صفحات مميزة

عن اعتداءات باريس الارهابية –مجموعة مقالات-

 

“داعش” في باريس: أي فارق؟/ صبحي حديدي

لا تتيح مساحة هذا العمود تفصيل الرأي في الهجمات الإرهابية الدامية، التي كانت باريس ضحية لها منذ يومين؛ الأمر الذي أرجو أن يسمح به، قريباً، مقام آخر في هذه الصحيفة. لا يغادر العمود موضوعة الإرهاب، مع ذلك، ولكن من زاوية خاصة، أو محددة؛ هي النظر في أحد الأسباب التي جعلت الجزائري/الفرنسي اسماعيل عمر مصطفى (29 سنة) آلة داعشية إرهابية، صمّاء عمياء، تفتح النار على الأبرياء في مسرح «باتاكلان» الباريسي، عشوائياً، من دون أيّ تمييز بين جنسية أو سحنة أو سنّ أو دين. وبادئ ذي بدء، لو لم يكن هذا الإرهابي منتمياً إلى «داعش» لانتمى إلى «القاعدة»، أو سواها؛ فالأمر سواء في ما يخصّ تعطشه إلى إشباع سجلّه الجهادي، الذي لن يتقبله «الخليفة»، أو «الأمير»، حتى يُراق على جوانبه الدم! ولو لم يكن اسمه هكذا، فإنّ الأسماء الأخرى كانت ستستبق أفعاله، وتمثّلها كما تمثّله: محمد مراح، سعيد وشريف كواشي، أو أحمد كوليبالي…

السبب، الذي أعنيه، هو مناخات التمييز العنصرية التي أخذت تضيّق الخناق على حياة العرب، والمسلمين عموماً، في فرنسا؛ وصارت تجري، باستسهال مذهل، على ألسنة رجال السياسة والإعلام والثقافة، فانقلبت إلى حاضنة خصبة استخدمتها التنظيمات الأصولية عموماً، و»داعش» على رأسها؛ ليس لاستقطاب سخط الفئات الشابة من الجاليات العربية والمسلمة، فقط، بل كذلك لتجنيدهم، سواء لتسفيرهم بغرض الجهاد في «دار الخلافة»، في العراق وسوريا؛ أو لإعادتهم بعد ذلك إلى بلدانهم، لممارسة ذلك الطراز الآخر من «الجهاد»: ارتكاب أبشع العمليات الإرهابية وأشدّها دموية. وإذا كان أيّ سياق، جائر أو تمييزي أو عنصري، ضدّ الأفراد أو الجماعات أو الأديان، لا يبرّر البتة أيّ انخراط في الإرهاب؛ فإنّ قراءة السلوك الإرهابي لا تستقيم، بل تظلّ قاصرة معوجّة، من دون النظر في ذلك السياق.

المسلمون، الشبّان خاصة، قرأوا شتائم بريجيت باردو، المقذعة، التي تتكرر كلّ عيد أضحى، بحقّ «هؤلاء الناس» الذين «يذبحون النساء والأطفال ورهباننا ومسؤولينا وسيّاحنا والخراف»؛ وفهموا أنها وضعتهم، بسبب شعيرة دينية واحدة، في سلّة أنثرو ـ عنصرية كبرى ينبغي أن تتسع للإسلام بالمعنى الثقافي الدوني، وللمسلمين بالمعنى العنصري، وينبغي استطراداً أن تسمح باحتقار الثقافة الإسلامية الدنيا وأبنائها، تمهيداً لتمجيد الثقافة الأوروبية العليا وأبنائها. كما قرأوا السياسي الفرنسي اليميني جيرار لونغيه، الذي استشاط غضباً لأنّ فرنسياً من أصل عربي يدعى مالك بوطيح سوف يترأس هيئة حكومية تُعنى بمكافحة التمييز: ليس هذا هو «الشخص المناسب»، لأنّ الهيئة التي سيتسلمها «تعني انفتاح فرنسا على الجاليات الجديدة. شفايتزر، ممتاز! بروتستانتي عتيق، ممتاز! البرجوازية البروتستانتية العجوز، ممتاز! أمّا إذا عيّنتم شخصاً رمزياً، من الخارج، فإنكم تعرّضون العملية بأسرها للفشل»! كما قرأ الشبان، أنفسهم، تصريح الصحافي إريك زيمور، النجم الشعبوي اليميني (الفرنسي، ولكن من أصول يهودية جزائرية!)، الذي برّر قيام الشرطة بتدقيق هويات العرب والسود أكثر من سواهم، بالقول: «لأنّ الغالبية الساحقة من مهرّبي المخدرات هم من السود والعرب، وهذه حقيقة».

وفي غمرة هذه وتلك من وقائع التنكيل الصريحة، كانت الثائرة قد ثارت ضدّ الحجاب، لأنه يهدد العلمانية وينتقص حقوق المرأة؛ ثمّ حمى الوطيس ضدّ البرقع (كما في التسمية الرسمية الأولى، التي سُحبــــت حين تبيّن أنها غـــير دقيقة، بل غبية ومضحكة، فاستُبدلت بـ«الحجاب المتكامل»!)؛ لأنه، إلى جانب التهديد والانتقاص إياهــــما، يمسّ القيم الجمهورية.

وأخيراً، وليس آخراً، استعر النقاش حول «قضية» لم تكن تخطر على بال: اللحم الحلال، لأنه ينطوي على التمييز بين المواطنين! كأنّ فرنسا، بلد اليعاقبة والأنوار والثورة الفرنسية، لم يعد لها من شغل شاغل سوى ترصّد العرب والمسلمين، والحملقة في ما يكمن وراء الأكمة من أخطار ناجمة عن عباداتهم وألبستهم وأطعمتهم ولهجاتهم…

الإرهاب، دُولاً كان أم تنظيمات وأفراداً، عشوائي وأصمّ وأعمى؛ والفوارق، بين إرهاب إسرائيل ضدّ الفلسطينيين، في الداخل أو في الخارج؛ وإرهاب بشار الأسد و»حزب الله» و»الحرس الثوري» الإيراني والميليشيات الطائفية، أسوة بإرهاب «داعش» ومختلف الفصائل الجهادية الإسلامية المتطرفة، ضدّ السوريين؛ وإرهاب أجهزة الأمن الكولونيالية الأوروبية، ضدّ أبناء المستعمرات؛ وإرهاب الفاتحين الأوروبيين ضدّ الأقوام الأصلية في الأمريكتين… فوارق في الكمّ ربما، وفي النوع أحياناً، ولكن ليس في الجوهر والغاية. ولهذا فإنّ الإرهاب ليس بلا جذور، البتة؛ ولا يهبط من السماء، صافية أو مدلهمة؛ ولا يهدي إليه دين بعينه، أو عقيدة دون سواها، أو فلسفة في ذاتها؛ بل هو، أوّلاً، نتاج مركّب، سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي، وصناعة لها صنّاعها ورعاتها المبطّنون، قبل المعلَنين من دعاتها وأدواتها.

وفي عداد أشهر الرعاة المبطنين كان زبغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق، بصدد «الصناعة الجهادية» في أفغانستان؛ وأمّا إرهاب الثنائي بشار الأسد/الخليفة البغدادي فإنه، في معطيات أيامنا هذه، أحدث الأدوات المعلَنة!.

القدس العربي

 

 

حين كانت فرنسا بلا دواعش/ صبحي حديدي

في صيف 1995 لم تكن «داعش» قد ولدت بعد، ولا «القاعدة» ذاتها، ولا هجمات 11/9/2001؛ ولكن فرنسا شهدت موجة أعمال إرهابية، بينها تفجير محطة مترو سان ميشيل الرئيسية في قلب باريس. وكان أحد أبرز منفّذيها الفرنسي، من أصل جزائري، خالد قلقال: 24 سنة، الذي اختارت له الصحافة الفرنسية لقباً غير مألوف: «خالد الغابة»، نسبة إلى…»روبن هود»!

يومها كان وزير الداخلية الفرنسي، جان ـ لوي دوبريه، في موقف لا يحسده عليه حاسد. ليس لأنه الوزير المعنيّ بهذا الملف، فحسب؛ بل أساساً لأنه الرجل الذي قفز على الفور إلى استنتاجات خَلاصية تبسيطية: لقد اعتبر أنّ موجة التفجيرات تكاد تقترن بشخص «خالد الغابة» ذاك وحده، وبسقوطه صريع 11 طلقة يكون في وسع الفرنسيين أن يناموا قريري الأعين. أو… بأعين توجّب أن تظلّ نصف قريرة، كما أثبتت الوقائع اللاحقة.

ذلك لأن انفجار محطة مترو سان ميشيل في ذروة ازدحامه الصباحي، ممّا أسفر عن مقتل ثمانية وجرح 80، كان قد أعاد الفرنسي العادي إلى حيرة أدعى إلى أيّ شيء باستثناء النوم على حرير الخطة الأمنية. وتلك خطة نشرت عشرات الآلاف من رجال الأمن والجيش، واستوقفت ودققت في أوراق أكثر من مليوني شخص. الفرنسي كان محقاً تماماً في الذهاب بالقلق إلى أقصى مستوياته، إذْ لم يكن ثمة ريب في طبيعة هذا الإرهاب الأسود الصريح، العشوائي والأعمى الذي لا يكترث بالضحايا، ولا يبصر ما تبعثه تلك الأعمال من رسائل في الكراهية الجماعية والتعصّب والرهاب.

صحيفة «لوموند» نشرت المحضر شبه الحرفي لحوار أجراه السوسيولوجي الألماني ديتمار لوش مع قلقال عام 1992 في سجنه، غير بعيد عن غابة القتل إياها. ههنا المعجزة الناقصة للسياسات الفرنسية بصدد دمج الأجانب في الحياة المدنية، وههنا مخلوق ولد صحيحاً في مستغانم الجزائرية، وجاء إلى فرنسا في الثانية من عمره، وتفوّق في دراسته، قبل أن يكتشف العزلة القسرية التي لا يستطيع الفكاك منها، ويدرك أنه «لم يجد لنفسه مكاناً» في العديد من الميادين، بما في ذلك العدالة والقانون والتمييز العنصري والاجتماعي؛ وفي المقابل اصطدم بـ»الجدار الهائل» الذي يفصل الضاحية الفقيرة عن المدينة المرفهة. وبالطبع، كان الإسلام اكتشافه المركزي الأكبر، وفي زنزانة السجن بالذات: لست جزائرياً ولا عربياً. أنا مسلم فقط»، قال قلقال وهو يروي أن أصفى لحظات حياته كانت تلك التي يقضيها في المسجد، بصحبة أقرانه من الشباب المسلم!

كيف انقلب هذا الكائن إلى آلة إرهابية؟ مَنْ الذي أقام الجدار الهائل في وجه فتى في أول عشريناته، يرى الباحث الألماني أنه كان «ينطق باسم شبيبة مغاربية ـ فرنسية بحثت لنفسها عن الاعتراف والكرامة فلم تعثر على شيء منهما»؟ هذه هي الأسئلة التي ظلّت تؤرق، في حين أن إجاباتها المتسرّعة كانت قد تحوّلت إلى تنميطات سطحية، حمقاء عن قصد أو جهل. تغافل الكثيرون، في ما يشبه التواطؤ الجماعي، عن حقيقة أخرى رهيبة: لقد خرج قلقال من غابة روبن هود، قتيلاً بالفعل، ولكن في هيئة رمز مفتوح يحرّض على ولادة العشرات من أمثاله.

في صيف 1995 لم تكن «داعش» في فرنسا، ولكنها شهدت انقلاب قلقال، الفتى الآمل في حياة أفضل، إلى وحش كاسر يتطلع إلى الثأر ويقتات على الكراهية. فهل تعلّم أحد أيّ درس، أو استخلص أية عبرة، أو قرأ دلالة اجتماعية وثقافية ونفسية، كان يمكن لها أن تنفع في تجنّب استدراج «داعش»، أو استيرادها، بعد 20 سنة لاحقة؟

القدس العربي

 

 

يا للمفاجأة! أباعود ليس في سورية/ عمر قدور

من دلائل التقصير الأمني، وفق ما تسرّب من جهات أمنية أوروبية، أن الأخيرة لم تكن تعلم بعودة عبدالحميد أباعود إلى أوروبا، وكانت تعتقد طوال فترة هروبه من المراقبة، أنه في سورية. أباعود، الملقب بأبي عمر البلجيكي، وفق إعلام «داعش»، تنقل ذهاباً وعودة بين أوروبا وسورية، بعد مغادرته الأولى قبل سنتين، وربما لا يكون حالة متفردة بين أقرانه من الإرهابيين. فكما هو معلوم، هناك حوالى خمسة آلاف داعشي أوروبي، بموجب إحصائية نشرتها «سي أن أن» في آب (أغسطس) الماضي. الإحصائية ذاتها تشير إلى معدل متقارب في ما صدّرته مناطق جغرافية أساسية من مقاتلين: فالكتلة الشرقية سابقاً والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، صدّر كل منها حوالى خمسة آلاف مقاتل أيضاً. في المحصلة، نحن أمام ما يزيد عن عشرين ألف مقاتل «أممي»، لن يكونوا مشكلة سورية فيما لو قُضي على دولة التنظيم.

صياغة الخبر المُشار إليه في الاستهلال تكشف، مع الأسف، عن تراخٍ غربي في التعامل مع مغادرة عناصر «داعش» أوروبا، على عكس التحذيرات التي تخصّ عودتهم إليها. وإذا كانت قدرات الحكومات الأوروبية محدودة في مرحلة يُراد تصويرها كأنها خاضعة لتجاذب القطبين الأميركي والروسي وتوافقهما، فاللوم الذي تستحقه هو عدم التحرك بفعالية، مع تضررها الواضح من السياستين الأميركية والروسية، وفي ملفين برزا على التوالي واستُغلا أبشع استغلال.

الملف الأول ملف اللاجئين، وكما هو معلوم طغى على فورة الاهتمام العالمي به الجانب الإنساني، وكان مثيراً للسخرية أن تطالب إدارة أوباما الأوروبيين باستيعاب المشكلة، بينما لم تتبرع هي سوى باستقبال عدد بسيط راحت حكومات الولايات تتنصّل منه بعد اعتداءات باريس. الأمرّ من ذلك، خضوع الحكومات الأوروبية للابتزاز، وبحثها عن معالجة أزمة اللاجئين داخل حدود الاتحاد الأوروبي، من دون أن تلاقي الأصوات القليلة الداعية إلى معالجة جذور المشكلة في سورية والعراق سنداً عاماً.

في ملف الإرهاب، يظهر سريعاً الإذعان الأوروبي للرؤية الأميركية الروسية، عبر تراجع الموقف الفرنسي إزاء بشار الأسد، وأكثر من هذا عبر عدم طرح أفكار أوروبية متمايزة في موضوع مكافحة الإرهاب. التمايز الأوروبي المطلوب هنا، يُفترض أن يأتي من واقع عدد الإرهابيين الذين يحملون جنسيات أوروبية، ومن انتمائهم إلى أسر أوروبية على الصعيد الحقوقي، وأيضاً من التضرر المباشر الناجم عن أوضاع مشجّعة للإرهاب في الجوار الجغرافي، وفي الداخل.

لن يكون هناك «داعش» في سورية أو غيرها دائماً، ليذهب إلى هناك أمثال أباعود، هذا ما يخص الجانب المحلي من مشكلة الإرهاب. لكننا، عندما نتحدث عن إرهاب أممي، لا نستطيع تجزئة الحلول على النحو السائد حتى الآن. على الصعيد الأمني مثلاً، لن يبدو منسجماً إطلاقاً ذلك السلوك الذي يُبقي أباعود وأمثاله طلقاء لأن القوانين المحلية تحمي حقوقهم، ثم يتم استهدافهم بالقصف الجوي تحت طائلة قتل مدنيين آخرين في سورية، لأنهم أصبحوا خارج القوانين المحلية، أي كأنهم أصبحوا مع أولئك المدنيين الأبرياء مستباحين، لوجودهم في رقعة جغرافية مستباحة أصلاً. طبعاً، النكوص عن السوية الحقوقية الغربية ليس هو الحل.

لقد برع الإرهاب القاعدي، ومن ثم الداعشي، في تجيير مظلومية لمصلحة أخرى، هذا ما يجعل منه إرهاباً عالمياً فاعلاً. ولا ينبغي إغفال حقيقة تركيز الخطاب القاعدي والداعشي على الغرب بوصفه منبع الشرور. فهذا الخطاب هو الذي يستقطب المجاهدين من الغرب أكثر مما تستقطبهم أية قضية محلية أو وطنية. إذا جاز التعبير، هذه هي قضيتهم الوطنية. والنقد السطحي السائد في المنطقة يتوجه إلى إغفال القاعدة و «داعش» قضايا مثل فلسطين ونظام الأسد، أو عدم إعطائهما أولوية حقيقية، وهو نقد لا يتفهّم تكتيكات الإرهاب الدولي الذي يتغذى أساساً على عداءين للغرب، عداء لدى أولئك المقيمين فيه، لأسباب مركّبة تجتمع لتتخذ طابعاً هوياتياً، وعداء لدى شريحة من أبناء المنطقة العربية، بعضه موروث من حركات التحرر وحركات اليسار.

المظلومية السورية، أو العراقية، لا تعدو كونها مناسبة أو جولة من جولات الحرب الأم، وهي ليست مقصودة بذاتها، غير أن استمرارها يقدّم خدمة جليلة للإرهاب، إذ يضمها إلى قائمة مظلوميته العامة. هنا، سيكون علينا أيضاً التخلص من الربط الميكانيكي بين المظلومية ونتائجها، إذ طالما جرى التحذير من نتائج المظلومية السورية بإيحاء أنها ستؤدي إلى تطرف السوريين أو جعلهم بيئة حاضنة للتطرف. من دون دحض الخلاصة الأخيرة نهائياً، لم تصنع المظلومية السورية أولئك المتطرفين في أنحاء العالم، ولم يأتوا لمحاربة بشار الأسد وإنما لمحاربة الغرب، بينما الهمّ الذي يكاد يجتمع عليه السوريون هو التخلص من الاستبداد و «داعش» معاً، والمشكلة الراهنة لكثر منهم مع الغرب أنه لم يقدم المساعدة الكفيلة بتحقيق هذا الهدف.

الأقرب إلى الواقع، أن غياب الحد الأدنى من العدالة يعزز المظلوميات من كل نوع، ويتيح انتشارها ليس فقط لدى المعنيين بها. والأهم أن الإفلات المتواصل من العقاب يعزز فكرة غياب القانون ويبرر أية جريمة لاحقة. نقع في فخ ما هو إجرائي، إذ نفسّر عنف الإرهاب بما يدلنا هو عليه من نصوص مقدسة، وننسى أنه يتغذى أيضاً (وربما أولاً) على مختلف أشكال العنف تحت مسميات دنيوية مختلفة. التمييز الدولي بين عنفين يفاقم الأمر، لأنه قائم على شيطنة العنف عندما يطاول الغرب فحسب، وأيضاً عندما يُصوّر العنف خارجياً ودخيلاً، حتى إذا أتى من أفراد ولدوا في الغرب ولم يحملوا جنسية سوى جنسياته.

أمام فاجعة بحجم «داعش»، من الهزل التحدث عن تقصير أمني هنا أو هناك، ومن الهزل التحدث عن تعثّر الحرب الدولية على الإرهاب. الشجاعة تقتضي الاعتراف بأن الحرب الدولية على الإرهاب كانت طوال الوقت بلا فهم وجهد دوليين حقيقيين، وإلا كيف أدى إضعاف «القاعدة» إلى بروز «داعش» على نحو أشدّ فتكاً؟ وكيف أمكن طاغية كبشار تهديد العالم بالإرهاب؟ وماذا يعني أن يكرر العالم أخطاءه ويتفق على إبقاء النظام الأمني السوري، الذي ساهمت مختبراته في إنتاج الإرهاب، تحت ذريعة الحفاظ على مؤسسات الدولة؟

الحياة

 

 

 

 

الإرهاب هذا العدوّ الحميم للسياسيين/ راتب شعبو

يتحول السياسيون في لحظة إلى نجوم الإعلام بعد كل عملية إرهابية، ولا سيما العمليات الثقيلة العيار كالتي حدثت في باريس ليل 13 تشرين الثاني، فتنشدّ الأنظار إليهم، ويستمع إليهم من لا يعيرهم اهتماماً في العادة من المواطنين، ويحفظ أسماءهم أناس ما كانوا ليحملوا في ذاكرتهم هذا الاسم أو ذاك لولا العملية الإرهابية.

في العمليات الإرهابية يروج سوق وزراء الداخلية الذين يحوزون اهتماماً خاصاً إثرها. أضواء وكاميرات وميكروفونات وآذان صاغية من جهة، وربطات عنق وكلام موزون عن التحدي والطمأنة والتحذير، مع تعابير صارمة ومسؤولة على الوجوه من الجهة الأخرى.

حين يدخل الموت على الحلبة تكتسب السياسة رهبة خاصة، ويصبح لأسياد الشأن العام قيمة مضافة. تكون رهبة الموت أشدّ حين يضرب الموت عشوائياً وعلى غير توقع، ما يجعل جميع الناس في دائرة الخطر، في أي مكان، في أي وقت. كأن يختار هذا القتل العشوائي (الإرهاب) روّاد مقهى على الرصيف، أو أناساً يمضون سهرة مع الموسيقى في مسرح ما، أو طلاباً يعودون من جامعتهم أو شباباً يتناولون وجبة منتصف النهار في مطعم للوجبات السريعة… الخ.

تماماً كما ينشدّ الناس إلى مجتمع العلماء ويصغون إلى كلامهم وتقديراتهم، حين تهزّ العالم زلازل أو براكين أو أوبئة أو تبدلات فلكية أو مناخية هائلة. كذلك ينشدّ الناس إلى السياسيين عقب العمليات الإرهابية. يتحول السياسيون في نظر “المرهوبين” إلى أنبياء يحملون في أيديهم أمل الخلاص. الجميع ينتظر أقوالهم، والجميع يقبل ما يقدمون عليه من أفعال، حتى لو كان ما يفعلونه لا يقلّ عن الإرهاب إرهاباً. لكن هذه الأفعال تحوز تبريرها في أنها ضمن إطار محاربة الإرهاب وفي أنها أقل عشوائية من الإرهاب. فهي تختار ضحيتها بعناية، ذلك أن الدولة في الغرب توجّه “إرهابها” ضد مجتمعات معينة تعتبرها متورطة في الإرهاب أو بيئة له، وفي هذا ما يبدو حماية لـ”المجتمع الأصل”.

لهذا الأمر قيمة خاصة في الغرب لأن زعماء الغرب قليلو الهيبة في بلدانهم إذا ما قورنوا بزعماء الشرق. الغربيون محكومون بقانون يحدد قدرتهم على التدخل، على خلاف الزعماء في بلداننا. الهالة السحرية التي تحيط بالزعيم في بلداننا ناجمة عن انفلات قوته “في الداخل” من أي ضابط، فهو يستطيع أن يعطي وأن يمنع، أن يحيي وأن يميت، كصورة مصغّرة عن فكرة الله في الأذهان، مع فارق هو أن الزعيم الشرقي “لا يمهل”، جحيمه جاهزة دائماً لابتلاع “المشركين به”. يمكن لزلة صغيرة أمامه أن تودي بصاحبها إلى التهلكة، ويمكن لسلوك صغير ينم عن ولاء عميق أو يستهوي الزعيم أن يرفع صاحبه إلى مصاف عالٍ.

في الأزمات وأمام القوى القاتلة، المغفلة والغامضة، التي تقتحم حياة الناس اليومية، يبحث هؤلاء عن الفهم وعن مصدر للطمأنينة ويتجهون إلى الأشخاص الذين يتولّون الأمر، وهم الزعماء السياسيون. يغدو الناس، عقب العمليات الإرهابية، أقل استعداداً لنقد السياسات “الوطنية”، يميلون أكثر إلى تسليم أمرهم إلى “السلطات”. يقبلون تحديد الحريات والحقوق وفرض حالة الطوارئ، ويستنفرون مشاعر عداء حادة تجاه الآخر “الإرهابي” الغامض الذي يحدده لهم السياسيون. لقد أدرك السياسيون الغربيون، ما أدركه قبلهم أسياد السياسة في الشرق: كم هو سهل وممتع أن تقود أناساً خائفين.

لم يلمع اسم ساركوزي مثلاً لولا حوادث خريف 2005 في باريس حين كان وزيرا للداخلية. لم يتوقف معظم الفرنسيين حينها عند حقيقة أن ساركوزي ساهم في توسيع تلك الحوادث حين راح يستخدم لغة تحقيرية ضد المحتجين على وفاة اثنين من الفتيان جراء ملاحقة الشرطة لهما، ولم يتوقف الفرنسيون عند مطالبته بتنظيف صناعي لأحيائهم، في تلميح إلى أنهم “قذارة”. على العكس، ارتفعت أسهم الرجل لأنه تمكن من السيطرة على الحوادث، ثم تمكن من الوصول إلى رئاسة الجمهورية بعد ذلك بعامين، ويمكن القول إنه تمكن من ذلك بفضل الإرهاب.

لعل حوادث الحادي عشر من أيلول 2001 وخروج جورج بوش الابن للحرب على الإرهاب كانا في أساس التجديد له لولاية ثانية، الشيء الذي لم يتح لأبيه، “بطل” حرب الخليج وزعيم التحالف الثلاثيني حينها.

الإرهاب بازار مناسب للسياسة، يحوّل الجمهور عجينة طيّعة. يجهد السياسيون للقضاء على الإرهاب لكنهم في حقيقة الأمر لا يريدون له أن يموت، فموته يجعل من السياسة عملاً أكثر صعوبة وأقل إثارة وجاذبية.

النهار

 

 

مجابهة الموت بالحياة/ سلام الكواكبي

إثر الاعتداءات الإرهابية التي شهدتها باريس، وسقط ضحيتها عدد كبير من الشابات والشبان في مواقع مُختارة بعناية لضرب نموذج العيش الفرنسي، دعتني جامعات للتحدث إلى طلابها من الصفوف الأولى إلى الدراسات العليا. وحسبما جاء في الدعوات، عبّر القائمون على هذه المؤسسات العلمية والبحثية عن وعيهم الكامل بالحمولة الخطيرة، رمزياً وفعلياً، لمثل هذه العمليات الإرهابية. فمن جهة، غلب على الضحايا العنصر الشاب. ومن جهة الأهداف، كانت أماكن التسلية والترفيه ومحبة الحياة. ومن جهة الفاعلين، استعملوا حجةً دينيةً واضحة، تلطوا برمزيتها لقتل الإنسان. وما يستتبعه هذا من خطر تحميل المسؤولية إلى فئة بعينها، وتبعات هذا التصرف على مسألة التجانس والانسجام لدى الشباب.

كان من الصعب رفض هذه المهمة أو قبولها، لما تحمله من موازنات دقيقة ومسؤولية أكاديمية وإنسانية. فاختيار التعابير والجمل أساسي في مثل هذه الأمكنة، خصوصاً بعد أيامٍ قليلةٍ من الحدث. فوسائل الإعلام حفلت بالغث والسمين في معالجتها الحدث. وضرورة السرعة في التحليل أدت إلى الاستعجال في الاستنتاج. وقفز مشهورون إعلامياً، من المحللين وغيرهم، إلى استخلاصات متسرعة وإلى اتهامات تعميمية أو غير دقيقة.

كما قفز سياسيون، فرنسيون أساساً وأوروبيون عموماً، من اليمين واليمين المتطرف، على الفرصة الذهبية التي أفسحتها هذه الأحداث، ليستثمروها قدر ما يمكن في خضم معاركهم السياسوية والانتخابية. خصوصاً أن فرنسا على أبواب انتخابات إقليمية، يُعوّل عليها اليمين المتطرف لاقتحام المشهد السياسي المحلي بقوة. ومن جهتها، تقوقعت بعض المجموعات، التي اعتبرت أنها مُستهدفة في الرهاب العمومي، وتبنت خطاباً برّأت نفسها من خلاله من أية شكوك يمكن أن تلوح في الأفق. وصار مطلوباً من كل مسلم أن يكرّر اللازمة الإعلامية الهزيلة التي تدفع إلى التصريح بأن “هؤلاء القتلة لا يمثلون الدين الإسلامي”. يؤتي هذا الموقف الدفاعي عكس أُكله، بحيث إنه يفرض على كل من انتمى إلى الإسلام أن يُميّز نفسه عن المجرمين. وفي تناقض صارخ، يتقبّل بعض المجتمع السياسي والإعلامي الفرنسي هذا الموقف من المسلمين، بل ويدعو إليه، إثر كل عمل إرهابي، لكنه، في المقابل، يرفض أي ربط مشابه أو تحليلٍ موازٍ إثر قيام أشخاصٍ من دياناتٍ أخرى بعمليات قتل فردية أو جماعية، فهو لا يُطالب اليهود بالتبرؤ من مجرمين متطرفين، ينتمون إلى ديانتهم مثلاً.

أمام هذه التحديات والصعوبات وسواها، كان التحضير للمداخلات أمام الطلاب عبئاً ثقيلاً

“بعد أحداث باريس أصبح مطلوباً من كل مسلم أن يكرّر اللازمة الإعلامية الهزيلة التي تدفع إلى التصريح بأن “هؤلاء القتلة لا يمثلون الدين الإسلامي” وممتعاً. وكان من اللازم التحسّب من نوعين من ردود الفعل الأساسية: الرد التعميمي والحانق بحق دينٍ بعمومه، كما بحق المنتمين إليه من جهة، ورد الفعل التبريري والتبسيطي الذي سيُلقي باللائمة، سهلة وسريعة الإلقاء، على المجتمع الفرنسي والتمييز والمؤامرات من جهة أخرى. حيث إن من أبرز إيجابيات النظام التعليمي الفرنسي وجود التنوّع بين الطلبة وتطوره على المستويات الإثنية والدينية والطبقية كافة.

يضاف إلى هذا كله، ضرورة التوعية، على الرغم من الصدمة، على أن مشكلة الإرهاب الرئيسية تكمن في تطور الأنظمة الاستبدادية التي يخرج التطرف من عباءتها غالباً، ويترعرع في أنماط ظلاميتها مهما ادعت من تعلمنٍ أو من تقدميةٍ تملأ صفحات أدبياتها السياسية المملة. كما يتوجب إبراز المقتلة السورية قضية إنسانية حقوقية عادلة، بعيداً عما يُريد لها الاستبداديون والظلاميون من أن تكون قضية إرهاب ومواجهات مسلحة.

حوارات انطلقت بتمهيد تاريخي، حاول أن يستعرض أهم المحطات التي أودت، فكراً وممارسة، إلى مثل هذا “المصير”. وتلى التمهيد بعضٌ من التحليل الموجز لسياسات عدد من الدول العربية والاسلامية، وكيفية تعاملها مع المسألة الدينية، استقطاباً واستغلالاً وتجهيلاً وتفرقةً. كما تم تحليل الدور الذي لعبته القوى الخارجية، بطرق مختلفة، وبأهداف تكاد تكون عموماً متناقضة. كما اهتم الحضور باستعراض تاريخ الفكر الإسلامي ومدارس التنوير ومدارس التشويه وكواليسها السياسية والسلطوية، بعيداً عن التطييف المُحبّذ لدى معتنقي “الفاست” تحليل.

أسعدتني، إن جاز التعبير، النسبية في التعليقات على الحدث، فكان الطلاب قادرين تماماً على تفهّم الطرح المتعلق بسعي القتلة، أساساً، إلى الانتصار في حرب إعلامية ترهيبية، وإبعاد النظر عن بؤر القتل المستمر في سورية وفي غيرها. وتوسعوا أيضا في السؤال عن اللاجئين السوريين، وإمكانيتهم المحدودة كطلبة، في تقديم يد العون والتعاون في هذا الملف. بالتأكيد، من تم التوجه إليهم كانوا، في أغلبهم، طلبة العلوم الإنسانية، ووعيهم السياسي، أو على الأقل المجتمعي، متقدم على أترابهم في الاختصاصات الأخرى.

كان الخوف والحزن والغضب صارخاً في عيون الشابات والشبان، لأنهم، إن لم يفقدوا قريباً أو صديقاً، فقد فهموا الرسالة الأساسية للقتلة: متعتكم هي عذابنا، فرحكم هو حزننا، حياتكم هي موتنا. وفي المقابل، خرجوا غالباً مع بعض مقومات استرجاع الأمل بأنهم جميعاً، ومن الأصول والأعراق والأديان المختلفة، واعون إلى أهداف المجرمين، وسيثبتون، في حياتهم العملية، بأنهم قادرون على مجابهة الموت بالحياة، والحقد بالحب، والتطرف بالانفتاح.

العربي الجديد

 

 

لماذا اختار إرهابيو باريس تلك الأماكن/ سلام الكواكبي

غداة الاعتداءات الهمجية في باريس، سألتني صحفية فرنسية عن معنى اختيار الأماكن المستهدفة من قبل المجرمين والتي كانت عبارة عن مسرح يقام فيه عرض موسيقي وملعب رياضي كان مسرحاً للقاء فريق فرنسا الوطني والفريق الألماني، وبحضور رئيس الجمهورية، وشارع مشهور بمقاهيه ومطاعمه الطلابية والشبابية.

للوهلة الأولى، أردت أن أعتذر عن الاجابة معلّلاً ذلك بأنني لست خبيراً جنائياً لأحلل هذا الجانب الذي اعتبرته لبرهة تخصصياً، من الفاجعة. ولكنني سرعان ما تراجعت عن الخيار السلبي في عدم الإجابة، وفكرت للحظات لأجد أنه سؤال هام وإن لم نتمكن من امتلاك الإجابة الشافية له، فيجب أن نحاول استعراض بعض عناصر الإجابة ليس إلا.  فما هو “سر” اختيارات القتلة؟

يبدو، وانطلاقاً من عقيدة تكفيرية إجرامية تتلظّى بالدين الإسلامي، بأن القتلة، ومن يُسيّرهم كالدمى المفتقدة للعقل وللمنطق، يجدون أن من ألد أعدائهم، المحطمين لنظرياتهم “التمويتية” والإلغائية المليئة بؤساً وخراباً ورهبةً وتحريماً، هناك معنى الحياة في تجلياتها المختلفة.

السعادة والتعبير عنها أيضاً من المحرمات في كتابهم غير المقدّس المليء بالأكاذيب التي تبتعد لسنوات ضوئية عن القرآن الكريم وغيره من الكتب السماوية والأرضية التي دعت لمحبة الحياة والآخر.

إن النمط الفرنسي المستدام في العيش والتعبير عن هذا العيش بكافة الطرق والأساليب، هو عدو لدود لمن يُحب أن ينشر الموت ويروّج له باسم الدين. إن من استهدف هذه المواقع الرمزية، لعارف بما تحمله من معاني للناس العاديين في هذا البلد. بالمقابل، فهو يجهل حتماً، كما مُسيّره كدابة الحصاد، بأن محبة الحياة، بتعابيرها الموسيقية والاحتفالية، تملأ كتب التراث العربي ـ الإسلامي. حتى إن الرغبة الصافية كما الحسيّة، والتي يحاربها أولئك وأمثالهم من المختلين، هي في صلب رسالة الحياة التي وردت في كتاب بدأ نصوصه بدعوة صريحة : اقرأ… ولكن ما هم بقارئين وإن قرأوا، فليسوا بالتأكيد من القادرين على الفهم.

هؤلاء القتلة يدّعون أنهم يحملون رسالة “أخلاقية” وتبشيراً “روحياً”. ويساندهم في تلك المهزلة المستمرة منذ قرون، معمّمون جهلة، إما من “علماء” السلطان أو من “أمراء” السراديب.

يبدو أن هذه الصفات المزدوجة أضحت متلازمة، تزرع الفضاءات المختلفة بترهات العقل والمنطق. وقد سهّل ازدهارها مستبدون “علمانيون” حظروا الفكر والتفكير ورسّخوا الظلامية الدينية سعياً لاستخدام الدين كمطية لاستمرارية عبثهم الأمني والإفسادي بحيوات الرعية غير المواطنة في جملكياتهم الأبدية.

يستسهل بعض الملاحظين، ممن يدعون اللبرلة الفكرية على الأقل، التبحّر في الحديث عن الفكر الظلامي في أبعاده التخلفية والتمويلية والمؤامراتية. وهم في ذلك يُركزون على دول بعينها، يُسيطر الفكر الديني المتشدد على قرارها السياسي وممارساتها المجتمعية، معتبرين أنها “الشيطان الأعظم”. بالمقابل، لا حرج لديهم في استثناء دول “دينية” أخرى، متشددة وظلامية بدورها، ولكن مسارها يُناسب موقفهم السياسي الآني والمصلحي، وحتى ربما المادي. وكذلك، فأصحاب هذا الخيار التمييزي، يتناسون أو يغفلون، عن تلك الدول التي استقطبتهم بأعطياتها المادية والعينية، والتي يسود فيها الرعب والتسلط والقمع والفساد، كمصدر أساسي لترعرع الفكر الظلامي لأٍسباب بنيوية وموضوعية. وعلى الرغم من تبجحهم بالثقافة وبالتنوير، فهم يتحالفون مع أعداء الثقافة والتنوير ويعتبرون أشدهم بأساً وقهراً وقمعاً، “مستبداً عادلاً”.

فرنسا تعبر فترة الحداد بحذر شديد من بروز الاستقطابات والاستخدامات السياسية لما حصل. كما تعتمد على وعي مجتمعي نافذ، يشوشه توتر متزايد في مفهوم راسخ اجتماعياً وهو الانفتاح على الآخر. وعمليات هؤلاء القتلة، التي استهدفت نمط العيش الفرنسي، تسعى فيما تسعى إليه نشر الخوف وتعزيز الحذر من الآخر.

وهذا الآخر، مهما كان، عليه أن يعي بأنه مطالب بأن يُظهر اندماجه، وليس انصهاره، مع المبادئ والقيم التي قامت عليها مؤسسات هذه الدولة الديمقراطية والتي استقبلته على مراحل، مهما سادها، في أجزاء منها، سوء الإدارة أو الاستغلال السياسوي. والخطر الأكبر المحدق الآن، هو تعزيز حظوظ المتطرفين اليمينيين العنصريين، بالاستناد إلى عنصر الخوف. كما يمكن تبصّر اشتداد حدة الانتقادات المحلية والقاسية بحق السياسة الخارجية الفرنسية التي لم تُميّز بين الطاعون والكوليرا، كما يدعو إليه “البراغماتيون”. وهي التي سعت منذ 2011 إلى الوقوف بوضوح، ولكن بلا امكانات ولا أدوات، إلى جانب الضرورة الحتمية للتخلّص من كل الأوبئة الظلامية والاستبدادية.

هنا صوتك

 

 

 

 

باريس لن يهزمها مجرمو الأسد/ غسان المفلح

قامت مجموعة من الإرهابيين والقتلة بجريمة مروعة في باريس، ذهب ضحيتها أكثر من 250 مواطن باريس بين قتيل وجريح. هؤلاء الإرهابيون، سواء هتفوا بالله أكبر أم لا؟

يحتاج المرء أن يقرأ هذه الجريمة وفاعليها، ومن يقف خلفهم، قراءة مختلفة تماما، بعيدة عن قراءات الموضة السارية في الاعلام. هذه القراءة الاختزالية التي تضع عنوانا لها اسمه ( الإرهاب الإسلامي) لأن هذه القراءة وهذا العنوان، يحيل الجريمة لمجرم مجهول الهوية، عام وشامل. أيضا سنبدأ نشهد من جديد موجة جديدة من الادعاءات الفارغة. ثقافوية وعلمانوية وسياسوية. لإنقاذ المجرم الحقيقي الذي يقف وراء هذه الجريمة ومثيلاتها. تبدأ هذه الموجة كي تبرر قتل المسلمين في بلدانهم على يد الأنظمة المجرمة وتنظيمات الإرهاب ذاتها. للوصول إلى الدعوة لاجتثاثهم. لانهم وفقا لهذه الموجة هم ليسوا بشرا، هم المسلمون. هم الإسلام الذي يجب اجتثاثه. كل هذه الموجة هي فقط للتغطية على المجرمين الحقيقيين. إنها جريمة محكمة التخطيط والتنفيذ، لا تستطيع تنفيذها إلا أجهزة استخبارات، تعرف باريس جيدا. تعرف المواعيد والامكنة، مراقبة تحديد وقت التنفيذ. كثيرة هي المهام التي يجب القيام بها قبل الوصول للحظة الجريمة. اضافة إلى تجنب أية مداخلات من الامن الفرنسي واستخباراته القوية. كما أننا سنشهد موجة للعداء للاجئين السوريين في أوروبا عموما وفرنسا خصوصا. سنشهد موجة من دعم نظم البسطار في بلاد الإسلام!! التي هي وراء هذه التنظيمات الجهادية، هي من تمولها وتخطط لها.

ثمة أمر خاص أيضا، التخطيط لمثل هذه العملية يحتاج لزمن ليس قليل، مع ذلك تم توقيتها قبل اجتماع فيينا الدولي لحل القضية السورية. سيقول بعضهم ان هذا التفسير التأمري للمسألة. يجب ان تبحث عن المسألة في حقل قراءة الأديان وثقافتها، بالطبع المقصود الدين الإسلامي، وبالأخص الإسلام السني. لأنها الآن موجة قتل السنة العرب والسوريين منهم خاصة.

عندما يكون هنالك موجة عالمية تتحول إلى هستيريا جماعية من القتل، وتشريعه تحت مسمى الحرب على الإرهاب، هذا ما تقوم به روسيا بغض طرف امريكي. ضامننا مع شعب فرنسا، ومع أي مدني يقتل، يجب ان يكون تضامنا نقديا، بمعنى أننا يجب قراءة الحدث كي لا يبقى يحال إلى مجهول عام ومطلق. الإرهاب الإسلامي ممثلا الآن بداعش. من هي داعش؟ من يمولها؟ من هو المستفيد من العملية الارهابية ومن توقيتها؟ أسئلة يجب الاجتهاد فيها كون النسق الأمني العالمي بزعامة باراك أوباما، لا يريد الكشف عن الوقائع المادية، لأنها بالنهاية وقائع مجسدة تحيل لطرف سياسي وشخصي موجود على الأرض، ولا تحيل لدين عام ومطلق. الدليل أن التنظيمات الموالية لولاية الفقيه الإرهابي في إيران، والمستندة في تعاليمها ولحظة تأسيسها على قتل السنة العرب. لا تصبح إرهابية في سورية. الاستخبارات المطلقة الاوبامية تريد عدوا مطلقا ( الإسلام السني- يقصد المسلمين السنة- في سورية وبقية دول الشرق الأوسط المحاذية لإسرائيل).

حسنا نحتاج لثورة ثقافية على كافة الصعد. سنوافق معكم، لكن هل هذه الثورة الثقافية لوحدها ستمنع تمويل القاعدة، وداعش وحزب الله وعصائب اهل الحق الشيعية؟ أليس في الغرب ثورة ثقافية وتنوير، مع ذلك هنالك أحزاب وتكوينات سياسية عنصرية وفاشية ونازية. لديها ميزانيات، ونواب في البرلمانات الأوروبية. الإرهاب هو في المؤدى العملي لعب عملي ومجسد بمصير الشعوب، لمصالح سياسية ودنيوية بالعام. مجسد بتنظيمات واشخاص واموال تتحرك وتشتري أسلحة وتفتك بالبشر. النخب السياسية الفرنسية خاصة تعرف أكثر من أي نخب أخرى تورط الأسد في الإرهاب ودعم الإرهاب وتأسيس منظمات إرهابية. ممكن ان يكون منفذوا العملية الإرهابية من أي جنسية، لكن من مولهم ومن خطط لهم ومن اعطى لهم مواعيد وامكنة؟ ومن حدد لهم الأهداف؟ أوباما الأمني يعرف ذلك وكل الإدارات الأمنية الغربية تعرف العدو المجسد لكنها تخفيه تحت يافطة عامة. تعرف أن نظام ايران والأسد هم من داعما الإرهاب في العراق، والذي كان يستهدف قوات أميركية أيضا. داعش وكر دولي للاستخبارات من كل حدب وصوب، مؤسسة تستطيع أي سلطة ديكتاتورية وهمجية او غير ديكتاتورية أن توظف بها، وتحقق أرباحا. هذا ما فعلته إيران والأسد وكثير من الدول. لكن يبقى السؤال من هو المستفيد من جريمة داعش الأخيرة في باريس؟ يا جماعة قادة هذه التنظيمات الدولية هم مرتزقة استخباريون مهما “طولوا ذقونهم وقصروا بناطليهم وقلابياتهم”. البروباغندا التي يستخدمونها للتجييش ضد العالم، هي لخدمة هذا الاسترزاق، وليس العكس. العالم بات دائرة مغلقة معلوماتيا وفق السيطرة والهيمنة الامريكية. فكيف تفلت أموال داعش من الرقابة؟ وهي التي تشتري سيارات دفع رباعي- الهمر الامريكية- واسلحة، وتعطي رواتب لارهابييها ومرتزقتها؟ كيف تفلت جرائم الاسدية في سورية من البث الإعلامي، والنشاط الحقوقي والسياسي، ليتم تحويل ملفه كمجرم حرب إلى محكمة الجنايات الدولية؟ بالمناسبة للذي لا يعلم، أي طفل سوري أو أي مدني سورية قتله ويقتله الأسد وايران وروسيا في سورية اسمه موجود لدى الإدارة الامريكية والإدارات الغربية. لا تبقوا تدورن في نفس الحلقة المفرغة التي ارادتها إدارة أوباما، من أن الارهاب عام ومطلق وغير مجسد الا ( بالإسلام السني). جرائم بانياس والحولة والغوطة والقصير والنبك وكل بقعة سورية للاسد وحلفائه لهم جريمة فيها. المثال الأكثر ضبطا لمقولة أن الإرهاب هو استخدام قتل المدنيين لاسباب سياسية. جريمة باريس عار على أوباما بشكل خاص. العملية الاجرامية في باريس هي لتأجيل بحث مصير الأسد في الحل السياسي الكاذب في فيينا ولاستمرار قتل السوريين.

ايلاف

 

 

 

اللوثة العقائدية وشماتة العجز/ ابرهيم الزيدي

لن تكون الحوادث المأسوية التي وقعت في باريس مساء الجمعة 13/11 هي الأخيرة، فلا يزال في العالم الكثير من المغرمين بالطقوس الفتاكة، وهي موجودة في كل ثقافات الشعوب، وقد تجاوزها مفهوم الدولة الحديثة، ولم يعد للأفراد أو الجماعات الحق في الرد أو الإنتقام، إلاّ في حالات خاصة، أهمها ما يتمثل في الدفاع عن النفس. إلا أن ذلك لا يعني أن مستنقعات الشوارع الخلفية للحضارة توقفت عن تغذية الحس البدائي للمؤمنين بثقافة الموت! فها هم يعبرون المحيط، كطوابع بريدية، تحملها رسائل عقائدية وإيديولوجية. وقد أتاحت لنا وسائل التواصل الاجتماعي معرفة ردود الفعل على تلك الرسائل، وخصوصاً الـ”فايسبوك”، الذي فتح لكل المنتسبين إليه فرصة التعبير عن مواقفهم من دون تمييز، أو امتياز لأحد على أحد، فامتلأت الصفحات بالمواقف العربية من المأساة الفرنسية. اللافت أن تلك المواقف انقسمت قسمين، الأول ذاتي، وهو الأكثر، والآخر موضوعي وهو الأقل! يلاحظ على الفريق الأول تلك اللوثة العقائدية، التي ترى في حوادث باريس نتيجة حتمية لما قامت به فرنسا من مجازر عبر تاريخها. يا لبؤس هذا العقاب الذي يطال قلة من الناس البريئين، مقابل تاريخ فرنسا الدموي!

لا شك أن على فرنسا اليوم تقع مسؤولية معالجة النفايات البشرية، التي ساهمت في وجودها لغايات سياسية ونفعية، على حساب الأمم والشعوب الأقل منها قوة. إلا أننا يجب أن لا نسقط في اختبار الحس الأخلاقي، الذي يضع بشريتنا في سياقها الإنساني. فهذا التحليق الوهمي للشماتة، يقابله هبوط اضطراري في الواقع.

أعرف أن فعل الكتابة قد يتزامن مع حالات نفسية تفرض نفسها عليه ، إلا أن ذلك يخرجها من سياق الفعل، وتصبح مجرد رد فعل، فالمبالغة في التعاطف تعبّر عن إحساس بالدونية، أو عن الشعور بالذنب، والمبالغة في الشماتة، هي شعور بالعجز لا أكثر ولا أقل. المؤسف أن كل تلك الصفات متوفرة بكثرة في بلادنا، مما يجعل الإيديولوجيات والعقائد تمارس الهيمنة ذاتها على أتباعها، وترسم حدود التفكير بالمسطرة! فما حدث في باريس، يحدث مثله في سوريا كل يوم، وأحياناً أكثر منه، والسكوت على ما يحدث هنا، أو ما حدث هناك، يعتبر خللاً في شرط وجودنا الإنساني، إذ لا يوجد طريقة مشرّفة للقتل، أيّاً كان القاتل والمقتول، إلاّ أن ثمة طرقاً كثيرة للتعبير عن موقفنا منه.

النهار

 

 

 

 

أسئلة سورية في باريس:هل ما زلنا قادرين على التعاطف؟/ وليد بركسية

تشنّج السوريون، منذ لحظة وقوع التفجيرات الإرهابية التي ضربت العاصمة الفرنسية باريس، إذ تحول الحدث بشكل دراماتيكي إلى منصة للتساؤلات الوجودية الجدية التي تحيط بهم، وفرصة سانحة بالنسبة للبعض لتبادل الاتهامات وفق الموقف السياسي الخاص بهم.

الحدث الفرنسي الأليم – دون شك – كشف حجم الاستقطاب الذي ما زال يحكم علاقة السوريين ببعضهم منذ خمسة سنوات، فالأسئلة التي طرحت عبر السوشيال ميديا بدت أقرب للجدال البيزنطي العقيم: هل يجب علينا كسوريين التعاطف أصلاً مع الآخرين؟ هل ما زال بإمكاننا التعاطف، هل المتعاطفون خونة، هل تجوز الشماتة بمصائب الآخرين؟ وكلها أسئلة اتهامية تكررت بصيغة أو بأخرى في النقاشات الفردية وفي الصفحات العامة.

التوازن كان مفقوداً في التعاطي السوري مع تدفق الأنباء من عاصمة الأنوار، ففي مقابل تبلد المشاعر الذي أبداه البعض إلى حد الشماتة، أظهر كثيرون كمية هستيرية من الميلودراما وكأن نهاية العالم حانت، مع وجود نقيضين مختلفين في طريقة التفاعل (سوريو الداخل ضد سوريي الخارج، الموالون ضد المعارضين، العلمانيون ضد المتشددين دينياً).

وعليه غلبت الاصطفافات المسبقة، فغابت فرنسا والموت المجاني في باريس وقبلها بيروت وفي كافة أنحاء سوريا إلى الخلفية البعيدة مقابل استذكار المآسي الشخصية، وربما لا يمكن لوم السوريين على ذلك بسبب الوضع النفسي السيئ للجميع دون استثناء بعد خمس سنوات من الحرب الأهلية في البلاد والعنف غير المسبوق ضد شعب بكامله.

في السياق، أعاد السوريون عبر “تويتر” نشر تسجيل مصور لمفتي النظام أحمد بدر الدين حسون في تشرين الأول/أكتوبر 2011، الذي هدد فيه بتفجيرات قد تطال الدول الأوروبية إن تدخلت في سوريا، فيما اعتبره المعارضون دليلاً على الأخوية الوثيقة التي تربط النظام السوري بتنظيم “داعش”. وتكررت عبارة “الأسد أو نحرق باريس”، وهي ذات العبارة التي تداولتها وسائل إعلام معارضة مثل “المركز الصحفي السوري”.

وكرر المؤيدون للنظام نشر مقاطع متفرقة لخطابات الرئيس السوري بشار الأسد وحديثه عن الإرهاب الذي سيضرب العالم، مؤكدين أن رؤية النظام السياسية تتحقق على أرض الواقع كمؤشر للانتصار، وهي نوعية الخطاب التي اعتمدها إعلام النظام الرسمي عبر قنواته المختلفة (الإخبارية السوري، الصحف الرسمية، ..).

فتح ذلك الباب في وقت لاحق للتحليلات السياسية “الشعبية” حول أسباب التفجيرات وعلاقتها بالأزمة السورية، مع الاتفاق بين الجميع على أن عدم الاستقرار في سوريا سبب مباشر للاضطرابات العالمية الحالية، إضافة للتذكير بالوضع السوري اليومي على غرار العبارة التي تكررت في “تويتر”: “عزيزتي فرنسا أود ان ألفت عنايتكم: ليلة باريس المرعبة يعيش السوريون أحداثها كل ليلة منذ سنوات والعالم المنافق لا يعنيه إلا جرحكم”.

الأحاديث السورية لم تتمحور حول الإرهاب الإسلامي ومحاربة تنظيم “داعش” على غرار بقية العالم، بل تمحورت حول الإرهاب السوري، خصوصاً بعد التصريحات الفرنسية حول وجود جواز سفر سوري بالقرب من أحد منفذي التفجيرات، وهي النقطة التي سخر منها السوريون مطولاً بعدة أساليب، إذ شكلت السخرية نوعاً من الدفاع النفسي عن الذات في وجه اتهامات قد تتوجه بحق شعب “ملائكي” بكامله، خاصة مع أعداد اللاجئين السوريين في أوروبا الذين يشكلون نوعاً من القلق الداخلي بالنسبة للسوريين.

لم يعتمد السوريون على هاشتاغات خاصة بهم.  فالوسوم العالمية المنتشرة في “تويتر” و”فايسبوك” هي المسيطرة لم يكن هناك وقت كاف لإنتاج عبارات مميزة في ظل السرعة التي تميزت بها الأحداث، وضرورة تبرئة الذات والهجوم على الآخرين قبل تلقي اتهامات. المشهد، ككل، مثير للشفقة.

السوريون غيروا صورهم الشخصية في “فايسبوك” لإظهار التضامن، فلفوا أنفسهم بالعلم الفرنسي، أو تحولت صورهم إلى برج إيفل المنكوب، وهو نوع من التماهي الإضافي مع الأزمة. “نحن لسنا إرهابيين”. الكل يصرخ ويدافع عن نفسه في وجه نظرات الاتهام التي يتوقعها كل فرد بحقه في المستقبل القريب، وكان ذلك واضحاً من السوريين الموجودين حالياً في أوروبا، أو الحالمين بالتوجه لأوروبا قريباً.

في المقابل، بدأت الصفحات المؤيدة الاثنين، بنشر هاشتاغ “#لاترفع_غيرو_علمك_بيرفعك” (شام إف إم، ..) ، ويتضمن دعوة لرفع العلم السوري عبر الصفحات الشخصية. فلا يجوز، بحسب منطق الصفحات المؤيدة، “التعاطف مع فرنسا المستعمرة”: “‏لك والله مايطلع يوسف العظمة من قبرو ويشوف صور العلم الفرنسي عالبروفايلات ، ‫‏ليبزق عليكن واحد واحد”. ورد المعارضون على تلك الحملة بنشر صور علم الثورة السورية، والسخرية من الرايات الإيرانية والروسية وأعلام حزب الله التي ينشرها المؤيديون باستمرار.

أجمل الصور التي تم تداولها تظهر بشكل رمزي برج إيفل وسط الدمار السوري. “جميعنا نعاني من ذات الإرهاب المخيف مهما اختلف المسؤول عنه في إيديولوجيته وطريقة قتله لنا كبشر”. وأنشأ ناشطون حملة تضامن بعنوان “باريس مُصابكم مُصابنا #YourPainOurPainParis”، التي تدعوا بالرحمة لأرواح الضحايا دون انفعالات عاطفية.

المدن

 

 

 

 

 

فرنسا في العاصفة/ بشير البكر

فرنسا لن تشبه بعد اليوم ما كانت عليه قبل يوم الجمعة الدامي، 13 نوفمبر/تشرين الثاني، حين شهدت عملية إرهابية من طراز مختلف، وأكبر خرق أمني. صدمة ستظل تتفاعل إلى أمد طويل. ومثلما أدت هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 إلى تغيير كبير في الولايات المتحدة الأميركية والعالم، فإن الجنون الداعشي الذي ضرب باريس في الصميم سوف يحفر عميقاً في الحياة الفرنسية السياسية والثقافية والاجتماعية، وليس مبالغة القول إن جراحه ستظل مفتوحة، ولن تندمل قريبا.

أول الضحايا ستكون الحرية. وكما هو معروف في المجتمعات الديمقراطية، فإن الحرية ليست بدعة، أو هدية من الدولة للمواطنين، بل هي من صنع المواطنين أنفسهم، وتقوم على استقلالية الفرد عن الدولة، على الرغم من أن الدولة تعد بمثابة الأم الشرعية لكل مواطن، تُعنى بكل شؤونه من الألف إلى الياء، لكنها لا تستطيع التدخل في أبسط شأن من شؤونه. وأمام حدث من هذا القبيل، لن يكون في وسع الدولة في فرنسا أن تتصرّف كما كان الأمر عليه في السابق، لا بل إن المواطن نفسه سوف يطلب من الدولة أن تتدخل في شؤونه، أن تراقبه في الشاردة والواردة، تحت بند رعايته أمنياً. ومن أجل مواجهة الإرهاب، سيضطر الفرنسيون إلى التنازل عن جزء من حرياتهم، وهذه معادلة لم تكن، في يوم من الأيام، لصالح الحرية، حتى لو استندت إلى هدف سامٍ، هو حماية أرواح البشر، لأن السلطة لا تتوقف عند حد، حينما يصبح القانون في يدها، وفرنسا ليست يوتوبيا، بل إنها شهدت بوادر ديكتاتورية مع الرئيس السابق، نيكولا ساركوزي، الذي جرّب كثيراً أن يتصرّف كإمبراطور، ليصبح فوق جميع السلطات، وقد حاول، في الأيام الأخيرة، أن يستغل الاحداث الإرهابية، من أجل تحقيق مكاسب انتخابية في لحظةٍ، تشكل الوحدة الوطنية سلاحا فعالا في الرد على الإرهاب.

وفي حال اتسعت مساحة المقاربة الأمنية للهجمات الإرهابية، فإن فرنسا مقدمة على جملة من التعديلات الدستورية التي سوف تنعكس حكماً على القوانين المدنية كافة، وهي قوانين تعد ناظماً للمكاسب التي حققها المجتمع الفرنسي، طوال قرنين من عمر الثورة الفرنسية، وقامت على الانفتاح وتعزيز دولة القانون والمؤسسات وحقوق الإنسان والاعتراف بالآخر. وهذا ليس من باب التخمين، فقد كان خطاب الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، في فرساي، يوم الاثنين الماضي، غنياً بالدلالات، حين أعلن أن فرنسا تعيش حالة حرب، وستبقى تحت حكم الطوارئ ثلاثة أشهر، ولكي لا يعلق العمل بالدستور، فإنه اقترح تعديلات دستورية ذات طبيعة صارمة، وعلى الرغم من أن الهدف المباشر للتعديلات هو تحصين البلد على المدى القريب، فإنها لن تكون بلا أضرار، وستصيب أبرياء، وتترك آثاراً سلبية على المواطنين الفرنسيين المنحدرين من أصول أخرى، وخصوصا الجاليات العربية والإسلامية. وعلى المقلب الآخر، ستصب بعض الإجراءات في صالح اليمين العنصري المتطرف. وأبرز نتيجة للعمليات الإرهابية، في المدى القريب، أنها قدمت لهذا اليمين خدمة لا يمكن تقديرها بثمن، فهو الذي يعمل، منذ أوائل الثمانينيات، من أجل تشكيل رأي عام فرنسي معادٍ للأجانب، لم ينجح في ذلك، بسبب وعي المجتمع الفرنسي، في حين جاء من ينجز الجزء الأكبر من هذه المهمة نيابة عنه، ويقدّم المبرر والتغطية لكل الابتذال العنصري، الذي طالما رفضه الفرنسيون الذين يعتبرون الاعتداء على نمط حياتهم خطاً أحمر.

ووسط حالة من الصدمة والألم، يطغى في الشارع الفرنسي شعور بضرورة الانتقام للضحايا، وهذا يتطلب قدراً كبيراً من الحكمة، لكي لا يقع الانتقام على مواطنين أبرياء، بينما يعيش الإرهابيون طلقاء في سورية والعراق وأماكن أخرى من العالم.

العربي الجديد

 

 

 

 

“ممنوع موت الفرنسيين”/ حسان القالش

هذه العبارة وغيرها ممّا يشبهها، كتبها سوريّون على صفحاتهم في «فايسبوك»، تعليقاً على أحداث باريس الأخيرة. سوريّون من أكثر الناس سلميّة ومدنيّة وثقافة، بل ربّما وطنيّة أيضاً، ما يجعل من عباراتهم تلك مجرّد تعبير عن حزن وإحباط شـديـديـن مقابل تعَوّد العالم واستسهاله موت السوريين المستمر منذ نحو خمس سنوات، إذ خلت كلماتهم من أي إساءة أو تلميح بالشماتة بما حصل في فرنسا.

وإذا كان طبيعياً تفهّم ردّة فعل هؤلاء تجاه التركيز الإعلامي والسياسي على الكارثة الباريسيّة مقارنة بما يحصل في سورية، فليس من الطبيعي أو الإنساني ما عبّرت عنه الأوساط المؤيّدة لنظام الأسد تجاهها. فبعيداً من عبارات الشماتة والاستهزاء بما حدث، برزت ردّة فعل من طراز فاشيّ وستالينيّ، تعبّر عن السعادة بما جرى وعن استرخاص لأرواح الضحايا. ولئن بــدت ردّة الفعل هـذه صـادمة نـوعــاً مــا بالنسبة الى الرأي العام الغربي، فهي ليست كذلك بالنسبة الى السوريين.

فقبل ذلك، وفي بداية الثورة السورية وفترتها السلميّة، سبق أن دعا هؤلاء رئيسهم وجيشه، ومن ثمّ مرتزقته الطائفيين، إلى إبادة درعا وحمص وغيرهما. وهنا تحديداً تبرز قيمة العبارة القائلة «ممنوع موت الفرنسيين». ذاك أن الفرنسيين اليوم لا يدعون إلى قتل أحدهم على يد الآخر، ولا يفرحون بموت أيّ منهم، وليس أدلّ على هذه الروح الفرنسيّة من المقاومة التي يبديها الفرنسيون منذ سنوات للكراهية التي تعمل أحزاب اليمين واليمين المتطرف على خلقها، إضافة إلى قدرتهم على عقلنة ردّات الفعل أثناء الكوارث الوطنيّة، وهذا ما يحدث اليوم وحدث في الأمس غداة الجريمة البشعة التي استهدفت أسبوعيّة «شارلي إيبدو»، إذ لم تنتج من هاتين الجريمتين ردّات فعل تجاه المواطنين أو المقيمين من ذوي الأصول العربيّة أو الإسلاميّة من مستوى ما حدث في أميركا غداة جريمة 11 أيلول (سبتمبر)، على أنّ ما حدث قبل أيّام يوازي ما جرى في أميركا في إرهابه.

من جهة أخرى، يبدو أنّ ثمّة قاسماً مشتركاً يجمع بين الطرفين السوريين المعلّقين على أحداث باريس، هو وجود شيء من الغيرة والحسد تجاه قدرة الفرنسيين على التماسك وضبط النفس، وبدرجة أعلى، امتلاكهم هويّة وطنيّة صلبة وراسخة خلال الأزمات. وهذا كلّه ممّا لا يملكه السوريون للأسف. فالهويّة الوطنيّة السوريّة مجرد وهم، أو في أحسن الأحوال أمل يعجز المتعلّقون به عن تحقيقه إلاّ في عالمهم الخاص، وهذا ما لا يريد السوريون الاعتراف به اليوم.

* كاتب وصحافي سوري

الحياة

 

 

 

 

هل سيغير الغرب موقفه من الثورات بعد هجمات باريس؟/ عمر كوش

ما بعد الهجمات

مواقف الغرب

الانعكاسات

تعيد الهجمات الدامية التي ضربت أماكن في باريس النقاش مجددا حول موقف الغرب من ثورات الربيع العربي، وما آلت إليه بلدانها، حيث عاد العسكر من جديد إلى حكم مصر، وعادت البورقيبية بلباس جديد إلى حكم تونس، وضربت فوضى السلاح والمسلحين الوضع في ليبيا، ودخل اليمن في حرب داخلية وإقليمية.

والأخطر من ذلك كله هو تحويل الثورة السورية، التي بدأت ثورة سلمية، إلى حرب مفتوحة، متعددة الأطراف والفاعلين، إضافة إلى بروز محاولات قوى إقليمية ودولية، لإعادة تثبيت نظام الاستبداد في سوريا، وتلميعه وتسويقه في إطار “الحرب على الإرهاب”، بالرغم من الثمن الباهظ الذي دفعه غالبية السوريين.

ما بعد الهجمات

لا شك أن ما حصل في العاصمة الفرنسية، مساء الثالث عشر من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، سيكون له ما بعده، إذ ستتبعه إرهاصات أمنية وسياسية واجتماعية، وستخاض نقاشات حول علاقات دول الغرب بالنظم الحاكمة في بلداننا العربية والإسلامية، واطمئنانها إلى عودة نظم الاستبداد، التي تقوم بتأمين مصالحها ومصالح قوى المال والأعمال المتنفذة فيها، وضربها لطموحات الشعوب العربية في الحرية والكرامة، التي باتت تحت مرمى نيران إرهاب مزدوج، إرهاب الأنظمة الحاكمة، وإرهاب الجماعات المتشددة.

وقبل ذلك، فإن السؤال الذي يجتاح مساحات من الفكر السياسي في زمننا الراهن، يتمحور حول الكيفية التي أفضت إلى إجهاض ثورات عربية واعدة، رفعت شعارات كونية، يتشارك فيها الناس جميعا، وشكلت إضافات هامة إلى عمليات التأسيس الاحتجاجي العالمية.

ولعل ما حدث في باريس يعبر عن “نهاية عالم ما”، انتكست فيها مطالب الشباب العربي، وانتهت بشائر الربيع العربي بالشكل المفجع الذي انتهت إليه، مقابل ظهور تنظيمات متشددة، مثل تنظيم الدولة الإسلامية، وسواه.

إنها أسئلة برسم الفكر السياسي، الذي غاب عن مشهده كتابات تستخدم مفاهيم وتجارب تاريخية أكثر عمقا لشرح انتكاسات ثورات وانتفاضات الربيع العربي، وإعاقتها في تحقيق التغيير المنشود.

مواقف الغرب

غير أن أسئلة كثيرة تطرح حول مواقف الدول الغربية من ثورات الربيع العربي، وتمتد تلك الأسئلة، لتطال حقيقة وجدية المواقف السياسية المعلنة التي بدت في الظاهر داعمة لمطالب الشعوب في الحرية، والخلاص من الاستبداد المقيم في التربة العربية.

وقد افترقت تلك المواقف حين أجهضت الثورات في أكثر من بلد عربي، الأمر الذي أثار شكوكا، حول أسباب إحجام دول الغرب عن اتخاذ مواقف حازمة، كتلك التي اتخذتها حيال ثورات شعوب أخرى، وخاصة في دولة المنظومة الاشتراكية، والثورات الملونة، الأمر الذي يطرح مسألة اختلاف المعيارية في المواقف حول القيم والقضايا الدولية، وخصوصا في جانبها الأخلاقي والإنساني

وكذا أيضا عن أسباب عدم تفعيل دور ومهام الأمم المتحدة وهيئتها، ومنها مجلس الأمن الدولي، في حفظ السلام العالمي، والدفاع عن حقوق الإنسان، خاصة في الحالة السورية، حيث تتعرض غالبية الشعب السوري، أمام مرأى العالم كله وسمعه، لجرائم ومجازر متنقلة وممنهجة، منذ أكثر من أربع سنوات.

ولم يكترث الغرب وساسته إلى تحذيرات عديدة، أطلقها مفكرون وباحثون كثر، وكانت تقول علنا إن تحت كل قذيفة أو صاروخ أو برميل متفجر، يطلقه نظام الأسد على المدنيين وأماكن سكناهم، سيُولَدُ متطرف، أو ناقم على كل المتسلطين والمتخاذلين.

كما لم يجد الغرب ذريعة لمواقفه سوى إلقاء اللوم على بروز الجماعات المتطرفة، حيث راح ساسة الولايات المتحدة الأميركية يسوقون مقولة تبريرية، تفيد بأولوية الاستقرار على العمل لتحقيق مطالب الناس في الحرية والديمقراطية، وسواهما، وانصب جل تركيزهم وجهودهم على أولوية محارب الإرهاب، بل وحشدوا له تحالفا دوليا، قادته الولايات المتحدة.

وجرت عمليات تسويق كثيرة للحرب على الإرهاب، بينما هو في حقيقة الأمر ظاهرة سياسية، خضعت لتشويه وتحريف كبيرين، وتغايرت عمليات توظيفه واستثماره تاريخيا بتغاير المراحل والأقاليم المعرفية والسياسية.

وفي نفس الدائرة، التي ركزت على أولوية محاربة الإرهاب ومركزيتها، ذهبت مواقف دول الاتحاد الأوروبي، مع اقترانها بكثير من التردد والتبعية بالرغم من أن الثورات العربية رفعت القيم الفرنسية، وسائر ثورات العالم الحديث.

وشجعت مواقف الولايات المتحدة، ودول أوروبا الغربية، الساسة الروس وملالي إيران والصينيين وغيرهم على اتخاذ مواقفهم المتشددة، والمناهضة لمطالب الشعوب العربية، في الحرية والتعددية والدولة المدنية وسواها، بل أظهرت الأحداث أن الغربيين مرتاحون لدور الإعاقة والممانعة الروسية في مختلف المحافل الدولية، والسبب هو أن حسابات الدول الغربية تأخذ بعين الاعتبار حسابات المصالح، ومدى تأثير أي أزمة دولية على أوضاعهم الداخلية، وخاصة الحسابات المتعلقة بالانتخابات واستطلاعات الرأي وسواها، وتحسب حكوماتهم ألف حساب لأمن ومصالح إسرائيل، قبل كل شيء، في منطقة الشرق الأوسط.

هذا إضافة إلى أن مصالح الدول الغربية لم تكن مهددة بشكل حقيقي، والضاغط الأخلاقي لا يدفع وحده الساسة الأوروبيين إلى اتخاذ مواقف حازمة وحاسمة، كما فعلوا حيال العراق وأفغانستان ويوغسلافيا السابقة وسائر دول البلقان.

الانعكاسات

ليس من المبكر القول إن هجمات باريس ستكون لها تأثيرات عميقة على فرنسا، والمجتمع الفرنسي بشكل خاص، وعلى دول أوروبا بشكل عام، بوصفها نقطة تحول في التطور السياسي والاجتماعي، حيث ستنتج ردات فعل أولية، تذهب في اتجاه تنمية الحس العنصري، والنزعات التميزية الشوفينية، والتي تجد مولداتها لدى مختلف حركات اليمين المتطرف وممارساته.

وسيكون اللاجئون السوريون، على وجه الخصوص، أول ضحاياها، إضافة إلى المهاجرين والمسلمين الأوروبيين، ذوي الأصول العربية، لكن ذلك لن يسود طويلا، ولن يعفي العقل الأوروبي من القيام بالمراجعات المطلوبة، وأولها ضرورة العمل على وقف المذابح والحروب في المنطقة العربية، والاعتراف بأن من حق الإنسان العربي: أن يتشارك بالقيم الإنسانية الكونية، وأولها الحرية والمواطنة والتعددية وسائر حقوق الإنسان، بوصفه إنسانا.

وقد جربت حكومات الغرب طوال عقود مديدة الوقوف إلى جانب الطغاة والمستبدين من أجل الحفاظ على مصالحها وأطماعها، وآن لها أن تنحاز إلى جانب الشعوب العربية، وحقها في العيش الكريم، وأن تدرك بأن الإنسان العربي، مثله مثل غيره من الناس، من حقه التطلع إلى الخلاص من الاستبداد والقمع والعسف والمهانة، والتطلع إلى حياة حرة وكريمة.

وسيكون من الخطأ اعتماد لغة الحرب وسيلة لحماية أمن الدول، خاصة بعد الفشل الأميركي والأوروبي في هزيمة تنظيم الدولة، وقبله القاعدة، ذلك أن أي مقاربة أمنية أو سياسوية سيكون مصيرها الفشل.

ولعل الأجدى هو الالتفات إلى عمق المسألة وجذورها، خاصة وأن الثورات العربية طرحت عددا هائلا من الأسئلة ذات البعد المعرفي بل الفلسفي الذي يتطلب العمل عليها جهدا مديدا، كالعلاقة بين الدين والسلطة، وبين جماعات الإسلام السياسي واستخدامها الدين كرافعة للظفر بالسلطة، إلى جانب مسائل الأقليات والأكثرية والمذاهب والأديان والأعراق.

ولعلها المرة الأولى في تاريخنا، التي شهدت انتفاضات وثورات شعبية، طرحت وعود ربيع عربي لم يكتمل، بل تحول إلى خريف مبكر، وكان لسياسات الغرب ومواقفه دور هام في ذلك التحول.

الجزيرة نت

 

 

 

 

حروبكم، قتلانا/ جوليان سالانج

ترجمة: أيمن الزعتري

«نحن» لسنا في حالة حرب، هذه ليست حربي، هذه ليست حربنا، هذه حربكم، ومرةً أخرى، هؤلاء قتلانا.

«نحن» لسنا في حالة حرب، هذه ليست حربي، هذه ليست حربنا، هذه حربكم، ومرةً أخرى، هؤلاء قتلانا.

نُشِرَ هذا المقال للكاتب الفرنسي جوليان سالانج في الرابع عشر من الشهر الجاري، أي اليوم التالي للهجمات الدموية في باريس. جوليان سالانج هو كاتب وناشط وعضو في حزبٍ مناهض للرأسمالية في فرنسا، وسبق له أن كتب مقالاً في الاتجاه ذاته في أعقاب الهجوم على مقر جريدة شارلي إيبدو مطلعَ العام الجاري.

فيما يلي ترجمة للنسخة الانكليزية من هذا المقال.

*****

شظايا

أولئك الذين قُتلوا في الليلة الماضية هم قتلانا. في شرفة مطعم، في حانة، في الشارع، في قاعة الحفلات الموسيقية، هم قتلانا. قُتلوا لأنّ الإرهابيين قرّروا أن يضربوا في وسط باريس، وأن يطلقوا النار على حشدٍ بهدف تخليفِ أكبر عددٍ ممكن من الضحايا.

الحادية عشر والنصف مساءً

ساركوزي يظهرُ على شاشة التلفاز ليعلن: «نحن في حالة حرب». للمرّة أولى أتّفق معه، هم في حالة حرب، أنتم في حالة حرب، أنتم: ساركوزي، هولاند، فالس، كاميرون، نتنياهو، أوباما. أنتم في حرب، أنتم وحلفاؤكم السياسيين، أنتم وأصدقاؤكم الذين يمتلكون الشركات المتعدّدة الجنسيّات، وقد سحبتمونا إلى هذه الحرب دون حتى أن تأخذوا رأينا. أفغانستان، العراق، ليبيا، مالي، سوريا.. لم يكن عدد الذين احتجوا منّا كبيراً، ولم ننجح في إقناع ما يكفي من الناس بأن هذه الحملات العسكرية ستجلبُ أكثر من أي وقت مضى مزيداً من انعدام الاستقرار والعنف والمآسي، هناك، وهنا. لأن الحرب لم تبدأ الليلة الماضية، ولم تبدأ في كانون الثاني مع عمليات القتل في مجلة «شارلي إبدو»، ولا في محلّ المأكولات المطبِّق للتعاليم اليهودية «Hyper Cacher».

في كانون الثاني، كتبتُ التالي:

أحدُ أسبابِ الصدمة التي ضربَت قطاعات واسعة من السكان، بما في ذلك دوائر النشطاء اليساريين، هو «إعادة» اكتشاف هذه الحقيقة: نعم، فرنسا في حالة حرب. حربٌ لا تقولُ اسمها، حربٌ لم تُناقَش في المجالس الحكومية أو في وسائل الإعلام، ولا يُتحدَّثُ عنها في المجال العام، حربٌ ضد أعداء لا يتم غالبًا تحديدهم، حربٌ غير متكافئة، ولكنّها حرب. عملياتُ القتل الأخيرة، التي حدثت بأكثرِ الطُرُق وحشية، أضاءَت على هذه الحقيقة، عند أولئك الذين لا يعرفون، أو أولئك الذين رفضوا أن يروا، أو أولئك الذين نسوا. فرنسا في حالة حرب، حرب تخلّف الإصابات، وهذه الإصابات لا تقع دائماً فقط في منازل عدوك. من تحارب فرنسا؟ وفقاً لمختلف الخطابات والتغطية الإعلامية، فإنّ فرنسا في حالة حرب ضد «الإرهاب الدولي»، ضد «التيّار الجهادي»، ضد «الهمجية الأصولية»… إلخ. لن أناقشَ هذه التسميات غير الدقيقة والتعميمات المسيئة التي تنطوي عليها، ولا المفارقات التي تقوم عليها (تحالفاتٌ على أسس هندسيّة غير مستقرة، ودعمٌ للأنظمة التي تدعم تطور التيارات «الجهادية»، والمشاركة في التدخلات العسكرية التي تعزز هذه التيارات، وما إلى ذلك). من الكافي التأكيد أن فرنسا، في الواقع، حذَت حذوَ جورج بوش والولايات المتحدة بعد 11 أيلول 2001، في خطابِ وسياسة «صراع الحضارات»، حتى إن لم يكن يُقال ذاك دوماً بصوت عالٍ، لقد كانت فرنسا في حالة حرب لما يقربُ من أربعة عشر عاماً من دون أن تقول ذلك. 1

لا أجد داعياً لتغيير سطر واحد في هذا المقتطف، ولا أقصدُ من المحافظة عليه أي ازدراءٍ للضحايا أو لأقاربهم.

كل العواطف، والنقمة، والألم، مشروعةٌ وبديهيّة. وأفعال القتلة التي أزهقت الليلة الماضية مئات الأرواح، بل دمّرت آلاف الحيوات، أفعالٌ لا تُغتفر.

منتصفُ الليل

داعش تعلن مسؤوليتها، على ما يبدو، داعش أيضاً في حالة حرب. وفقاً لوكالة فرانس برس، ونقلاً عن شاهد عيان في مسرح باتاكلان، صاح واحدٌ من القتلة: «إنه خطأ هولاند، إنه خطأ رئيسكم، لم يكن يجب أن يتدخّل في سوريا». يمكن للمرء دائماً أن يُغمض عينيْه وأن يصمّ أذنيه، وأن يتوه في دخان خطاب عدم تسييس «الإرهاب الأعمى» في إكراهٍ يتعذّر تفسيره. لكن القتلة في باريس ليسوا «سُذّجاً» بائسين لا يتحملون أي مسؤولية عن أفعالهم، ولا هم مُتلاعَبٌ بهم من قبَل أجهزة -استخبارات- لا -أعرف- ماهيتها. في الساعات والأيام القادمة، سنعرفُ عنهم أكثر، وليس هناك من شكٍّ أنّهم سيملكون بروفايلاً وخطاباً مماثلاً تقريباً لخطاب سعيد وشريف كواشي، وأميدي كوليبالي، الذين نفذوا هجمات كانون الثاني، والتي كتبتُ عنها في الشهر نفسه ما يلي: للقتلة خطاب (أنظروا مقابلاتهم وأشرطة الفيديو، التي تتحدث عن سوريا والعراق، والجرائم التي يتعرض لها المسلمون على يد فرنسا والعالم عامةً، وما إلى ذلك)؛ لديهم نظرية خاصة بهم (لاحظوا المقال الذي نشره موقع «ميديا بارت»)؛ لديهم وجهات نظرهم التنظيمية المرجعية الخاصة (الدولة الإسلامية، تنظيم القاعدة في جزيرة العرب). في اعتقادهم، وبشكلٍ عقلاني، أنهم في حالة حرب مع فرنسا محدّدة، وهم ينظرون، بعقلانية، إلى أنفسهم كمنخرطين في دفاعٍ مشروع. أنظروا إلى هذا البيان الذي أعطاه كوليبالي في شريط فيديو نُشِرَ بعد وفاته: تهاجمون الخلافة، تهاجمون الدولة الإسلامية، سنهجم عليكم، لا يمكنكم الهجوم وتوقع أن لا يحدث شيئًا في المقابل.

نعم. داعش منخرطة في السياسة، هم قتلة، لكنّهم سياسيّون. الليلة الماضية ضربوا بقوة، بقوة جداً.

كانت ضربةً عمياء؟ نعم ولا.

نعم، لأنها تستهدف أناساً لا يشاركونَ مباشرةً في هذه الحرب، أناسٌ كان جُرمُهم الوحيد وجودهم في المكان الخطأ في الوقت الخطأ، أناسٌ كان يمكن لهم أن يكونوا في مكانٍ آخر فيظلوا بعدها بيننا اليوم.

نعم. داعش منخرطة في السياسة، هم قتلة، لكنّهم سياسيّون. الليلة الماضية ضربوا بقوة، بقوة جداً.

ولا، لأن الضرب بمثل هذه الطريقة هو رسالةٌ مفادها: «بلدكم في حالة حرب معنا، وطالما استمرت هذه الحرب، فإن أيا منكم لن يكون آمناً». هذه هي السياسة، إنها كريهة، ولكنها سياسة. نحن نعيش في عالم في حالة حرب، روسيا وفرنسا والولايات المتحدة يقصفون سوريا، المملكة العربية السعودية تقصف اليمن، «العمليات» الفرنسية تستمرّ في مالي، أوباما أعلن للتو أن القوات الأمريكية لن تغادر أفغانستان، وفقاً للمفوّضية السامية لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة، فإن أعداد اللاجئين والمشردين داخلياً لم تبلغ رقماً كهذا قبل اليوم، وليس هناك ما يدعو للاعتقاد بأن الأمور ستتحسن في أي وقت قريب.

الإجمالي، اعتباراً من هذه اللحظة، هو 128 قتيلاً، 128 عددٌ كبيرٌ جداً.

128 قتيلاً في 13 نوفمبر 2015، هذا يقاربُ متوسط عدد القتلى اليومي في سوريا منذ آذار 2011. نعم، ما يقربُ من المتوسط اليومي، 250000 قتيلاً منذ آذار 2011، حوالي 4500 حالة موت شهرياً، ما يقربُ من 150 قتيلاً كل يوم.

هذا قد يفسر بعض الأشياء لمواطن يقول إنه لا يفهم لماذا يفرّ السوريون إلى أوروبا منذ أكثر من أربع سنوات ونصف، هناك 13 نوفمبر كل يوم في سوريا. والأسد، حليفكم الجديد، هو الذي يتحمل المسؤولية الأساسية عن هذا الموت، بقمعه الوحشي لانتفاضة سلمية.

نعيشُ في عالم في حالة حرب، وهذا يسمحُ لبعض الناس أن يزاولوا تجارتهم.

مبيعاتُ الأسلحة: 2015 كانت سنةً قياسية في فرنسا.

فرنسا تهنئ نفسها على مبيعاتها العسكرية لمصر، فرنسا تهنئ نفسها على مبيعاتها العسكرية للمملكة العربية السعودية، فرنسا تهنئ نفسها على مبيعاتها العسكرية للإمارات العربية المتحدة. وبالرغم من ذلك فإنّ فرنسا متفاجئة، ساخطة، وتحتجّ على كونها قد صارت هدفاً.

النفاق، الجبن، الأكاذيب.

لقد أفرجوا عن كلاب صيد مغرغرة الأفواه.

لوران فوكز، الذي شغلَ منصب وزير التربية والتعليم العالي عند ساركوزي، غرّد قائلاً: «أطالبُ بأن يوضع 4000 شخصٍ مشتبهٍ فيهم بالإرهاب في مراكز الاعتقال #AttaquesParis ».

ليونل لوكا، العضو المحافظ في الجمعية الوطنية، غرّد: «الليلة باريس هي بيروت، منطقُ العد على الطريق المؤدية إلى اللبننة. سندفع ثمناً باهظاً لجبننا في مواجهة الطائفية».

فيليب دي فيلير، العضو الفرنسي المحافظ في البرلمان الأوروبي، غرّد: «دراما رهيبة في باريس، أدى إليها التراخي و«مسجدة» فرنسا».

علينا أن نتذكر هذه البيانات.

بالعودة إلى ما كتبتُه في كانون الثاني: أي قمع، أو وصم أو ردٍّ أعمى يغفلُ الحقائق الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في فرنسا 2015، مصيرهُ الفشل، ولكن الأهم من ذلك، أنه سيكون مجرد خطوة أخرى نحو قتلٍ جديدٍ غداً.

وها نحن هنا، بانَ أنّ الغد كان الليلة الماضية.

الواحدة صباحاً

جانَ كريستوف كامباديليه، السكرتير الأول للحزب الاشتراكي الذي يتبع له هولاند، يعلنُ أن «فرنسا عانَت للتو من عمل من أعمال الحرب». يستمرّون بالقول ويكرّرون أنّ فرنسا في حالة حرب، لكنّهم عندما يقولون ذلك، يقصدون التاكيد أنّ «نا» في حالة حرب.

«نا» (هم) يريدون عبرها توريط «نا».

فرنسا تهنئ نفسها على مبيعاتها العسكرية لمصر، فرنسا تهنئ نفسها على مبيعاتها العسكرية للمملكة العربية السعودية، فرنسا تهنئ نفسها على مبيعاتها العسكرية للإمارات العربية المتحدة. وبالرغم من ذلك فإنّ فرنسا متفاجئة، ساخطة، وتحتجّ على كونها قد صارت هدفاً.

كلا، أربعة عشر عاماً من حربكم جلبَت فقط المزيد من العنف والمآسي، والحروب الجديدة في أصقاع العالم. لو لم يتهدّم العراق، لم تكن داعش لتُخلَق. شاعرُ القرن التاسع العشر الفرنسي العظيم بول فاليري كتب مرّة: «حرب: مجزرة يذهب ضحيتها أناس لا يعرفون بعضهم بعضاً، من أجل أن يحقق ناس آخرون يعرفون بعضهم بعضاً ولكن لا يقتلون بعضهم، الأرباح».

لقد كان على حق، هم دائماً الأشخاص أنفسهم الذين يشعلون النار. وإذا كنّا نريد لهذه النار أن تتوقّف، علينا بعد أن تخفت الصدمة، أن نفعل كل ما بوسعنا لوقف هذا الاندفاع المتهور نحو الهمجية التعميميّة. لم يَفُت الأوان بعد، لا يزالُ هناك متسعٌ من الوقت للقيام بشيء مختلف، مختلف اختلافاً جذرياً، يمكننا رفض زجرهم لنا: «معنا أو مع الإرهابيين». يمكننا رفض نداءات الوحدة مع الجلادين ودعاة الحرب الذين يبنون يوماً بعد يوم عالماً أكثر همجيّة. يمكننا رفض عالمهم القائم على أساس الاستغلال والسرقة والعنف والظلم وعدم المساواة والبؤس، وبدلاً من ذلك، يمكننا أن نصطفّ جنباً إلى جنب مع هؤلاء الذين يجب أن نتحدَّ معهم.

لنكافح من أجل عالم آخر، عالم ليس ممكناً فحسب، ولكنه ضروريٌ أكثر من أي وقت مضى. فلنواصل المسيرة دون أن نتنازل لضغوط المشاعر والصدمة، قد تتهمونني بأن ما أقوله حالمٌ، لكن أحلامي لم تقتل أي شخص، بعكس «براغماتيتكم».

أكثر من أي وقت مضى، علينا «مقاومة الذي لا يُقاوم»، هذا هو السبيل الوحيد للمضي قدماً. لذلك… لا.. كامباديليه، لا.. ساركوزي، لا.. هولاند، «نحن» لسنا في حالة حرب، هذه ليست حربي، هذه ليست حربنا، هذه حربكم، ومرةً أخرى، هؤلاء قتلانا.

تماماً مثل مدريد عام 2004، ولندن في عام 2005، ومصر قبل أسبوعين، وبيروت هذا الأسبوع، في كل مكان، بذرتم رعبكم، حروبكم، قتلانا.

إنها حربكم أنتم، لا أكثر.

موقع الجمهورية

 

 

 

 

 

الإرهاب يدين الجميع/ علي حرب

عندما أنهيتُ مقالتي عن سياسة العالم وأحواله في العدد السابق من “الملحق”، بقولي: “سوف يعمّ الإرهاب العالم”، خشيتُ أن أكون قد بالغتُ في التوصيف والتشخيص. ثمّ أتت التفجيرات الصاعقة التي هزّت لبنان وفرنسا والعالم، سواء في ضاحية بيروت، أو في فرنسا وضاحيتها، لكي تشهد على أن ما قيل كان في محله من حيث قراءة المعطيات واستباق التطورات. ما حصل لم تعد تفي بوصفه الكلمات. فلسنا أمام أيلول لبناني، ولا أمام أيلول فرنسي، وخصوصاً أن العبارة قد استُخدمت لوصف التفجيرات التي استهدفت باريس في كانون الثاني المنصرم.

إننا نحتاج الى مصطلحات جديدة، لأن الإرهاب يدخل في طور جديد. لم يعد مجرّد خلايا نائمة لا وجه لها ولا اسم أو لا مكان ولا مسرح. إنما أصبح له أرضه ودولته، وله مشروعه ومؤسساته وشبكاته. وهو لا ينفكّ يطوّر أساليبه ويتفنّن في أعمال القتل وسفك الدماء بالحرق والذبح واستخدام العبوات المفخخة أو الأحزمة الناسفة لتفجير الأجساد وتحويلها الى أشلاء.

لذا، فما حصل في فرنسا هو “حرب” حقيقية كما وصفها الرئيس فرنسوا هولاند. وهي تشهد على فشل التحالف الدولي في محاربة الإرهاب الذي تتعاظم قدراته ويزداد انتشاراً، بعد كل غزوة بربرية، وسط ذهول العالم وصدمته. هذا، إلا إذا كانت الدول الكبيرة والقوى الفاعلة تعلن شيئاً وتفعل عكسه. عندها تكون الطامة الكبرى. في كل حال، ما يحصل منذ سنوات يدين الجميع، إذ لكلٍّ ضلعه في النشاط الإرهابي. والكل يحصد ما يزرع، الساكت كما العاجز، والمتورط كما المتواطئ. أما الأكذوبة فهي أن مصنّع الإرهاب ومصدّره هو الذي يدّعي محاربته.

ضحايا الذاكرة

في ما يخصّ لبنان، أتجاوز اللاعبين على المسرح من أصحاب الدعوات والمشاريع؛ كما أتجاوز الذين يقفون في هذا الخندق الإيديولوجي أو في ذلك المعسكر السياسي، لكي يتمترسوا وراء عقائدهم البربرية ونصوصهم الجهنمية وهوياتهم المريضة، لكي أتحدث عن الشريحة الصامتة من اللبنانيين التي لا يقف أفرادها في الصف، وسط القطيع، لكي يهددوا ويتوعدوا أعداءهم في الدين أو في السياسة. أتحدث إذاً، عمّن تجمعهم الشراكة في الوطن والإنسانية، كما تجمعهم هموم الحياة ومشاغلها، أو أفراحها ومباهجها، في الحي والسوق أو في المدرسة والجامعة أو الإدارة والشركة، فضلاً عن النادي والملعب أو المقهى والملهى، وسواها من أماكن العيش المشترك ومؤسساته وفضاءاته.

هؤلاء هم الذين تدور عليهم اللعبة، بقدر ما هم ضحايا العصبيات الفاشية والثارات التاريخية، التي يحاول مثيروها ومطلقو شعاراتها فبركة أعداء، بنبش الذاكرة الموتورة وتوظيف التراث بصورة سلبية عدوانية، تثمر ثمارها المدمّرة صناعةً للحرب الدائمة التي يريدون خوضها على كل ساحة وفي كل يوم. النتيجة أن تفاجئهم الحرب في عقر دارهم، ومن حيث لا يحتسبون ولا يتدبرون.

فمتى يستيقظ اللبناني من كهوفه الطائفية ويتحرر من ارتهانه للمشاريع الخارجية؟ متى يتعقل لكي ينخرط في بناء التسوية مع شركائه في الوطن واللغة والمصلحة؟! أقصد التسوية الجادّة والصادقة التي تشكّل خريطة طريق لوقف النزاعات الدائمة، وليس التسوية الخادعة والمفخخة، التي هي مجرد هدنة هشة تنتظر ساعة الانفجار، عند تغير الموازين والمعادلات في الميدان وعلى أرض الواقع.

فرنسا واللغم الإسلامي

في ما يخص فرنسا، يتداعى الى الذهن سؤال مركزي بل وجودي: ما الذي فعلته الإعتداءات في نفوس الفرنسيين الذين كانوا يتهيأون لاستقبال أعياد الميلاد ورأس السنة، قبل أكثر من شهر من مواعيدها، على ما هي عادتهم كشعب يحتفي بما تستحقه الحياة من الحب والشغف أو الأنس والفرح أو اللهو والتذوق والإستمتاع؟!

من هنا سوف تترك المذبحة المروعة أثراً عميقاً لدى الفرنسي يطال عقله ووجدانه وذاكرته ومشاعره. نحن إزاء هزة كيانية تعرضت لها فرنسا تضعها أمام تحدٍّ مصيري. ما أعتقده أنها ستتغيّر على نحو جذري، ولن تعود كما كانت عليه. بل هي أصلاً كان عليها أن تتغير بعد مجزرة “شارلي إيبدو”. لكنها لم تفعل ذلك، لكونها باتت مقيّدة، عاجزة، بل ممزقة بين كتلها وتياراتها وأحزابها السياسية والثقافية والمجتمعية: بين اليمين واليسار، بين الجمهوري والإشتراكي، بين الجبهة الوطنية والقوى الديموقراطية. باختصار: بين دعاة السيادة والحفاظ على الهوية النقية، وبين ذوي النزعة العالمية من دعاة الإنفتاح وممارسة الهوية الوطنية بصورة عابرة للحدود.

لكن فرنسا ستجد نفسها الآن مجبرة على مواجهة التحدي ومعالجة المشكلة المزمنة، بتغيير سياستها واستراتيجيتها وطريقتها في إدارة الشأن العام، في ما يخص مشكلات السيادة والهوية والهجرة والأقليات، وخصوصاً في ما يتعلق بوضع الطائفة الإسلامية التي باتت أشبه بلغمٍ يهدد وحدة المجتمع الفرنسي.

وأنا، فيما اشارك في المناقشة العالمية الدائرة حول الإرهاب، الذي بات آفة تهدد الأمن العالمي ومعالم الحضارة البشرية، أوجز قراءتي للحدث، بدلالاته ومفاعيله، في النقاط الآتية:

* من الطبيعي أن الإجراءات والتدابير الأمنية الإحترازية، التي سوف تتخذها السلطات الفرنسية، ستكون شديدة ومضاعفة الى أقصى الحدود. لكن ذلك لا يعني أن تتحول فرنسا الى دولة بوليسية أمنية، إذ بذلك تحقق غرض الإرهابيين لتصبح على شاكلة دولنا العربية الديكتاتورية أو الفاشية.

* يجدر بفرنسا العلمانية، الجمهورية، الديموقراطية، المدنية، أن لا تتراجع أمام ما تمارسه بعض مكوّناتها الدينية أو أطيافها السياسية، من الإبتزاز والإرهاب، تحت هذا الشعار أو ذلك. مثل هذا التراخي هو الذي أوصل الى هذا الإنفجار الكبير.

* سوف تحتل الهوية الفرنسية صدارة الإهتمامات والمشاغل، لكي تتراجع الهويات الفرعية. فالأمر يتعدى القضايا والمطالب والمخاوف الخاصة بهذه الطائفة أو تلك المجموعة. المسألة هي أكبر من الجميع، لأنها تعني الجميع، بوصفها قضية مصيرية. من هنا أعتقد أن قضية اليهود، التي كانت في رأس الأولويات سوف تهوي من أعلى السلم، لتنتهي فزّاعة المعاداة للسامية، التي استخدمها الأخطبوط اليهودي طوال عقود لقمع الناس وترهيبهم.

سقوط الرهان

* سقوط الرهان على المصالحة بين الإسلام والحداثة، كما كان يأمل أو يدعو كثر من الفرنسيين، بمن فيهم الفرنسيون الآتون من دول المغرب العربي. فلا وجود لإسلام وسطي معتدل، كما لا معنى للكلام على “إسلام من دون خضوع”. فالإسلام تمثله اليوم العقائد المغلقة والتيارات المتطرفة والمنظمات الإرهابية، كما ينطق باسمه ويجسده ثلاثة فاعلين: فقيه يشرّع وداعية يكفّر وجهادي يقتل وينفذ.

* مسؤولية المسلمين الفرنسيين هي مضاعفة، من حيث المساهمة في معالجة المشكلة المستعصية، فهم لم يحسنوا التكيف مع مجتمعهم الجديد، بل نقلوا اليه مجتمعهم الاصلي بعقائده وقيمه وطقوسه وعاداته. هكذا، طالبوا بحقوق انتزعتها الدولة الفرنسية من الكنيسة، وتعصبوا لهويتهم الدينية في بلد علماني مدني طلّق أهله الأديان، وظنّوا انهم آتون الى الفردوس وما هو كذلك بالنسبة إلى الفرنسيين. حتى مساحة الحرية التي تتميز بها فرنسا، حاولوا استغلالها لكي يغلّبوا أوامر النص ومنطق العبودية على قيم العقل والحرية.

* من هنا تأتي مسؤولية المسلمين في البلدان العربية، ممن يستنكرون ما يتعرض له، في رأيهم، “أخوانهم” في الدين من التمييز والإقصاء أو الإضطهاد. فهم غير مهيئين للدفاع عن حريات أو للمطالبة بحقوق لا يمارسونها أو يؤدونها في مجتمعاتهم، بل هم لا يحسنون سوى إنتهاكها. فنحن لسنا أهلاً لنؤستذ على الفرنسيين والأوربيين، وسط هذه الحروب التي يقتل فيها الأخ أخاه. يكفي شعوذة وتشبيح باسم القرآن والإسلام. لندع المسلمين الفرنسيين يبنون علاقتهم مع مجتمعاتهم الجديدة، وفقا لقيم الإعتراف والتداول أو الشراكة والتبادل، فضلاً عن قيم الحرية التي لا يعترف بها الدعاة المسلمون حيث يحكمون أو يسيطرون.

إصلاح الأمم المتحدة

* لن تفلح محاربة الإرهاب بالعقليات والأدوات التي سادت منذ نهاية الحرب الكونية وفي مرحلة الحرب الباردة.

وإذا كانت حرب المنظمات الإرهابية على فرنسا، قد هزّت العالم وتركت أثرها في كل مكان، وبخاصة في العالم الغربي، لكي تجعل الجميع يشعرون بالخطر المحدق، فمعنى ذلك أن محاربة الإرهاب، ومن يقف وراءه، تحتاج الى إحداث تغييرات بنيوية تطال هيئة الأمم المتحدة التي يجدر بها أن تعيد النظر في سياستها وطريقة معالجتها للمشكلات العالمية والكوكبية، لكي تعيد بناء نفسها وتطوّر مؤسساتها ومواثيقها، بحيث تتوقف عن كونها شاهد زور لتصبح مؤسسة فعالة.

أخصّ ما يمكن مراجعته هو حق التدخل الكوني، لوقف حروب الإبادة أو لمعاقبة من يرتكبون جرائم في حق الإنسانية، أكانوا من زعماء الأنظمة الديكتاتورية أم من أمراء التنظيمات الإرهابية. بكلام أوضح: لن تنجح محاربة الإرهاب، في ظل خرق القوانين والمواثيق واعتماد معايير مزدوجة في التعامل مع الطغاة والمجرمين وبرابرة الإرهاب.

* في ما يخص العالم العربي الذي هو بيت الداء وأصل العلة، لا فرق بين ملاك الله وملاك الأوطان، أي بين المرشد والطاغية. فهما عدوّان متواطئان ضد الشعوب العربية. كلاهما عمل على تخريب الثورات العربية التي بدأت بدايات سلمية، مدنية، كما شهد العالم كله. هكذا كلاهما يحتاج الى دعم الآخر ويتغذى منه، كما تشهد التجارب في سوريا والعراق واليمن. فالطاغية يطلق الإرهابي من سجونه، والإرهابي لا يعمل إلا لخدمة الطاغية، كما تشهد العلاقة بين “داعش” والنظام السوري، وكما اعترف، بعد فوات الأوان، وزير الخارجية الأميركي جون كيري.

من هنا، فالحرب على الإرهاب هي حرب مزدوجة، ضد الأنظمة الديكتاتورية والمنظمات الإرهابية في آن واحد. وإذا كانت فرنسا، بعد الهجمة الإرهابية الأخيرة، ترى أن الأولوية هي الآن لمحاربة “داعش”، فإنها بذلك تصلح الخطأ بارتكاب خطأ مضاعف، ستكون أثمانه باهظة.

باختصار، إن الحرب على الإرهاب تحتاج الى صوغ مفاهيم ومواثيق جديدة، بعد كل هذه الإساءات إلى حقوق الإنسان والإنتهاكات المتواصلة للحريات الديموقراطية والحقوق المدنية. هذا يحملنا على إعادة النظر في الصور والنماذج والقيم التي نصنع بها عالمنا الإنساني. فلعل إنسانيتنا هي فضيحتنا ومصدر مصائبنا وكوارثنا.

النهار

 

 

 

 

 

 

رسالة إلى الرئيس فرنسوا هولاند/ راجح الخوري

عندما أعلن جورج بوش الحرب على الإرهاب بعد غزوة نيويورك، أصدر الفاتيكان بياناً دعاه فيه الى عدم جعل الحرب مدخلاً يمكن ان يؤدي الى تدمير قيم الحضارة والحرية وحقوق الإنسان التي قامت عليها اميركا.

سيدي الرئيس، تحتاج فرنسا اليوم وكل الدول الأوروبية، التي تشتعل بالغضب بعد الهجوم البربري الذي تعرضت له باريس، والذي من حق كل مدينة غربية ان تتخوف من ان تكون هدفاً لجرائم وحشية مماثلة ينفذها تنظيم “داعش”، الى إستلهام المغزى المهم والعميق لبيان الفاتيكان في ذلك الحين.

نعم سيدي الرئيس، تحتاج كل أوروبا على مستوى قياداتها الى إستلهام ذلك البيان، لسبب جوهري يوازي في أهميته ضرورة العمل على خنق “داعش” وإستئصال عناصره وخلاياه القاتلة المجرمة والنائمة، وذلك لمنع هذا التنظيم المتوحش من ان يضع نظرية صموئيل هنتنغتون عن “صراع الحضارات” على نار الغضب المتأجج، بما يكون لمصلحة المتوحشين وضد الحضارة والإنسانية التي طالما شكّلت فرنسا محيطها التاريخي الأمين.

ان الحديث عن ان التنظيم يمكن ان يستعمل أسلحة كيميائية ليس مستغرباً، بعد ما إرتكبه من عراضات دموية مرعبة، لكن يجب بالضرورة على الحكومات الغربية ان تعالج وتطفئ الغيظ والذعر المتصاعدين في أوساط اليمين الأوروبي الذي يوسّع مساحاته في المجتمع، الى درجة يمكن ان تصيبه بعدوى العنف المتهور، الذي يمكن ان يؤدي الى قيام مضايقات عنفية غير مبررة، وتعديات إنتقامية عشوائية على الجاليات الإسلامية في المجتمعات الغربية، بما فيها اولئك الذين يحملون جنسيات البلدان التي نزحوا أليها او حتى ولدوا فيها، والذين يطالبون بدورهم بالقضاء على “داعش” والتنظيمات الإرهابية، بحماسة تتجاوز بالتأكيد حماسة المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها.

سيدي الرئيس، من الضروري طبعاً ان تتخذ فرنسا وكل الدول الأوروبية الإجراءآت التي تجدها ضرورية لحماية أمنها ومنع حصول جرائم مروعة جديدة يهدد الإرهابيون بتنفيذها، خصوصاً ان هذه الدول تعرف جيداً ان هناك مئات من مواطنيها وقعوا في حبائل “داعش” وإلتحقوا بوحوله الدموية في سوريا او العراق وقد عاد كثيرون منهم اليها كقنابل موقوتة.

ولكن من الضروري وبالمقدار عينه ان تسهر أوروبا جيداً، وهي قارة الديموقراطية والحضارة، على منع هذا الغضب والذعر المتناميين في أوساط اليمين الغربي من تأجيج الكراهيات والأحقاد ضد الجاليات العربية والإسلامية داخل المجتمعات الأوروبية، لأن إنفجار مثل هذه الأعمال سيكون بالتالي لمصلحة “داعش” والإرهابيين، الذين يبنون نظريتهم المريضة على معاداة وكراهية الآخر والمجتمعات والديانات الأخرى.

سيدي الرئيس، تعرف أكثر منا جميعاً ان هذا دور فرنسا وقدرها وهذا بالتالي ما يساهم في إلحاق الهزيمة بالإرهابيين!

النهار

 

 

 

القتل كرهاً/ سناء الجاك

لا شيء يحرّك لابس الحزام الناسف إلاّ الكره. فالشخص الذاهب طوعاً الى موت شنيع له ولمن يحيط به، كتلة كره متفجرة. هو كائن مكروه وكاره. هذه المعادلة تزيّن له كبسة الزر التي تطيحه ومن يصدف انه يمر بجانبه.

المؤسف ان البيئة الحاضنة للكره المؤدي الى العنف والارهاب متوفرة وخصبة في غالبية الدول العربية، سواء بسبب الظلم والقمع والفقر والجهل او بسبب تسميم افكار من يعاني ويتيه عن المنطق المتوازن من خلال استخدام الدين بأسوأ الاساليب.

يرى البعض ان المتطرف الذي يقتنع بالوصول الى درجة الانتحار هو كائن مظلوم وحزين لم يعد يملك القدرة على الرضى فيكره حاله الراهنة، ويبحث عن ذات أخرى بطولية يحسب ان الطريق اليها ممكن من خلال كبسة زر تطيحه قبل ان تطيح من يحسب انه سبب مظلوميته وحزنه، والا لما كان يزهق هذه النفس بإرادة ذاتية مشوهة باستلاب وغسل دماغ.

لكن إذا اردنا مزيداً من الجرأة في المكاشفة، يعتبر متابع الحركات الجهادية ان في النصوص الدينية ما ينطبق على أساليب العنف الموصل الى استباحة حياة الآخرين بحجج يحاول المتطرف من خلالها تبرير فعل القتل. الدين في هذا المقام ليس الهدف انما الوسيلة التي تضع مساحيق تجميل إيمانية لفعل الارهاب والقتل.

الاصل يبقى الكره، فهو بوابة العبور الى العنف والارهاب لمن استطاع اليهما سبيلاً. فمن تتحكم به مشاعر انسحابية ونفور وعداوة، لا يجد خلاصاً الا في تدمير المكروه، أي ذاته وذوات من يعتبرهم كارهين له. وهو لا يهتم كثيراً اذا كان هذا المكروه مثله ضحية بيئة خصبة للكره المؤدي الى العنف والارهاب. وهو ايضا يصب كراهيته على من يعتبره عكسه تماماً، اي من يعيش في بيئة تقدم كل ما حُرم هو منه. وعوض تثمين هذه البيئة وتقديرها، ها هو يفجرها حقداً.

مفاعيل الإجحاف والاحكام المسبقة والتعصب والعنصرية، تحرك لابس الحزام او ناقل المتفجرات، او هو يعتبر انها أسباب موجبة لجرائمه.

بالطبع، يبرمج التحرك كل صاحب غرض يريد توظيف تداعيات العنف والارهاب لمصلحته، بمعزل عن الاثمان التي تدفعها الانسانية جراء ما يحدث.

هل يعني ما سبق ان الانتحاري او المتطرف قاطع الرؤوس او كل من يرتكب فعل الارهاب، هم ضحايا مجتمعات قمعية لا تعترف بحقوق الانسان، او انه غرسُ بيئة لا تتوانى عن تصنيف الآخر كافراً يستحق القتل؟ أم ان دورة العنف العالمية التي تروّجها أفلام العنف وحتى ألعاب الأطفال، هي الدافع لتشويه العالم واغتيال الانسانية؟

ليس الأمر بهذين التبسيط والتسطيح. ففي العمق، كل من يعتمد القتل بأي وسيلة سواءً انتحارية ام جهادية ام ارتقائية ام تحت أي شعار، هو جزء من عملية تدمير الانسانية. وفي العمق، يملك الانسان بغريزته قدرة على التفريق بين الخير والشر بالمطلق من دون ثقافة او تربية او توجيه. يعرف متى تؤذي افعاله ومتى تكون بناءة، والا لما كان يحتاج الى الدين او القومية او الى اي منظومة فكرية شمولية ليرتكب جرائمه، ويحتاج تحديداً الى مخدرات تقضي على وعيه عندما يتقاتل ويقتُل ويُقتل ليس لسبب يمس ارضه وحياته.

من يحركه الكره ليقتل، يعرف في زاوية من زوايا وجدانه ما يقترف، لذا يبقى التطرف في التاريخ حالات عابرة مهما تفاقمت وطالت تزول وتخمد، حتى يأتي أصحاب المصالح من الساعين الى النفوذ او غايات ومكاسب سياسية واقتصادية ليعيدوا إحياء الكره القاتل لدى جماعات بعينها والمتاجرة بها اينما استوجبت مصالحهم ذلك.

اليوم، في حالة العنف المتنقل والعابر للقارات، لا بد من التوقف امام المصالح التي تهمّ كل من شارك في الحرب التي تقضي على الشعب السوري، لنتبين حجم تجارة الاسلحة وتقاسم النفوذ والاستشراس في فرض الهيمنة، حتى لو استوجب الصراع مزيداً من لابسي الأحزمة الناسفة لترجيح كفة على أخرى، او المتاجرة ببشار الأسد ومصيره كأنه ورقة يحركها اللاعبون الكبار المجتمعون في قلاع أمنية ليتاجروا على طاولة مفاوضات بالدماء التي تسيل من أماكن يمكن لمكروه وكاره ان يتسرب اليها ليكبس زرّ القتل.

النهار

 

 

 

 

قراءة جديدة للعلاقة بين الشرق والغرب بعد حوادث باريس/ رامي الريس

قلائل في العالم العربي، والغرب طبعاً، يعرفون أن منطلق نظرية “صدام الحضارات” التي اشتهر بها المفكر الأميركي صموئيل هنتنغتون سبق ان كتب عنها المفكر المغربي المهدي المنجرة (1933-2014)، وهو اقتصادي وعالم اجتماع مغربي اشتهر في اختصاص “الدراسات المستقبلية” وترأس الاتحاد العالمي للدراسات المستقبلية بين 1977 و1981، وهو مركز تفكير وبحث لا يشبه الذين يحتلون شاشات التلفزة للتنجيم وتوقع ما سيحصل، ويسجلون أعلى نسب المشاهدة وفق الشركات الإحصائية صاحبة الاختصاص في تصنيف البرامج والضيوف وقدرتهم على الجذب والاستقطاب. وغالبا ما يحظى من ينتمون الى فئة التهريج السياسي بنسب المشاهدة الأعلى!

مهما يكن من أمر، فإن المفكر العربي الراحل أصدر العديد من المؤلفات ابرزها: من “المهد الى اللحد”، “مسار الكفر”، “الاهانة في عهد الميغا إمبريالية” وسواها من الكتب. طبعاً، هذا لا يلغي ان صموئيل هنتنغتون قد عمل على إنتاج نظرية متكاملة، فصّلها في كتابه الذائع الصيت الذي تُرجم الى عشرات اللغات وطبعت منه ملايين النسخ والذي تناقض في جوهره مع نظرية “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” التي تقدم بها فرنسيس فوكوياما، وقد عوّض الأخير هذا الأمر بإصدار مؤلف ضخم عن “أصول النظام السياسي” عاد فيه قروناً الى الوراء شارحاً ومفصلاً بدايات الإنتظام السياسي والإجتماعي.

النقاش الآن لا يستهدف المفاضلة بين أصحاب النظريات الفكرية والفلسفية الكبرى، أو التمييز بين مكوّناتها، بقدر ما يرمي الى البحث في مدى إنطباقه مع واقع الحوادث الدولية المتسارعة ولا سيما بعد إعتداءات باريس في 13 تشرين الثاني، التي ستشكل منعطفاً أكيداً ليس على المستويين السياسي والأمني فحسب، بل على صعيد تعقيد العلاقة الملتبسة أصلاً بين الغرب والشرق، إذا صح التعبير؛ من دون الإقرار بأي شكل من الأشكال أن الشرق يُختزل بالتنظيمات والفصائل المتطرفة وان تلك المجموعات هي التي تمثله. في هذا المجال قد يكون من المفيد العودة الى كتاب “الاستشراق” الشهير للمفكر الراحل إدوارد سعيد الذي وضعه في العام 1978 وحاول قراءة تعقيدات الشرخ وخلفياته ومسبباته بين الشرق والغرب.

لكن، ما هو الخط الفاصل بين هذه الإشكاليات التي أخذت تعبّر عن نفسها في أشكال عنفية آخذة في التوسع، تقابلها موجات من الحقد والكراهية آخذة في التعمق ضد العرب والمسلمين؟

لقد أشارت إحدى الدراسات التي نُشرت مطلع العام الجاري الى أن نسبة المسلمين من سكان برشلونة بلغت 30 في المئة، وفي ستوكهولم 20 في المئة، وفي أمستردام 25 في المئة، وفي لوتن (المدينة الثالثة في بريطانيا) 50 في المئة. ونشرت الدراسة أيضاً تقارير مستندة الى معلومات استخبارية حول أرقام الأوروبيين الذين غادروا بلادهم للقتال في سوريا، وهي كانت موجة آخذة في التصاعد التدريجي، ولا سيما مع انسداد آفاق الحل السياسي في سوريا وبلوغه ذروة تعقيداته مع التدخل الروسي على خط القصف الجوي.

اذا كان ثمة نيات أوروبية مبيتة في المراحل الأولى للنزاع السوري للتخلص من عناصر التطرف الموجودة في بلدانها عبر “تسهيل” انتقالها الى سوريا، فإن هذه السياسة أثبتت عقمها وتأكدت بالبرهان القاطع من خلال حوادث باريس الأخيرة التي تضمنت رسالة واضحة بأن الغرب بعواصمه ومدنه ليس بمنأى من تداعيات ما يحصل في الشرق الأوسط وتحديداً في سوريا.

ان الهوة بين الغرب والعالم العربي والإسلامي سوف تتعمق وبسرعة كبيرة ما لم تع تيارات الإعتدال الأوروبي ان التمييز ضروري بين الإسلام والمسلمين وبين المجموعات المتطرفة التي تنفذ العمليات الإرهابية في الشرق الأوسط وحول العالم. كما أن عدم تأكيد هذه التيارات المعتدلة المبادىء والقيم الأوروبية في الحرية والمساواة والأخوة التي كانت الثورة الفرنسية (1789) طليعية فيها، سوف يفسح المجال أمام صعود اليمين العنصري في معظم أوروبا من خلال استنهاض نظريات فاشية وعنصرية قد تصل الى حد المطالبة بطرد المسلمين أو بفرض قيود عليهم للحد من حريتهم وحركتهم وحقهم في التجمع والتعبير عن رأيهم السياسي.

غني عن القول إن المهاجرين السوريين الذين فضلوا قوارب الموت المطاطية على البراميل المتفجرة وقصف الطائرات ولجأوا الى أوروبا التي رأوا فيها ملاذاً آمناً، سيكونون أول من يدفعون الأثمان الباهظة من خلال سياسة الأبواب الموصدة التي سرعان ما سيبدأ تطبيقها خوفاً من الإرهاب.

تحتاج مسألة العلاقة بين الشرق والغرب الى قراءة جديدة بعد حوادث باريس، ولا سيما انها ستقع في المزيد من الإشكاليات النظرية والعملية على حد سواء. لعله بات من المفيد التفكير عربياً في سبل مواجهة هذا الواقع المأسوي المستجد بما يتعدى بيانات الإدانة والإستنكار، وذلك يتطلب أيضا من الغرب أن يخاطب العرب بغير لغة النفط والطائرات والقصف ومصالح الشركات المتعددة الجنسية العابرة القارات التي تبقى مصالحها فوق كل اعتبار!

النهار

 

 

 

 

دلالات هجمات الجمعة الأسود/ عبد النور بن عنتر

أحدثت الهجمات الإرهابية النوعية التي ضربت باريس وسان دوني (ضاحيتها الشمالية الشرقية) صدمة ما بعدها صدمة في فرنسا، بالنظر لعدد الضحايا المرتفع (129 قتيلاً و352 جريحاً)، وهي أثقل حصيلة في تاريخ فرنسا التي سبق أن كانت مسرحاً لعمليات إرهابية، ومنها التي ضربت مقر صحيفة شارلي إيبدو في يناير/كانون الثاني الماضي. بهذه الهجمات الجديدة، تنقل التنظيمات الإرهابية، وتحديداً داعش، مواجهتها مع فرنسا إلى تراب الأخيرة. وهناك عدة دلالات لهذه الهجمات التي تعد نقلة نوعية في العمل الإرهابي في فرنسا.

أولاً، تصلب عود الإرهاب المحلي المنشأ (وليس المستورد كما في السابق)، ذلك أن المنفذين خرجوا، في أغلبيتهم الساحقة، من رحم أوروبا، فهم ولدوا وترعرعوا في أوروبا. ويعبر هذا ليس فقط عن اختراق أمني، بل اجتماعي أيضاً، حيث أصبحت شرائح من شباب أوروبا، من مسلمين، عرضة لمخالب التنظيمات الإرهابية التي تحولهم إلى قنابل بشرية موقوتة، في قلب مجتمعاتهم الأصلية.

ثانياً، خطورة البعد الهجين للتهديدات، أي التقاطع بين الإجرام والإرهاب، ذلك لأن منفذي هذه العمليات الإرهابية جميعاً أصحاب سوابق قضائية (لتورطهم في مخالفات وجنح مختلفة)، قبل أن يتحولوا إلى إرهابيين، بمعنى أن ماضيهم/خبرتهم الإجرامية سمحت لهم بالتحرك خفية، والحصول على الأسلحة والمتفجرات اللازمة. وهذا ما يجعل من محاربة انتشار الأسلحة وتهريبها في أوروبا مسألة أمنية في غاية الأهمية.

ثالثاً، يبقى الإرهاب في فرنسا صنيعة أفراد من أصول عربية إسلامية، ما يعني أن هناك خللاً اجتماعياً ليس فقط على مستوى تعامل المجتمع مع الجالية العربية-الإسلامية، بل حتى في أوساط بعض شرائح هذه الجالية. وهذا ما يعرّض الأخيرة لمزيد من المخاطر العنصرية في أوروبا. وهذا هو الهدف الذي ترمي إليه الأممية الإرهابية الإسلامية، فهي تريد دق إسفين بين المجتمعات الأوروبية ومواطنيها من أصول عربية-إسلامية. فهي تغذي العنصرية ضدهم، لتتغذّى، فيما بعد، من هذه العنصرية. ومن ثم، هناك توظيف ومصلحة متبادلتان بين الأممية الإرهابية الإسلامية واليمين المتطرف الأوروبي.

رابعاً، تدعم البعد العابر للأوطان للإرهاب، فالعمليات الإرهابية الأخيرة ثلاثية البعد جغرافياً من حيث الإعداد والتنفيذ، إذ يتوزع منفذوها من حيث النشاط و/أو الإقامة على ثلاث دول، هي سورية وبلجيكا وفرنسا. ومن ثم، لن تنجح مكافحة الإرهاب في إطار وطني، وهذا ربما ما يفسر جزئياً تصلب عود الجماعات الإرهابية، لتماطل بعض الدول وترددها في الانخراط في هذه العمليات، تجنباً لعمليات على أراضيها.

خامساً، وجود خلل في كيفية تعامل فرنسا مع الإرهاب وصعوبة التوفيق بين مستلزمات دولة

“هناك توظيف ومصلحة متبادلتان بين الأممية الإرهابية الإسلامية واليمين المتطرف الأوروبي” القانون وضرورات مكافحة الإرهاب، فبعض منفذي هذه العمليات من الفئة التي وضعت لها الاستخبارات الفرنسية بطاقة “تهديد أمن الدولة”، أي أنهم كانوا معروفين لدى الأجهزة الأمنية التي راقبتهم في وقت من الأوقات، لكنها لم تواصل تتبع آثارهم وتحركاتهم لغياب مؤشرات على إمكانية قيامهم بعمليات إرهابية. ونظراً لعددهم المرتفع، تركّز هذه الأجهزة على من تعتبره الأخطر، وذلك حسب إمكاناتها. وعلى الرغم من عدم تمكنها من تجنب هذه العمليات، فإن طريقة تعاملها معها واعتقالها وقتلها أفراداً من المجموعة المنفذة، وفي وقت قصير، بالنظر لحجم هذه العمليات وفظاعتها حجة تحسب لهذه الأجهزة.

سادساً، نظراً لطبيعة الإرهاب، فإن تحييد الخطر بشكل كامل لا محل له من الأمن، إذ لا توجد أي دولة قادرة على تجنب كل العمليات الإرهابية على أراضيها، أو ضد مصالحها في الخارج، لأن الإرهابيين مواطنون عاديون (قبل التفجيرات)، وحتى وإن كانت هناك شكوك في سلوكهم، فمن الصعوبة بمكان معرفة الوقت الذي سينتقلون فيه من الإيمان بالإرهاب إلى التفجيرات، خصوصاً أن سياق دولة القانون في الديمقراطيات الغربية يصعب من الإجراءات الاستباقية، لما تمثله من خرق للحريات.

سابعاً، تؤكد هذه الهجمات، كما كتب صاحب هذه السطور في مقالات سابقة، أنه عندما يحدث تعارض بين المستلزمات الأخلاقية والمستلزمات الأمنية فإن الغلبة تكون دائماً للأخيرة. فقد أحدثت هذه الهجمات منعطفاً في سياسة فرنسا محلياً وخارجياً. فعلى الصعيد المحلي، تقول الحكومة الفرنسية إنها في حرب (على طريقة مشابهة للحرب الأميركية على الإرهاب)، معلنة حزمة من الإجراءات الأمنية، بدءاً بإعلان حالة الطوارئ في البلاد التي ستمدد (عبر البرلمان)، ما يعني العمل بإجراءات استعجالية من دون الرجوع إلى السلطة القضائية. وعلى الصعيد الخارجي، غيرت فرنسا تماماً من وجهتها السياسية، حيث تقربت من روسيا بسرعة فائقة، بعد أن بلغت ظاهرة الروسوفوبيا مستوياتٍ غير معهودة في الأوساط السياسية، وحتى الاجتماعية، في فرنسا. إذ بدأت الاتصالات بين البلدين، وعلى أعلى المستويات، للتنسيق لمحاربة داعش. وتريد فرنسا ائتلافا دولياً واحداً ضد هذا التنظيم، بالتوسط أيضاً على ما يبدو بين روسيا وأميركا. وبالنظر لغلبة الاعتبارات الأمنية في سلوكها، فإن فرنسا هي من يتقرب من روسيا. وبالتالي، وفق شروط هذه الأخيرة، خصوصاً أن الأصوات تتصاعد في فرنسا، مطالبة بتغيير السياسة حيال الأزمة السورية. ويمكن تلخيص هذه المواقف الجديدة في فرنسا بالقول إن نظام الأسد خطر بعيد (تحمّله فرنسا مسؤولية مقتل 200 ألف سوري)، بينما داعش خطر قريب وحقيقي.

العربي الجديد

 

 

 

من نابوليون إلى هولاند/ بيار عقيقي

على بعد عشرات الكيلومترات من موسكو، تقع بلدة صغيرة. معزولة في الجغرافيا، لا في التاريخ. يُمكن العودة إليها من حين إلى آخر. بلدة رافقت سقوط قوة أوروبية وصعود أخرى. في بورودينو، في عام 1812، كتب الجيش الفرنسي نهايته العسكرية على مداخل أقدم مدن أوروبا، وبدأ معها تهاوي إمبراطور فرنسا التاريخي، نابوليون بونابرت، قبل النهاية الحزينة في بلدة واترلو البلجيكية.

أفضت تلك الهزيمة، لاحقاً، إلى ولادة حلفٍ سرّي بين روسيا وفرنسا في عام 1894. معاً ضد الألمان والنمساويين. بلغت سريّة الحلف حداً، أن الشعب الفرنسي لم يعرف بها إلا بعد ثلاث سنوات من إقرارها. وبعد أكثر من 121 عاماً على هذا الحلف الذي سقطت مفاعيله مع الثورة البلشفية في روسيا في عام 1917، وُلد حلف جديد بين موسكو وباريس في الزمن المعاصر. حلف علني، عنوانه العريض: “محاربة تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش)، أما عناوينه الأخرى، فلا تبدأ بالاقتصاد، ولا تنتهي بالحيّز الجيوبوليتيكي الذي تتشاركه الدولتان.

التحالف العسكري بين موسكو وباريس هو الأول من نوعه بين روسيا ودولة غربية، تحديداً دولة منضوية في حلف شمال الأطلسي. تماماً كما كادت أن تكون صفقة سفينتي ميسترال الفرنسيتين اللتين كانتا ستُباعان إلى روسيا أول صفقة عسكرية بين روسيا ودولة أطلسية، لو لم تُباعا إلى مصر في الصيف الماضي. الجوّ الفرنسي عموماً غير معادٍ لروسيا، قياساً على باقي الدول الغربية، على الرغم من أن الممثل الفرنسي، جيرار ديبارديو، غادر بلاده رافضاً دفع الضرائب الباهظة، ملتجئاً إلى موسكو، ومنحه رئيسها، فلاديمير بوتين، الجنسية الروسية.

فرنسا نفسها التي شهدت انتفاضة الطلاب في مايو/أيار 1968، هي فرنسا التي لم تخرج بتظاهرات منددة، حين اجتاح الجيش الروسي جورجيا في عام 2008. كما أن الرئيس الفرنسي في ذلك الحين، نيكولا ساركوزي، كان أول من علم بنية موسكو اجتياح تبليسي، على لسان بوتين. تلك العلاقة التي تشبه علاقة زوجين أكثر من علاقة دولتين، لم تُعكّرها تقارير رفعتها الاستخبارات الفرنسية لساركوزي، في عام 2010، تُفيد فيها بأن “النشاط التجسسي الروسي في فرنسا بلغ حداً غير مسبوق، للمرة الأولى منذ ثمانينيات القرن الماضي”.

من شأن التحالف العسكري بين البلدين في الشرق الأوسط، أن يُفسح المجال أمام اختراقٍ روسي نوعي في أوروبا، على المستوى الرسمي، بعد كسب موسكو حليفاً اقتصادياً يتجلّى في القطاع الاقتصادي الألماني. وسيفيد ذلك روسيا في مسألة العقوبات الدولية المفروضة عليها، كون تأمينها حليفاً مرحلياً، مع احتمال تحوّله إلى أكثر من ذلك وفقاً لسير العمليات العسكرية والحراك السياسي في سورية، سيجعلها أكثر إمساكاً بقرار منطقة اليورو التي تعاني حالياً.

أما فرنسا، فسيفيدها التحالف العسكري في البحث عن خياراتٍ سياسية أخرى، في حال لم تبقَ منطقة اليورو على قيد الحياة. ليست العودة إلى الأحلاف الغابرة أمراً صعباً، في الزمن الكولونيالي الحديث. ويُمكن إدراج الخطوة الفرنسية، أيضاً، في سياق “الحكم الذاتي الواسع” في تكتّل القوى الغربية، بزعامة الولايات المتحدة، كما تأتي، في بعض جوانبها، بمثابة ردّ على توسّع النفوذ الأميركي في بلدان المغرب العربي، تونس تحديداً. غني عن التعريف أن تلك المنطقة تُشكّل حديقة خلفية لفرنسا، وكأنها أميركا الوسطى بالنسبة للولايات المتحدة.

وفي تدخّل فرنسا العسكري في الشرق الأوسط، جزء من “اعتراف” بدورٍ روسي متعاظم عسكرياً وسياسياً، في تجاوزٍ فاضح لمبدأ “الإنسانية المتألمة في سورية” لحساب المصالح الاقتصادية والسياسية التي تصبح معها مسببات اللجوء والهجرة أموراً ثانوية. تماماً كما تمّ سابقاً وضع الاعتبارات الإنسانية جانباً، حين يبدأ “البحث الجدي”، في أي ملف سياسي ـ عسكري. وسط هذا الضجيج، هل نسيتم جميعاً أوكرانيا؟

العربي الجديد

 

 

 

 

 

ما قبل وبعد/ حسام كنفاني

“ما قبل ليس كما بعد”، كم مرة سنسمع هذه الجملة، ونعيش تداعياتها، في المدى المنظور؟ لكن، الأكيد أنها لن تتوقف عند اعتداءات باريس، وستظل تتردد أمامنا. فخلال السنوات العشرين الماضية فقط، كانت هناك محطات عديدة “لما قبل وما بعد”، بدءاً من “11 سبتمبر”، مروراً باعتداءات مدريد ولندن، وما بينهما من اجتياحات لأفغانستان والعراق، وصولاً اليوم إلى ما شهدته العاصمة الفرنسية قبل أيام.

لكن اللافت دائماً أن انعكاسات ما قبل وما بعد غالباً ما تكون على الأراضي العربية، أو تطاول المواطنين العرب في الغرب. هذا ما حدث بعد اعتداءات نيويورك. والكلام هنا ليس عن اجتياح أفغانستان وإسقاط حكم “طالبان”، بل عن ممارسات أخرى، استغلت هذه الاعتداءات لتغير وجه المنطقة، لأجل غير مسمى.

وإذا كان اجتياح أفغانستان نوعاً ما مبرراً، باعتبار أن البلاد ونظامها كانا حاضنين تنظيم “القاعدة” وزعيمه أسامة بن لادن، إلا أن ما تلا ذلك كان ركوباً لموجة محاربة الإرهاب لأهداف أخرى. الأمر لا يقف عند حدود العراق، والذي ساهم إسقاط نظامه في تغيير الجغرافيا السياسية للمنطقة، وتعديل موازين القوى فيها، بل حتى في الأراضي الفلسطينية، حين استغل أرييل شارون “حملة جورج بوش” ليشن حربه على السلطة الفلسطينية، وزعيمها ياسر عرفات، والتي انتهت إلى اغتيال أبو عمار، وهو ما أدخل الوضع الفلسطيني في دوامة لا يزال غير قادر على الخروج منها إلى اليوم.

على المنوال نفسه، يمكن نسج أفعال كثيرة لاحقة، في المنطقة العربية عموماً وفي فلسطين تحديداً، وخصوصاً أن الأراضي الفلسطينية تشهد شبه هبّة، أو انتفاضة مصغرة ضد السياسات الإسرائيلية. انتفاضة لا تزال قوات الاحتلال، ومعها رجال السلطة الفلسطينية عاجزين عن التعامل معها. وربما يجد بنيامين نتنياهو، كما وجد شارون قبله، في الحرب الجديدة على الإرهاب، فرصة لمضاعفة البطش والقتل، وهو الذي كان قد أخذ الضوء الأخضر لذلك من الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في لقائهما أخيراً.

“الحرب على الإرهاب” مصطلح عام قابل للتأويل بكل الأشكال والألوان، خصوصاً أنه منذ عام 2001، تاريخ اعتداءات سبتمبر، لم تفلح الأمم المتحدة، ومعها دول العالم، في الاتفاق على تعريف موحّد لـ “الإرهاب”، فبقي خاضعاً للتفسيرات الفردية والجماعية التي تتماشى مع المصالح الآنية للدول والتيارات. على هذا الأساس، قد تأخذ موجة مكافحة الإرهاب أشكالاً متعددة الآن، وتجرف في طريقها أفراداً وجماعاتٍ، من غير المفترض أن تكون مشمولة في هذه الحرب.

يمكن النظر إلى اللاجئين السوريين مثالاً في هذا المجال، فبعدما بدلت دول في الاتحاد الأوروبي طريقة التعاطي معهم، ووافقت على استقبالهم، جاءت اعتداءات باريس، لتدفع بعض هذه الدول إلى إعادة النظر، على الأقل، بالأعداد التي كان من المفترض أن تستقبلها. وحتى بعد هذا الاستقبال، لن تكون حياة هؤلاء هانئة في ظل ما أحدثته هذه الاعتداءات من صعود لليمين العنصري المتطرف، سياسياً واجتماعياً، وهو ما سيدفع ثمنه لاحقاً اللاجئون العرب والأجانب في البلاد الأوروبية.

أيضاً، يمكن النظر إلى الوضع السوري في المنظار نفسه، فنظام بشار الأسد وحلفاؤه سعوا، من اليوم الأول، إلى استثمار الاعتداءات، وترويج أن حربهم على الشعب هي في إطار مكافحة الإرهاب. ترويج لم يلق، إلى الآن، آذاناً صاغية، لكنه حتماً دفع كثيرين إلى غض الطرف عن المجازر التي ترتكب في الأراضي السورية، وحثهم على البحث عن حلول الحد الأدنى، التي تبقي إرهاب النظام ماثلاً.

أمثلة كثيرة يمكن سوقها أيضاً في مصر وليبيا وغيرها، فتحت مسمى “محاربة الإرهاب”، تسود حالات تصفية الحسابات، والتي تشكل عملياً الغذاء المثالي لتنامي الإرهاب.

العربي الجديد

 

 

 

حرب القتلة الطلقاء/ أمجد ناصر

كيف حصل ذلك؟ من هو المقصِّر؟ وكيف يتكرَّر تجريد البنادق الرشاشة في شارع الدولة العظمى، لتحصد الناس، جهاراً، في غضون عام أو نحوه؟ هذه أسئلة الفرنسيين للفرنسيين. أما نحن، فأسئلتنا حيال مجزرة باريس، الأخيرة، أصعب وأبقى: كيف طلع هؤلاء القتلة من بين ظهرانينا؟ وعلى أيّ نص تغذَّى حزامهم الناسف؟ من ثدي أيّ دينٍ رضع؟ هل يكفي القول، إن هذا رد فعل على ما فعله الغرب بنا وبأرضنا ومقدساتنا؟ ولِمَ يتهلل المهللون لرؤية دم بريء يُسفك؟

هناك نص ديني وراء هؤلاء، ومن الضحك على الذقون، ووضع الرؤوس في الرمل، أن نقول لا وجود له. هذا النص موجود. ونحن نراه في الفضائيات، ونسمعه في الراديوهات. هذا النص موجود. وهو لا يُسْمع في تورا بورا. ولا في وداي خيبر. هذا النص موجود. سدنته موجودون. أدوات تغلغله بين الناس علنية، فهو لا يأتينا من “مدارس” باكستان و”طالبان”. إنه أقرب من ذلك بكثير. ربما من حيث لا نحتسب: مدننا، عشوائياتنا، مناطقنا “الأقل حظاً”، ومدارسنا الرسمية. لا يهمني من نفّذ عمليات باريس. الضاحية الجنوبية. جوامع الكويت والسعودية. إلخ إلخ.. هؤلاء منفذون صغار. شبّان مغسولو الأذهان والعقول والقلوب. ما يهمنا، كلنا، كيف أمكن لهؤلاء أن يكونوا قتلةً ومقتولين، من دون أن يرفَّ لهم رمش؟ من هو المسؤول عما وصل إليه هؤلاء الشبان من هذا الإنكار المرير للحياة “الدُّنيا” من أجل “وعد” الآخرة التي سيصعد إلى حُورِ عِيْنِها بجسده، وأجساد الآخرين، الممزَّقة مائة قطعة؟

الجواب الذي اجتمعت عليه النظم العربية، أو ما تبقى منها واقفاً على قدميه، هو استدعاء السلاح. الأمن. السجون، فإن لم تستطع، وحدها، فعل ذلك، استدعت من أجله “التحالف”. كما يحصل حالياً مع داعش والغبراء في كل من العراق وسورية. وربما غداً في البلد التالي على لائحة “الدولة” التي صار يجوز لها أن تتقدم بطلب العضوية في جامعة الدول العربية والأمم المتحدة. لِمَ لا وهي تحكم رقعة، وبشراً، أكبر بكثير من عشر “دول” في الجامعة؟!

لا يسأل النظام العربي، القائم على أقدام آيلة للسقوط، نفسه الأسئلة التي أسَّست لظاهرةِ تكفيرٍ تتغذّى من نصوص على طاولة الدراسة، بسطات الكتب في الشوارع، أكثر الكتب مبيعاً في معارض الكتاب العربية. وحتى عندما يقرُّ أن المشكلة التي تواجه مجتمعاته، قبل هياكله الحكومية، تبدأ من عنده، لا يفعل شيئاً جديّاً حيالها. يظن أنها مشكلة تطرفٍ ضالٍ، ذهب في النص الديني بعيداً عن مقاصده، فيأتيها بـ “نَصه” الديني وعمامته السلطانية اللتين تريدان إعادة هذه “الفئة الضالة” إلى سواء السبيل، من خلال إطاعة “أولي الأمر”، وعدم جواز الخروج عليهم. هذا ما يهم. لا تخرجوا عليّ، فإن فعلتم ضربتكم بالحديد والنار، وزجَجت بكم في السجون، أما عدا ذلك، فاسرحوا وامرحوا في المجتمع، كما تشاؤون. تريدون هذه العظمة اليابسة؟ خذوها، إنها لكم!

وفي الأثناء، ينزوي النظام عن المجتمع وراء جبل. يرفع قصره بعيداً عن أنظار بشره (لكي لا يراهم) ويقول إن كل شيء على ما يرام، فيما فسدَته يمصّون دم الناس. لا ترى للنظام العربي وجوداً في الشارع، إلا في رجل الأمن الذي يحرس مصالح “الطبقة”. أين الدولة؟ أقصد المؤسسات التي بناها الناس، بعرقهم ودمهم على مدى عمر “الدولة الوطنية”؟ إنها في جوف الحيتان. ولن يكون حظها حظ النبي يونس الذي قذفه الحوت من جوفه سالماً معافى. أما ماذا يجري في المجتمع، هناك في الأسفل، فليس مهماً. الذي يحصل هو ما نراه الآن. يترك المجتمع عرضة لأفكار التطرف والتكفير وكراهة الحياة ورسم العالم، بالأسود والأبيض (بل والأحمر) فسطاطين، لا ثالث لهما. هم (الفئة الناجية) والآخرون الكفَّار.

مشكلتنا، نحن الذين نؤمن بحق شعوبنا بالحياة والحرية والعدالة الاجتماعية، مركَّبة، وماراثونية: جبهة النظام الذي أكل المجتمع لحماً ورماه عظماً، وجبهة التطرف التي اختطفت أسماءنا وألوان وجوهنا، وألسنتنا، ولفَّقت قضيةً غير قضيتنا.

العربي الجديد

 

 

 

اعتداءات باريس وتداعياتها الشرق أوسطية/ مصطفى اللباد

تستدعي الأعمال الإرهابية المتزامنة التي ضربت العاصمة الفرنسية باريس تداعيات إقليمية واستراتيجية، تطال إعادة رسم السياسة الخارجية الفرنسية تجاه الشرق الأوسط. وبقطع النظر عن الخلل الأمني الذي أظهرته الاعتداءات التي تتكرّر للمرة الثانية هذا العام، بعد جريمة «شارلي إبدو» في مطلع العام، إلا أن الضغط على صانع القرار الفرنسي لن يتمثل فقط في إعادة النظر بالهياكل الأمنية الفرنسية ومدى كفاءتها ونجاعتها، وهو نقاش داخلي فرنسي صرف. بل إن تداعيات الأعمال الإرهابية في باريس ستمتدّ أيضاً إلى إعادة النظر بما يمكن أن يُسمّى مسلمات السياسة الخارجية الفرنسية في عهد الرئيس الحالي فرانسوا أولاند، ما سيعني تحولاً محتملاً في سياسات فرنسا الداخلية والشرق أوسطية على حد سواء.

المهاجرون يدفعون الثمن

تختلف الحوادث الإرهابية عن الحوادث الطبيعية في كون الأولى تستدعي تداعيات تتجاوز الرقعة الجغرافية لمكان وقوعها، كما تملك القدرة على تغيير بوصلة السياسات الداخلية والخارجية. من المتوقع أن يستفيد اليمين العنصري في فرنسا وأوروبا من العملية الإرهابية، إذ إن دعايته الأساسية القائمة على العداء للمهاجرين على خلفية تباطؤ الأداء الاقتصادي، تكتسب تبريراً لعنصريتها الزاعقة على الأخص بين الشرائح الاجتماعية الأدنى في أوروبا. ومن المتوقع أيضاً أن يزداد الضغط على الحكومات الأوروبية المتشكلة من توليفة من أحزاب الوسط يميناً ويساراً، فيدفعها إلى تبني أطروحات اليمين العنصري بخصوص المهاجرين. في هذا السياق يبدو أن الضغط سيتزايد على حكومة أنجيلا ميركل في ألمانيا، أكبر مستقبل للاجئين السوريين في الاتحاد الأوروبي، لجهة التضييق أكثر على المهاجرين والتي تسبّبت بنقاشات ألمانية داخلية مطوّلة لن تنتهي آثارها سريعاً.

محاربة «داعش» أولوية فرنسية

بعد إعلان تنظيم «داعش» الإرهابي المسؤولية عن سلسلة الهجمات الإرهابية التي ضربت باريس، قُطع الشك باليقين. والملاحظ أن المسؤولية عن الأعمال الإرهابية تبلورت مبكراً جداً هذه المرة مع التغطية الفورية والمتوالية للأحداث، حين راحت أصابع الاتهام تتوجه للتنظيم الإرهابي حتى قبل إعلانه عن تبني الهجمات، في دليل واضح على انطباق مصادر التهديد مع الصورة الذهنية لها. على ذلك يبدو أن فرنسا ودولاً غربية ستعيد النظر في استراتيجياتها حيال سوريا والعراق، بحيث تحتل محاربة «داعش» الأولوية الغربية وتتقدّم على ما سواها من أولويات في صراعات المشرق العربي. ومن شأن وضع التنظيمات الجهادية عموماً و «داعش» كعدو رقم واحد، أن تنتهي مقولة وسردية «الإسلاميين المعتدلين» الذين طالما اعتُبروا في الغرب خصماً مقبولاً ضد نظم المنطقة الشمولية. طغت هذه المقولة والسردية على توصيف حراكات المنطقة منذ «الربيع العربي» وتفاقمت مع اندلاع الحراك السوري. إذ اعتُبر المعارضون الديموقراطيون ضعفاء بحيث لا يستطيعون محاربة النظم التسلطية ومنها النظام السوري. ولعل المقارنة بين «الجهاديين القبيحين» و «المعتدلين المحترمين» قد أصبحت من الماضي بعد أحداث باريس الإرهابية الأخيرة، بحسب ما يعتقد ميشال ماكينسكي، الباحث في «معهد الدراسات الأمنية والمستقبلية» بباريس. بمعنى آخر، ستتضرر صورة التنظيم الدولي لـجماعة «الإخوان المسلمين» من التغطيات الإعلامية الغربية التي ستخلط بين «داعش» و «القاعدة» والسلفيين و «الإخوان المسلمين»، كما ستتراجع الأصوات الغربية المطالبة بتفاهم مع الجماعة وستتسيّد التيارات والأجنحة في فرنسا والغرب الداعية إلى إرساء التحالف في المنطقة مع الأنظمة القائمة تحت شعارَي «الأمن والاستقرار».

تحالفات باريس تتغيّر؟

مثلما أدّت أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 في أميركا إلى تغيير جذري في سياساتها، ما قاد إلى احتلال بلدين شرق أوسطيين (أفغانستان 2001 والعراق 2003)، ستؤدي أحداث 13 تشرين الثاني في فرنسا إلى تعديل جوهري في سياسات فرنسا الشرق أوسطية. مع الفارق أن فرنسا لا تملك قدرات الولايات المتحدة، وبالتالي سينصبّ التغيير على فعالية أكثر في صراعات المنطقة وعلى رسم توجّهات جديدة للسياسة الفرنسية في الشرق الأوسط. حتى لحظة كتابة هذه السطور، تحالفت فرنسا شرق أوسطياً مع إسرائيل والسعودية وحاولت قطف بعض الثمار الاقتصادية من السوق الإيراني الواعد، حتى برغم موقفها المتشدّد في مفاوضات إيران مع الدول الست الكبرى. من الآن، يمكن تقدير أن السعودية تتصدّر قائمة الخاسرين من إعادة توجيه السياسة الخارجية الفرنسية، فالقرابة الفكرية بين الوهابية من ناحية، و «القاعدة» و «داعش» ومن على شاكلتها من تنظيمات من ناحية أخرى، تبدو عصية على الإخفاء. ومثلما بذلت السعودية جهوداً ضخمة بعد أحداث أيلول 2001 في حملات الديبلوماسية العامة للحفاظ على تحالفها الدولي مع أميركا، فالأغلب أن المملكة ستُضطر إلى القيام بخطوات مماثلة في أعقاب اعتداءات باريس الإرهابية، مع الفارق أن المملكة ليست في أفضل أحوالها راهناً، بسبب تورطها في حرب اليمن من ناحية، وبسبب التنافس بين الأجنحة السعودية الحاكمة من ناحية أخرى. وفقاً لخبراء فرنسيين في السياسة الخارجية، ستوضع درجة تعاون دولٍ خليجية مثل السعودية وقطر في محاربة تنظيم «داعش» الإرهابي على المحك، وإلا ستعتبر حليفة وداعمة له مثلما يروج خصوم السعودية في الغرب. ولئن أقنعت أميركا السعودية بالمشاركة في «اجتماعات فيينا» لحل الأزمة السورية، إلا أن الحرب على اليمن أوضحت أن الفراغ الذي يتركه الحوثيون خلفهم يملأ بمعرفة «داعش» و «القاعدة»، وهي نتيجة خطيرة للغاية. باختصار، ستضغط فرنسا ودول غربية على الرياض لتنسيق أجندة الأولويات، بحيث تحتل «داعش» و «القاعدة» ومثيلاتها قائمة أولويات الفعل السعودي المضاد.

في المقابل، ستفكر فرنسا في المزيد من التقارب مع إيران، وعدم الاقتصار على جني ثمار اقتصادية ثانوية منها. وبرغم أن التعاون الأميركي ـ الإيراني في العراق يصلح كسابقة، إلا أن التعاون الجديد بين فرنسا وإيران سيكون له تكاليف جانبية إقليمية تتعلق بالرياض وتل أبيب، حليفَي باريس اقتصادياً وسياسياً. وإن كان التعاون الإقليمي المرتقب بين باريس وطهران سيبرز من بين تداعيات أحداث باريس الإرهابية ـ كما هو متوقع – إلا أن تعاوناً كهذا سيكون له أبعاد تتعلق بتحالفات إيران الإقليمية. ومن هذه الأبعاد أن «قوات الحشد الشعبي» في العراق مثلاً لا تحظى بسمعة جيدة في الغرب والمنطقة بسبب هويتها الطائفية الواضحة، ما يعرقل إدماج المكوّن العراقي السني في العملية السياسية ويجعل الاستقرار في العراق بعيداً لذلك.

في المقابل، ستتجه فرنسا المتحفظة نسبياً حيال تركيا وأدوارها في المنطقة إلى الانفتاح أكثر عليها، خصوصاً بعد الفوز الانتخابي لأردوغان وحزبه، برغم التحديات الداخلية التي ستواجه أردوغان. بكلمات أخرى، ستعني إعادة توجيه السياسة الفرنسية الشرق أوسطية انضمام إيران والعراق والأكراد كشركاء مقبولين لفرنسا في محاربة الإرهاب، وهي نتيجة لم يحتسبها مَن قام بالتفجيرات!

السفير

 

 

 

هجمات باريس والمراجعات المطلوبة

رأي القدس

حصدت هجمات باريس ليلة الجمعة الماضية مئات القتلى والجرحى من الفرنسيين إضافة إلى قتلى من بلدان أخرى منها بريطانيا وتركيا وتونس وبلجيكا والبرتغال. الاعتداءات الإرهابية، كما هو معلوم، ضربت ستة مواقع تضم مسرحا وملعبا رياضيا ومطاعم ومقاهي، وتجمع مواطنين مدنيين من الشباب والكبار والنساء والأطفال والأسوأ أنها جاءت بعد هجوم سابق في العاصمة نفسها في شهر كانون الثاني/يناير الماضي استهدف صحيفة «شارلي إيبدو» ومتجراً يهوديا.

هذه الهجمات التي استهدفت الأبرياء، ستؤدي، عملياً، إلى تصاعد دعوات الحرب ضد الجماعات الإرهابية من جهة، لكنها أيضاً ستعزز معسكر اليمين المتطرف في الدول الغربية، وتقوّي آليات الطغيان في الدول العربية.

وإذا كان حجم الهجوم مساء الجمعة يدلّ على ارتفاع القدرات التنظيمية والعسكرية والاستخباراتية للمهاجمين، فإن هذا يعني، في الوقت نفسه، وجود فشل أمنيّ كبير مواز وغير مسبوق من السلطات الأمنية الفرنسية، وكانت الإهانة السياسية والأمنية كبيرة بمهاجمة «ستاد دو فرانس» الذي كان يشهد مباراة ودية بين فرنسا وألمانيا يحضرها رئيس الجمهورية الفرنسية نفسه.

وإذا كانت جهة الاتهام معروفة ومتوقعة (وقد تفاخر مسؤولون في بغداد بالقول إنهم أبلغوا فرنسا بتلك الهجمات!) فمن المفروض أن تتحمل السلطات السياسية الفرنسية مسؤولية هذا الإخفاق الفظيع في حماية مواطنيها، والذي يقع على عاتقي وزير الداخلية بيرنار كازنوف، ورئيس الوزراء مانويل فالس، اللذين كانا في المنصبين نفسيهما أثناء حصول حادثة «شارلي إيبدو».

غير أن تصعيد مستوى عمليات «الدولة الإسلامية» وتحمّل المسؤولية من قبل السلطات السياسية ليسا إلا جانباً «تقنيّا» من المسألة التي تحتاج، بالأحرى، إلى مراجعة سياسية شاملة، من فرنسا أولا، ومن العالم ثانيا.

على الصعيد الفرنسي تعلن هجمات باريس و»شارلي إيبدو» عن فشل للدولة نفسها، وليس لقواها الأمنية فحسب، وهو فشل يعود إلى أيام احتلال فرنسا أيّام النازيين، ثم تحريرها بقوّة الحلفاء، وتأثير ذلك على تأسيس الجمهوريتين الرابعة (عام 1947) والخامسة (عام 1959) مع بداية حكم شارل ديغول.

بدلاً من تعلّم دروس الاحتلال القاسية التي تعرّضت لها فرنسا عومل الجزائريون الذين هبوا للاحتفال بانتصار الحلفاء عام 1945 بالقمع الرهيب والمجازر التي استمرت سنة كاملة وأسفرت عن سقوط عشرات الآلاف من الضحايا غالبيتهم من المدنيين.

غير أن هذا كان يمكن أن يترك للتاريخ الذي قد يجد فسحة للتسويات والمصالحات والتسامح لولا أن سرديّة الاحتلال استمرّت، صعوداً مع المهاجرين القادمين من شمال إفريقيا إلى بلاد الحرية والإخاء والمساواة، ليجدوا بدلا منها العنصرية المستشرية في عمق المؤسسة السياسية الفرنسية، والتهميش، وحياة الغيتو والضواحي الفقيرة، والإهانة المركزة لثقافاتهم ودينهم، ونزولاً مع محاولات التحكم المتواصل في بلدانهم الأصلية اقتصاداً وسياسة ونفوذاً.

إلى ذلك كلّه، تتحمّل فرنسا، مع المنظومة الغربية عموماً، مسؤولية كبيرة في وجود وحماية إسرائيل التي كانت، منذ تأسيسها، عاملاً أساسياً في كسر إمكانيات التطوير والحداثة العربية، وفي تأجيج النزاعات والحروب والانقلابات، وفي دوام ظلم رهيب وقع على الشعب الفلسطيني وتأثرت به البلدان العربية كافّة.

إن دلالات هجمات باريس الجديدة من الضخامة بحيث لا يمكن للنخب الغربية، لو أرادت الخروج من الدائرة الجهنمية للعنف العالمي، ألا تخضع سياساتها لمراجعة جذرية، وعلى رأس ذلك دورها الكاسر والمخلخل للعالم الإسلامي في أفغانستان والعراق، الذي أنتج موجتين مضادتين كبيرتين من الإرهاب، وأساليب تعاملها العسكرية والأمنيّة مع القضايا السياسية المعقدة في الدول الأوروبية، ومساهمتها في التغطية على دور إسرائيل في تجذير التطرف والراديكالية في العالم العربي والإسلامي، والتواطؤ مع الأنظمة المستبدة ضد شعوبها.

ردود الفعل السياسية والإعلامية العالمية لا تدلّ أبداً على أن مراجعات كهذه في طريقها للظهور، بل إن بعض الدول، كإسرائيل، والنظام السوري، وروسيا، وإيران والعراق ومصر سارعت إلى اعتبار نفسها حماة للعالم من الإرهاب، وأخذت تنصح فرنسا في سبل القضاء عليه، وبدأت صحف مثل «التايمز» اللندنية مثلاً، في تحريض القرّاء على اللاجئين السوريين، وأخرى على الفلسطينيين، فيما حمّلت وسائل إعلام عربية تركيا، التي تتعرّض هي نفسها لهجمات التنظيم، مسؤولية الهجمات الفرنسية!

تنظيم «الدولة الإسلامية» لا يحتاج إلا إلى شيئين ليستمر في إجرامه المدمّر: 1- إرهاب الدول الذي يتجاهل حقائق الظلم والاستبداد والفقر والاحتلال، و2- شعوب مدفوعة إلى أقصى اليأس.

القدس العربي

 

 

 

 

هجمات باريس ومطاردة الساحرات/ حكيم عنكر

الصحف الفرنسية تلمز من قناةٍ، بعض عناوينها مسمومة، ليست صريحة، لكنها تذهب في اتجاه إدانة جاهزة، البرامج المباشرة على القنوات أختها في التركيز على دوافع الجهات المنفذة للاعتداءات الإجرامية على ستة مواقع في باريس، ومن يقف وراءها والجهات الحاضنة لها فوق التراب الفرنسي.

هناك شعور لدى الفرنسيين أن الخلطة المتعصبة للإسلام هي وراء كل ذلك الدمار في مساء الجمعة 13 نوفمبر/تشرين ثاني الجاري. لكن، ما هي تفاصيل التحليل؟ كل من تناوب على بلاتوهات المباشر من فرنسيين وعرب لم ينج من هذا السؤال: الإسلام؟ بصيغة الجمع. وربما لم يكن الوقت يسمح باستفاضة بعضهم في الشروح، حول الفرق بين الإسلام المعتدل والمتسامح وإسلام التطرف والإرهاب، الأول إنساني ومتعايش، والثاني همجي ويقتل، لا يقبل الحوار، لغته القتل الفعلي أو النفي خارج الملة، هناك في دولة الكفر، وهي دولة شاسعة لا حدود جغرافية لها. كان تحليل من هذا القبيل مجرد ترف فكري في وقت لا يقبل مثل تلك الفذلكات، لقد ألحت مذيعة المباشر مثلاً على “فرانس 24” الناطقة بالفرنسية، على جدوى تكوين أئمة للإسلام المعتدل، قالت إن فرنسا فشلت في هذا الاختبار. وبقصدية واضحة، كانت تلح على ضيوف البلاتو المفتوح تقييم هذه النقطة.

العرب مرة أخرى يحشرون في الزاوية، إسلامهم متهم، والشبهة تحوم حول كل ذي ملمح عربي، أما وسائل الدفاع أو المساجلة، فهي معدومة تماماً، خصوصا في ظل الظروف الحالية التي يمر بها العرب، حروب وتمزق وتفتت للسلط وانهيار للدول، وهي كلها طبق دسم لكي يوجه الإعلام الغربي مدافعه، ويقصف كما شاء الأهداف التي عجز عن الوصول إليها في الماضي.

تكتب صحيفة إيطالية في مانشيت على صدر صفحتها الأولى: المسلمون أوباش. في السابق، لم يكن ذلك ممكنا، كان لمثل هذا الموقف العدائي التعميمي ما يستتبعه من موقف مسموع من هذه الجهة العربية أو تلك، أما الصحافة الفرنسية فتكاد تخرج من جلدها، وتجمل التحليل: المسلمون هم سبب البلاء.

أمام هذه اللغة الحادة التي تطعن بلا احتراس، وبطريقة أقرب إلى القصدية، يشعر المهاجرون العرب في فرنسا، والأغلبية المغاربية، خصوصاً، بالخطر. فلطالما عانى هؤلاء من التداعيات السلبية للأحداث السابقة، فكأنهم في كل اعتداء جديد مطالبون بإظهار حسن النية، بل والذهاب إلى أبعد من ذلك، فعيون الشرطة تترصدهم، والتهم الجاهزة بالانتظار، والتطرف يتلون ويأخذ له الأبعاد غير المتوقعة، والنتيجة: تشدد ملموس اتجاه المهاجرين وشعور بعدم المساواة في الحقوق والمواطنة.

لسان حال المهاجرين المقيمين منذ عقود، والذين أصبحوا فرنسيين، وولد أبناؤهم هناك، يقول: إذا كنا جميعا ندفع الضرائب للدولة الفرنسية، فلماذا هذه المعاملة التمييزية على أساس ديني أو عرقي.

“المساواة” والتي هي إحدى قيم الجمهورية الفرنسية توجد اليوم على المحك، ففرنسا التي كانت تفتخر بقيمها “العلمانية” الكونية مطالبة بتحريك آلة الردع ضد كل من يخالف تلك القيم أو يمس بها. هناك من يقول إن الطريق أصبح سالكا أمام اليمين الفرنسي المتشدد بعد “مذبحة باريس”، وأنه لم يعد في حاجة إلى القيام بحملة انتخابية لصالحه، لقد نابت عنه العمليات الإرهابية وخدمت مصالحه. لكن، لن يغيب عن البال أبدا، كون صعود صوت اليمين وملاقاته الهوى في نفوس كتلة كبيرة من القوة الناخبة في فرنسا، لم يكن وليد اليوم، وهو بطبيعة الحال يتغذى على أخطاء الحكومات المتعاقبة وعلى فشل البديل الاشتراكي.

إن ضربة قوية وموجعة مثل ضربة 13 نوفمبر هي محاكمة للخيار الأمني الفرنسي الذي فشل في حرب مطاردات الساحرات الطويلة التي خاضها ضد شباب الضواحي من المهاجرين، ووحدها حزمة علاج شاملة قادرة على مداواة أمراض المجتمع الفرنسي الجديد، فالإسلام ليس مشكلة، كما هو شأن الديانات الأخرى، بل قد يكون جزءاً من الحل في مجتمع يرفع شعارات ” التعددية والمساواة” على رأس قيمه الكبرى.

العربي الجديد

 

 

 

11سبتمبر أوروبية/ سامح راشد

الاعتداءات التي وقعت في باريس، مساء 13 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، لا تقل خطورة عن اعتداءات 11 سبتمبر/أيلول 2001 على برجي مركز التجارة في الولايات المتحدة، بل ربما تفوقها كارثيةً، ليس على الشرق الأوسط فقط، وإنما بالنسبة للعرب والمسلمين في أنحاء العالم. 13 نوفمبر سيُدَشن مرحلة جديدة في العلاقات الدولية المعاصرة، خصوصاً لجهة هيكلية النظام الدولي وموقع الأقطاب الأوروبية فيه. نحن أمام “11 سبتمبر” أوروبية. لها ما لها من انعكاسات على سياسات القارة العجوز في المنطقة، وعمق وأشكال تدخلاتها مستقبلاً. فضلاً عن السياسات الداخلية تجاه العرب والمسلمين المقيمين هناك، وهم كُثر. وقد تجسدت بالفعل أولى نتائج الاعتداءات بعد ساعات قليلة من وقوعها، حيث تقرّر وقف العمل بتأشيرة شنغن، للقادمين من خارج أوروبا. وهذه مقدمة لمزيد من الإجراءات والقيود، وربما تغيّرات شاملة في الموقف الأوروبي من تدفق اللاجئين مستقبلاً، وكيفية التعامل مع من دخل أوروبا منهم بالفعل. هذا بخلاف الدواعش ذوي الجنسيات الأوروبية، فالعناصر الأوروبية المنضمة إلى “داعش” وأخوته هم القوة الضاربة في المناطق التي تسيطر عليها في العراق وسورية، أما نظراؤهم، المنضمون حديثاً من المقيمين في بلدانهم الأوروبية، فهم الطابور الخامس، ويشكلون الخطوط الاستطلاعية المتقدمة، وخلايا العمل وراء الخطوط في الداخل الأوروبي، أي من فوق أراضي “العدو”، وضربه في الصميم.

الوضع أصعب وأعقد من 11 سبتمبر، وعلى من وقف وراء هذه العمليات تحمل العواقب والاستعداد لتحديات واستحقاقات وتحولات أوروبية، ربما لا قِبل له بها. ومن السهولة بمكان توقع أن تندفع باريس إلى شن غاراتٍ، أو القيام بعمليات عسكرية ضد قواعد تنظيم الدولة. لكن، ما لا يمكن استبعاده أن تتبنى فرنسا موقفاً أكثر تشدداً إزاء النظام السوري وأشباهه من النظم العربية القمعية التي تتذّرع بالإرهاب، لتبرير البقاء والاستبداد. هذه الصلة بين “داعش” وأشباهها، ونظام بشار ونظرائه، فاحت رائحتها، حتى أنها كانت موضع نقد علني متبادل بين وزيري خارجية أميركا وروسيا، جون كيري وسيرغي لافروف، في مؤتمر صحافي السبت في فيينا.

فتحت “11 سبتمبر” باباً واسعاً لاندفاعات راعي البقر الأميركي وشطحاته في كل اتجاه، فجاء الاهتمام الأميركي الحثيث بقضايا الشرق الأوسط والانغماس المباشر فيها، مصحوباً بفرض واشنطن هيمنتها وأجندتها على الجميع. حيث قامت واشنطن بتجنيد وتوظيف مختلف حكومات العالم، خصوصاً في الشرق الأوسط، حيث انقلب السحر على الساحر، فخضع حكامٌ عرب لابتزاز واشنطن بالحجة نفسها التي كانوا يبتزون بها العالم وشعوبهم، فصارت صفقة مضمونها “الطاعة مقابل البقاء”، وعنوانها “مكافحة الإرهاب”، لكنها فشلت بامتياز في القضاء عليه. بل كانت سبباً جوهرياً في تغذية العنف وإعادة إنتاج الأفكار والتنظيمات المتشددة في نسخ أكثر تطرفاً ووحشية. ربما كان الأوروبيون أعقل وأكثر حنكة وخبرة من الأميركيين. لكن، عند الخطر الفزع الإنساني واحد. والقرب الجغرافي والتداخل الجيواستراتيجي يجعل أوروبا أشد حساسية واستشعاراً للخطر من الأميركيين، القابعين بعيداً وراء الساحل الغربي من الأطلنطي. لذلك، ستكون التداعيات أخطر وأعمق من مجرد سلوك عقابي مباشر، بضربة هنا أو عملية عسكرية هناك. ومن الصعب التنبؤ هل ستكون الغلبة لعقلانية القارة العجوز وخبرتها، فتعمل على معالجة جذور العنف، لا مظاهره، أم ستندفع، مثل واشنطن، في ملاحقة التداعيات وتجاهل المسببات. لن يكون الاختيار بين الطريقين سهلاً، وستحاول أطراف كثيرة توجيهه لمصلحتها، لا للحفاظ على أمن أوروبا، أو الاستقرار في العالم. في كل الأحوال، ستعبد 11 سبتمبر الأوروبية الطريق أمام القارة العجوز، لتملأ الفراغ الأميركي في الشرق الأوسط، فتقتحم المنطقة، وتفرض سطوتها، بصوت العقل، أو بسوط القوة.

العربي الجديد

 

 

 

 

هل هو “إعلان حرب على الحضارة”/ مطاع صفدي

كثيرة هموم العقل الغربي هذه الأيام حول مصيره. قد لا تعبر عن همومه تلك سياسات حكوماته القائمة، وإن كان يخترق ببطء سجن الأكاديميات المغلقة على ذاتها. فالعقل الغربي والأكاديمي منه بخاصة كفّ عن ابتداع النظريات الكليانية. لم يعد طامحاً إلى اختلاق مشاريع التغيير الكونية، وحتى الوطنية المحدودة منها.

فالموسم الثقافي لنهاية العام الحالي كانت هي الأفقر بالنوع والكم. في مجال الفكر والإنسانيات؛ فرنسا مثلاً لم تعد تقرأ كما كانت خلال معظم سنوات النصف الثاني من القرن العشرين الماضي، والمكتبة الألمانية المتميزة دائماً لا تزال إصداراتها الفلسفية تدور حول ذاتها، أي بما كانت أبدعته من التحليلات المبتكرة فكرياً واجتماعياً على ضوء فلسفة الاعتراف التواصلي التي أعاد تأسيسها يورغن هابرماس، وتابعها تلميذه وصديقه وخليفته في إدارة معهد فرانكفورت المتزعم أوروبياً لأطروحات الفكر الماركسي وتطوراته خلال القرن العشرين.

إنه ذلك الفيلسوف العملاق جسداً وعقلاً، اكسل هونيت.

لكن يبدو أن طاقة العقل الجرماني قد توقفت أخيراً عند أعلام هذه المدرسة. فهل لم تعد تجد الأجوبة على أسئلة مابعد الماركسيات، من أجل استعادة القدرة على صياغة المفاهيم الملائمة لفهم مآزق العصر التي تجاوزت إمكانيات المناهج المعرفية القديمة، وحتى الماركسيات وأشباهها.

يبدو استعصاء هذه الحالة ليس في المجال الثقافي وقيادته الفلسفية فحسب، بل هو الخواء السياسي الذي يعصف بأنظمة الحاكميات القائمة. إنه الارتباك المضطرد في مسيرات القرارات والمواقف الحكومية، بما يؤكد لإنسان الغرب أن فوضى حكامهم في الشأن السياسي الخارجي ليس سوى تحصيل حاصل لفوضى الداخل. فلم يكن العقل الغربي يتوقع أن تعاود المشكلات التقليدية في العلاقات البينية الأوروبية ذاتَها ما بعد قيام اتحاد القارّة، بذات القوة والتعقيد اللذين كانا يطبعان علاقاتها ما بين كبارها، وذلك قبل تشكيل وحدتها الحالية.

لكن مع الحكم السريع القائل أن تزايد التشابك المضطرد والمتفرع دائماً في المسالك البينية لأقطاب الاتحاد، قد ساهم بقدر كبير في تعطيل ماهو الأهم مما كان مأمولاً من فعاليات الاتحاد في محيطه الخارجي الأقرب، وهو حوض البحر الأبيض المتوسط على الأقل.

فالفراغ السياسي الكبير والمتمادي، مع دول المحيط المتوسطي ضاعف من عزلة أوروبا إجمالاً عن محركات وهموم السياسة الدولية، المشتركة، واستراتيجيتها العامة؛ ذلك أن كل النشاط الدولي الأوروبي طيلة العقود الأخيرة كان في أحسن ظروفه مجرد اصداء أو ذيول للسياسة الأمريكية. لم تكن هذه الحالة مجرد تعبير عن تفاوت في ميزان القوى ما بين القارتين الأمريكية والأوروبية، بقدر ما كانت بعض الثمن الباهظ لتخاذل العزيمة الوجودية، وشيئاً من العنصرية الكامنة تحديداً لدى قادة الاتحاد الأوائل، وفي المقدمة يبرز زعماء ألمانيا وفرنسا وبريطانيا الذين اعتبروا أن التفاوت في المعاملة مع الآخرين هو حق من حقوق التفوق المشروعة لأصحابه. لكن حين تخطى الدبُّ الروسي صحاريه الثلجية وحوّل مسيرته نحو الغرب… معلناً أن الحرب الباردة لم تنته فصولها بعد، وأن الغرب لم يهزم (الأمة الروسية)، بل إنها هي التي اسقطت نظامها الأيديولوجي بيدها، ومع ذلك حاول الغرب أن يختطف كامل الرصيد الإيجابي دولياً واقتصادياً المتأتي من هذه الهزيمة الاستراتيجية العظمى للنظام الذي كان حاكماً لنصف العالم؛ فالاندفاع الروسي المتجدد لاسترداد حصته المسروقة من النفوذ الدولي أمسى اليوم يتحرك على مستويين أوروبي وعربي متوسطي؛ هذا مع معرفة أن الوثبة القيصرية على عمق أوروبا الشرقية لن يكون لها حظوظ نجاح كاسح، سوى أنها قد تبعث الإنقسام القديم لجغرافية القارة، وفرض العقابيل المرّة المعروفة لهذه التجزئة في مختلف نواحي الحياة المدنية والاقتصادية خاصة والتي سيعانيها الانسان الروسي نفسه في حياته اليومية، قبل سواه.

أما الاندفاعة الروسية على المستوى الآخر العربي والمتوسطي. فسوف تكون (ثورات) الربيع هي ضحيته اليومية المستمرة، فإن جميع (مبادرات) التدخل الروسي، في بلاد الشام تحديداً، قد أنجزت حتى الآن كل ما يريد أن يعرفه الجميع عن هوية هذا التدخل وأهدافه الحقيقية، وذلك على الرغم من أن مذهب (القيصرية) الغازية المعاصرة حرص على إخفاء مخططها مستعيراً مختلف الأقنعة الإيديولوجية المتعارضة لتغطية وجهه الأصلي ولكن دون طائل.

هكذا يمكن القول أن سياسة التخاذل الأوروبي قد سبقت تحولات أمريكا /أوباما نحو سياسة الانسحابات بالجملة والتفصيل من القضايا العالمية الشائكة، ومن تلك المدعوة بالشرق أوسطية خصوصاً. لكن هذه القضايا قد فارق أهمُها حدودَه الجغرافية منذ أن افتقدت هذه القضايا الحيوية عواملَ الحسم المحايثة لتناقضاتها الذاتية أولاً. تلك العوامل التي كانت محتكرة الفعالية لعالم الغرب. فإن انسحاب أوروبا من كل مشاركة جدية في انضاج الوطنية النهضوية والالتزام بأهداف التنوير العربي خارج معادلات الربح والخسارة، أفقد الاتحاد جوهر صدقيته كرائد حقيقي لعصر مابعد الأيديولوجيات، حالما يسود نظام أنظمة المدنية تحت هالة الحل الإعجازي للتاريخ الإنساني وفق المعادلة، التي كانت مستحيلة لدهور سحيقة بين «اقنوميْ» السياسة الكونية وهما الحرية والمساواة.

اليوم بات هذا الاتحاد العظيم هو أكبر مجرّة بشرية، مؤلفة من مجتمعات الخائفين دولاً وأفراداً. فقد صار أحدث تعريف للعقل الغربي هو انه عقل الرعب، ربما لم يفارق هذا العقل رعبه القديم دائماً. لكنه كان يبتدع في كل صدمة رهيبة علاجها الفكري ما قبل البنيوي والعضوي.

ها هو يكتشف في لحظة الضعف الأخيرة إزاء ضربات الإرهاب المتوالية إن بطولته الفريدة في قدرته على اختراع لكل أزمةٍ الأيديولوجيا المناسبةَ لظروف معالجتها.

هذه البطولة ليست سوى ايديولوجيا هي أيضاً. فالمادة التي تشتغل عليها كل من ثقافة الصواب و الخطأ إنما هي من طينة واحدة. وما الفارق بين المنهجين سوى خط نحيل من أوهام التصور وليس من عجائب التفكر.

هذا الغرب المرعوب اليوم بما لم يعانِه منذ الحرب العالمية الثانية، ليس ذلك بسبب أن أخطاراً مداهمة تغزو عاصمة النور باريس، بل ان ما يرعب وجدانه السياسي هو أنه لم يعد لديه جاهزية ما قد يرعب بها اعداءه.. أدهى ما يخيف ليس هو الوحش نفسه، بل زئيره البعيد أو القريب.

هل يشعر الغرب أنه فات الأوان، وإن الوقت هو للدفاع وليس للهجوم. أليست هذه هي الحالة السلبية المزرية بحق التفوق (الحضاري) أن يصبح مدرّبو الوحش هم من أوائل ضحاياه.

هذه الغزوة الهمجية التي قد يعتبرها البعض أنها بمثابة إعلان حرب كل «الحضارة»، ألا تضع حداً لألاعيب من كان يصنف نفسه من بين قادة المجتمع الدولي، المنخرطين في اللعبة الراهنة تحت تسمية مؤتمر فيينا للسلام. إنها الغزوة (الإرهابية) التي حكمت على هذا المؤتمر مقدماً بالعدم واللاشيئية. لكن اعضاءه للأسف يتابعون لقاءاتهم ما بين أصناف الأعداء والأصدقاء وكل الدرجات الأخرى من العلاقات شبه الشخصية بين رموزه.

المهزلة في هكذا مؤتمر أنه حتى إذا ما أنتج بعض الاتفاقات المصنفة في حالة الإعداد للسلم في سوريا المعذبة، فهي المرشحة حتماً ألا تفارق مخطوطها الورقي أبداً.

هذا (المجتمع الدولي) ليس مُعدّاً لأي صلاح دولي حقيقي. إنه مصنوع فقط من أجل أن يقول إلى الملأ أن هناك بديلاً عن القتل. لكنه لن يطرح أية وسيلة ناجحة في وقف القتل، بل في إعداد جبهات أخرى له، وتوريد أسلحة وتوزيع أموال قذرة هنا وهناك.

هذه الحقيقة يعرفها الجميع؛ لكن المهزلة ان هذا الجميع هو المنشغل والدؤوب على تكرار التمثيلية إياها العبثية. فالتكرار يريد أن يجعلها أشبه بواقع، وإن لم يصدقه أحد…

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

القدس العربي

 

 

 

 

داعش كتنظيم فرنسي: «تخليص الإبريز» على منهاج بلانكي/ وسام سعادة

علّل تنظيم «الدولة الإسلامية» الهجمات الرشاشة الدموية لإنتحارييه في باريس بإثنتين: الردّ على سبّ النبيّ، مرة أخرى، والردّ على ضرب المسلمين في أرض الخلافة. «استطرد» التنظيم، تجاوزاً على هذين السببين، فوصف باريس نفسها بـ»عاصمة الرذيلة». استدرك في مكان آخر من البيان، فلا بدّ للكفر أن يُحسَب فيها على الملّة، وليس على الرذيلة فحسب، فوجد «سمة دينية» لمباراة كرة القدم التي كان يحضرها الرئيس فرنسوا اولاند ليلتها، حيث أنّها مباراة بين فريقين صليبيين.

في بيان «التنظيم» تداخل بين زمنين. زمن يوحي بعلاقة تحاربية خارجية بين الدولتين، الفرنسية والإسلامية: الأولى تعتدي على الثانية في دار الخلافة، فيرد جند الخلافة لها الصاع صاعين. يشرئب في المقابل زمن آخر، زمن التداخل المرعب: في هذه الحالة لا تعود الحرب بين دارين، دار السلام – داعش ودار الحرب – فرنسا، بل تصير حرباً بين «فرنستين»، فرنسا – الجمهورية – الرذيلة، وفرنسا – الإمارة الجهادية، المنتمية من موقعها كـ»جزيرة»، إلى فلك «الدولة الإسلامية». واقعة التنقل بين الفضاء الترابي للدولتين الإسلامية والفرنسية يقيم حيثية الزمن الأول. واقعة أنّ فرنسا هي مسقط رأس المهاجمين، وأنّ الجنسية تحصّل فرنسياً من مسقط الرأس، يعطي زاداً للزمن الثاني.

الزمن الأوّل يرشح إرهاباً. الزمن الثاني يمتلئ بالرعب. بالاسترسال في المخيال الداعشي يفترض بأنْ يكون أفق المواجهة تبعاً للزمن الأوّل هو القتال حتى فتح فرنسا أو الهدنة بين «الدولتين» مع الجزية. أما في الزمن الثاني، فإنّ «داعش» تستحيل تنظيماً له طابع فرنسي يعمل على «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» داخل المجتمع الفرنسي، وانطلاقاً من الإمارة الجهادية التي يعمل على انشائها حول باريس وداخلها. اختلاف كبير عن هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر هنا. الهجمات الرشاشة تشي بمنسوب مرعب من التبيئة مع المكان.

صورتان تحضران من القرن التاسع عشر. الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي في مشاهداته عن المدينة التي دوّنها في «تخليص الابريز في تلخيص باريز»، والثوري الفرنسي اوغست بلانكي الذي احترف الجهاد المسلّح لعقود لا يكلّ أو يملّ فيها، وهو يجهّز مجموعة من المسلّحين للسيطرة على «دار البلدية» في المدينة ثم يدخل السجن ثم يخرج منه، ويعاود الكرة، ثم يدخل السجن.

الإسمان ناصعان في اعتبارات اليوم. الطهطاوي يحتفى به كأحد رواد النهضة الثقافية العربية و»عصر الإستنارة». وبلانكي كجزء من التراث الثوري الاجتماعي لباريس واسم لأحد بولفاراتها. على الأغلب أن رجال «تنظيم الدولة» لم يسمعوا ببلانكي، وقلّة منهم حكمت على «باريز» بالعودة إلى الطهطاوي. لكن في مكان ما، هذا الكابوس الليلي الأخير لباريس، هو كابوس التداخل بين مقامي الطهطاوي وبلانكي!

شغف الطهطاوي بباريس، لكنه وصفها هو الآخر بمرتع «الشهوات الشيطانية»، واعتبر المدينة «مشحونة بكثير من الفواحش والبدع والاختلالات». اهتمّ بحماية نفسه وذوي جلدته من مجونها، ولم يناد بالطبع بالأمر بالمعروف فيها. بقيت عنده في نهاية المطاف داراً للحرب، للفتح أو للصلح، وليس لإقامة الحدود «خبط لصق». تعامل مع أهلها بحساسية «اثنوغرافية». وصف رجالها بأنهم «عبيد النساء وتحت أمرهن سواء كنّ جميلات أو لا». أخذ عليهم عدم الغيرة على النساء، وعلى نسائها «قلة العفاف». لكنه التقط في كل هذا نقطة مشتركة مع «العرب» على ما قال: أشاد بعدم ميل الفرنسيين « إلى الأحداث والتشبب فيهم». وقال أنه «من محاسن لسانهم وأشعارهم انها تأبى تغزّل الجنس في جنسه». فاضل بين الباريسيين والقبط أيضاً، حين قال: «ان الباريزيين يختصون من بين كثير من النصارى بذكاء العقل ودقة الفهم وغوص ذهنهم في الغويصات، وليسوا مثل النصارى القبط، في أنهم يميلون إلى الجهل والغفلة».

المشاركون في الغزوة لم يستوعبوا أنّ مسقط رأسهم دار حرب. استعاروا من اليمين المتطرف فكرة أن مصادفة ولادتهم على هذه الأرض هو بحدّ ذاته شكل من أشكال الغزو. لكن، والحال هذه، لم تعد حربهم على فرنسا لسلب الغنائم أو فرض الجزية أو فتحها، وانما صارت حرباً يريدونها ضد «الرذيلة». داعش الفرنسية تحرّكت كمؤسسة حسبة تبحث لنفسها عن مكان في نظام الفصل بين السلطات!!

في القرن التاسع عشر، غدا بلانكي رمزاً محبوباً في الفئات الشعبية، لكن بلانكي لم يكن «اتكالياً» في علاقته مع الشعب. كان «توكلياً» على طريقته: عليكَ أن تشكّل مجموعة مسلّحة صغيرة، وتتحرّك باتجاه «دار البلدية» وتحتله وترفع علم الثورة وتفرض الديكتاتورية المؤقتة. ترجيع لصدى حديث «ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل».

الرجال من داعش «طهطاويون من داخل النسق الباريسي»، «وبلانكيون من خارج النسق الفرنسي». لم يرفعوا راية الخلافة فوق دار البلدية، لكنهم لم يكتفوا بالتفجيرات الانتحارية. حاربوا بالمدافع الرشاشة. استخدموا بلانكي عن غير معرفة بشخصه، إلا مروراً ببولفاره. طليعة صغيرة مقاتلة تتحرّك في فضاء معجون بتاريخ من المتاريس وحروب الشوارع. هي في وقت واحد، غريبة عنه تماماً، ولصيقة به أكثر مما يحسبه القاصي والداني. هم رواد «تخليص الإبريز» على منهاج بلانكي.

٭ كاتب لبناني

القدس العربي

 

 

 

هجمات باريس تستعيد نقاش 11/9: جدلية الإسلام والإرهاب/ علي السقا

يبدو أن إطلاق إسم 11 سبتمبر/أيلول الفرنسي، على الهجمات الإرهابية التي شهدتها العاصمة الفرنسية مساء الجمعة، لا يجانب الحقيقة. فهذه التسمية لا تتحصل على مضمونها، من مقاربة حسابية بين أعداد الضحايا الذين سقطوا في باريس، وبين أولئك الذين قضوا قبلهم في نيويورك في العام 2001، بل تنطلق من ماهية الحدث نفسه، بأبعاده السياسية النفسية والإجتماعية والدينية.

فمرتكب هجمات باريس هو “الإبن الشرعي” لمنفذ هجمات نيويورك، وبالتالي فإن ما حصل، وقد يحصل، يعيد النقاش حول الإسلام، كما كل مرة، إلى المربع الأول.

في الواقع، تأخذ “داعش” المسلمين رهينة لتأويلات، تفتح أبواق العنصريين، والقلقين وجودياً، جراء سلوكيات مسلمين مفترضين، تقاتلهم الدولة الفرنسية، بشكل محدود، في العراق والشام. وفي رد على “تعميم” التهمة، واظب مغردون، خلال اليومين الماضيين، على التأكيد بأن “الارهابيين ليسوا مسلمين، فلا مكان للإرهاب في الاسلام”.

الحدث الأميركي الذي لم تدركه وقتها وسائل التواصل الإجتماعي، يختلف عما هو عليه الحدث الفرنسي الذي تدركه وسائط الاعلام البديل، وباتت حاضرة فيه بقوة. وبالتالي فإن مقاربة الإسلام “الجهادي”، صارت ضمن دائرة فضفاضة من الآراء غير الخاضعة لتوجيه رسمي أو شبه رسمي، التي تنهل، وتغذي في آن، أي فعل إجتماعي لاحق بعيداً من القنوات السياسية والثقافية المعهودة.

فقد شهد الفضاء الإفتراضي، منذ أمس الأول، نقاشاً عارماً شارك فيه آلاف المغردين. وتحت ثلاثة وسوم استحوذت على الجزء الأكبر من النقاش، هي #muslims، و#muslimsareterorists، و#muslimsarenoterorists، لم نشهد وجود طرفين متقابلين كل منهما يعرض حجته، إنما هناك أطراف متعددة يقارب كل منها الإسلام وفق منظوره الخاص.

ويبدو أن أحد الوسمين الرئيسيين جاء رداً على وسم آخر، ما يدل على وجود إما طرف مبادر إلى اتهام الاسلام، أو آخر مبادر إلى رفع التهمة عنه في فعل استباقي.

“الإرهاب لا دين له. هؤلاء الناس، إذا كانوا مجرمين، فإنهم حتماً لا يمثلون الإسلام على الإطلاق”، تقول تغريدة من بين آلاف التغريدات، التي تعبر عن وجهة نظر غربيين تجاه ما يرونه إجحافاً في المزاوجة الدائمة بين العنف والإسلام. وجهة النظر تلك، ليست وليدة نقاش ديني بحت، وفق ما يظهر للمتابع، بل الأحرى أنها تأتي نتاجاً للإندماج الإجتماعي الذي شرع به مسلمون على مدى عقود في الغرب. وإذ احتفظ بعض المسلمين هناك بخصوصيتهم الدينية، كما هي الحال في أوروبا، فإنهم فعلوا ذلك في محاولة للتوليف بين القيم الإسلامية وبين قيم المجتمعات التي يعيشون فيها.. وإن كان لا يسعنا القول أنهم جميعاً نجحوا في ذلك.

لكن هذا لم يمنع الجزء الآخر من المغردين من محاولة تثبيت صورة ذهنية مسبقة عن المسلمين. لم تفعل “داعش” ومثيلاتها سوى تلميعها لتصبح أكثر وضوحاً بالنسبة إلى هذا البعض.

“المسلمون يقتلون بعضهم بعضاً في كل الاوقات. لا أحد يهتم لهؤلاء المتوحشين. يجب أن يبقوا خارج الدول المتحضرة”، يقول أحد المغردين. إنها ثنائية الحضارة – التخلف نفسها، يتنشلها هؤلاء من عمقها التاريخي ويعودون بها إلى الواجهة. ثنائية ما فتئت تناقش أخلاقياً، حق الدول “المتحضرة” في استباحة بلدان بالحرب والحصار الإقتصاديين، لأنها وفق قيمها، قد حكمت على مجتمعات بأكملها بالتخلف.

ويبدو أن هذا الرأي سيكون له عظيم الأثر في موجة اللجوء التي تشهدها أوروبا، ذلك أنه سيعمد إلى تصوير هؤلاء على انهم “ذئاب سيقتلوننا”، كما تقول إحدى المغردات.

وبين هذه وتلك، فإن أسوأ ما قد يقع عليه المتابع لهذه النقاشات، هو ذلك الصنف الذي يبرر ما حصل في باريس، وسيجد مسوغاً أخلاقياً لأحداث مشابهة لاحقاً. حيث يرى في ما جرى “رداً متأخراً على مجازر فرنسا في الجزائر”! وهذه فكرة، إضافة إلى كونها ساقطة سياسياً وأخلاقياً، فهي أيضاً مجانبة واضحة لحقيقة تقول إن ما حصل في الجزائر لم يكن حصيلة صراع مسيحي – إسلامي في العمق، وإن كان لا يمكن الجزم بعدم وجوده نهائياً، بل هو نتاج قيم أتت بها الحداثة ولا تزال موضع نقاش مستمر.

المدن

 

 

 

الوحش الذي انقض على باريس/ عادل درويش

عندما خفقت أجنحة الوحش الوطواطي، محاولا إطفاء روح عاصمة النور، كانت ثالث مرة يغرس فيها مخالبه في هجمات جبانة في جسم الإنسانية، بعد الطائرة الروسية وقنبلتي بيروت.

هناك ملاحظات وضعت أولها في زقزقة مساء الجمعة. الدواعش يتراجعون ككلب مذعور يفر وذيله بين رجليه، فرارا دفعهم لمهاجمة أهداف رخوة لا تستطيع الدفاع عن نفسها وبخسائر طفيفة (خسائر «داعش» في الطائرة الروسية وبيروت صفر، وفي باريس خسر سبعة أو ثمانية مقابل 130 قتيلا و300 جريح) بينما فقدوا المئات أمام قوات البيشمركة والمعركة الدعائية، خاصة بعد أن تركت المقاتلات الكرديات علامات أحذيتهن الحريمي على صورة «الخليفة» البغدادي.

جاء الهجوم بعد يوم من تحرير سنجار وتلقى إرهابيو «داعش» علقة معتبرة؛ وصبيحة نجاح إحدى طائرات «درون» الأميركية في تصفية الإرهابي جون الذي اكتسب شهرة واسعة بين المختلين نفسيا كقاطع للرؤوس في الرقة عاصمة دولة البغدادي المزعومة، بينما أعلنت بغداد استمرار تقدم القوات العراقية على محورين وقصفها للرمادي المتوقع طرد «داعش» منها قريبا. وهنا تحرك «داعش» بعملية دموية وبروباغندا واسعة لإثبات أن الماركة لا تزال في السوق.

الملاحظة الأخرى، أن فيديو البنتاغون لتصفية الإرهابي جون وسيارته تحترق في ميدان وسط الرقة حيث مركز قيادة «داعش»؛ فلماذا لم يدك طيران التحالف المبنى على رؤوس ساكنيه السيكوباتيين psychopaths؟ وننتظر إجابة البنتاغون.

 

الملاحظ أن سرعة تفعيل «داعش» لهجمات باريس تعني وجود خلايا نائمة في باريس، وربما في بقية أنحاء فرنسا وأوروبا. الخلية النائمة الواحدة يتراوح عدد أفرادها ما بين اثنين وخمسة. وإذا افترضنا أن كل خلية مكونة في المتوسط من ثلاثة أو أربعة، فقد تم تنشيط ما لا يقل عن أربع خلايا نائمة في منطقة باريس وحدها، أو تمكنت من الوصول إلى العاصمة الفرنسية في أقل من نصف يوم. لأنها تحتاج إلى بضع ساعات أخرى لمراقبة الأهداف والحصول على الأسلحة والصدريات الناسفة (دخول اثنين أو أكثر إلى الاستاد، يعني ساعات طويلة للحصول على تذاكر واختيار أماكن الوقوف والجلوس).

الخلايا النائمة بطبيعتها يصعب على أجهزة الاستخبارات والأمن كشفها قبل أن تضرب ضربتها. أجهزة الاستخبارات تعتمد على عنصرين. العامل البشري في اختراق الشبكات الإرهابية ومراقبتها من الداخل (وهو ما نجحت فيه الأجهزة البريطانية حتى الآن، وأحبطت ما لا يقل عن أربعين مخططا في ثلاثة أعوام) والآخر هو التكنولوجيا بالتنصت على المكالمات ودردشة الإنترنت والاتصالات السلكية واللاسلكية وحركة السيارات، وما يعرف بالرسل حاملي الرسائل وكاميرات المراقبة المعروفة بـCCTv.

ولا نريد أن نسارع في اتهام الأجهزة الفرنسية بالتقصير قبل استكمال التحقيقات، لأنه من طبيعة الخلايا النائمة أنها نائمة، أي لا تتصل ببعضها البعض وغير معروفة من قبل للبوليس.

لكن هناك بعض الخطوات الواقية، أهمها وجود نقص كبير في CCTV في فرنسا، بالمقارنة ببريطانيا (أنا آخر من يطالب بالتدخل في حياة الناس الشخصية والتطفل عليهم بكاميرات، لكن هناك أماكن عامة كالمطارات ومحطات القطارات والملاعب الرياضية ليس فقط للحماية من الإرهاب، بل لضبط النشالين وأيضا لتجنب الازدحام والهرولة، وما قد ينتج عنها من حوادث) وهو أمر يجب على الفرنسيين إعادة النظر فيه.

الملاحظ أيضا أن الأسلحة التي استخدمها الإرهابيون مساء الجمعة، كانت نفسها التي استخدمت في العمليات الجبانة التي سبقتها في الهجوم على مجلة «شارلي إيبدو»، وعلى المتجر (البندقية الآلية AK47) والأحزمة الناسفة. فهل كان المصدر واحدا (من الأرقام المسلسلة للأسلحة) وهل هناك مخزن موجود قرب باريس؟

النقطة الأخرى هي دور المسلمين أنفسهم والمجتمعات الإسلامية. فتجنيد هذه الخلايا لا يتم في فراغ، وإنما داخل التجمعات الإسلامية. ويجب أن يلاحظ الآباء والأمهات والمعلمون أين يذهب الولد بعد المدرسة؟ من الذين يجتمع بهم؟ هل هناك تغيرات طارئة على السلوك؟ ماذا في حقيبة المراهق؟ من الصعب إخفاء بندقية آلية.. أي التيقظ حتى لا يقع أولاد المسلمين فريسة لهؤلاء الذئاب.

ملاحظة أخرى، وأسوقها لليسار الليبرالي الساذج (إحدى الزعامات اليسارية النسائية في حزب العمال البريطاني دعت إلى التفاوض مع «داعش»!!) إنه طوال 60 عاما كانت العمليات المسلحة وسيلة لا غاية. وكانت هناك دائما مطالب لمختطفي الطائرات، أو زارعي القنابل (كمنظمة الجيش الجمهوري الآيرلندي، وكانوا يبلغون قبل الانفجار بنصف ساعة حتى لا يصاب مدنيون) وعندما تحققت المطالب أو بدأت المفاوضات وقفت العمليات.

لكن وحشية الإبادة غاية لا وسيلة عند المنظمات الفاشية مثل «داعش» و«القاعدة» وأنصار بيت المقدس وغيرها. فليس لديهم مطالب محددة يكفون عن الإرهاب عند بلوغها. فإعلان مسؤوليتهم عن الطائرة الروسية وقنبلتي بيروت لم يتضمن مطالب بالقول مثلا «إذا لم يتحقق كذا فسيكون المزيد». وعندما حاصر البوليس المسرح في باريس وكان هناك 100 رهينة، لم يتقدم الإرهابيون بأي مطالب مقابل الإفراج عن الرهائن، مما يعني أن الغرض من العملية كان القتل وتدمير الآخرين.

الملاحظ أنه في النماذج الثلاثة هناك اختيار يدل على كراهية شديدة للبشرية والحضارة، وحق الأفراد في التمتع بحياتهم. نمط حياة ترفضه الفاشية التي تتخذ من الدين وسيلة (إجازة في مصايف شرم الشيخ، شوارع بيروت العامرة بالمقاهي والحيوية، والأصل الذي قلدته بيروت وهو باريس، والهجوم فيها كان على مطاعم ومسرح فيه فرقة غنائية ومباراة رياضية).

الملاحظ أن «داعش» في تبنيه لإرهاب باريس، أصدر بيانا قويا يندد بباريس كـ«عاصمة العهر والمجون والفساد»، ومما قالوا في البيان: «قام المجاهدون بهذا العمل الجهادي في سبيل الله وتنفيذا لمشيئته وتعليمات رسوله..». السؤال هنا لمسلمي أوروبا وفرنسا بالتحديد.. أي شيء أكثر إهانة لهم: رسومات كارتونية في مجلات وصحف لم يروها شخصيا (وهناك أكثر من تفسير فصاحب الرسوم يقول: إنه لم يقصد بها الإهانة)؟ أم سرقة الفاشيين واستغلالهم للدين لتبرير القتل والعنف والتدمير؟ خاصة أن مفجري القنابل وضاغطي الزناد (سواء في بيروت أو باريس) يعرفون أنهم إحصائيا يستهدفون مسلمين؟

إذا كانت مدن أوروبا وبلدان إسلامية شهدت الآلاف يتظاهرون ضد رسومات كارتونية، فأين مظاهرات آلاف المسلمين ضد من سرق دينهم وقتل الأبرياء؟

لحظتها نعرف أن هناك يقظة بدأت تسري في أبدان المجتمعات الإسلامية في أوروبا وخارجها؛ يقظة لا يمكن بغيرها هزيمة «داعش» كتنظيم أو كجنين وحش يكمن في العقل اللاواعي عند بعض المسلمين.

الشرق الاوسط

 

 

 

 

هجمات باريس.. السياق والمستقبل/ أيمن نبيل

الهجمات التي شهدتها باريس في الأيام الماضية تحتاج وقفة مطولة، ليس لبعدها الأخلاقي والمأساوي فحسب، بل لضرورة تقويض “المحرم” الذي يكرس حاليا، وهو اعتبار وضع الجرائم والانتهاكات في سياقها التاريخي والسياسي/الاجتماعي ناتجا عن انحياز قبلي لها.

ذكر البيان الصادر عن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أن الأماكن التي استهدفت في هجمات باريس “اختيرت بعناية”، والواقع أن الهجمات تميزت بعامل التزامن، وهو عامل متكرر في كثير من عمليات التنظيمات الأصولية الجهادية منذ عقود، أما “المكان” فكان أهدافا ليس لها دلالة إهانة الدولة، بل إرعاب المجتمع من خلال ضرب تجمعاته (مطاعم، شارع مكتظ بالمدنيين، حفلة لموسيقى الروك و.. إلخ).

من ناحية أخرى، تثير العمليات الإرهابية لداعش سؤالا عن الشروط القبلية للهدف المفترض، والشروط هنا متطابقة مع المخيال الجمعي لتنظيم وحشي يعيش في الزمن الغابر.

الهدف عدو مباشر -والعدو في وعي التنظيم ليس جهاز الدولة فحسب بل المجتمع برمته- يهاجم التنظيم عسكريا وله وعي إمبراطوري، حتى وإن لم يعد إمبراطورية، وهكذا فإن روسيا وبعض دول أوروبا الغربية هي الأهداف الملبية للشروط، وتتم عمليات إعادة صياغة للعدو من خلال الزمن المناسب للمخيال الجمعي، فالبيان المشار إليه تحدث عن فرنسا باعتبارها “حاملة لواء الصليب”، وهذا المرض الناستالوجي المستفحل يميز عادة جميع الحركات الدينية/الخلاصية.

في الثلاثينيات من القرن العشرين كانت فرنسا هي الوجهة الثانية للهجرة في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية، وكانت هجرة أبناء المستعمرات إلى المتروبول في اطراد ولا تزال بعد فكفكة الاستعمار كنتيجة ثقافية للمرحلة الكولونيالية، بالإضافة إلى المهاجرين القادمين من أوروبا الشرقية وشبه الجزيرة الإيبيرية.

وحسب دراسة نشرها المعهد الفرنسي للإحصاء والدراسات الاقتصادية في نوفمبر/تشرين الثاني 2014 فإن 46% من المهاجرين لفرنسا عام 2012 من أصول أوروبية، في حين أن 30% قدموا من أفريقيا، وعلى رأسها الجزائر والمغرب، وهذا يتفق مع إحصاءات مؤسسات أخرى في العام 2006، حيث تقع الجزائر على رأس قائمة الدول الأفريقية الرافدة للهجرات نحو فرنسا، وشكل الجزائريون كذلك أعلى رقم لتقديم طلبات اللجوء حينها، يليهم البوسنيون.

في مجتمع يشكل المهاجرون فيه 8.8% من السكان (في العام 2013)، تصبح مسائل الاندماج والتعددية الثقافية ذات حساسية شديدة، خاصة مع نسب البطالة، حيث وصلت نسبة العاطلين في فرنسا في أكتوبر/تشرين الأول 2015 إلى 10.3%، وهذه نسبة مرتفعة نسبيا بالقياس إلى ألمانيا ذات الوزن الديمغرافي الأثقل من فرنسا والمساحة الجغرافية الصغرى.

وفي حالات تأزم كهذه يسهل كثيرا على الوعي الاجتماعي تصويب اللوم على المهاجرين والأجانب عامة، وتقوم قوى اليمين المتطرف عادة بتهييج المجتمع من خلال خطاب شعبوي يرتكز على متلازمتين: متلازمة “الأجنبي” والبطالة، ومتلازمة المهاجر والهوية الحضارية حين يكون القادمون من خارج الفضاء الحضاري المكرس فرنسيا في الفترة الأخيرة، أي من خارج أوروبا، بعد أن كانت المستعمرات في أفريقيا ضمن الفضاء الحضاري الفرنسي كهوامش، بالإضافة إلى استثمار المشاكل الحقيقية مثل الهجرة غير الشرعية وفشل كثير من مهاجري العالم الثالث في الاندماج.

من خلال ما ذكر آنفا، يتضح لنا أن المجتمع الفرنسي متوتر ومشدود بسبب بنيته المهجنة و”الفشل” الجزئي على الأقل لسياسات الاندماج، وهذا نقاش محموم في المجتمع الفرنسي منذ التسعينيات على الأقل حين صدرت قوانين “باسك” ليس لتنظيم الهجرة فحسب بل ولمحاولة منعها تماما.

وحين يأتي هجوم إرهابي ضخم كالذي حدث في 13 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، يمكننا التنبؤ بتوجهات القوى السياسية ونوعية خطابها الذي ستوجهه لمجتمع يعاني كل هذا التوتر قبليا، فمن الواضح أن هناك عواقب وخيمة ستطال المهاجرين المسلمين والعرب في أوروبا بعد هجمات باريس.

فبعد الهجمات بساعات قليلة شددت كثير من الدول الأوروبية الإجراءات الأمنية خاصة على الحدود، ومن المرجح أن تستمر عمليات التشديد الأمني كإجراء احترازي أولا، وكوسيلة رسمية لصد اللاجئين ومنعهم نهائيا من الدخول ثانيا، ومن الصعب الاعتراض على هذا اجتماعيا تحت ضغط رعب هجمات باريس وتبني داعش لها رسميا.

قوى اليمين المتطرف التي كسبت هذا العام نقاطا كثيرة من خلال ملف اللاجئين والهجمات ضد صحيفة “شارلي إيبدو”، ستحقق قفزة مهمة على صعيد الشعبية بعد هجمات باريس، فالمجتمعات الأوروبية قابلة حاليا بفعل عوامل الاقتصاد والأمن لاستيعاب أكثر الخطابات الشعبوية تطرفا

” هذا بالإضافة إلى أن قوى اليمين المتطرف التي كسبت هذا العام نقاطا كثيرة على الصعيد الاجتماعي/السياسي من خلال ملف اللاجئين والهجمات ضد صحيفة “شارلي إيبدو”، ستحقق قفزة مهمة على صعيد الشعبية وتوسيع القواعد بعد هجمات باريس، فالمجتمعات الأوروبية قابلة حاليا بفعل عوامل الاقتصاد والأمن لاستيعاب أكثر الخطابات الشعبوية تطرفا.

ولكن في المحصلة وعلى المدى المتوسط لن تكون هناك نتائج جيدة لخطابات شعبوية في مجتمع مهاجرين ذي خصوصية مثل المجتمع الفرنسي، لأن خطابات متطرفة في مجتمع كهذا تعني معاداة قطاع اجتماعي يحمل جنسية البلد ويدخل مؤسسات الصهر الاجتماعي، بالإضافة إلى أن أزمة الاغتراب المستحكمة التي يعيشها المهاجر الذي يتقن اللغة الرسمية ويحمل الجنسية ستتضاعف، وهذا يعني تاليا تضاعف الأزمات التي تدعي القوى اليمينية المتطرفة أنها تقف ضدها.

وفي نقاش المستقبل، لا بد من نقاش مستقبل العمليات الإرهابية نفسها، ويبدو جليا أن الثقافة السياسية الغربية، في بعدها العملي، لا تريد مبارحة موقع الضحية الخالصة، وإلا فإن الواضح أن السياسات الأميركية في العراق بعد الاحتلال، والتأخر الأميركي/الأوروبي في إيقاف مأساة الشعب السوري ودعم تحول ديمقراطي في سوريا، سمح لداعش بالانتقال من دائرة “الممكن” الثقافي إلى دائرة الواقع.

ولا يمكن فهم ظهور داعش من خلال سياق الاستبداد العربي فقط، بل من خلال اشتباكه الأساسي مع سياق السياسات الأميركية والأوروبية في العالم العربي، وهنا تجدر الإشارة إلى ممارسة خطيرة يقوم بها بعض الكتاب والصحفيين العرب في وسائل الإعلام وهي تحويلهم لأي محاولة لوضع الممارسات الإرهابية في سياق من الوقائع إلى “تابو” بدعوى أن هذا يعد “تسويغا” للإرهاب!

وهذا النمط من التفكير في الحقيقة هو أحد أهم تمظهرات الوعي الغيبي، ففي هذا العالم الدنيوي ليست الظواهر الإنسانية إلا نتيجة سياقها المعقد والمتشابك بالماضي والحاضر، ولا تنبثق من ذاتها بغير علل وعوامل. وتحريم وتجريم كل محاولة لوضع الإرهاب في سياقه هو إخضاع هذه الظاهرة للوعي الغيبي في رأينا، ومن كوارث هذا الوعي انه لا يسمح لنا بنقد الواقع كعمل أخلاقي، ويكتفي فقط بالبكائيات والمراثي و”جوهرة” البشر عبر اختزال الظواهر كلها في نصوص دينية، وهذا كله لا يغير شيئا لا في الواقع ولا في التفكير.

وعليه، إذا لم تحدث تغيرات في عناصر الواقع المكون من دول استبداد قمعية وقوى غربية تستثمر فيها ومعها، فإن العمليات الإرهابية ستستمر لأنها تتغذى من سياقها، وهو سياق نموذجي لكل النزعات الانتحارية والعدمية.

الجزيرة نت

 

 

 

 

ليلة بشار الباريسية/ خلف الحربي

جاءت تفجيرات باريس الآثمة بمثابة الهدية الغالية لجزار دمشق بشار الأسد وحلفائه الإيرانيين والروس، فقد استهدف الإرهابيون فرنسا التي طالما وقفت ضد بقاء بشار في السلطة ودافعت عن حقوق الشعب السوري منذ الأيام الأولى للثورة السورية.

على أية حال، فإن فرنسا التي قدمت للعالم مبادئ حقوق الإنسان واللقاحات الأساسية التي خفضت معدل الوفيات في هذا الكوكب وإشعار فولتير ورامبو، قادرة دون شك على استعادة توازنها بعد صدمة التفجيرات المريعة خصوصا وأنها أكثر الدول الغربية احتضانا للإسلام والمسلمين، ولكن مأساتنا نحن المسلمين مع هذه التنظيمات الإرهابية سوف تستمر طويلا ما دمنا لا نملك الشجاعة على الاعتراف بخطورة البيئة الفكرية التي أنتجتها.

سوف يبقى بشار وأمثال بشار يقتلون عشرات الآلاف من الأبرياء ما دامت هذه التنظيمات موجودة وتخدم أهدافهم والعكس صحيح، فوجود بشار في السلطة مع كل هذا الدعم العسكري الروسي والإيراني بالإضافة إلى مشاركة مقاتلي حزب الله اللبناني، هو أكبر ضمانة لبقاء داعش وما يشبهها من التنظيمات المتطرفة، لأن الإحساس بغياب العدالة في هذا العالم سوف يشجع المزيد من الشباب على الانخراط في هذه التنظيمات الدموية.

لذلك، فإن محاربة داعش دون محاربة بشار تبدو وكأنها مهمة مستحيلة وعبثية، وأكبر دليل على ذلك فشل كل الحملات العسكرية التي قادتها الدول العظمى ضد هذا التنظيم الإرهابي، لأن النتيجة مهما كانت كبيرة ودموية ووحشية فإنها تخسر ثلاثة أرباع قوتها بزوال السبب الرئيسي الذي ساهم في ازدهارها.

إذا كان هذا العالم يملك رغبة حقيقية في القضاء على هذا التنظيم المتوحش، فعليه أن يخلص السوريين أولا من وحشية بشار وحلفائه، فقبل مجازره وجرائمه الكيماوية لم يكن لهذا التنظيم وجود في سوريا، وكذلك الحال في العراق حيث لولا سياسات حكومة المالكي الطائفية وحلفائها الإيرانيين لما نجح هذا التنظيم في احتلال مساحات شاسعة من الأراضي العراقية في غمضة عين.

الشرق الأوسط

 

 

 

 

 

مجزرة باريس/ زيـاد مـاجد

تقاطعت في الجريمة – المجزرة التي قتلت وجرحت مئات المدنيّين في باريس قبل أيام أبعادٌ ثلاثة: عالمية وشرق أوسطية ووطنية فرنسية.

البعد الأول مرتبط بظاهرة الإرهاب العابر للحدود الذي دخل منذ العام 2001 مرحلة جديدة، ليس لجهة الإيديولوجيا، بل لجهة التخطيط والتنفيذ حيث مزيج الخلايا النائمة والعناصر البشرية المفاجئة في سلوكها وفي مخيّلتها الإجرامية.

البعد الثاني مرتبط بصعود داعش في سوريا (بعد صعودٍ في العراق) فوق أنقاض بلداتٍ ومدن سحقتها براميل نظام الأسد وصواريخه. ولا شكّ أن ترك سوريا نهباً للمجازر على مدى أعوام وتلكّؤ “المجتمع الدولي” ومعظم صانعي قراره تجاه كارثتها غذّى هذا الصعود وأتاح له الاستفادة من “مظلوميات” كثيرة.

أما البعد الثالث فداخلي أوروبي مرتبط بأزمات حادة داخل أكثر من مجتمع، لا سيّما المجتمع الفرنسي، لجهة قضايا الهوية والدين والثقافة والارتقاء الاجتماعي وآليات التمييز والتهميش، وما يصاحب التعامل معها من عنصرية وتنميط ومن غضب وحقد، تُعدّ بعض ضواحي المدن الكبرى مختبرات لها منذ سنوات طويلة.

وإذا كانت “الحرب الدولية على الإرهاب” التي قادها الرئيس الأميركي جورج بوش عقب هجمات 11 أيلول 2001 قد أثبتت فشلاً ذريعاً، إذ تفاقم الإرهاب في ظلّها وتصاعد بعد اجتياح أفغانستان والعراق، فإن انكفاء خلفه باراك أوباما وتردّده الدائم تجاه قضايا الشرق الأوسط، لا سيّما القضية السورية، أثبت هو الآخر إخفاقاً ذريعاً، يحصد العالم اليوم بدءاً من فرنسا بعض نتائجه المأساوية.

أما لماذا فرنسا، فالأمر يُحيلنا الى أزمة “النموذج الجمهوري” فيها اليوم، وإلى تفاقم الشروخ الاجتماعية، وإلى انتشار خطاب عنصري تقوده “الجبهة الوطنية” من جهة وظهور مقولات عدمية تُعادي العالم ومعنى الحياة وتُكفّر الآخر المختلف في بعض الأوساط الشبابية المسلمة المهمّشة من جهة ثانية.

هل من مخرجٍ أمام أوضاع كهذه؟

لا يبدو الأمر وشيكاً. فالمقاربة العسكرية التي تكتفي بقصف جوّي لمراكز داعش لا تكفي. والإجراءات الأمنية تُظهر مع كل عملية جديدة محدوديّة فاعليّتها، وتكرار الشعارات الإعلامية والسياسية المبتذلة تُغذّي الكراهية وتسطّح فهم القضايا الشائكة. وكلّ ذلك يُبقي جذور المشكلة ويؤجّل فقط وقوع كوارث جديدة.

ما يمكن قوله اليوم أزاء ذلك، أن الحرب على “الإرهاب” حرب لا نهاية لها، لأنها في ذاتها خطأ، إذ لا حرب عسكرية ممكنة ضدّ “مفهوم” أو ضدّ آثار “أمراض” خطيرة. في المقابل الحرب على الإرهابيّين ضرورة، شريطة ترافقها مع جهود جدّية لمكافحة أسباب الإرهاب ومحاصرة ساحات تشكّله.

وهذا في ما خصّ “داعش” يبدأ اليوم في سوريا، واستطراداً في العراق، فمفتاحه في دمشق حيث مسبّب الإرهاب الأول، وفي بغداد حيث الإقصاء السياسي المذهبي تعزيزٌ للإرهاب.

أما بعد ذلك، فثمة قضايا تتراكم المصائب فيها وتتحوّل الى مظلوميات تبريرية للعدمية القاتلة ولكثرة من الموبقات المستظلّة بالدين، من فلسطين الى ضواحي التهميش الأوروبي. وهذه أيضاً يجب مقاربتها – بعد كل تجارب العقود المنصرمة الفاشلة – بجدّية وبمعايير وقيم كونية.

موقع لبنان ناو

 

 

 

 

 

اعتداءات باريس و ضعف “داعش”/ أوليفييه روا

أعلن الرئيس فرنسوا هولاند، أن فرنسا في حرب ضد «داعش». وهذه المجموعة الإسلامية هي العدو اللدود. وتحارب فرنسا مع الولايات المتحدة «داعش» في الشرق الأوسط. لكنها القوة الغربية الوحيدة التي تحاربه في منطقة الساحل الأفريقي، بدءاً من مالي في 2013. ونشرت شطراً يعتدّ به من جيشها في هذا القتال. ومساء الجمعة الماضي، تكبّدت ثمن قتال «داعش». وعلى رغم رسائل التضامن التي وجّهها العالم الغربي، تجد نفسها وحيدة في ميدان المعركة.

والى اليوم، لم تعتبر الدول، في ما خلا الدولة الفرنسية، أن «داعش» مصدر خطر استراتيجي يهدد عالم اليوم. وفي الشرق الأوسط، يرى أبرز اللاعبين أن «داعش» ليس المنافس أو الخصم الأخطر. فبشار الأسد يرى أن عدوّه المعارضة السورية – وهي اليوم في مرمى نيران التدخل الروسي. ومن مصلحته ألا يعكر شيء الأمور مع «داعش». فيسع الرئيس السوري تقديم نفسه على أنه السد المنيع ضد الإرهاب الإسلامي، ويكتسب مشروعية في الغرب خسرها على وقع قمعه الشعب السوري. وموقع الحكومة التركية واضح: عدوّها الأبرز الحركة الانفصالية الكردية. وغلبة كفة الكرد في سورية على كفة «داعش» قد تفضي الى إنشاء حزب «العمال الكردستاني» ملاذاً آمناً له واستئناف القتال المسلّح ضد تركيا. ولا يسعى الكرد، سواء كانوا سوريين أو عراقيين، الى القضاء على «داعش». وشاغلهم، الدفاع عن حدودهم الجديدة. وهم يأملون بأن يتفاقم تذرر العالم العربي. وهم أقبلوا على استعادة سنجار لأنها كردية. لكنهم لن يهاجموا الموصل، ويخدموا بغداد. ويرى الكرد العراقيون أن الخطر الأبرز، انبعاث الحكم المركزي القوي في بغداد، التي قد تطعن في استقلال الإقليم الكردي العراقي. و«داعش» يحول دون نشوء مثل هذا الحكم القوي.

أما الشيعة العراقيون، وعلى رغم الضغوط الأميركية، فلا يرغبون في الموت في سبيل استعادة الفلوجة. وهم يحمون حدودهم الطائفية، ولن يدعوا بغداد تسقط. لكنهم لا يستعجلون عودة الأقلية السنية الى الحياة السياسية العراقية. فعودتهم تقتضي تقاسم السلطة. وترى دول عربية أن عدوّها اللدود إيران، ولا تحرك ساكناً أمام «داعش». ويرغب الإيرانيون في احتواء «داعش»، لا القضاء عليه. فهو يحول دون بروز ائتلاف عربي سنّي أساء إليهم في حربهم مع عراق صدام حسين. ويسرّ إسرائيل أن ترى «حزب الله» يقاتل ضد العرب، وسورية إذ تنهار، وإيران تنزلق أكثر فأكثر في حرب مضطربة، وأن ينسى العالم القضية الفلسطينية. فالدول الإقليمية كلها لا تعد لشن حرب استعادة الأرض من «داعش». وشأن هذه الدول، لا تعد الولايات المتحدة لمثل هذه الحرب. فالاستراتيجية الأميركية اليوم ركنها شنّ حرب من بُعد بواسطة هجمات جوية. ولا ترغب واشنطن في إرسال قوات برية، وتلتزم استراتيجية احتواء، وتردي الإرهابيين من طريق ضربات الدرون.

لكن لا سبيل الى الفوز بالحرب من غير قوات برية. وحدها فرنسا ترغب في القضاء على «داعش». لكن لا يسعها شن حرب على جبهتين: الشرق الأوسط ومنطقة الساحل الأفريقي. ولسان حال فرنسا هو العين بصيرة واليد قصيرة. وحال «داعش» من حالها. فهذا لا يملك القدرة على بلوغ مآربه. فإثر سيطرته السريعة على رقعة أراض واسعة في الشرق الأوسط، تقتصر نجاحاته اليوم على تصدّره عناوين الصحف وانشغال رواد وسائط التواصل الاجتماعية به، على ما كانت نجاحات «القاعدة». وبلغ نظام «داعش» أقصى إمكاناته.

وركن مشروع «داعش» التوسّع الإقليمي وبثّ الرعب في أوصال أعدائه. لكن «داعش» ليس «دولة «إسلامية». فهو، على خلاف طالبان، لا ينضوي في حدود مكانية محددة. وهو أقرب الى خلافة تستند الى منطق الفتح المتواصل – أي احتلال أراض جديدة واستقطاب مسلمي العالم. وأفلح «داعش» في استمالة آلاف المتطوعين الذين سقطوا في شباك دعواه الى إسلام شامل لا يمتد في أصقاع العالم ولا يقتصر على الشرق الأوسط. لكن التوسّع الداعشي ضيق الآفاق. فهذا التنظيم انتشر فحسب في مناطق يغلب عليها عرب سنّة يرون أنه يدافع عنهم. ومدّ «داعش» يصطدم بالكرد شمالاً، والشيعة العراقيين شرقاً، والعلويين، إذ يدعمهم الروس، غرباً. والى الجنوب، ينظر اللبنانيون بعين القلق الى اللاجئين السوريين. والأردنيون غاضبون على «داعش»، ووقع عليهم إعدام الطيار الأردني (معاذ كساسبة) وقع الصدمة. والفلسطينيون لم يقعوا في حبال «داعش». وإذ بلغ طريقاً مسدوداً في الشرق الأوسط، هرب «داعش» الى الإرهاب المعولم.

وشنّ سلسلة هجمات على «حزب الله» في بيروت، والروس في شرم الشيخ، وهجمات باريس. وهذه الهجمات ترمي الى النفخ في مشاعر الرعب، أي التمسك بهالة الخوف. لكن على خلاف ما اشتهى «داعش»، أجّج إعدام الطيار الأردني المشاعر الوطنية الأردنية. ورصت هجمات باريس صفوف الفرنسيين وراء الحرب على «داعش». والإرهاب المعولم لا تُرتجى منه فائدة استراتيجية شأن القصف الجوي من غير قوات برية. ولم ينجح «داعش» في استمالة المسلمين المقيمين في أوروبا إليه، ولم يجنّد إلا من هم على الهامش.

ولن تجدي نفعاً حملة برية غربية حاشدة على «داعش» رداً على هجمات باريس، ويرجح أن تنزلق الى رمال نزاعات محلية لا قاع لها. وفرص حملة عسكرية برية بالتنسيق مع اللاعبين المحليين ضعيفة. فمصالح هذه القوى متباينة. ومثل هذه الحملة يقتضي التوصل الى اتفاق سياسي بين أبرز اللاعبين الإقليميين، أي إيران والسعودية. ودرب النزاع مع «داعش» طويلة، إذا لم تنهر على وقع مشاريع التوسّع المزمن أو على وقع التوتر بين المتطوعين الأجانب والسكان العرب المحليين. و»داعش» ألدّ أعداء نفسه.

* أستاذ في المعهد الجامعي الأوروبي في فلورنسا، صاحب «الجهل المقدس»، عن «نيويورك تايمز» الأميركية، 17/11/2015، إعداد منال نحاس

الحياة

 

 

 

 

يضحك الأسد ويضحك البغدادي!/ راجح الخوري

من باريس ساحة العرض الدموي الإرهابي المتوحش، الى إنطاليا ساحة العرض السياسي اللاهث والمعيب، بكى العالم كله ليضحك اثنان فقط:

أولاً أبو بكر البغدادي الذي أغرق فرنسا وعبرها الغرب لا بل الأسرة البشرية بالدماء، وثانياً بشار الأسد الذي أغرق العالم مرة جديدة عبر الرعب الباريسي بالذعر من “داعش”، ما يجعل الخلاص من التنظيم مهمة ملحّة باتت بالنسبة الى الكثيرين، تتقدم ضرورة الخلاص من النظام الذي صنع “داعش” ويستعمله قناعاً للتمويه على وحشيته!

لماذا يضحك البغدادي والأسد ؟

يضحك البغدادي عندما يستمع الى تصريحات باراك اوباما الذي وعد بمضاعفة الجهود للقضاء على “داعش” وأنه يتضامن مع الشعب الفرنسي وسيعمل على ملاحقة مرتكبي الجريمة وتقديمهم الى العدالة، وهذه وعود نظرية يكررها يومياً منذ تشكيل الائتلاف الدولي لمحاربة الإرهاب قبل ١٥ شهراً، ويضحك البغدادي ايضاً عندما يقرأ تصريح رجب طيب أردوغان عن ان قمة انطاليا ستقدّم رداً قوياً جداً وقاسياً على التهديد الإرهابي!

أما الأسد فيضحك لأن جريمة “داعش” في باريس، أتاحت له ان يوبّخ وفداً من الجمعية الوطنية الفرنسية كان يزوره بالقول “إن السياسات الخاطئة التي انتهجتها فرنسا هي التي ساهمت في وصول الإرهاب الى باريس”. لكنه يضحك أكثر عندما يتابع وقائع الخلاف الأميركي – الروسي على الحل في سوريا وعلى موقعه الشخصي من الحل، فمن فيينا الى انطاليا إستمر عضّ الأصابع بين روسيا وأميركا على هذا الموضوع!

وقبل الحديث عن عضّ الأصابع، يهمني الحديث قليلاً عن إنعدام المنطق كي لا أقول انعدام الأخلاق، فقد استمعنا الى اوباما وأردوغان يتحدثان عن جرائم “داعش” الوحشية في باريس أمس وفي أنقرة قبل أكثر من شهرين، ويتعاميان عن جريمة “داعش” البربرية في الضاحية الجنوبية من بيروت التي وقعت قبل يومين والتعامي داعشية سياسية!

كانت المذبحة السورية تستحق من أوباما وبوتين أكثر من جلسة عابرة في زاوية الفندق التركي انتهت بالإعلان عن “الحاجة الى عملية انتقال سياسي تقودها سوريا وتملكها سوريا تجري من خلال مفاوضات بواسطة الأمم المتحدة بين المعارضة السورية والنظام إضافة الى وقف النار”!

“تقودها وتملكها سوريا”؟

ولكن أي سوريا وأي معارضة ومن يضمن وقف النار، وعلى رغم ان هذا الإعلان هو نوع من الهراء التافه، لم يتردد الكرملين بعد دقائق في إصدار بيان يؤكد إستمرار الخلاف مع واشنطن على سوريا، ليتذكّر الجميع ما شاهدوه قبل ساعات في المؤتمر الصحافي في فيينا الذي كاد ان يتحوّل حفلة ملاكمة بين جون كيري وسيرغي لافروف حول مستقبل الأسد، تولى التحكيم فيها سائح أممي يدعى ستيفان دو ميستورا!

النهار

 

 

 

 

الاستثمار في إرهاب داعش/ خليل العناني

لا تخلو هجمات باريس الإرهابية، على إجرامها وبشاعتها، من دلالات سياسية كثيرة، ليس أقلها الاستثمار والتوظيف السياسي لها، من أجل إحراز نقاط معينة. فما هي ساعات قليلة، بعد وقوع الهجمات حتى خرج الرئيس السوري بشار الأسد (من مخبأ ما) معلقاً عليها بلغةٍ لا تخلو من اللوم والشماتة في فرنسا التي عنّفها بقوة، وانتقد سياستها الخارجية. كما ارتدى “جزار سورية” ثوب الحكمة والعقل، وتوجه إلى فرنسا بالنصح، لكي تقتدي به في محاربته الجماعات المتطرفة، ومطالباً إياها، بوقاحة، أن تشترك معه في “الحرب على الإرهاب”. ولم تكن تعليقات الأسد سوى مناورة من أجل تحقيق نقاط سياسية وخلط الأوراق في اجتماعات فيينا، من أجل الضغط على فرنسا في تلك المفاوضات، حتى تعدل موقفها الرافض له، ولبقائه في السلطة.

في الوقت نفسه، خرج وزير الخارجية المصري، سامح شكري، كي يعرض مساعدة بلاده لفرنسا في مجال مكافحة الإرهاب، وذلك أيضاً فى لغة لا تخلو من إحساس بالذات والشماتة في ما حدث، وكأنه يوجه رسالة ضمنية للفرنسيين، ومن ورائهم الغرب، بأننا “لسنا وحدنا الفاشلين في محاربة الإرهاب، بل أنتم أيضا”. منطق الطغاة واحد، وهو الاستثمار في الكوارث والمصائب، من أجل تعزيز سرديتهم ورؤيتهم الأحداث. يحاولون عزل الأمور عن سياقها وإبرازها كما لو أنهم أبرياء منها، كما يحاولون عدم الربط بين أفعالهم وسياساتهم ونتائجها التي يدفع ثمنها الغرب والشرق معاً. أما الطريف، فإن عرض شكري مساعدة لفرنسا، يأتي بعد الفشل المصري الذريع في حماية وتأمين الطائرة الروسية التي أسقطها الدواعش في سيناء أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول الجاري، في مفارقة لا تخلو من سذاجة وجهل.

في الوقت نفسه، لم يكن مفاجئاً أن يطلق الإعلام الموجّه سلطويا، حملة للتشفي والشماتة في فرنسا، وفي الغرب بوجه عام بعد هجمات باريس، وارتدى مروجوه “ثوب الحكمة”، موجهين اللوم والتأنيب للغرب، كتلك المذيعة التي طالبت بـ”التفتيش على مطاعم باريس”، في إسقاط سخيف على عملية التفتيتش التي تجري على مطار شرم الشيخ، بعد حادث الطائرة الروسية التي سقطت نتيجة اختراق أمني كبير. أو ذلك المذيع “الفاشي” الذي أشاد بإجراءات الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، الاستثنائية، ومن ضمنها فرض حالة الطوارئ، في محاولة باهتة لتبرير ما يفعله نظام السيسي من قمع وكبت وإغلاق للمجال العام. فضلاً عن ثلة المذيعين الآخرين الذين اتهموا الغرب بصناعة داعش، وبالتالي عليه، أن يدفع الثمن. وهو ما يعكس حالة بائسة ومركباً عجيباً من التدليس والترهيب وبث الأكاذيب وخلط الأوراق، يمارسها هؤلاء، ليس لشيء سوى لتبرير فاشيتهم وسلطويتهم وقمع حكوماتهم وإرهابهم المعارضين. أعرف واحدا من هؤلاء الصحفيين “الفاشيين” يعمل في إحدى الجرائد الحكومية الكبرى، ينتظر بفارغ الصبر وقوع أية جريمة إرهابية أو مقال فى الصحف الغربية عن جرائم “داعش”، لكي ينشره ويضعه على صفحته علي “فيسبوك”، في شعور عفوي وتلقائي، لتبرير جرائم الجنرال عبد الفتاح السيسي، ولسان حاله يقول “نحن، الفاشيين، أفضل بديلاً من الدواعش”.

“إننا إزاء عملية استثمار سياسية، تجمع بين ثلاثة لاعبين متناقضين، هم الطغاة والدواعش وساسة أوروبا المتطرفون. مدفوعين جميعاً بمنطق المخاصمة والإقصاء والعقاب الجماعي”

ما يفعله هؤلاء الإعلاميون، ذكّرني بالأطروحة المتهافتة للرئيس المصري المخلوع، حسني مبارك، والتي كان يروجها من أجل تسويق نفسه وتبرير قمعه، وكانت تقوم على مطالبة الغرب باتباع “النموذج المصري”، في محاربة الإرهاب، من خلال القبضة الحديدية والتصفية الجسدية المباشرة من دون محاكمات للمتشددين، فضلاً عن إغلاق المجال السياسي أمام الإسلاميين، معتدلين أو متطرفين. وعلى غرار ما يفعل رجال السيسي الآن، كان مبارك مع كل حادثة إرهابية، ينتقد الغرب ويذكّرهم بحكمة بلاده في محاربة الإرهاب.

لغة الإرهابيين والطغاة واحدة، وهي تتبنى الأطروحة الفاسدة “من ليس معنا فهو ضدنا”. وهي لغة كان قد استحدثها وتبناها شخص آخر موتور، قاد حرباً فاشلة، أدت إلى تدمير بلد عربي، ووضع من خلالها البذرة الأولى لتنظيم “الدواعش” ووحشيتهم. وهو المنطق نفسه الذي يروجه بعض ساسة أوروبا الآن، بعد سلسلة الهجمات الأخيرة فى بلدانهم، والذين يطالبون بمعاقبة كل المسلمين، خصوصاً من المهاجرين، بسبب إرهاب “الدواعش”. وهم بذلك يرتكبون حماقة تاريخية، ليس فقط من الناحية الأخلاقية، وإنما السياسية أيضا. فهم بذلك يحققون ما يسعي إليه “الدواعش”، وهو زيادة الفجوة بين المسلمين ومجتمعاتهم الجديدة في الغرب، ما قد يدفع شبابهم إلى الهجرة إلى دولة “الخلافة”.

أي إننا إزاء عملية استثمار سياسية، تجمع بين ثلاثة لاعبين متناقضين، هم الطغاة والدواعش وساسة أوروبا المتطرفون. مدفوعين جميعاً بمنطق المخاصمة والإقصاء والعقاب الجماعي. والجميع يستثمر في حماقات الطرف الآخر. فالطغاة يستثمرون في إرهاب الدواعش وسذاجة الغرب، والدواعش يستثمرون فى رعونة الغرب وقمع الطغاة، واليمين الأوروبي المتطرف يستثمر في وحشية الدواعش وإجرامهم من أجل تعميم أحكامه على الجاليات العربية والمسلمة التي تعيش في الغرب.

ولم يعد من سبيل أمام العقلاء، إن وجدوا، سوى مواجهة العوار الذي يحكم منطق هؤلاء جميعاً، من خلال إعادة تعريف مصدر الداء الذي يغذّي هذه الحلقة المفرغة من العبث، والمتمثلة في غياب الحرية والديمقراطية، وسيطرة القمع والاستبداد.

العربي الجديد

 

 

 

إرهابيو باريس: أبناء الإلحاد والروك والطبقة الوسطى والإكتئاب/روجيه عوطة

يكاد الفيلسوف فريدريك وورم، في مقالته المنشورة في “ليبراسيون”، يتكلم عن “جيل” فرنسي ولد وقُتل لحظة الحدث، أي أثناء الهجمات الإرهابية داخل باريس. جيل عشريني يسهر في قاعات الحفلات الموسيقية، أو يجلس على أرصفة المقاهي، أو يتفرج على مباريات قرة القدم في الملعب. وقد استهدفه الإنتحاريون ليلة 13 تشرين الثاني، وهم، بحسب المعلومات المنشورة عنهم حتى الساعة، مجموعة من الشباب أيضاً.

جيل منقسم ضد نفسه؟ من الممكن لمقولة وورم أن تتبدد سريعاً، لولا أنه ربط بين الجيل والحدث. إذ أن الثاني هو الذي ينتج الأول، والأول هو الذي يأخذ الثاني على محمل ما. ليس هذا المحمل قائماً بالإستخفاف ولا بالهجس، يقول الفيلسوف، ويمضي كاتباً: “جيل يمزقه الحدث، لكنه، أيضاً، يوجهه. إذ أنه مجبر على التفكير في انقسامه، لكن، من دون ارتباك. فحتى المبعدين منه، والمعزولين به، وحتى قتلته، ما يجب أن يُتركوا لخطباء الحقد”.

ما يهم في مقالة وورم، ومعها، مقالة ديدييه بيرون، هو إحالتها إلى حديثٍ، أجرته “Les inrocks” مع المحللة السياسية ميريم بن رعد. ففي سياق كلامها عن الفرنسيين الذين التحقوا بـ”داعش”، قالت: “فلنكف عن الكذب، هؤلاء، لم يرحلوا لأنهم سيكوباتيون. بل رحلوا لأن هناك أزمة شباب في فرنسا، ينجذبون إلى “الدولة الإسلامية” لأن فعلهم هذا رومانطيقي، إنه المغامرة، إنه الثورة على ظروف لا يتقبلونها. الشباب الذين يتطرفون هم إما عاطلون عن العمل، أو يعيشون في أزمة روحية، تسقطهم في الإسلام الراديكالي، أو أنهم يفتشون عن مغامرة لأنهم يصابون بالضجر”.

وبعطف كلام بن رعد على ما قاله وورم، يبدو كأن “الجيل”، الذي عينه الأخير، في أزمة التفتيش عن حدثٍ، يشعره بوجوده عبر إخراجه من أوضاعه، مقرباً إياه أكثر من الحياة وأفعالها. ذلك، من خلال الإستماع إلى فرقة “Eagles of death metal”، أو من خلال هجران فن الراب، والتحول إلى الجهاد، مثلما هي حال اسماعيل عمر مصطفى، وهو واحد من إرهابيي باتاكلان. وفي هذا المجال، نشر مركز “CPDSI” تقريراً عن “تحول الشباب إلى الإسلام الراديكالي”، ومن خلاصاته أن أغلب المنضوين في الجهاد ينتمون إلى عائلات ملحدة، وإلى الطبقة الوسطى، ويتسمون بحساسية نفسية، بالإضافة إلى أنهم يعانون الإكتئاب، مثلما أنهم يمضون وقتهم في ممارسة الألعاب الإلكترونية، خصوصاً الحربية منها. فالعالم، الذي يحضرون فيه، هو إفتراضي بإمتياز، وعند تجنيدهم، ينتقلون من تمثلاته المشهدية، التي تبنيها ألعاب الفيديو القاسية، إلى تأديتها الفعلية بحق غيرهم في بلادهم، أو في أي بلدٍ آخر.

تالياً، ثمة “جيل” يبحث، من جراء الأزمة التي يعيش فيها، عن حدث داخل العالم، أو في افتراضه، يفتش عن “مغامرة”، أو عن إنوجاد حيّ له. إلا أن العالم آلة عملاقة، وظيفة نظامها هي التأبيد، واستدخال أي حدود، قد تقف في مقابلها، وعليه، لا تتوقف عن السيطرة على المنافذ المصنوعة للفرار من جسمها، وجعلها مداخل إليها. كما لو أنه لا مفر من تلك الآلة، التي لما طلع الجهاديون الإسلاميون على أطرافها، ظهروا كأنهم بين داخلها وخارجها، هم المطرودون منها، لكنهم على علاقة وطيدة بتمثلاتها، يستفيدون من ميكانيزماتها لتحطيمها والتشبه بها على حد سواء، يشيدون أحداثاً موتية على جثث سكانها.

هناك كتاب للفيلسوف مهدي بلحاج قاسم عن أحداث العام 2005 في ضواحي فرنسا، عنوانه “الذهان الفرنسي: الضواحي، إخطار الجمهورية” (دار غاليمار)، وقد شدد فيه على أن “الضواحيين” لا يقيمون، وتماماً مثل “جيل” وورم، في خارج البلاد-العالم، بل في خارجها وداخلها على حد سواء: “إنهم مسجونون في الخارج”، لا يدخلون ولا يخرجون، وجغرافيتهم هذه تجسد أزمتهم بحد ذاتها.

هذه الجغرافية تنسحب على “جيل” وورم الذي، وانطلاقاً من هجمات باريس الإرهابية، بدا كأنه إما قاتل أو مقتول. شاهد عيان في باتاكلان، وفي أولى لحظات الإعتداء على قاعة الحفلة الموسيقية، اعتقد بأن ما يسمعه من إطلاق نار ليس سوى مفرقعات نارية. فلحال الصخب، الذي ينتجه الإحتفاء عبر الروك، معنى عنفي افتراضي، ولما دخل العنف الفعلي إليه، ظهر، لوهلة، كأنه جزء منه قبل أن يقضي عليه. سباق بين العنف الإفتراضي والآخر الفعلي؟ ربما، خصوصاً حين يعلن القيمون على إخراج وإنتاج فيلم “made in france” عن تأجيل عرض فيلمهم إلى شباط 2016، ومرد ذلك، أنه يتناول موضوع الإرهاب الجهادي في فرنسا، ووقائعه شبيهة بالوقائع الدموية التي حدثت في الأيام الماضية.

“جيل” وورم كان في تلك الليلة الباريسية الدموية يعيش ذروة انقسامه بين منطقة قريبة من استاد كرة القدم، للتفرج على المباراة-الحدث، وباتاكلان، لسماع موسيقى الروك والحضور على إيقاعها، وأرصفة المقاهي، لتبادل الكلام. وفي الأمكنة كلها، للترويح عن النفس، والبحث عن حدث يعني ذلك “الجيل” في العالم المؤبد. فجأةً، اقتحم الإرهابيون جغرافيته وجوّه، فتحوا النار عليه، وفجّروه. خربطوا مساره بمسار آخر منه: بدلاً من عنف الروك الرمزي، عنف القتل الفعلي، بدلاً من التفرج على اللعبة-الحدث، تغير المتفرجون على المباراة والساهرون إلى قتلى في الألعاب الإلكترونية وتأديتها الملموسة… نسف الأبد المشابه للحياة بالموت الذي أقصاه، تفخيخ العالم بالقتل الذي لطالما مارسه ووصفه بأنه “نظيف”.

صنع الإرهابيون الحدث القاتل للعالم بآليات هذا العالم نفسه، دخلوه من باب رمزيته، وشرعوا بواباته على الموت المقصي عبره والكامن فيه على حد سواء. قتلوا أكثر من 130 مدني “بكل هدوء”، على ما وصفهم شاهد عيان، كما لو أنهم يمارسون ألعاب الفيديو، ثم، تخلصوا من أنفسهم، من أجسادهم، التي صيروها أرحاماً لموتهم ولموت غيرهم.

وصف وورم “جيله” بأنه “مسافر”، و”متعدد اللغات”، و”خلاق”. القتلى كانوا على هذا النحو، أما القتلة، فبدوا كأنهم بالتحاقهم بـ”داعش” يريدون الإحتذاء بطريقة وجود هؤلاء من أجل قتلهم: الهجرة عبر الحدود، لقاء إرهابيين متعددي المنابت واللغات، وخلق حالة الخوف لدى العالم، ودفع نظامه إلى حصر ما تبقى من سياسته في الأمن بعد ممارستها بالتأبيد والإقصاء. كأن هناك “جيلاً”، أنتجته الأحداث، وهو اليوم أمام خيارين: أبد العالم من جهة، وموته من جهة أخرى، عولمة “الحرب على الإرهاب” من ناحية، وإرهاب العولمة ذاتها من ناحية أخرى. يكتب فردريك وورم أن “رهان هذا الجيل هو أن يقاوم”، فماذا يقاوم سوى هذين الخيارين، هذه الثنائية، ثنائية العالم/الموت، وما تنتجه من فاشيات؟!

المدن

 

 

 

 

الكارثة في فرنسا والحل في سوريا/ سلمان الدوسري

كانت عشية انعقاد قمة مجموعة العشرين التي استضافتها تركيا واختتمت أمس، مزعجةً جدًا، وهيمنت على أجواء القمة وحضورها، بعد الأخبار السيئة التي توالت من باريس حيث الاعتداءات الإرهابية التي استهدفت العاصمة الفرنسية وخلفت مئات القتلى والجرحى. وفي الوقت نفسه ألقت هذه الهجمات بظلالها على أجندة القمة، وكذلك اللقاءات الثنائية التي عقدها الزعماء، فملف مكافحة الإرهاب ليس ممكنًا التحرك فيه دون معالجة المشكلة الأساسية وهي الأزمة السورية، وهو ما عبر عنه صدقًا الرئيس الفرنسي بأن هجمات باريس «خُطّط لها في سوريا»، التي أضحى ارتباطها جغرافيًا وثيقًا بتمدد العمليات الإرهابية ما دامت البيئة الحاضنة لها لم تمس حتى الآن بشكل فعلي. لذلك كان الحراك السياسي طاغيًا على سواه، على الرغم من أن القمة في أساسها قمة اقتصادية، لكن متى كان النمو الاقتصادي ممكنًا في ظل غياب السلم العالمي؛ كما أكد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، في كلمته أمس عندما قال: «إنّ عدمَ الاستقرارِ السياسي والأمني مُعيقٌ لجُهودنا في تَعزيزِ النموِ الاقتصادي العالمي، وللأسف تُعاني منطقتنا مِن العديد مِن الأزماتِ»، وهو بالمناسبة نفس ما أكد عليه العاهل السعودي في القمة ذاتها التي عقدت العام الماضي في أستراليا بقوله: «لا يَخفَى على الجميعِ الارتباطُ الوثيق بين النّموِّ الاقتصادي والسِّلمِ العالمي؛ إذ لا يُمكنُ تحقيقُ أحدِهما دونَ الآخر»؟

ولأن تضخم غول الإرهاب أضحى العدو الأول لكل دول العالم، كان من الطبيعي أن تكون أبرز القرارات التي صدرت من قمة مجموعة العشرين معنية بهذا الهم المشترك، حيث اتفقت الدول المشاركة على أن ازدياد أعمال الإرهاب يقوّض الأمن والسلم الدوليين وجهود تعزيز الاقتصاد العالمي.. وبناءً عليه، قررت عدم ربط الإرهاب بالدين أو الجنسية أو العرق، ومواصلة محاربة الإرهاب بكل حزم من خلال مجموعة إجراءات؛ بينها وقف تدفق أموال الإرهابيين، وأن تحدي الأعمال الإرهابية لا يمكن مواجهته عسكريًا فقط، لكن من خلال إجراءات متعددة، مثل تعاون أجهزة المخابرات، ومراقبة الاتصالات التي تجري عبر الإنترنت، وأن سوريا مثال للدول التي زعزعت استقرار المنطقة، وعلى المجتمع الدولي التحرك بجدية لإنهاء الأزمة فيها، ومطالبة كل دول العالم بالمساهمة في حل أزمة اللاجئين. وللمفارقة، فإن دولة مثل السعودية ما فتئت تطالب العالم بمكافحة الإرهاب والعمل فعليًا وفق قرارات توافقت عليها أمس الدول الكبرى، بل إن الملك سلمان جدّد رؤية بلاده في محاربة الإرهاب خلال كلمته أمام زعماء العالم مساء أول من أمس، بتشديده على ضرورة مضاعفة المجتمع الدولي جهوده لاجتثاث آفة الإرهاب وتخليص العالم من شرورها التي «تهدد السلم والأمن العالميين وتعيق الجهود في تعزيز النمو الاقتصادي العالمي واستدامته»، مشيرًا إلى أن الحرب على الإرهاب «مسؤوليةُ المجتمعِ الدولي بأسرهِ، وهوَ داءٌ عالمي لا جنسيةَ لهُ ولا دين، وتجِبُ مُحاربتهُ ومُحاربةُ تمويلهِ وتقويةُ التعاونِ الدولي في ذلك»، كما طالب المجتمع الدولي بالعمل على إيجاد حل عاجل لمعاناة السوريين وفق مقررات «جنيف1»، باعتبار مشكلة اللاجئين السوريين «نتاج مشكلة إقليمية ودولية هي الأزمة السورية».

يروي أحد المسؤولين الكبار الذين حضروا قمة العشرين العام الماضي في أستراليا، أن عددًا من الدول الرئيسية الكبرى في المجموعة أصرت على أن تقتصر أجندة اجتماعات المجموعة على الشأن الاقتصادي والتنموي. بالطبع هذه كانت أمنية غير قابلة للتطبيق، فلن يستطيع أحد فصل الاقتصاد عن السياسة، ولن ينمو الاقتصاد في أي دولة بينما التوترات تحيط بها من كل حدب وصوب، ومستحيل أن يستقر العالم وحرائق الإرهاب تشتعل. ما لم تحل الأزمة السورية أولاً، ودون اتفاق العالم على حرب لا هوادة فيها ضد الإرهابيين ثانيًا، فستجتمع قمة العشرين العام المقبل في ألمانيا وخطر الإرهاب يتسع ويتمدد من دولة إلى دولة ومن قارة إلى أخرى.

مَن يدري؟ ربما الكارثة التي حلت بفرنسا تجعل الدول الكبرى تفيق من غفوتها في شن حرب حقيقية ضد الإرهاب بقوات على الأرض وليس مواجهة على استحياء كما هو الحاصل حاليًا.

الشرق الأوسط

 

 

 

 

الخيار الوحيد.. دحر الإرهاب/ عبد الوهاب بدرخان

هل يعلن العالم عجزه عن التصدّي لظاهرة الارهاب؟ سؤال مشروع يلحّ وسط الغضب والاستنكار العالميين للهجمات التي نفذها تنظيم «داعش» في باريس. وقبل ذلك احتمال أن يكون فرعه «ولاية سيناء» وراء تفجير الطائرة الروسية. كانت هناك صدمة أوائل هذه السنة بعد الاعتداء على مجلة «شارلي إيبدو»، وصدمة أخرى في ذبح أكثر من عشرين شخصاً من الأقباط المصريين في ليبيا، وصدمتان أخريان في اعتداءين استهدفا السياح في تونس، وصدمة أيضاً في الكويت، فضلاً عن صدمات عدّة في السعودية، وأخيراً صدمة مزدوجة لتفجيرين في ضاحية بيروت. في الوقت نفسه، هناك «حرب على الإرهاب» بدأت قبل عام ونصف العام ولم تتوصّل بعد إلى إحداث أي تغيير مهم في خريطة السيطرة والانتشار التي حققها «داعش» منذ اجتياحه الموصل، وتمدده شرقاً في العراق وغرباً في سوريا، كما لم تستطع اضعافه وحصر خطره للحؤول دون ظهوره خارج هذين البلدين.

المؤسف أن منطق الاستفادة من «داعش» أحرز غلبةً على ضرورة القضاء عليه، وقد انطبق ذلك على الدول المنخرطة في محاربته بمقدار ما كان ملازماً لأنظمة أو دول كان لها دور في تغذية الوحش «الداعشي». ورغم أن فرنسا لا تنفرد بأن هناك مئات من مواطنيها التحقوا بالتنظيم الإرهابي، إلا أنها وتونس شكّلتا الحلقتين الخارجيتين الضعيفتين اللتين استطاع اختراق نظاميهما الأمنيين. لذلك دفعت هجمات باريس مساء الجمعة الماضي كل العواصم، وبالأخص الأوروبية، إلى مراجعة خططها وتدابيرها، منطلقةً من تقديرات استخبارية تعتقد بوجود «داعشيين» ربما يكونون كامنين في خلايا نائمة. لم يعد ممكناً استبعاد التهديد مئة في المئة، وفي مقابل الكابوس الأخطر المتمثّل بحصول أي اعتداء رغم كل الاحتياطات هناك التحدّي الأكبر باستباق أي خطر واجهاضه من دون الاضطرار لتغيير نمط الحياة، ذاك أن زيادة الحواجز والقيود وتقليص الحريات تشعر «داعش» بأنه حقق «انتصاراً».

لحظة شاعت أنباء الهجمات توالى الرؤساء والزعماء على التنديد بها وإبداء استعداد دولهم للانضمام الى «أي جهود لتعزيز الأمن ومحاربة الإرهاب». قالوا جميعاً إنهم «متضامنون ومتّحدون مع الشعب الفرنسي». شدد الزعماء الغربيون على أن «الارهاب لن يهزم الديمقراطية على الإطلاق»، فيما قال الرئيس الأميركي إن ما حصل «هجوم على الإنسانية والقيم الشاملة التي نتقاسمها». وكانت رئيسة الأرجنتين الأكثر وضوحاً في دعوتها إلى «معالجة قضية الإرهاب على نطاق عالمي بمنظور جديد وأوسع نطاقاً، إذ لم نعد قادرين على الشعور بالأمان في أي مكان»… لكن هذه المعالجة «على نطاق عالمي» هي تحديداً ما أخفق العالم في التوافق عليها، وفي إظهار إرادة سياسية لتصد مجدٍ وفاعل لجماعات لا هدف لها غير القتل ولا شيء غير القتل.

كما في كل مرة، بعد أي هجمات ارهابية، يكثر الحديث عن «التنسيق» بين الحكومات، ويتجدّد السؤال لماذا يبقى هذا التنسيق مفتَقَداً، أم أنه مجرد شماعة يُعلّق عليها التقصير الأمني، خصوصاً أن الخطوات الأولى من التحقيق أظهرت أن أحد القتلة معروف ومشتبه به وله ملف أمني حافل، لكنه طليق. وحدها الولايات المتحدة ظلّت مقتنعة بطريقتها في محاربة «داعش»، وتدافع عنها باعتبارها الوحيدة الممكنة في ظل الصراعات الطائفية الدائرة. ولأن نتائجها الفعلية كانت طرد أو دفع مزيد من الناس إلى الهرب من مدنهم وبلداتهم ومنازلهم، فقد ترسّخ في الأذهان أن ما يجري ليس حرباً على الإرهابيين بل مجرد إدارة للتعايش بينهم وبين محاربيهم.

كانت هجمات باريس حصلت عشية اللقاء الدولي في فيينا، كما لو أنها مبرمجة للضغط على محادثات «الحل السياسي» في سوريا. ازداد الانطباع بأن «داعش» ليس وحده المستفيد من إراقة الدم في عاصمة أوروبية، لأن رئيس النظام السوري انتهز الفرصة غداة المقتلة ليقول إن «السياسات الخاطئة» التي انتهجتها الدول الغربية ولا سيما فرنسا «هي التي ساهمت في تمدّد الإرهاب». أما القتلة الذين هاجموا مسرح «باتاكلان» فخاطبوا رهائنهم مشيرين إلى ما يحصل في سوريا والعراق لتبرير جريمتهم. والمفارقة أن محادثات فيينا وجدت نفسها منزلقة إلى مفاضلة سقيمة بين «داعش» والنظام، متجاهلةً أسباب الصراع في سوريا. ولا يغيّر شيئاً أن يشير جون كيري إلى «تناغمٍ بين الأسد وداعش»، وأن يعارضه سيرجي لافروف في ذلك، بل إن هذا التعارض يؤكد في حد ذاته أن محاربة «داعش» ليست في صدد أن تصبح جدّية، خصوصاً إذا اقترنت بالحفاظ على النظام ورئيسه.

محلل سياسي- لندن

الأتحاد

 

 

 

 

لا صلة بين الهجمات الباريسيّة وأزمة اللاجئين/ آن أبلباوم

لا صلة بين الهجمات الدموية في باريس وبين أزمة اللاجئين الأوروبية. ولا شك في ان الهجمات لم تقع بسبب استقبال فرنسا اللاجئين. فهي على خلاف ألمانيا والسويد، لم تشرع الأبواب أمام أعداد كبيرة منهم. ولا تقوم قائمة لإلقاء لائمة تنظيم هجمات معقدة على اللاجئين الوافدين أخيراً من الحرب السورية. فالأشخاص الذين تسلقوا الجبال أو عبروا المتوسط على قوارب مطاط لم يبادروا فور بلوغهم فرنسا إلى حمل السلاح والإنقلاب الى قتلة إرهابيين.

القتلة الفعليون يعرفون باريس حق المعرفة. وتعرفت الشرطة الفرنسية على واحد منهم، وهو فرنسي من أصحاب السوابق. وعدد من الإرهابيين قاد سيارة مستأجرة تحمل لوحة بلجيكية. ولا يشغلني كيف دخل القتلة الآخرون فرنسا: فهذه العملية لم ينظمها لاجئون. فمن يقف وراءها اختار الاهداف – المقصف الليلي، المسرح، والملعب الوطني- في حي مندمج يقصده الباريسيون على اختلاف منابتهم. ولكن العقل الانساني يفتقر في أحيان كثيرة الى المنطق. ففي دقائق قليلة من بث الخبر العاجل – وقبل تحديد هوية القتلة – بادر كثر الى الربط بين مسألة اللاجئين والإرهاب. وعدد ممن ربط بين المسألتين هم أميركيون من أمثال بن كارسون (مرشح جمهوري) الذي دعا الولايات المتحدة، إثر هجمات باريس، إلى صد الأبواب في وجه لاجئي الشرق الاوسط.

وتمس الحاجة الى الفصل بين المسألتين وفهم ما حمل الناس على الربط بينهما. ورأى كثر ان أوروبا فقدت زمام الأمور في جبه أزمة اللاجئين، منذ بادرت المستشارة الالمانية، أنغيلا مركل، أحادياً الى تغيير قوانين اللجوء في أوروبا في الصيف. ومبادرة مركل – التي أيدها شطر كبير من الألمان في وقت أول – شجعت آلاف الناس على عبور المتوسط في رحلة خطيرة. وعلى رغم الطقس البارد، يبلغ، شهرياً، 250 الف لاجئ الاتحاد الاوروبي. وهذه الاعداد الضخمة تربك أجهزة خدمات اللاجئين في أكثر الدول كرماً وترحيباً بهم، وتهدد بإطاحة اتفاق شنغن الذي ألغى المعابر الحدودية بين دول الاتحاد. فالسويد فرضت قيوداً على حركة العبور على حدودها للسيطرة على دفق الناس. وشيدت سلوفينيا وهنغاريا (المجر) بوابات على حدودهما مع كرواتيا.

ولا شك في ان الجانب اللوجيستي من الأزمة الأوروبية لا يضاهي الجانب السياسي منها. فطوال أعوام، بل عقود، نصّبت ألمانيا نفسها حارسة القوانين الاوروبية. فسواء في التعامل مع الازمة اليونانية أو جبه الاجتياح الروسي لأوكرانيا، التزمت برلين التزاماً وقوراً الاتفاقات التي ذيلتها بتوقيعها أو تعهدت التزامها. وحين غيرت سياستها أو ما درجت عليه، بين ليلة وضحاها، من غير التشاور مع الأوروبيين، وألزمت كل الدول الاوروبية التكيف مع قرارها، عمّ الاستياء القارة. وتفاقم الهجمات الارهابية مشاعر عدم الامان والانطباع بأن ثمة فراغاً على المستوى المحلي والدولي في توجيه دفة جبه تحديات الإرهاب وموجات اللاجئين. هذا الشعور يتفشى حتى في الدول التي لم تواجه مشكلة الارهاب أو لم تستقبل لاجئين. وإذا لم يظهر الإتحاد الأوروبي على انه يمسك بمقاليد الامور، بلغ الوضع السياسي مبلغاً خطيراً. فعلى امتداد القارة، يتعاظم تأييد تيارات أقصى اليمين. وبدأت جماعات معادية لأوروبا أو مناوئة للاجئين تنتشر في بولندا وهولندا والسويد وفرنسا نفسها. وتشد هذه الحركات عود الحركة المعادية لأوروبا في بريطانيا. ونفخت في سياسات حكومة الرئيس الهنغاري، فيكتور أوربان، القومية واليمينية، وهي استغلت هذا الصيف أزمة اللاجئين ورفعت نسبة تأييدها الشعبي.

وتبرز الحاجة اليوم في أوروبا إلى إرساء الأمن والاستقرار ومد جسور الثقة بين الاوروبيين ومؤسساتهم. وحري بفرنسا وحلفائها أن يجمعوا بين التسامح المجتمعي والإستبسال في القتال ضد إرهاب «الدولة الاسلامية» الراسخ. وتحتاج أوروبا، على الأمد الطويل، الى استراتيجية عسكرية متماسكة ترمي الى تدمير «الدولة الإسلامية» لا الى احتوائها فحسب. وعلى الأمد القصير، وفي سبيل حماية حرية الحركة والتنقل في أوروبا والحؤول دون بروز حكومات يمينية متطرفة وبلوغها السلطة، على دول أوروبا السيطرة على حدودها وإنشاء مراكز استقبال للاجئين ودرس ملفاتهم في نقاط الدخول وتنظيم دوريات حرس سواحل. وليس الداعي الى مثل هذه الاستراتيجية صلة مفترضة بين اللاجئين وهجمات باريس، بل الحاجة الى الحؤول دون توسل المتطرفين المخاوف الأمنية الى بلوغ الحكم.

والتعاطف حيوي، ولا يجوز إغفال ضحايا الحرب السورية. وفي الإمكان استقبال عدد منهم في الاتحاد الأوروبي. لكن يجب تنظيم عمليات الاستقبال على نحو ما فعلت أوروبا في الماضي.

* محللة ومؤرخة، عن «واشنطن بوست» الأميركية، 14/11/2015، إعداد منال نحاس

الحياة

 

 

 

 

العدو المشترك وحلّ المعضلة السورية/ غيورغي ميرسكي

أفضى الكابوس الذي شهدته باريس إلى جلاء صورة أن الإنسانية تواجه قوة مرعبة ليس في الإمكان الكلام عن مفاوضتها أو مهادنتها. ولذا، يجب القضاء على تنظيم «الدولة الإسلامية» المحظور في روسيا. وأمام هذا الخطر المشترك، على الدول أن تستمع إلى صوت العقل وأن تنسى خلافاتها ومخاوفها. وحري بروسيا أن تدرك أن الأميركيين لن يرسلوا انتحاريين إلى مترو موسكو على خلاف الإرهابيين الإسلاميين الذين سيقدموا على ذلك من غير صعوبات.

ورفعت الضربات الأخيرة التي نفذها «داعش» في بغداد، بيروت، باريس وفي الجو فوق سيناء، لواء «الانتقام لسورية!». وعلى رغم أن القصف الفرنسي لم يلحق ضرراً كبيراً بالجهاديين، نالت فرنسا نصيبها من ضربات «داعش». وهذا التنظيم يسعى إلى الاقتصاص من كل من يجرؤ على رفع يده ضد الخلافة. وتحتل روسيا عند هؤلاء مرتبة العدو الأول بسبب الضربات الروسية. والدمار متفش في سورية. واجتمع عليها الجميع، و»داعش» يسرح فيها ويمرح. لذا، انشغلت الديبلوماسية الدولية بالقضية السورية. ولا يختلف اثنان على ضرورة توحيد جهود الراغبين في القضاء على الجهاديين. والجميع مهتم، بدءاً بدول الجوار – إيران، تركيا، الأردن، المملكة العربية السعودية، مصر (ناهيك عن سورية والعراق ضحايا الإرهاب الإسلامي) – وصولاً إلى روسيا والولايات المتحدة وأوروبا الغربية. ولكن لماذا يبدو أن فكرة التسوية في سورية ستلقى مصير «خطة أنان» التي علقت موسكو آمالها عليها؟ والجواب واحد: مصير بشّار الأسد. ولسان حال موسكو هو «نحن لا نتمسك بالأسد، نريد فحسب أن يختار الشعب السوري قيادته في انتخابات حرة. والأسد، إلى حين إجراء مثل هذه الانتخابات، هو الرئيس القانوني الشرعي. هذه الذريعة خبيثة وغير مقنعة. فمشروعية الأسد مشكوك فيها. ولا يخفى أنه لم يصبح رئيساً بجدارته، ولم يبلغ كرسي الرئاسة بسبب الاحترام والتأييد الشعبيين، بل لأنه نجل الرئيس السابق الذي هو نفسه بلغ السلطة بانقلاب.

والسؤال البارز هو: أين في المتناول إجراء الانتخابات؟ أفي المناطق التي تسيطر عليها الحكومة؟ ومساحتها تبلغ، على أقصى تقدير، ربع الأراضي السورية. وما شكل انتخابات كهذه؟ وهل من المفترض الانتظار سنة ونصف إلى أن يحرر الجيش النظامي كل سورية ويهزم جميع أعدائه من «داعش» إلى «جبهة النصرة» و»أحرار الشام» و»الجيش السوري الحر»؟ من العسير تصديق هذا الاحتمال. وطوال أربع سنوات، لم يتمكن الجيش النظامي، وفي جعبته معدات روسية عالية الجودة، من هزيمة من يسميهم الأسد الإرهابيين والمجرمين والمرتزقة، وهؤلاء يحملون أسلحة خفيفة فحسب. وظهر الجهاديون المتشددون قبل عامين فقط. وطوال عامين، كانت قوات النظام تقاتل الجيش السوري الحر، وهو مؤتلف من العسكريين الذين فروا إلى تركيا والمعارضين الفارين من جماعات إسلامية وعلمانية ومعتدلة («الإخوان المسلمون»). وعلى رغم أن هذه الجماعات، لم تتوحد تحت راية قيادة واحدة ولم تملك أسلحة ثقيلة، تمكنت من الصمود لا بل سيطرت على عدد من المدن. وحين برز تنظيم «القاعدة» كانت هذه الجماعات تقاتل في ضواحي دمشق، وفي وسط حلب. وخلاصة القول إن الجيش النظامي ليس على ما يرام. وليس ثمة ما يسوغ حسبان أن الدعم الجوي الروسي سيتيح للقوات النظامية تحرير سورية واجتراح أعجوبة. ولو حصلت معجزة، وعادت سورية إلى سلطة النظام، فمن الذي سيصوت؟ فملايين السوريين فروا إلى تركيا ولبنان والأردن، واليوم يقصدون أوروبا. وهل هؤلاء مواطنون من الدرجة الثانية لا يحق لهم الاقتراع؟ ومن الذي يسعه أن ينظم انتخابات في بلد نصفه مدمر، ومن الذي سيترشح للانتخابات؟ الأسد يصر على المشاركة، ولا شك في أنه سيحصد ما لا يقل عن 90 في المئة من الأصوات في مناطق سيطرة النظام. هذه النسبة هي نتاج الحكم البعثي المستبد والاستخباراتي والشمولي. والسؤال الأهم هو: كيف يعقل أن تقبل «المعارضة المعتدلة» – التي ثارت في 2011 على النظام – بهذه المسرحية؟ وليس ثمة معارض واحد موافق على بقاء الأسد في القمة. وأخيراً، إذا حصلت معجزة واتفق وزراء خارجية الدول الكبرى على مسألة ما، لا يتوقع أن يقبل الذين يقاتلون في سورية منذ أربع سنوات، وسفكت دماؤهم، ودفن رفاقهم، برمي السلاح، كما يطالب الأسد. ولن يطلبوا المغفرة ويعيشوا من جديد في ظل السلطة نفسها. لكن ما العمل؟ ضمان سلامة الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة، وبناء جدار حديدي لحماية دمشق واللاذقية، وإنقاذ العلويين من الإبادة. هذه مسألة شرف بالنسبة لبوتين، وستكون خدمة تاريخية يقدمها للعلويين. ومقابل هذه الحماية، يُطلب من الأسد أن يجد بديلاً (ولو من بيئته العلوية)، وأن يوافق على الرحيل في مسعى لإنقاذ الأمة. سيقول المراقبون إن هذا الحل اعتراف بتقسيم سورية! ولكن هذا القول في غير محله. و(هذا الحل) هو فرصة سانحة أمام انضواء المعارضة المعتدلة في جبهة موحدة ضد «داعش»، وربما إنشاء ائتلاف يمتد من البعثيين إلى «أحرار الشام». وفي المستقبل، قد ترسى نسخة جديدة من النظام السياسي. وعلى سبيل المثال، في الإمكان التزام النموذج الطائفي اللبناني (الرئيس – مسيحي، رئيس الوزراء – سني، ورئيس البرلمان – شيعي، الخ.). هذه الاقتراحات لا تقل واقعية عن تلك التي تناقش اليوم بين وزراء القوى الكبرى.

* محلل سياسي، عن «نــــيزافيـــسيمايا غازيتا» الروسية، 16/11/2015،

إعداد علي شرف الدين

الحياة

 

 

 

منابت الإرهابيين الأوروبيين … تدريب متطرّف في الخارج وأسر مفكّكة/ فرهد خوسروخافار

إلى وقت قريب، كانت الهجمات الجهادية على الأرض الفرنسية تشن على هدف محدد، على سبيل المثــل مجلة «شارلي إيبدو»، والمجتمع اليهودي في كانون الثاني (يناير) 2015، أو على عسكريين فرنسيين مسلمين، على نحو ما فعل محمد مراح قبل أن يــهاجــم مــدرسة يهودية في تولوز.

واليوم، نحن أمام إرهاب خبط عشواء يصيب من في المتناول. فتنفيذ عملية إرهابية في عدد من المرافق الحساسة، محمية على أحسن وجه، عسير. ومذابح 13 تشرين الثاني (نوفمبر) تعيد إلى الأذهان هجمات انتحارية أصابت مدريد في 2004 وتلك التي شنت في مترو الأنفاق في لندن 2005. و «الكاميكاز (الانتحاري) المستعجل» هو من يشغل حزامه الناسف لارتكاب مذبحة، و«الكاميكاز المتأني» يرغب في القتال إلى آخر رمق رافعاً السلاح ضد عزّل. وكلاهما يسعى إلى الهلاك.

وحركة «العرض» على تنفيذ العمليات الانتحارية كبيرة لدى المنظمات الجهادية في سورية والعراق. والاختيار عسير بين المتطوعين الكثر إلى التضحية الكبرى. ولا يطلب الموت أو الشهادة كل من يغادر الغرب ليقاتل في هذين البلدين، فالدافع لبعضهم هو المغامرة.

شِلل إرهابية صغيرة

وفي الغرب، الخلايا الجهادية صغيرة. والقرابة هي آصرة بعض هذه الخلايا (الشقيقان كواشي، منفذا مجزرة «شارلي إيبدو»). وبعض الخلايا مؤتلف من شِلل مغلقة وصغيرة من الأصدقاء. فحين تكبر مجموعة أو خلية وتبدأ التبشير المتطرف، ترصدها الشرطة وتفككها. واختيار منفذي العمليات عملية بالغة الدقة. ومن شروطها مشاركة أحد أعضاء الخلية، أو على الأقل واحد منهم، في تدريبات في الخارج، ولو كانت مدتها قصيرة. فالمرء لا يتطرف وهو مفرد وجالس وراء شاشة كمبيوتره، فمراح زار المناطق القبلية الباكستانية، ومهدي نموش، القاتل في المتحف اليهودي ببروكسيل، مر في سورية، وأصغر الأخوين كواشي قصد اليمن. لكن تنفيذ العملية يقتضي مبادرة مفردة، على رغم أن المرجع الأيديولوجي واللوجستي يندرج في سياق تنظيمي واسع.

غالباً، يجمع منفذي الهجمات الجهادية الانتماءُ إلى أسر مفككة، ودخول السجن. فالسجون الفرنسية هي مرحلة بارزة أو منعطف في مسار تطرفهم. وإلى الانتماء إلى مجموعة صغيرة متطرفة والتحدر من أسرة مفككة، منفذو الهجمات هم «مسلمون جدد» (أو مسلمون ولدوا مجديداً born again)، وهم يدينون بأكثر الصيغ تطرفاً. فاعتنقوا التطرف الإسلاموي في سبيل منح حياتهم وزناً ومعنى.

«أرض الجهاد»

السفر إلى أرض الجهاد، منعطف حاسم. وهذه حال خالد كلكال في 1995، وهو قصد الجزائر في أيام الحرب الأهلية وقاتل مع المجموعات الإسلامية. وهذا «العبور» في أرض الجهاد حيوي في قطع أواصر الكاميكاز المقبل مع مجتمعه الأم والنظر إليه على أنه غريب من خارج، فيتخفف من الذنب والندم. فهناك في أرض الجهاد، يلتزم التطرف باسم العقيدة. وحين يعد المرء للقتل، يعد للموت. وهذه ملاحظة تصح في متطرفي الشيوعية والنازية وإرهابيي السبعينات سواء انتموا إلى منظمات إرهابية حمر أو سود.

نموذج تطرف أوروبي

تنتشر في أوروبا جيوب فقر هي تربة غنية لنمو الأيديولوجيا المتطرفة. وهذه الظاهرة سبق أن برزت في الولايات المتحدة في غيتوات (حارات) السود. فأكثر من ربع السكان الذكور في هذه الحارات عرف السجن. ولكن على خلاف أميركا، التطرف في أوروبا، وهو تطرف يلفظ المجتمع هناك، يرفع لواء الإسلاموية. ويعم المتطرفين شعور بأنهم ضحايا، وبأن التزامهم قضية جماعية هو سلمهم إلى تجاوز وصمة التهميش. وثمة عامل جديد يبرز أكثر فأكثر: التطرف في أوساط شباب متحدر من طبقات وسطى، سواء كانت مسلمة أم لا.

فـ25 إلى 30 في المئة ممن ذهبوا إلى الجهاد في سورية والعراق يتحدرون من هذه الأوساط (طبقات وسطى). ونسبة الشابات اليافعات والنساء مرتفعة في أوساط طالبي الجهاد الغربيين، وتبلغ أكثر من 3 في المئة. وهذه الظاهرة مردها، إلى حد ما، إلى أفول السياسة في الغرب والبحث عن يوتوبيا (مجتمع مُثل)، لكنها وثيقة الصلة بالخوف من خسارة المكانة الاجتماعية (التقهقر في السلم الاجتماعي) والمستقبل. فيتلقف المرء أول يوتوبيا شاملة يقع عليها بصره.

العائدون من سورية والعراق

شطر من العائدين من سورية والعراق خطير يودع السجن. والأزمة راهنة وطارئة، والسجن هو الحل الوحيد، لكنه قصير الأمد. فالسجن في الأمد المتوسط هو إحدى مراحل التطرف. ولا يتشابه الجهاديون العائدون إلى فرنسا. فمنهم من تغلب عليه القسوة ولم تفتر رغبته في القتل والانتقام من المجتمعات «الكافرة». وهؤلاء لا مفر من سجنهم وإنزال العقوبة بــهم. ومــنهم مَن لم يُشفَ من ندوب تجربته في الخارج، وــيشعر بالاضطراب وينساق إلى العنف. ومنـــهم مَن هو حائر. وهؤلاء قد لا ترتجى فائدة من إيداعهم السجن مع غلاة المتطرفين. ومنهم من تاب إثر تجربته الجهادية، وهؤلاء تجب مساندتهم (للحؤول دون انزلاقهم مجدداً إلى العنف).

* دارس اجتماعيات، خبير في ظواهر التشدد والتطرف، عن «ليبراسيون» الفرنسية، 15/11/2015، إعداد منال نحاس

الحياة

 

 

 

وحوش دولة الإرهاب/ رندة تقي الدين

ضربة وحشية موجعة في قلب باريس أسقطت 132 بريئاً وأكثر من ٣٠٠ جريح. الوحوش كلهم من أصول عربية ويحملون جنسيات مزدوجة، بعضهم بلجيكي وبعضهم الآخر فرنسي. فهذه المجازر التي حصلت وقبلها تفجير الضاحية الجنوبية في بيروت وتفجير الطائرة الروسية في سيناء كلها إرهاب مروع ومفجع.

صحيح ما قاله الرئيس فرنسوا هولاند أن سورية أصبحت مصنعاً للإرهاب. فإرهاب «داعش» ما كان ليتغلغل في الأراضي السورية ويسيطر على الرقة وغيرها لتنظيم شبكاته وإقامة «دولته» لو لم تسمح له سياسة بشار الأسد في سورية بأن يفعل ذلك. وفي ٢٠١١ عندما بدأت الأحداث في سورية، رد النظام الأسدي بالقتل واستخدام الطائرات والبراميل على شعبه ناعتاً إياه بالإرهابي لأن بعض أبنائه طالب بالحرية. وارتكب باراك أوباما خطأ في سياسته السورية الكارثية. ففي عام ٢٠١٣، لو لم يعدل عن ضرب قواعد الطيران السوري وبعض مواقع النظام لما وصلنا إلى الوضع الراهن حيث يسرح وحوش «داعش» ويمرحون في الأراضي السورية، ولما دخلت إيران و «حزب الله» الحرب إلى جانب النظام ناقلين الصراع السوري إلى لبنان.

إن ما حصل من استهداف وحشي للأبرياء في بيروت وباريس وسيناء ينبغي ألا يغير سياسة الذين كانوا مصرين على حل انتقالي في سورية من دون الأسد لأنه ونظامه يتحملان مسؤولية هذا الإرهاب، فكم تفجير إرهابي استهدف أبرياء لبنانيين عارضوا سياسته قبل الحرب السورية؟ إن الخيار بين الأسد أو الإرهابيين الوحوش ليس طرحاً منطقياً، بل هو طرح أسدي على العالم الغربي. فـ «داعش» والأسد هما على الخط نفسه والأساليب نفسها. والتفجيرات التي استهدفت شهداء لبنان المعارضين لسياسة الأسد كلها متشابهة. لكنها اليوم تقدمت بالوحشية مع إلقاء البراميل على الشعب، ثم إخلاء الأماكن لتقدم «داعش» الذي أصبح الأقوى في هذه الحرب الوحشية.

إن ما حدث في باريس يطرح أيضاً السؤال على الأوروبيين، كيف يمكن أن تترك السلطات البلجيكية معاقل لهؤلاء الوحوش في مولنبيك، ضاحية بروكسيل، من حيث انطلقت شبكات القتل التي نفذت جرائم الباتاكلان واستاد دو فرانس ومقاهي حي الريبوبليك. فمن المذهل أن صلاح عبدالسلام الفرنسي الذي كان مقيماً في مولنبيك وما زال فاراً كان استأجر سيارة من بلجيكا لإطلاق المجرمين النار منها. وأخوه إبراهيم كان معه وفجر نفسه وهو صاحب مقهى كحول في الحي البلجيكي أغلق بسبب المخدرات والإخلال بالنظام العام. ولم يتم توقيفه من قبل أو مراقبة أعماله والشبكة التي كان يعمل معها. وفجأة وبعد هذه الجرائم المروعة التي ارتكبها هؤلاء نكتشف أن مولنبيك هو الحي البلجيكي من حيث انطلق عدد من المجرمين. والمكان الذي يقيم فيه أئمة متطرفون يلعبون بأذهان الشباب ويدّعون الإسلام في حين أنهم دعاة الإجرام لا غير. فكيف يترك هؤلاء ينتقلون من مدينة إلى أخرى في أوروبا من دون مراقبة مشددة ومن دون توقيفهم؟

قال هولاند أن الجرائم نظمت في بلجيكا ونفذت في باريس بتوجيه من مجرم في سورية. وهذا المجرم الذي نظم جريمة باريس هو بلجيكي عمره ٢٨ سنة لقبه أبو عمر السوسي موجود في سورية وذهب من بلجيكا إلى الرقة في ٢٠١٣، ووالده صاحب متجر للثياب في ضاحية مولنبيك. فكيف تركت ضاحية بروكسيل تتحول إلى معقل الإرهاب والتطرف المجنون والسلطات البلجيكية لم تر شيئاً؟

دعا هولاند إلى ائتلاف عالمي لضرب «داعش». إنها مطالبة مشروعة إزاء مجازر الأبرياء في باريس، لكنها تطرح أسئلة عدة: كيف يتشكل ائتلاف من دول تدعم بشار الأسد على الأرض مثل روسيا وإيران؟ وأيضاً ما هي فاعلية ضرب «داعش» فقط من الجو طالما أن أوباما يرفض أي تدخل على الأرض؟ وكيف تكون محاربة فعالة من دون الانتقال السياسي في سورية مع خروج بشار الأسد من الصورة وإلا استطاع «داعش» أن يجيش المزيد من السنّة في صفوفه؟ إن الحل السياسي للصراع السوري ملح بمقدار ما هو ضرب «داعش» الذي يتباهى بوحشية مرعبة. رحم الله ضحايا بيروت وباريس وروسيا والمطلوب حل كامل للصراع السوري وليس فقط للوحش «داعش»، وهذا يتطلب جهداً وتحركاً فاعلاً من السيد أوباما الذي افتقد منذ البداية أية استراتيجية للحل في سورية وترك الأمور لفلاديمير بوتين وقاسم سليماني.

الحياة

 

 

 

هل يجوز أن نحزن على باريس؟/ زياد الدريس

هذا سؤالٌ لا يقلّ ألماً عن الهجمات الدامية على باريس، والتي فتحت الشهية من جديد لنقاش عام وشامل وصارم لداء الإرهاب المقيت.

ينبغي التنبيه أن سرطان الإرهاب لم يتوقف أبداً عن نخر جسم العالم من «وسطه» الموبوء دوماً، لكننا لا نفطن لأهمية العلاج الكيماوي لهذا السرطان إلا حين تهاجِم خلاياه أطرافَ الجسد… اليسرى أو اليمنى خصوصاً!

باريس، مدينة الفن والجمال، تستحق هذا القلق العالمي وهذا الحزن الكوني. ولا مبرر للإحجام عن الحزن عليها وعلى ضحايا الإرهاب فيها بحجة أن هناك من يستحق الحزن أكثر، فنفوسنا لسوء الحظ مليئة بحزن يكفي لتغطية كل الأماكن الموبوءة بالوحشية.

نعم من العيب أن يحزن البعض على ضحايا باريس فقط من دون سواهم، لكن من العيب أيضاً أن نمتنع عن الحزن الباريسي تحت أي ذريعة، فالوقوف ضد موت الأبرياء هو (خُلُقٌ بلا حدود).

تنفتح الأفواه كلها مجدداً، ولفترة محدودة بالطبع وكالعادة، لمناقشة ملف الإرهاب. في الحقيقة، قلّة فقط هي التي تناقش، أما البقية فهي فئة تشتم وفئة تشمت، ولأن مفعول الشتائم والشماتة لا يطول فإن الملف يُغلق مجدداً من دون الوصول إلى نتيجة حتى تُفتح الجروح من جديد.

(هل الإرهاب فعل أم رد فعل؟) سؤالٌ قد يقرّبنا كثيراً من التشخيص، وليس من العلاج الذي أراه بعيداً!

هل الإرهاب نوعٌ واحد فقط، هو إرهاب الجماعات المتطرفة، أم أنه نوعان: إرهاب الجماعات وإرهاب الحكومات؟ وأيهما (الفعل) وأيهما (رد الفعل)؟!

اختلافنا حول هوية صُنّاع الإرهاب لا يجب أن يقودنا أبداً إلى الاختلاف حول هوية ضحايا الإرهاب، فالفتاة السورية التي ماتت تحت أنقاض بيتها بفعل القنابل الروسية أو الأميركية أو الفرنسية، هي والشاب الفرنسي الذي مات تحت أنقاض ملعب أو مسرح بفعل انتحاري عربي أو أعجمي، كلاهما سواء في البراءة واستحقاق الحزن.

انشغالنا بتصنيف ضحايا الإرهاب سيشتت جهودنا الذهنية والوجدانية عن تحديد هوية ممارسي الإرهاب.

وسؤالنا عن الفعل ورد الفعل في حلقة الإرهاب لا يستهدف التخفيف من جرم أحدهما، ولكن يستهدف تحديد مسار التشخيص فالمعالجة.

معركة الإرهاب حربٌ بين المتاجرين بالدين والمتاجرين بالسلاح، والطريقة الوحيدة لإيقاف هذه المعركة القذرة هي بإيقاف المتاجرة من الجهتين، أما الظن بأن إيقاف المتاجرة من طرف واحد فقط سيكفي لوقف المعركة فهو وهمٌ مضلّل.

لنتخيل أننا نجحنا حقاً في وقف المتاجرة بالدين، من سيموّل (جيوش القطاع الخاص) ومصانع السلاح التي أصبحت تحقق إيرادات وطنية تتسابق عليها الدول (المتقدمة) وتصنع فارقاً ملموساً في ميزانياتها، ما جعل وزارات الدفاع لديها تتحول إلى وزارات هجوم؟!

هل نحن قادرون حقاً على لجم وحشية التكسّب، المنظّم وغير المنظّم، من وراء دماء الأبرياء المسلمين وغير المسلمين؟

هل «الضمير العالمي» الذي استطاع القضاء على صدام حسين وسحْق جيشه وتغيير وجه العراق كاملاً عاجز (حقاً) عن إزاحة بشار الأسد الذي يقتل شعبه منذ سنين، أم أن المصالح هناك غير التي هنا؟!

هذه المعايير الانتهازية لإدارة الصراعات في منطقتنا هي الوقود المغذي للإرهاب في منطقتنا وفي مناطق الآخرين.

نحن لا نصنع الإرهاب، نحن في الحقيقة نعيد تصنيعه، وهذا التفصيل لا يُخلي مسؤوليتنا لكنه يجعلها مشتركة.

وفي سبيل إزالة اللبس عن قناعاتنا غير المنجرفة مع هؤلاء أو ضد أولئك، يجب أن نقف سوياً وبإيمانٍ تام ضد مسوغات الإرهاب كافة، سواءً إرهاب الجماعات أو الدول، إرهاب الدين أو الرأسمالية، وأن نتعاطف مع ضحاياه الأبرياء، سواء كانوا عرباً أو غير عرب… مسلمين أو غير مسلمين. بهذه المنظومة الأخلاقية غير القابلة للتجزيء، يمكننا إغلاق كافة ذرائع العنف.

* كاتب سعودي

الحياة

 

 

 

دماء باريس أحبطت أنطاليا!/ راجح الخوري

من قمة اقتصادية الى قمة لمكافحة الإرهاب، ولكن لا الاقتصاد وجد من يتذكّره ولا الإرهاب وجد من يريد فعلاً محاربته، وهكذا يمكن القول إن “داعش” تمكّن عبر جريمته البربرية في باريس ان ينسف قمة العشرين في انطاليا، لكن الرابح لم يكن أبو بكر البغدادي على رغم إنشائية البيان الختامي وضحالته المحبطة في محاربته هذا التنظيم، الذي تعمّد على ما يبدو او ربما كُلّف أن يغرق المجتمعين في هول الجريمة التي نفذها عشية الإجتماع.

الرابح كان بشار الاسد الذي توارى مرة جديدة، وراء تركيز المجتمعين في تركيا على ان الأولوية يفترض ان تكون للقضاء على تنظيم “داعش”، قبل أولوية الحل السياسي الذي يفترض ان يغيّر النظام السوري الذي استولد “داعش” والارهابيين.

لا أغالي اذا قلت إن لا شيء يوازي ضحالة البيان الختامي، إلا هامشية تلك التصريحات المحبِطة التي أدلى بها بعض زعماء العالم، وفي مقدّمهم طبعاً باراك أوباما الذي أكد تمسّك إدارته بإستراتيجيتها الحالية في الحرب ضد “داعش”، وهي وفق مسؤولين أميركيين بينهم جون ماكين وعدد من وزراء الدفاع السابقين والسفير السابق في دمشق روبرت فورد استراتيجية واهمة وقاصرة ومخادعة!

البيان الختامي اعترف صراحة بزيادةانتشار المنظمات الإرهابية على مستوى العالم، لكن أوباما بشّرنا بالاتفاق على تعزيز التنسيق الإستخباري، وبوعي واشنطن الشديد لقدرة “داعش” على شنّ الهجمات في الغرب، وفي حين كان “داعش” يبثّ شريطاً يهدد كل دول الغرب، لم يتردد جون برينان في ان يتحفنا بالقول إن “داعش” يخطط لