعمت أن النص المفتتح للديوان «تعويذة لدخول البيت» هو نوع من الفاتحة بمعنى مقدَّس. ولا أظن أنه كُتب إلا بعدما كُتبت أغلب نصوص المجموعة (فهو غير مؤرَّخ)، وتبيَّن الشاعر، بشكل واعٍ أو غير واعٍ، مناخَ نصوصه، وعودتها مما عادت منه من معارك، كي تسترخي اليدان ويتعلَّق القلب ببصيص تعويذة لا همّ إن كان لها شيء من الثقل أم لا. يطلب منها فقط: «ادخلي بقدم السعد» وقبل ذلك، أمَرَها «شيِّعي حامل الرمح» وفي النهاية اعترف، ما يُكلِّل بالفرح نشوة «السرور»:

«فليل الليالي كلِّها

 عندما تضعين قدماً على العتبة

 مرغماً يَبْيَضُّ» (تعويذة لدخول البيت).

انتهى النزال الذي ذكرناه إذاً، وعاد حامل الرمح ليُفسح الطريق لأنثاه كي تتخطَّى العتبة، أي كي تدخل، ويلج الحظ والبهجة معيَّة قَدَمها إلى البيت. وتكون علامة الانتصار إذاً نهاية حلكة الليالي التي تنفتح بالرغم من شدَّة بُهمتها، ما أن تتخطَّى العتبة. أرى أن إمكان بزوغ حقيقة واحدة هو ما قد يُفسد عليَّ ما ذهبتُ إليه: إذا لم يتعلَّق الأمر بالمرأة نفسها في الديوان. غير أن مؤشِّرات كثيرة تدلُّ على العكس. ثم أنه قد يُدغم الشاعر في واحدة كل خصائص أخريات، تجاربه وأحاسيسه ومثبطات أيامه معهن. هي: قابلة على أن نشحنها بكل ما أُوتينا من خيال، أوهام واستيهامات. بل قد تكون ضمائر تأنيث الخطاب والغياب في نصوص الكتاب كلها قنوات استذكار توازي بين الاستحضار وتحديد معالم رؤية ذاتية حول الأنوثة وحاملات ثمارها اليانعة والواعدة بعطايا المسرات.

الفوز يحتاج أيضاً إلى تعويذة. وهل غير الأشياء الحسنة تحتاج إليها؟ يلزم صيانتها وصدّ كل دسيسة تتسلَّل في ثوب غدر.

أحطنا قليلاً ببعض العناصر المشيرة إلى جوِّ الصراع الذي يطبع نصوص الديوان. كما لفتنا الانتباه، ولو بنحو خاطف، إلى أن تلك النصوص نفسها ليست سوى ثمرة تَذكُّر. يبقى أن نبحث الآن عمَّا يميِّز تلك الذاكرة، وما يجعلنا نقول بإحكامها، وكأن قوَّتها وحرصها على استكمال خصائص المتانة جزء من كمال الانتصار والسرور، ولا يبلغان تمامهما إلا بتماسكها، وإحاطتها بالتفاصيل الدقيقة التي جعلت من النص تغنِّياً متقناً.

صحيح أن حياة الإنسانية لا تُقيم أودها بلا ذاكرة. بل لا يكون الإنسان إنساناً بدون ذاكرة. وإذا كانت هي مجرَّد وظيفة من وظائف الإدراك الإنساني فإنها من أهمِّها، ولا غنى عنها بالتالي. وإذا ما حسمنا هذا الأمر البديهي، سيكون علينا أن نُبرهن على أن بعض مدارات الحياة تتطلَّب من الذاكرة، لسببٍ أو لآخر، نشاطاً مضاعفاً؛ سواء من أجل تصالح، أو بناء. غير أن الذاكرة، كما نعلم جميعاً، انتقائية بامتياز. ويتمثَّل الانتقائي لديها في العلاقة بالمصلحة والمتعة اللتين نسندهما إليها.

هكذا كتب أمجد ناصر إذاً ملحمته، وإن كنَّا لا نعتبر بأن كل صوره الشعرية تُشكِّل سيرة ملتصقة بالجلد، غير أنه لا يمكن فصل الشعر عن رؤية الشاعر وأحاسيسه تجاه العالم بشكل عام. ما قد يختلف نوعاً عن جنس الرواية التي تتحصَّن بدرع ما يُسمَّى بـ«شخوص من ورق».

لا يعني هذا ألا تكون امرأةُ «سرَّ من رآكِ» قد تحوَّلت في ما بعد معاناة وقائع التقرُّب إليها والسعي، ولو تذلُّلاً أحياناً، لنيل الحظوة لديها، مروراً بمنخل الذاكرة المُحكمة، إلى امرأة خارج زمن الأنام، مرصَّعة بما اقتدر به فنُّ الشاعر، متربِّعة في علياء سرمدية الحب المجرَّد من كل الأشواك: كوردة مثلى!

إن من خصائص النسيب المبالغة في مدح محاسن الحبيب. والمبالغة من أدوات البلاغة التي لا محيد عنها. لكن النصوص المشكِّلة لديوان «سرَّ من رآكِ» لم تتَّخذ منها، مع ذلك، بالنمط المطروق، سلاحها.

يبقى القول بأن زمن كتابة نصوص هذه المجموعة جدّ مهم على مستوى ما تُبطنه من معانٍ خفيَّة. إذ يُوائم تواريخها زمن «وصول الغرباء»، ولست أعني بهذا ذلك الديوان الآخر للشاعر، وإنما وصوله هو إلى لندن. الغربة تربة خصبة لتعهُّد عشب الذكريات. وتكون لندن إذاً مفجِّراً حتمياً لكل ما في الذاكرة من قوَّة وبداوة ووجود سابق عن سبي ما تمثِّله الهجرة. ألم يعترف: «كانت كمشة تراب تثقل جيبي» (الشمس رمتني بنابها الذهبي).

أليس تثبيت فحولة سابقة تأكيداً لمشروعية وصول إلى أرض غريبة، ملساء وشائكة. أو مجرَّد تغنٍّ بسيط بشظف المنشأ. أو بمعمودية تالية لـ: «أنا المولود تحت منجل الحصاد» أو «وشممت فوح طفولتي بين الأكباش». أو تذكُّره لـ: «أمطار على أسطح من طين» و«حنطة مركوزة في الحظائر». (الرائحة تذكّر). أو «الرائحة تذكِّر بالأعشاش»: وكنات الطيور والمواطن الرمزية للدفء. أو في كون الرائحة عادت لتذكر، ثم أسَرَّ في مكان آخر بأنها عادت لتبقى!

إذا كانت لندن مهمَّة على مستوى كتابة نصوص المجموعة، فإنها الفضاء الحاسم الذي سمح بل أجَّج فعل كتابتها. سواء باعتبارها نوعاً من المرفأ الآمن لاستقرار حيوي أخير (بمعنى أنه نهائي في عُرف الاختيار)، أو لأنها، كما لمحنا سابقاً، انتصارٌ شعريٌّ على ماضٍ كان له وجود قبلها. سنلاحظ أن بنية الكتاب الشعري – لأنه كذلك هنا – مُشكَّلة من أربعة مستويات فاعلة ومتباينة. نبدأ بالذاكرة التي هي أداة ونخلص بالتسلسل الوظيفي إلى العناصر الأخرى: الصراع، الهجران، والعودة إلى البيت، أي معيَّة المرأة التي كانت آسرة تقترح مفاتنها «حرباً تدوم».

الشيطان الذي أملى على أمجد ناصر نصوص «سرَّ من رآكِ» هو الذاكرة إذاً. أية شيطانة شرسة هي! والذاكرة، كما سنرى هنا، ليست آلة تحسُّر وشوق مباشر وشكوى، وإنما هي وسيلة لتثبيت دعائم واقعٍ طرحَ حبلَ الترحال وأوغلَ عصاه في الضباب. وإذا كانت الذاكرة هنا أسُّ العمل كلِّه وسنده، فلأنها هي التي تضطلع بإعادة تركيب وبناء أحوال العشق والحب التي تنتمي إلى ماضٍ يُفضي إلى حاضر يتمثَّله، وتنبثق حياة الثاني من تحوُّل الأول. وقبل ذكر تركيبة ما أسَّس له فعل التذكُّر الشعري، أشير فقط إلى أن الأمر يتعلَّق بالفقدان والاستعادة. وتظل عملية التراوح ما بين الفقدان المحيق والاستعادة (ذهنياً وواقعياً) هي قوام الحرب – تأكيد الفحولة – التي يتكفَّل الشاعر بكتابة تاريخها، من أجل البقاء. فالمنتصرون هم من يكتبون دائما تاريخ الغزوات:

«أفقدك وأستعيدك

كلما ذَهَّبَ ضوءٌ نحرك

وفضَّضَ غبشٌ حاشية السرير» (غريب مكلوم بمنجل العذراء).

فإذا كان الأمر لا يتعلَّق بفقدان حقيقي فإن الذكرى هي عماد كل شيء. وكأنني لا أبالغ إن قلت بأن «سرَّ من رآكِ» هو كتاب الذكرى العاشقة بامتياز: «وصلت إلى ما وصلت إليه: هذه الذكرى التي تغيم وتمطر!» (الشمس رمتني بنابها الذهبي). لكن الذاكرة لا تحشر موادها بمحض تذكُّرها وإنما لأنها تستعيد فصول محكّ ووضع في الميزان. فلا تكتشف قصائد الكتاب المرأة التي هي محط الأنظار لأنها معروفة وأليفة – ما عدا كونها تبدو وكأنها غريبة نوعاً في مطلع وردة الدانتيلا السوداء – بل أكثر من ذلك نلحظ كونها معروفة في تفاصيلها التشريحية والروحية لدى الشاعر. ما يسم امرأة القصائد التسع المكوِّنة للكتاب هو الابتهال إليها، والذي يمتزج فيه الاستعطاف بالنبرة الآمرة.

تطوف الذاكرة إذاً بأجواء الرغبة في امرأة عسيرة المنال، ذلك لأنها أولاً «امرأتنا كلنا»، هذه اللازمة التي تُدوزن قصيدة «معراج العاشق». أو مخاطباً إياها، لأنها: «ولدت بهاتين العينَين لتُبصري غيرنا»، أو لأن لها يداً في: «الأبيض المكين/ الذي أخرجنا سافرين من كل إرث». لا يتعلق الأمر فقط بالانخراط في مغامرة تحدٍّ، أركانها، إثبات الفحولة والقوَّة والدربة على مناورات الغرام، بل في سَرية استرداد، ما لم يفقد بعد فقداناً محققاً، امرأة يرفعها إلى سدَّة التسامي مثلما نجد في «لك أيضاً معجزة»، ويخشى عليها من وقوعها في أيدي آخرين، يتمكَّنون من استبقائها لهم:

«فازوا بظاهر يدك

وتركوا أثراً طفيفاً على الثياب» (لص الصيف).

بالرغم من كل ما رصد لها الشاعر من «شآبيب الزلفى» والتقرُّب، فإنها لم تزدد إلا تمادياً في الاستعلاء، وبث البلبلة في صفوف عشَّاقها. «نرتجف لأن النمش الذي ترميننا به/ يهطل على الجراح». واحتاج العاشق إلى معراج يرتقي به إليها. بل العشَّاق كلهم، إذ أنهم صاروا «قانطين من الوصول إلى الثمرة المضاءة/ بوهج الأعماق».

الغريب أن قصيدة «معراج العاشق» مكتوبة بصيغة الجمع المذكَّر «نحن»، بالرغم من أن العنوان يحيل على العاشق المفرد. إن لم يكن ذلك سهواً من الشاعر، ما أشك فيه، فإنه لن يعدو إلا أن يكون دليلاً على تسمية إطلاقية عامَّة لصفة العشق، لا تحتمل الإفراد، التثنية أو الجمع. في حين أن ضمير الجمع «نحن» قد يدلُّ على نفي الخصوصية الذاتية، وتماهيها في الذوات الجمعية غير المحدَّدة، أو قد يكون، من جهة أخرى، تغنِّياً مفخماً بالأنا، ووسيلة تستدعيها اللياقة لمخاطبة امرأة ننصب لها فخاخاً.

لا بدَّ من الإشارة إلى أن هذه القصيدة تتميَّز بهندسة فريدة، تقترب من بناء «وردة الدانتيلا السوداء»، إذ اعتُمدت المقاطع كوحدات مستقلَّة ومترابطة في الآن نفسه، متناولة الموضوعة نفسها، في تداعيات وتنويعات حرَّة، تصبُّ في المسعى ذاته.

يبدو «معراج العاشق» قلقاً كعنوان لهذا النص. ولا أظن أن جملة «ونحن نصعد» الواردة فيه كافية وحدَها لتشريع تلك التسمية، والتي أجدها ملتبسة وباعثة على الاندهاش. وأتساءل لماذا لم يُطلق عليه أمجد ناصر مباشرة «سرَّ من رآك»؟ ما دام هو النص الذي منح العبارة لعنوان الكتاب. مع أن التباس المعراج ينير نوعاً فضاء النص. ذلك أن «المعراج» فيه ليس ارتقاء فيزيائياً، بقدر ما هو إحالة على رمزية التطلُّع والارتفاع إلى سماوات المعشوقة، العصيَّة مع ذلك والمتعالية دوماً: «ليس عادياً ولا مُسلَّماً به أن تطلِّي علينا بطولك المشهوق، فكيف أن تمدِّي لنا يداً لنرقى إليك» (لك أيضاً معجزة).

كما أنه منسوج من مادَّة الحلم، بمعنيَي الغطس تحت سجف اللاوعي والتمنِّي المضعّف بالبشائر. هذه المرأة التي تحمل اسماً لا نعرفه، تردّ خاسرين مَن يقتربون منها. تلمس جرح حبِّهم لها ويند. ثم تؤكد لام الجحود الرغبة في التلطف قليلاً بمصائر أولئك العشاق: «لتتلطَّف الأكف وهي تدفعنا بين الأعمدة». وهؤلاء عُمي، كأنْ في اتصال بأسطورة قديمة: «نراك بالرائحة/ ونتقراك بالأنفاس» ثم «ركضنا وراء الرائحة/ فأوصلتنا إلى ثيابك» و«كنت هناك/ ولم نرك». في حين تظلُّ تحرِّيات العاشق المرفوع غير مؤكد وقوعها، إذ يتساءل الشاعر بواسطة الـ«نحن» في أشطر أخيرة من قبيل: أشممنا، أرأينا، أمررنا، أفزنا. أسئلة مهمَّة تُحرِّض الوعي على الوقوف على حقيقة الواقع، وهل تُحقِّق مراد إرادة العاشق منه. حتى أن «سرَّ من رآك» بُنيَ للمجهول وبقي مفتوحاً. كل هذا للتأكيد على كون المرأة المعشوقة متمنِّعة، ومتلاعبة بمصائر المتبارين للفوز بها، والسرور بمرآها. كتب:

«نحوزك ونفقدك

نحوشك من الجهات

بالأغصان والرماح

فتمكرين

يدك فوق أيدينا».

ذلك أن الرؤية هنا لا تتجلَّى في مجرَّد النظر إليها، بل هي في معنى تحقُّق الاتصال بها، تبصُّرها بكل الحواس، والتحقُّق من تسليمها لمفاتيح أسرارها لنا. انكشافها، والبناء بها، وانتفاء ما كان هتك عورة من قَبل قريناً بها بتحوُّله إلى حرم لائق وحِلٍّ. لكنها تمكر، وقد تنقاد، طعناً في هشاشة أسباب فحولتنا، إلى آخرين. غير أن من فضائل الشاعر ما في قوله: «شفاعتي في الخفة» أو في مداراة العشق حسب الأصمعي.

لكن فضل التعازيم والتعاويذ أقوى. وتكون الحرب المعلنة هي سيرة الهواجس، التوجُّسات، وخوف استبداد الندّ بأسباب الإغواء، ضدّ ما تمتلكه الذات من متاع القتال. ولا نرى في الكتاب أثراً لصراع حادّ بين المتنازعين على وردة عشقهم. إنما بعض تقارير الشاعر حول كنه وَجَلِه الدائم جهة لصوص العَتَمَة، بل إشارته إلى مزاحميه ومريدي تقاسمه بمعنى ما محاسن الحبيبة:

«أنظر إليك في أطناب المنَعة

حيلتي لا شيء أمام سحر الواصلين

على أطراف أصابعهم إلى أعالي الخدر» (غريب مكلوم بمنجل العذراء).

وبناء على إرادتنا في إعادة صياغة أجواء «سرَّ من رآك»، واتخاذنا إياه نوعاً من البيوغرافية الخاصة للشاعر في شأن العشق، بتركيب نصوص الديوان، ومراعاة خطه الشغوف بـ«أيام الحب» وتاريخها، فإن متاهات العراك والهجران قد أدَّت إلى وصول الحبيبة إلى البيت بعدما هيَّجها الشاعر إذ طالبها:

«تخفَّفي من رياش الغلبة

دوسي العتبة

وشرِّفي البيت

لي قميص ذائع الصيت وسيف

ولي سيطرة على نواحي الأصهار».

إذا سعى أمجد ناصر في «سرَّ من رآك» إلى إنشاء كتاب شعري بمعنى الكلمة، فإنني حاولت ربط النصوص المشكِّلة له، وجعلها نصاً واحداً، تسكنه امرأة واحدة، ترتدي أزياء مختلفة، وتظل واحدة في عرف الشاعر. إذ يشير الكتاب إلى معاني الفحولة وتجاذب أطراف الغواية والإغراء بامرأة. ثم بخشية فقدانها وفوز الغير بها. متغنياً على العموم، بفضائل التمسُّك بها.

يُشكِّل هذا الديوان، منعطفاً مهمَّاً في تجربة أمجد ناصر الشعرية في أبعاده المذكورة سالفاً. متميِّزاً بثيمته، بنيته وإيقاعه على ما كتب قبله.

غير ذلك فهذه المرأة التي تغنَّى بها الشاعر تكاد تكون أسطورية، متعالية، نائية ومنقطعة عن نسوان اليومي. بالرغم من إصراره على التمسُّك بها، وإخفاء من تكونه، وتستره عن غزواته، حرصه الشديد بعد هذه الذكرى، أو بعد الزمن الذي رمته فيه الشمس بنابها الذهبي، على التخفِّي القصي. ألم يكتب دالاً على شيء من هذا كلِّه:

«خذي يدي واجلسي لنغيب

فالسدى عيدنا

لا لنا

ولا علينا».

مجلة «نقد» الفصلية، العدد 6، خريف 2011

ثقافة اقتفاء الأثر وكرامة الحياة

أكرم قطريب

العدد 6 – خريف 2011

1

هو واحد من مؤسِّسي اللحظة الشعرية العربية الراهنة، وأحد أقطابها الأساسيين، لا لشيء إلا لأن شعر أمجد ناصر يدمج على أكثر من مستوى وعياً شعرياً وفلسفياً ومكانياً استطاع تغيير شروط الأسس الفنية للكتابة والإمساك بأسرارها. وما نحسُّه هنا ليس من شروط ضاغطة دفعته إلى هذا الخيار الجمالي، بل ما يُلتمس من الكلمات ذلك الظلّ الواهي الذي يجثم وراء قصائد لم تهنأ للزخرف الشعري وواحديَّة الأسلوب، وما فعلته أنها أخلصت لنبع لغوي فريد، لا بالمعنى المعجمي والنحوي الصرف، بل بمعنى الإضافة والتطوير اللذين ميَّزا قصيدته، وما أُقيم من جسور فوق هذا النبع كان بمثابة طاقة التجريد الخلاقة التي دمجت كل مصادر هذا الشعر على شكل إرث بهيٍّ، غامر ومُؤثِّر.

كان يقول أهل اللغة إنه لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث العربية. وفي اعتقادي أن شعر أمجد ناصر يذهب إلى مماثلة تلك الميزة الفرزدقية من ناحية الفتنة باللغة ومواربتها لكن بفارق شكل الاضطراب وزمنه. إذ نهل أيضاً من الأصول الشعرية العربية قديمها وحديثها إلى إطلالاته على المنجز الشعري العالمي وأشكاله التعبيرية والنظرية، كما يُعدُّ أحد الناجين القلائل من المآزق الكثيرة التي تواجهها التجربة الشعرية العربية الحديثة.

2

من عمَّان إلى بيروت ثم قبرص فلندن، سيأخذه غيمُ الأمكنة وبسيطُ الأرض إلى المدن والأقاليم البعيدة. شعر محمول بثقافة اقتفاء الأثر وكرامة الحياة وطفولة بعيدة عن متناول اليد. على نثره الطافح لم يتخلَّ عن غنائية شريدة سيلحظها قارئه وعلى نحو أفضل في تلك الحداءات المرسَلة، حتى في أكثر شعره نثرية، وظلال السيرة المكتوبة بدراية خاصة تؤرِّخ لأفول ومستهل عصر لم تعد حماسته للشعر مثلما كانت، فهو عصر الارتياب والقسوة والوحشة والتردِّي الذي لم يعد يأنس للقصيدة ولا لقيمتها المحسوسة. عصر المجتمعات المتقوِّضة بجحيم الآلة ووحش الاستهلاك والطغيان والتفكُّك. وما يفعله الشاعر هنا أنه سيصير واحداً من أشباح العصر القديم وصدىً لإمبراطوريات آفلة. وبصرف النظر عن مظاهر الغرق والمعايير التي تحط من قيمة الشعر، ما زال سيزيف يملك حدسه وخاتمه القيرواني الذي ورثه عن سلف من بلاد الرافدين اسمه سعدي يوسف، الذي لم يغب شبحه عن شعر صاحب «مديح لمقهى آخر». ظل اللغة المحتكمة إلى خصائص متعدِّدة منها: الصوت الإنساني العميق، وهو منحى أخذ صيغة أحدثت نوعاً من الطوق الروحي حول الأمكنة التي جابها وحول شعره الذي ليس ابن الإقامة، بل ابن الظلال والهجرات واللهفة الخالصة.

3

في واحد من أعذب دواوينه («مرتقى الأنفاس») يقترب الحسُّ التاريخي لهذه القصيدة من ميل الشاعر اليوناني قسطنطين كافافي في «وداعاً للإسكندرية التي تفقدها»، ليس في موضوع إعادة كتابة التاريخ، بل في محاولة إعادة إنتاج مفهوم البطولة والمآثر الكبرى شعرياً والنزوع إلى تمجيد الهامشي والعابر. لم يكن يريد أمجد ناصر سرد الهزيمة العربية في الأندلس، وإنما كتابة سيرة الفرد المهزوم صاحب الممالك والقوَّة وهو يُواجه مصيره ومغامراته الفاشلة بلا مواربة. لحظات العجز والضعف والهرب الحزين من الأبواب الخلفية. بينما في تلك اللحظات تتقلَّب أكثر من حضارة ولو على مبعدة آلاف الأميال.

ناهيك عن خطأ لغوي بياني بالفرنسية اكتشفه الشاعر الفرنسي أراغون بين مجلدات موسيقية ضخمة حوته أغنية اسمها «عشية سقوط غرناطة»، خطأ بياني دفعه إلى البحث عن المدينة الخالدة التي تحوَّلت إلى خرافة، وعن آثار الملك الضائع الذي ضلَّ سبيله إليها. سقوطها الذي شبَّهه  الشاعر بسقوط طروادة، دفع صاحب «مجنون إلسا» إلى أن يُعيد كتابة الوجه العربي الآخر وتراجيديا الشخص الذي حاولت أن تُشوِّهه الأكاذيب.

يقترب أمجد ناصر من الوله الأراغوني هذا، وهو منشغل باستعادة الصورة الإنسانية المهدورة التي ارتبطت باسم ملك الحلم الأندلسي المفقود إلى الأبد، وكتابة آثار حطامه الوجودي على شكل مرويات شعرية أبرز عناصرها الفقد والوجد والخسارة. ميثولوجيات مقتطفة من لوح اللعنة والأيام الموحشة الأخيرة:

«أنا أبو عبدالله المكنَّى بالصغير

بكر أمِّي

ولدتُ تحت لبدة الأسد

رايتي حمراء

ودليلي نهار يميل

سلكتُ طرقاً مشاها أسلافٌ خطرون…».

4

في «حياة كسرد متقطع» تصل القصيدة حدود المنتهى التعبيري، ولن يُحرم الشكل النثري الخام، إلى حد ما، الأساس الذي انبنت عليه لغة أمجد ناصر الشعرية، ولن يكون ممكناً قراءته دون تلك اللهجة النادرة التي لا يستطيع أحدٌ منا أن يقرأها أو يصغي إليها دون أن يتأثر بها، حتى في كتب رحلاته ستنقض على الصفحات التي تسرد، بدون بطولات، أسفار وتعاويذ وذكريات مَن حاول أن يسرق النار فتلقَّفه القفر ومعمى المكان.

مجلة «نقد» الفصلية، العدد 6، خريف 2011

أيقوناته في مصر

محمود قرني

العدد 6 – خريف 2011

قبل أكثر من أربع سنوات كتبتُ مقالاً انطباعياً يتناول مجموعة شعرية أحببتها بشغف وما زلت، هي «حياة كسرد متقطع» للشاعر الأردني أمجد ناصر. تلك المجموعة التي مثَّلت إجابة على الكثير من الأسئلة العاجلة – آنذاك – لقصيدة النثر، في لحظة كان ينهمر فيه حضورها بين الفوضى والنظام منذ مطالع تسعينيات القرن الماضي. لكن ذلك المقال لم يُنشر، وقد ارتحت لعدم نشره. فقد اكتشفت – بعد كتابته بأشهر – أنه كان يفتقر إلى أسس النقاش الموضوعي، حيث تحوَّل إلى غنائية مُطوَّلة في مديح المجموعة.

الآن، وبعد مرور السنوات، أجدني أمام الأسباب الحقيقية التي تشير إلى أهمّية هذه المجموعة وغيرها من الأعمال في مسيرة أمجد ناصر، بل وفي مسيرة قصيدة النثر عموماً.

قبل أن أقع في أسر «حياة كسرد متقطع»، كنت قد توقَّفت طويلاً أمام ديوانَي ناصر «وصول الغرباء» و«سرَّ من رآك»، وبهرتني فيهما بكارة الاكتشاف ومهارة السبك، وثراء التخييل واعتصام اللغة بسحرية خاصة هي خليط من العابر والمجاني والأسطوري، في جزالة تؤكد أن الزمن الشعري عند أمجد ناصر يعي أنه ليس زمناً ميتافيزيقياً محضاً، كما يشير إلى ذلك الناقد صبحي حديدي في قراءته لتجربة ناصر. ربما لهذا السبب لم أتعاطف كثيراً مع القراءات التي تحيل على اللامكان في شعريَّته، في ما بدا وكأنه تعريفٌ توفيقيٌّ أسلسَ قياده لمفهوم الترحُّل، سواء في ما أشارت إليه الناقدة المعروفة خالدة سعيد أو في ما كتبه الشاعر عباس بيضون عن أعمال أمجد ناصر الكاملة. لم يكن في مقدوري، على نحو أدق، أن أتذوَّق شعرية على مثال شعرية أمجد ناصر بينما أترصَّد ظلَّين طلليَّين هما «الحل والترحال» كمرجعيتَين معرفيتَين لبدوي لم يشأ أن يتعرَّف إلى بدويته إلا لكي يغادرها إلى نموذج معرفيّ أوسع، فجاء نصُّه موسوماً بقلق الاكتشاف ونزق المغامرة، في مواجهة شعريات قرينة، طالما تمسَّحت بحداثة بعيدة المنال.

في البداية كنت مفتوناً – كما أشرت – بشعرية مقترنة بالطاقة المسحورة التي تندفع من فتنة التخييل الشعري، وشبق صورته المعزَّزة بالبكارة في ديوانَيه «وصول الغرباء» و«سرَّ من رآك». ربما لأنني وقعتُ للمرَّة الأولى على النموذج الذي سأُمثِّله ويمثِّلني، في ما بعد. هذا النموذج الذي يُعيد اكتشاف طاقاته الجمالية والمعرفية داخل شروط ثقافته بتجلِّيها الاجتماعي والسياسي، مع إدراك شديد الوعي للتقاطعات الحضارية التي تُمثِّل القيم الجمالية أهمَّ تجلٍّ لها.

ربما كان هذا الإدراك المبكر من ناصر هو الذي منح تصوُّراً غائماً حول التعريب والتغريب في قصيدة النثر معنى متماسكاً؛ يمكن القول معه إن ثمة رافدَين رئيسيَّين تنازعا هذه القصيدة رغم تسليمهما معا بالجذر الغربي لها. أولهما: تيَّار ينتمي كليةً إلى مرجعية منقسمة بين التأثيرَين الفرانكفوني والأنغلوساكسوني وقد تجلَّى في تجربتَي أنسي الحاج وتوفيق صايغ في لبنان، وفي تجارب بدر الديب وإبراهيم شكر الله وحسين عفيف وأدبيات «جماعة الفن والحرّية» في مصر، وثانيهما تيّار يدرك الحاجة السسيوثقافية (الروحية منها بالذات) كمرجعية ترتبط بخصوصية هذا النص المتغرِّب، الذي كان يبدو في حاجة ماسَّة إلى تحديد أكثر دقة لمفهوم إنتاج النص داخل شروطه الاجتماعية. وكانت تجربة الشاعر محمد الماغوط أبرز تمثيلات هذا التيَّار. ورغم البون الشاسع بين تجربتَي الماغوط وناصر إلا أن التجربتَين تقاطعتا معرفياً بأكثر من تقاطعهما جمالياً. والمؤكد أنهما الآن يُمثِّلان الملمحَ الأبرز في سياقهما المؤرّق بخصوصيته وفرادة معطياته.

وكثيراً ما أجدني في حاجة متكرِّرة إلى التوقف أمام هذا التاريخ الذي صاغ – في ما بعد – شكل علاقة الأجيال الجديدة في مصر بقصيدة النثر. فسرعان ما تحوَّل الصراع بين هذين التيَّارَين، بقضِّه وقضيضه، إلى ساحة احتراب ذات صبغة محلية بين تيَّار رأى في القصيدة اللبنانية تعريفاً مثالياً لتجاوز هيراركية الجمالية التقليدية القائمة على بلاغة المجاز وحده، حيث تتحوَّل اللغة إلى غاية، وإلى نسق معرفيّ تعمل العناصر الشعرية كافة لخدمته، وكانت مدرسة «شعر» سبَّاقة إلى انتخاب وصفة سوزان برنار، وباتت عناصر النثرية الثلاثة: التوهُّج، الإيجاز، والمجانية إنجيلاً جديداً حفظه الأحفاد عن ظهر قلب، لذلك كان التنبيه إلى تأثير الرمزية الفرنسية في النص اللبناني نفسه أمراً ضرورياً. لكن هذا التنبيه ونظائره كان ينظر إليهما بريبة ربما ساعد على تعميقها أسباب غير شعرية بالأساس، تتعلق – ربما – بصراع مراكز ثقافية قديمة نالها ما نالها من تآكل وبلى.

أما التيَّار المصري الثاني فقد انكبَّ بحثاً عن طوق نجاة يضمن له نصاً شعرياً يُلبِّي سؤاله المعرفي في إطار شروطه الاجتماعية لا سيما في ما يتعلَّق بجدوى الوظيفة الشعرية، في إطار المرجعية الرمزية للمكان كصدى من أصداء الهُويَّة وتشكُّلاتها العصيَّة على الحصر والتصنيف، وفي المقابل يكون على النص أن يحافظ على مغامرته الجمالية حتى لا يتحوَّل إلى نوستالجيا واستعراض شوفيني يهجس دائماً بالاستنفار ضدَّ التركيب والتنوُّع الحضاريَّين…

وبحكم اعتبارات متعدِّدة لا مجال للتوقُّف أمامها الآن، وجدتني بين عصبة التيَّار الثاني. وكان من الطبيعي أن نبحث عن المرشد والدليل، وكانت هناك تجارب مبكرة منها سركون بولص، زاهر الجيزاني، كمال سبتي، عباس بيضون، سيف الرحبي، بسام حجار، وأمجد ناصر، بالإضافة إلى بعض التجارب المصرية المتأخِّرة لدى محمد صالح، محمد عيد إبراهيم، وعبد العظيم ناجي، إضافة – بالطبع – إلى الأسلاف من الروَّاد الأوائل.

كنا نجد – كتجمُّع راديكالي آنذاك – أن ثمة مرجعية حقيقية في دواوين هؤلاء على الترتيب: «الحياة قرب الأكروبول»، «الأب في مسائه الشخصي»، «متحف لبقايا العائلة»، «خلاء هذا القدح»، «مدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور»، «مشاغل رجل هادئ»، «وصول الغرباء» و«سرَّ من رآك».

ليس غريباً إذاً أن تتنامى تأثيرات تجربة أمجد ناصر بين أقران الشعرية الثمانينية المتأخِّرة والتسعينية اللاحقة في مصر. فقد نشأ الجميع في ظلال النموذج السبعيني المصري. حيث كانت البيانات النارية التي قدَّمتها جماعتا «إضاءة» و«أصوات» تبدو كصوت صارخ يجأر بثقل الكهنوت الثوري كلِّي المعرفة، الذي اختطفه ثم احتكره جيل الريادة. غير أن التجربة التي استهدفت قتل الأب – بتعبير أحمد طه – سرعان ما وقعت في الإسراف الشكلاني عبر لغة مغلقة لا تؤدي – غالباً – إلا إلى نفسها، حتى وصفتها سلمى الخضراء الجيوسي بأنها «تجربة كلَّت من كثرة التعسُّف». ومع الوقت لم يعد النموذج الشعري السبعيني في مصر مُغرياً، ولم يعد جديراً بالاحتذاء، لذلك بقيت تجارب أمجد ناصر وأقرانه تمثِّل عصباً مؤثراً في الشعرية المصرية الجديدة، وأظنها ما زالت تملك هذا الامتياز، رغم أفول بعض هذه الأسماء لأسباب مختلفة، ورغم خروج التجربة المصرية نفسها إلى مساحات واسعة من التميُّز والخصوصية.

***

قبل سنوات عدَّة، دار حديث مطوَّل بيني وبين الشاعر أمجد ناصر حول قصيدة النثر العربية في صيغتها الراهنة. كنت أرى أن منجز الجيل الجديد المتأثر مباشرة بالنص المترجم قدَّم تمايزات تستحق الاهتمام، وأن الطاقات الغنائية لقصيدة النثر العربية لا زال لديها ما تقدِّمه، على الأقل في المساحة الضئيلة التي تخصُّني وتخصُّ عدداً قليلاً من الأقران، وكان رأي ناصر أن ثمة مأزقاً تدخل إليه هذه القصيدة رغم عمرها الذي لا زال غضاً. الغريب في الأمر أن قلق أمجد ناصر كان عقب صدور ديوانه «حياة كسرد متقطع» الذي لاقى أصداء جدّ مهمة ولافتة، وهو ما كان يعني وعداً من الشاعر لنفسه – على الأقل – بإحداث فجوة حادَّة في تصوُّراته التي لازمته منذ أعماله الأولى وصولاً إلى ديوانه الأخير. كان ناصر يرى أن النص النثري العربي منقطع الصلة عن مفهوم النثر الخالص ولا زال الشعراء يكتبون قصائدهم في مقطعات لا تختلف عن البنية التفعيلية وفي إطار زخمها الغنائي الفائض، أما قصيدة النثر الحقيقية – حسب ناصر – فهي التي تعتمد النثر المحض في استيلاد شعريتها وهنا تكمن قدراتها الخاصة، وفي هذه الحالة لن يكون الشاعر في حاجة إلى نثر سطر هنا وآخر هناك، كما أنه لن يكون في حاجة إلى الاحتماء بتقريظ الذات بغنائية كلَّت منها الشعرية العربية.

لهذه الأسباب لم يكن مفاجئاً أن يعمل أمجد ناصر على كتابه النثري الخالص «فرصة ثانية»، هذا النص الذي سيدفع النقدَ المستتبَّ إلى مراجعة أدواته مرَّات ومرَّات. فالنص الذي تمثِّل الأم «الغزالة المعمِّرة» بطولته المطلقة، في فعل إبداعي مخترق للأزمنة والأمكنة بتعريفاتهما المتداولة، يعني أول ما يعني أن الشاعر يرفض خضوع الزمن الشعري لمقولات النقاء الخالص وأنه هنا يمنح نفسه قدرة فريدة على المغامرة، في الوقت نفسه يُبجِّل الوعي المقابل لسطوة السؤال الوجودي ويُبجِّل الجهد البشري المبذول في فكِّ طلاسمه، ونصه يقول إن الشاعر الذي لا يمتلك مثل هذا الوعي، يقوم في المقابل بتثبيت المشهد وتثبيت السائد، في الوقت الذي لا يبدو فيه دوره إلا مخترقاً لهذا الثبات.

ولست مغرماً بكتابة نصٍّ على نصِّ أمجد ناصر يكون هدفه كشف جذريات وخروقات مثيلة، ربما تُفسد علينا الكثير من بهجة الاستغلاق، وسحر المتاهة التي يدور حولها نصٌّ فريد من هذا النوع.

وأظن أن الرغبة في الإدراك الكلِّي أمام نص كهذا ستمثِّل مأساة خاصة. فالنقد الذي يبحث عن دلالات جمعيَّة سيخيب مسعاه. فالنص الذي خرج من وعي البداوة الصارخ، والباحث خلف أشدِّ مفرداته خصوصية، وكأنه باحث في أسرار بقاء السلالة وإعادة استنباتها عبر لغة تشفُّ أحياناً وتغور في كثير من الأحايين؛ يُعيد طرح سؤال الشعر لدى أمجد ناصر في مواجهة اللغة. ففيما تبدو اللغة – للوهلة الأولى – كعلم لدني، إلا أنها تحطِّم قوى النظام ولا تأبه به، فتتحوَّل من كونها هيكلاً مقدَّساً وكهنوتياً إلى ملكية يتشارك فيها كلُّ صنَّاعها وهو ما يُحوِّل اللغة من أسطورة شخصية إلى أسطورة صنعتها التداولية العامة. وكان لطفي عبد البديع – مثالاً – يؤكد على هذا المعنى بالقول إن شعراً بمثل هذا الوعي هو وحده الذي يجعل اللغة ممكنة. من هنا يمكن القول إن اللغة لدى أمجد ناصر في «فرصة ثانية» تعبر كموجة طائشة وسرمدية خلقتها حاجة الإنسان الوجودية من جهة، وأسئلة الفناء والتلاشي في المكان من جهة ثانية.

ومع ذلك يبدو نص «فرصة ثانية» قابلاً لخلق حقول من التأويلات والتداخلات أعلى بكثير من قدرته على التواضع والاقتراب… فمثل الخطيئة الأولى التي ولدت معها المعرفة ولد النص كما ولدت الحياة، ومن الخطيئة الثانية ولدت أيضاً المعرفة إلى جانب الموت، تستوي في ذلك درجات الوعي بالإثم ودرجات الوعي بالنموذج والمثال، فكلاهما صانع لمعرفة تشكَّلت عبر التاريخ داخل النص وخارجه. لذلك فإن هذا التعدُّد يأخذنا في الكثير بين النماذج شديدة الراهنية في نص أمجد ناصر ثم يعود بنا إلى لحظات سحيقة في التاريخ العام والتاريخ الشخصي على السواء. فالأم نموذج الوجود بثقل راهنيَّته وكذلك الصورة البعيدة للأب والأخ ورفاق العائلة والأماكن بعبق حضورها الراهن. في الوقت نفسه تتعدَّد الأماكن في رحلة بحث تُذكِّرنا بالهنود الحمر الذين انشغلوا بالمعرفة حدَّ أنهم كانوا يأخذون لسان النسر يُجفِّفونه ويُعلِّقونه في أعناقهم لكي ينقل إليهم المعرفة الغائبة.

وهو مفهوم يتحدَّد لدى ناصر عبر مستويَين من الوعي، أولهما يتحقَّق خارج ما هو شعري ويتأثَّر بشكل أكثر جلاء بالموقف من العالم وجوداً وعدماً، ويتجلَّى ذلك في الموقف من قضية الإنسان في مواجهة سؤال الطبيعة الأوسع والأكثر سطوة التي تمثِّله في النص القوى الخارجية القاسية في بيئة تقهرها الصحراء، وثانيهما يتحقَّق في سياق ما هو شعري وتتحدَّد تجلّياته محكومة بتقنيات النوع وجمالياته التي تقع في قلب اللحظة الحداثية.

وهو موقف – في الإجمال – يرفض النظر المثالي القديم القائل بنقاء الأنواع الأدبية.

من هنا يبدو نص «فرصة ثانية» معلقاً بين هتافات الصمت وهجنة السؤال وكذلك بين تراكبات حضارية هي ذاتها تراكبات السؤال الإنساني المتماهي في الحركة والفعل، في الموت والحياة، في الأنا والآخر، في وجوه ناصر المتعدِّدة التي توجد مرَّة في المفرق ومرَّة في كتابات لورنس وليان ولوكليزيو، ومرَّة أخرى في قلعة الكرك وضبَّاط الاحتلال واللبن المخيض وعبد الحليم حافظ.

 فكما أدرك جلجامش المعرفة عبر الفعل أدركها ناصر عبر الفعل والاستبصار معاً.

***

أمام هذا الصوغ الصامت والمستبطن للتاريخ العام والتاريخ الشخصي عبر صورة الأم «الغزالة المعمِّرة» يتخلَّى نص «فرصة ثانية» عن كل المعضلات التي كان يراها أمجد ناصر عائقاً أمام النثرية الخالصة، لذلك سيظل نصاً لا يمكن تعريفه إلا من خلال معطياته وشفراته الخاصة، لأنه – بحكم طبيعته شديدة النوعية والتداخل والالتباس – يقع خارج النمطية. فإذا كان النص العربي القديم يمكن تعريفه عبر أدوات النوع المستقرَّة، فإن نص «فرصة ثانية» يكتشف في الموضوع الشعري وظيفته خارج دائرة الشكلانية. فقد لعب العالم الداخلي للنص دوراً مهماً في إبطال المفهوم المباشر للوظيفة، لأن الوعي الذاتي، لا الواقع الخارجي هو محوره الأساس. فهو، منذ الوهلة الأولى، يُشيع حساً عميقاً بالاغتراب، يتبدَّى ذلك في الحنين الذي يدفع الشاعر – بهوس ظاهر – إلى السياحة الدائمة في المكان في محاولة دائمة لاستقطابه، سنرى ذلك في اصطحابه أقرباء وأصدقاء في رحلات دائمة ومتَّصلة إلى أماكن متعيّنة لكنها تمثِّل في العمق رحلة اغتراب، وربما هذا ما يُفسِّر الكثافة اللغوية كمعادل موضوعي، والصراع الذاتي هو الذي يؤكد قيمة هذه الكثافة. وهو بهذا المعنى لا يساهم في خلق مشكلة هُويَّة مكانية بامتياز؛ وإنما يحاول أن يخلق الصيغ الموازية التي يمكن أن تساهم في فهم سلَّم مشكلات الهُويَّة جميعاً.

إن ذات الشاعر التي تتبدَّى هشاشتها في أكثر من موضع، سواء كان ذلك متجلياً في الضعف الإنساني بكل صوره أو في القوَّة اللفظية التي تمثِّل ستاراً لتلك الهشاشة، إلا أنها تظل ترديداً وصدىً للشقاء الذي تُعانيه في صراعها مع الآخر وتؤكِّده قسوة التحوُّلات المكانية والزمانية داخل النص دون أن تعبأ بالأبنية الاجتماعية التي أذكت هذه الإرادات المتنابذة.

 ورغم أن أمجد ناصر بدأ حياته ماركسياً، وربما هو كذلك حتى الآن، إلا أنه يناهض – بهذا الوعي – رؤية كل من ماركس وإنجلز التي تعتبر النشاط الفنّي عنصراً من عناصر البناء الاجتماعي الفوقية، أو طبقة من طبقاته الظاهرية المتعالية. بهذا المعنى لا يمكن تفسير هذه الهشاشة الإنسانية – لدى الشاعر – إلا بكونها انحيازاً يرد الفن إلى المعرفة النوعيَّة بموضوعها ولغتها، لا إلى المعرفة الكلية التي تتزايد قيمتها، حسب ماركس، عبر الأنظمة الطبقية باعتبارها أثراً فنياً لمعرفة كلية، وربما بدا ناصر هنا أقرب إلى رؤية صلاح عبد الصبور في قناعته بأن الفن لا يخدم المجتمع، قدر خدمته الإنسان.

***

لماذا إذاً تظلُّ تجربة أمجد ناصر، وبعض أقرانه من الشعراء العرب، أيقونةً لدى الشعراء الجدد في مصر؟ وهل ثمة إجابة نصف شافية في ما قدَّمتُ؟ حتى لو كان الأمر كذلك، فبعض الاستطراد في هذا الأمر لن يكون ضاراً على الأقل.

فقد كتب واحد من شعراء السبعينيات في مصر – مؤخراً – مقالاً مطوَّلاً في تقديم ملف عن الشاعر المغربي محمد بنيس في واحدة من دورياتنا الثقافية، طرح عبره الكثير من مراراته الشخصية، دون أن يلتفت، موضوعياً إلى تجربة الشاعر الذي يقدِّمه رغم أهمية هذه التجربة. ومع ذلك لم يكن هذا هو اللافت في الأمر. فقد كانت الإشكالية التي طرحها المقال تكمن في لوم مرير وجَّهه الشاعر – الكاتب إلى الشعراء المصريين من الأجيال التي تليه لأنها تبنَّت تجارب شعراء من خارج النطاق القطري، مع إنكار كل قيمة لتجربة الجيل السبعيني في مصر، معللاً ذلك بأنه الصراع التاريخي بين السابقين واللاحقين، لكنه حاول أن يُضيف إلى الصراع – بمعناه التاريخي – بُعداً ليس أخلاقياً يتلخَّص في أن هذه الحرب تأتي طمعاً في قتله – أي الجيل – والتخلُّص من سطوته بغية احتلال موقعه. وهي تصوُّرات مكذوبة في الإجمال لأن من احتفى بهؤلاء الشعراء هم الشعراء الجدد، فكتبوا عنهم المقالات وأقاموا معهم الحوارات ودعوهم إلى منتدياتهم، وكان المقابل هو التجاهل التام للتجربة الجديدة، بل واتهامها بالجهل والتضاؤل وإشاعة مناخ من الإحباط ظلَّ يردِّد أنهم آخر الشعراء المصريين.

ورغم سخف هذه المغالطات البادي في التأويل السبعيني لهذا الصراع إلا أن محاولة انتزاعه من سياقه التاريخي والأخلاقي تستهدف الوصول إلى نتيجتَين لا ثالث لهما:

أولاً، نزع المعنى الموضوعي عن تلك العلاقة – الروحية بالأساس – بين الجيل الجديد في مصر وسبعينيِّي العالم العربي، بحيث يبدو الشعراء الجدد من ناحية مجرَّد انتهازيين يستهدفون الالتفاف على التجربة المصرية السابقة عليهم، ومن ناحية أخرى إسقاط القيمة الموضوعية لمشاريع سبعينيِّي العالم العربي وما حازوه من إجماع في الذائقة العامة وفي حلقات الدرس النقدي.

ثانياً، إضفاء نزعة قطرية على الصراع تستهدف تأكيد معنى شديد البلى والسخف هو تأثر القصيدة المصرية الجديدة – بكل أطيافها – بنظيراتها في العالم العربي لا سيما النموذج اللبناني، وهو أمر لا يستهدف إلا استنفار المشاعر القطرية الغليظة التي تُجافي الطبيعة الإنسانية للنص الشعري.

أخلص من ذلك إلى أن علاقة الشعر الجديد في مصر لم تكن في يوم من الأيام مرتهنة بشيء قدر ارتهانها بالبحث عن نموذج متقدِّم داعم لتصوُّراتها عن الشعر خارج الطبيعة المركزية المحافظة في الثقافة المصرية، وكانت تجربة أمجد ناصر بين هذه التجارب المثيرة واللافتة.

وأذكر أنني كتبت مقالاً مطولاً في مجلة «الثقافة الجديدة» العام 1996 عن مختاراته «وصول الغرباء» التي صدرت آنذاك لدى «دار شرقيات» بالقاهرة، أشرت فيه إلى أن شعرية أمجد ناصر ستظل نموذجاً يستحق الاحتذاء، وكما أشرتُ في بداية هذه الشهادة، ستكون هذه الشعرية في ما بعد بين عدد من التجارب التي ستُمثِّلني وأُمثِّلها. وقد تعمَّقت هذه الصورة في ما بعد مع الأعمال الكاملة لناصر، ثم في المختارات التي نشرتها له «هيئة قصور الثقافة» قبل سنوات عدَّة تحت عنوان «تعويذة لدخول البيت»، ثم صدور ديوانه الأهم «حياة كسرد متقطع» وليس نهاية بكتابه الجديد «فرصة ثانية».

مجلة «نقد» الفصلية، العدد 6، خريف 2011

سيميوطيقا التشيُّؤ والدراما في توهُّج الذات بالحياة والتاريخ

مصطفى عطية

العدد 6 – خريف 2011

بقدر ثراء تجربة أمجد ناصر وتنوُّعها وامتدادها، بقدر ما نجد فيها ملامح عامَّة تميِّزها منذ باكورتها الأولى في نهاية حقبة سبعينيات القرن العشرين إلى ما بعد العقد الأول في القرن الحادي والعشرين، ولا تزال عابقة ونحن نُطالع قصائده التي تومض من فينة إلى أخرى حتى يومنا تُذكِّرنا بروحه. إنها تجربة حملت إبحاراً في الوجع، بكل جوانبه: اليومي، والتاريخي، والمستجدّ، وبعبارة أخرى: وجع يتوزَّع بين أمس وحاضر وغد، وقد نجد رومنسية مدهشة في ثنايا التجربة، لكنها تظل ضمن دائرة الوجع، لأنها إما تعبِّر عن عاطفة مشبوبة نحو المرأة المحبوبة وهو وجع ذكوري منذ الأزل، وإما تتَّخذ من المرأة جسراً للوجع، أو تناقش العلاقة المضطربة بين المرأة والرجل بكل نتوءاتها ووخزاتها.

آثر شاعرنا أن يعزف الوجع بقيثارة مؤثرة النبر، مشجية اللحن، وجمالها نابع من تلك التركيبة الجمالية التي غلَّفت التجربة، وجعلتها ترتفع عن المباشر الخطابي رغم أن اللحظة التاريخية واليومية تستلزمه، ورغم أن الانتماء الأيديولوجي يفرضه أحياناً، إلى خضم الإنساني السامق، فصار الهمّ الفلسطيني، والعربي، والإسلامي هماً إنسانياً، ينكأ في الجراح البشرية، ويفعل فعله في الضمير الجمعي، وهذا ما يُسجَّل للشاعر، وهو ما سيتم رصده في مناقشة هذه التجربة، فلا يمكن أن يُقرأ الطرح الرؤيوي بمعزل عن الجمالي، وهو جمالي يتَّخذ أشكالاً جديدة، تُدهش القلب، وتشحذ العقل، وقد جاءت جماليات النص معبِّرة بجدَّة عن الحالة النفسية، وأيضاً عن رؤاها في الحياة بكل ما فيها من تناقضات ومشتركات، لكن اللافت في التجربة – جمالياً – أنها قدَّمت طروحات فارقة، تجاوزت ما يُسمَّى البلاغة التقليدية (الاستعارة والتشبيه والرمز… إلخ)، إلى بلاغة جديدة أساسها النص لا البيت أو السطر، المقطع لا الكلمة، فيمكننا أن نجد تعبيرات بسيطة، لكنها جديدة في توظيفها، وقدرتها على إحداث التوتُّر في المتلقِّي، موظفة ضمن مقطع متوهِّج مشتعل، وتأتي هذه القراءة لتشير – ولا تحصي – لبعض الجماليات التي تزخر بها تجربة شاعرنا، وهي جماليات تعكس، أولاً وآخراً، رؤية للحياة والناس والتاريخ، تبدو في الألفاظ والتراكيب. ولعل اختيار المنهج السيميوطيقي الذي يطرح آليات جديدة في قراءة النص الشعري، حيث تتحوَّل العلامات في النص، امتلاءً في المعنى والبنية، وتجعلنا نعيد قراءة النص في ضوء هذه العلامات، مع الأخذ في الاعتبار جماليات الاستعارية والمجازية، وهو ما يجعل المتلقي يقرأ هذه العلامة في ضوء ما يطرحه النص شعورياً وفكرياً، فلا يمكن فهم العلامة إلا في إطارها النصّي، حتى لو تم إعادة توظيفها في نص آخر من قبل الشاعر نفسه أو شاعر غيره، فإنها تؤدي إلى عمل فنِّي جديد، وهذا ما يطرح فكرة «الواحدية» وتعني عدم التعدُّد في الممارسة السيميائية المستقلة، التي لا تُجرى إلا مرَّة واحدة(1). لذا فإن اللجوء إلى منهج التحليل المحايث، ويُقصد به البحث عن الشروط الداخلية المتحكمة في تكوين الدلالة وإقصاء كل ما هو إحالي خارجي كظروف النص والمؤلف وإفرازات الواقع الجدلية. وعليه، فالمعنى يجب أن يُنظر إليه على أنه أثر ناتج عن شبكة من العلاقات الرابطة بين العناصر، كما تتجاوز السيميوطيقا المفردة والجملة إلى تحليل الخطاب بشكل كلِّي(2).

سيميوطيقا التشيّؤ

فيها تصبح الأشياء شاهدة، محاورة، حاضرة، بعلاقة مؤنسنة، تتجاوز كونها جماداتٍ لتصبح فاعلة على لحظات العمر ومواقف الحياة، ونعني بالأشياء كل ما هو غير بشري، فيشمل مختلف الكائنات والموجودات، التي تكون فاعلة في النص، ما يجعل المتلقي يقرؤها في ضوء التجربة الشعرية، أو يقرأ التجربة الشعرية في ضوء توهُّجها في النص، فيمكن أن تُقرأ الأشياء ببُعدَين: بُعد يقف عند توظيفها في النص وهو بعد أوليّ، وبُعد ينطلق منها ليقرأ النص كلّه، بما فيها يقول:

«بوسعك،

أنت الذي لا يكلُّ من الارتهان

بوسعك أن ترحل الآن:

لا وجهة

لا حقائبَ

لا ماء في جرَّة العُمر

لا زوجة في الثياب النظيفة

لا مطراً في المسالك

لا نجمة في الفضاء الذي يكسرُ الظَّهر

منذ انحسار الرضا

صحيح!

ولكنه كفنٌ واحدٌ ثم ترتاح! »(3).

إنه خطاب مُتشيِّئ، بمعنى أنه يختزل تجربة الذات الشاعرة في الغربة والمنافي إلى أشياء، فبالنظر إلى عنوان القصيدة «مقهى آخر»، تكون مفتاحاً لفهم التجربة مكانياً، فالذات على المقهى، تتأمَّل عالمها، ونرى تمزُّقاً للذات مكانياً (لا وجهة)، زمنياً (لا ماء في جرَّة العمر)، اجتماعياً (لا زوجة…)، الهدف (لا نجمة في الفضاء)، وما المقهى إلا رمز لحالة من التوقف هنيهة في خضم الحياة، لتكون المحصِّلة وهماً ويأساً. إنها ذات قلقة في علاقتها بالعالم، واتخذت من المكان جسراً للتعبير عن هذا القلق، «فهي متشظية بتقلُّبات الذات الشاعرة. هكذا تصبح أماكنه شخصيات وكائنات شعرية مصابة بلعنة المتاهات التي أصيبت بها ذات الشاعر نفسها. تُبنى كبنائها وتتقلب كتقلُّبها، ثم تتهاوى على بعضها كما تتهاوى تلك الذات على بعضها أيضاً. أماكن تُولد من رحم الأماكن، وأماكن تقتل الأماكن، وأماكن تتذكر الأماكن. تكاد تكون الأماكن نفسها التي يعيشها الآخرون بحركات أجسادهم ومغاور ذاكرتهم ومزلات لغاتهم وتوجُّسات قلوبهم»(4)، فالمكان القلق، يعني الذات القلقة المضطربة، ويضادُّ هذا الشعور المكان المستقر الذي يعني هدوءاً للذات في العالم الصخب، ولعل المتأمِّل في تجربة هذا الديوان الذي يمثِّل البداية لأمجد ناصر، يدرك أن هذا همٌّ كان يطارده، ويتَّخذ من المقهى ميداناً لعالم فسيح، أي يصبح المقهى علامة على العالم بكل تناقضاته واختلافاته الظاهرة أمام الأعين، والباطنة في الذات الشاعرة، ويأتي عنوان الديوان «مديح لمقهى آخر» متوخِّياً دلالة سيميوطيقية أخرى؛ تمتدح مقهى آخر ربما يتوافر فيه عالم آخر، خفيف في تناقضاته، يستوعب الذات الثائرة المضطربة، كي ترتكن إلى أحد مقاعده، لكن يظل في النهاية المكان مقهى، والمقهى كوناً فسيحاً.

جاءت البلاغة النصّية على بساطة بنائها الأسلوبي، عميقة في طرحها، فبالنظر إلى المقطع السابق، نلاحظ أن الذات تسمح لنفسها بالرحيل، لكنه رحيل بلا أمتعة، ولا وجهة، ولا امرأة. واستخدم في ذلك مفردات بسيطة معبِّرة عن الحالة (الحقائب، وجهة…) وهي علامات عن الرحيل الكل يعرفها ويستخدمها، لكن يأتي تعبير «لا ماء في جرَّة العُمر» بشكل استعاري، مع رمزية العلامة فالماء يُعطي دلالتَين: حاجة المرتحل – براً ماشياً – إلى الماء في جرَّة، وأيضاً أن الماء دال على الزمن، وتأتي لا النافية معزِّزة نفاد الماء (كمادة)، والزمن كعلامة وتأويل، وهو ما يؤكده بقوله: «لا مطراً في المسالك»، فلا ماء في الجرَّة وأيضاً لا مطر متجمِّعاً في مسالك الأودية، لتصبح الصورة مُنتزعة/ متناصَّة بشكل خفي مع البيئة العربية القديمة، والشعر الجاهلي، حيث الرحيل، والبكاء على الأطلال ديدن القبائل والشعراء. وتتماهى العلامات النصّية مع الدلالة الكلية للمقطع التي تؤكد خلوَّ النفس: زاداً وعاطفة، لا جدوى من الرحيل، فـ«لا نجمة في الفضاء الذي يكسرُ الظَّهر»، فالنجمة علامة على الاهتداء وهذا تناص مع القول القرآني «وعلامات وبالنجم هم يهتدون» (5). فالاهتداء بالنجوم يكون ليلاً، فالشمس وسيلة الاهتداء نهاراً، أما النجوم فهي منارات في الليل، كما يصح الاهتداء بالنجم – مجازاً – إلى ما هو خير فهي أمارات على الطريق(6)، وقد استخدمها الشاعر هنا بالدلالتَين – شأنه استخدامه للماء – الدلالة الأولى: هداية المرتحل براً في خضمِّ الحياة، والثانية: كونها إرشاداً في منحنى العمر. وتأتي لفظة «الفضاء» دالة على العمر/ العبء، الذي يقصم الظهر، لنجد في النهاية صورة كلّية جعلتنا نعيش رحيلاً في فضاء العمر، بهمٍّ لا طاقة لنا على حمله، ولا زوجة ولا ماء ولا وجهة، وتكون النهاية بمحض اختيار الذات الشاعرة: «ولكنه كفنٌ واحد ثم ترتاح»، وهذه نهاية اليأس، أو هكذا اختارت الذات.

وقد تتأنسن الأشياء، وتتَّخذ طابعاً استعارياً، فيصبح المقهى إنساناً ينحني على ركبتَيه، ومن ثم يصل إلى موقف مختلف مع بقية البشر، يقول أمجد ناصر:

«أقمتُ طويلاً؟

ومقهى الجزيرة لم ينحنِ في المساء،

على ركبتَيه

لم يشتهِ شارعاً آخر

لم يضق بمساحته

وبأخشابه الشتوية،

بالزبن الدائمين

ولم يرتجل مشهداً للنساء المثيرات في المدن

الساحلية

لم ينتهِ ضيّقاً كيدَيك،

ولم ينتشر كالدماء»(7).

فـ«مقهى الجزيرة»/ المكان/ الشيء، صار بشراً ينحني في المساء، خارجاً من مادِّيته الجامدة، وهذا يتَّسق مع الرؤية السابقة في النص، التي جعلت المقهى عالماً بما فيه من بشر، يشهد عليهم، ويحاورهم، والذات الشاعرة منهم، وعندما يأتي المساء، يتحوَّل المقهى إنساناً، والشوارع أيضاً معه، لا تضيق به ولا بما فيه، ويقول: «لم ينتهِ ضيّقاً كيدَيك، ولم ينتشر كالدماء»، أي أنه تجاوز البشرية في ضيق يدَيها؛ دلالة على تقتير ذات اليد أو قلَّة ما تمتلكه اليدان، وعندما يهترئ المقهى لن تتبعثر أشياؤه وتصبح سائلة كالدماء.

تتطوَّر الجماليات في الخطاب الشعري للأنثى، متجاوزةً العشق التقليدي إلى إعادة النظر إليها بوصفها كائناً له حضوره الفاعل الصانع في حياته، وكما يقول الشاعر:

«جسدُكِ قاطعٌ كالكلمة التي رميتِها فصار تفاحُ القبلةِ نرداً،

كسكينٍ تقطعُ وتقطعُ ولا تتركُ أثراً.

جسدُكِ قاطعٌ وكتيمٌ إلى درجة أشكُّ فيها بمصدر هذا الشميم

الذي يمهِّد الطريق

إلى طيرانٍ بلا أجنحة، فكيف في هذه الأرض الضيِّقة

يمكنُ للخشخاش أن يذرَّ بقرنه.

جسدُكِ قاطعٌ وكتيمٌ وضيِّقٌ كعين الحسود»(8).

حضرت المرأة هنا جسداً، واشتبكَ إبداعياً مع تجربة الشاعر، فاستحال (الجسد) بإغراءاته التقليدية إلى حدٍّ قاطع، وعبر صورة كلِّية، يتتابع المشهد، فإذا كانت المرأة صارت جسداً، فإن الجسد صار مجازاً علاقته الكلِّية بالمرأة: الذات والأثر، فهو كالكلمة التي تُحوِّل تفاح القبلة إلى نرد، ويصبح أشبه بالسكِّين الذي يقطع دون أثر، وكأنها نورانية الوجود أو نارية. البناء الجمالي في هذه الصورة يعتمد على الاشتباك مع المرأة لا وصفها، وإذا كان جسدها مصدراً للفتنة، فإنه في عالم شاعرنا بات مصدراً للعراك. وفي وصف الجسد: «جسدُكِ قاطعٌ وكتيمٌ وضيِّق كعين الحسود»، نجد تراسل الحواس شاملاً: الصوت المكتوم، والمادي المسنون القاطع، والمعنوي الضيِّق، ويأتي التشبيه كعين الحسود منتزعاً من الموروث الشعبي، ويتواءم مع تصوير الجسد المتقدِّم، فعين الحسود وفق الموروث الشعبي: قاطعة في أثرها، ضيِّقة في رصدها، كتومة في سرِّها.

وإن كنا نلاحظ تراكمات بلاغيَّة نتجت عن طول الصورة وربطها بصور تخييلية بشكل مبالغ فيها، رغم أن الرؤية المتوخَّاة جديدة الطرح حول الأنثى/ العالم، والأنثى/ الجسد، وهذا ما نجده في الكثير من النصوص، ويتواءم مع طبيعة المرحلة الشعرية – وقتئذ – حيث أسرف الشعراء في حقبة السبعينيات والثمانينيات في جمالية النص، على حساب صفاء الرؤية ووضوحها.

سيميوطيقا السرد الشعري

من المنظور السيميوطيقي، فإن العلاقة بين السيميوطيقا والحكي تُظهر «بجلاء من خلال هذه التحديدات أن الأمر يتعلَّق بـ«المحتوى» أو «المادة الحكائية»، أو «الفابولا» والمحتوى تبعاً لذلك أعمّ وأشمل من التعبير، لأن وجوده هو الذي يُحدِّد جنس الخطاب، لذلك فهو الثابت والمشترك بين مختلف الأشكال أو الأنواع الذي تتضمَّنه. وهو الذي يمكن أن نجده في العمل الأدبي وغيره، وفي سائر الفنون، وكل أجناس الكلام. إنه بكلمة أخرى المدلول الذي تختلف دواله في تقديمه»(9). أي أن دراسة سيميوطيقا السرد، تتوقف عند المحتوى السردي المقدَّم، أو المادة الحكائية، ساعية إلى استكشاف العلامات المختلفة في السرد، التي اتَّخذت طابعاً متميِّزاً خلال البناء السردي.

ففي مجال السرد يمكن الحديث عن المستوى الدلالي، وهو نظام إجرائي يُحدِّد عملية الانتقال من قيمة إلى أخرى، ويُبرز القيم الأساسية والتشاكل الدلالي(10)، وهذا يتأتَّى من تحليل الخطاب الشعري ككلٍّ، بما فيه من مفردات وتعبيرات تقع ضمن البنية السردية الشعرية المقدَّمة.

وتزخر تجربة أمجد ناصر بسردية واضحة، وتكاد نصوص كثيرة لديه تقترب من الدراما الشعرية بكل ما تعنيه من شخوص وأحداث وحوارات، لكن الطابع المميَّز لها قدرة ناصر على مزج الحدث الدرامي بالتخييل الفني، ليحافظ على وهج النص. يقول على لسان آخر ملوك غرناطة، مستحضراً اللحظة التاريخية، حيث لم يكن للملك أمر ولا قرار، فقد كانت الأحداث أكبر منه:

«أنا أبو عبد الله المكنَّى بالصغير،

بكر أمِّي

ولدت تحت لبدة الأسد

رايتي حمراء

ودليلي نهار يميل

آيتي اليوم أن أكون صامتاً وسط فصحاء النهار

منقطعاً لرنين القوافي بين أسنانهم الكبيرة»(11).

هذه مقاطع من نص طويل، يكاد يتَّخذ الشكل الملحمي، بالطبع لن نقف عند الأحداث الدرامية، بقدر ما نسعى إلى قراءة ما تحتويه من دلالات تسقط – بشكل أو بآخر – على أحوال عالمنا العربي المعاصر، من تمزُّق، وتربُّص به، من خلال شخصية الملك «محمد» الذي ربَّته أمُّه بين الجواري، وكانت هي المتحكِّمة بأمره، وكيف كان شاهداً على سقوط غرناطة، بوصفه آخر ملوكها. تتكرَّر العلامات في النص مُعبِّرة عن رؤية الشاعر لهذه المأساة، فهناك إلحاح في النص على ذكر ألفاظ بعينها تكتسب في السياق النصِّي دلالة سيميوطيقية، فلفظة «الصغير» كنية الملك، علامة على التدليل الذي هو عادة تطلقها النساء على أطفالهن، رغم أنه ملك وبكر أمِّه، وارتقى العرش بالفعل، وصار له مجلس فيه الوجهاء والعلماء والوزراء، وإن كانت أمُّه تجلس ملثَّمة بينهم، للتباحث في أمور المملكة، ولكنه يظل صغيراً، في نظرها ونظرهم، وفي نظر نفسه يلازمه الصغر في رؤاه ويرنو إلى «رنين القوافي بين أسنانهم الكبيرة»، وبالطبع فإن الصغير يلوذ بالصمت عندما يتحدَّث الكبار «آيتي اليوم أن أكون صامتاً وسط فصحاء النهار»، وهذا ما يجعله دونياً رغم إرادته، ضعيفاً وسط الأقوياء، يرتعب من أسنانهم الكبيرة رغم أنها تلهج بمدحه بالقوافي. إن شخصية الملك محمد ما هي إلا صورة لحال عربي نعيشه ونحياه، ونتألم بما فيه، فكأن محمداً، وهو يقف عند حافة الزمن شاهداً على سقوط غرناطة آخر مدن الأندلس الكبرى وأهمها، يقف أيضاً شاهداً أو ساخراً على سقوط الوطن العربي كلِّه، عندما استحضرته الذات الشاعرة من أعماق التاريخ:

«سنهيِّئ سعفاً ليوم الجمعة

ونرش الملح على طريق الضواري

ونقف للنهار بالمرصاد كيما ينام

رأوا الضوء والظلّ يحفظان عن ظهر قلب

معارج النهار وتقلُّب الأمراء في المضاجع».

من علامات أهل الترف والدعة السهرُ ليلاً، والتلذُّذ بالنوم نهاراً، لذا فإن هناك تكراراً ملحوظاً في الكثير لمفردة «النهار»، وما يضادّها من ظلام وليل. وفي المقطعَين السابقَين تأكيد على هذا: «ونقف للنهار بالمرصاد كيما ينام»، ويترقَّب الحراس الضوء ومعارج النهار والأمراء يتقلَّبون في مضاجعهم، هذا سرد يحمل دلالة الخمول والسكون، في أحوال أهل القصور، رغم أن الأعداء يتربَّصون بهم، لكن أمنية الملك الصغير أن ينعم بالنوم، ويأمر حرسه بترقُّب الضوء، كي لا يُعكر صفو نومه، فالليل في انتظار سهره ولهوه. وهذا ما يؤكده ثانية:

«أريد أن أبلى هناك

في فجر الهباء الكبير

قانطاً

متصدِّعاً.

طويلاً

أريد أن أنام

خفيفاً،

إلى الأبد».

أصبح «النوم» ملاذاً للملك، فهو غير قادر على مواجهة الأخطار، يشعر أنه ألعوبة في أيدي أمِّه وجواريها وحاشيته، وهذا كله في يقظته، فليكن «النوم» هرباً من اليقظة المؤلمة، وليكن النوم خفيفاً إلى الأبد، ليتساوى مع الموت، ويغدو هرباً من حياة فيها ذلٌّ وخزيٌ، وضعف عن اتخاذ موقف شجاع.

وليكن أقصى ما يوعد به «المنامة في الطرف الخالي» كما يقول:

«ووعدت بالغصن والثمرة

بالمنامة في الطرف الخالي…

بالنوم نوم الذي مطمئناً

أن

الصباح لناظره…».

إنها أمنيات أهل الكسل: ثمار، وظلال، ومنامة، ونوم مطمئن، وعدم ترقُّب الصباح، فالصباح شاهد على أهله. فيا لها من أمنية، ويا لها من نهاية:

«أكاد أسمع من سفح غيبوبتي مداحة خفتي تئن تحت ثقل الزند

حيث الصليب وخوذة الفارس يمحوان ظلال قامتي على المياه.

الرائحة التي تهبُّ من هناك

تبلغ مرادها وتستحكم.

رائحة مرور اليد على تحالف العشب والندى».

في المقطع السابق، تتحوَّل دلالة الموت إلى غيبوبة، ويبدو أنها غيبوبة مصطنعة أو نصف غيبوبة، لأنه يسمع المادحين يئنُّون من ثقل الزند. ثم نجد علامة أخرى وهي «الصليب وخوذة الفارس»، في إشارة إلى الأعداء، وهذا ليس تحقيراً من شأن الصليب، وإنما هو علامة على العدو الذي اتَّخذ الصليب شعاراً له في حربه ضدَّ أهل الأندلس الذين كانت بلادهم نموذجاً في التعايش بين الأديان الثلاثة، ومعبراً للنهضة العلمية إلى أوروبا في عصورها الوسيطة. ومن شدَّة بأس العدو، يمحو ظلال جسد الملك على المياه، كناية عن محو الجسد نفسه. أما الرائحة القادمة من قبل العدو، فهي مثل رائحة اليد التي تُزيل رائحة العشب في تحالفه مع الندى، في إشارة إلى البراءة والنقاء.

***

تظلُّ تجربة أمجد ناصر عميقة زاخرة، وتظلُّ الطروحات الفكرية بمعطياتها الجمالية والأسلوبية، وعلاماتها النصِّية في حاجة إلى المزيد من الدرس النقدي، ذلك لأن شعره كالغابة كثيفة الشجر، كلما نحَّينا بعض الأغصان لنوسِّع طريق ولوجنا، اكتشفنا المزيد من الغصون، والكثير من الأشجار.

الهوامش:

1- سميائية التواصل الفنّي، د. الطاهر رواينية، مجلة «عالم الفكر»، الكويت، آذار 2007، ص 254.

2- سميولوجيا التواصل وسيميولوجيا الدلالة، جميل لحمداوي، موقع «الحوار المتمدِّن»، العدد 1820، 8 شباط 2007.

3- قصيدة «مقهى آخر»، من ديوان «مديح لمقهى آخر»، الأعمال الشعرية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2002.

4- شعرية المكان القلق في شعر أمجد ناصر، رشيد يحياوي، موقع «جهة الشعر».

5- سورة النحل، الآية 16.

6- تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، دار سحنون، بيروت، الجزء 15، ص 122.

7- قصيدة «مقهى آخر»، مصدر سابق.

8- قصيدة «القلعة»، من ديوان «مديح لمقهى آخر»، الأعمال الشعرية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2002.

9- نظريات السرد وموضوعها في المصطلح السردي، سعيد يقطين، مجلة «علامات»، مكناس – المغرب، العدد 6، 1996.

10- سميولوجيا التواصل وسيميولوجيا الدلالة، مصدر سابق.

11- قصيدة «توديع غرناطة»، ديوان «مرتقى الأنفاس»، دار النهار، بيروت، 1997.

مجلة «نقد» الفصلية، العدد 6، خريف 2011

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى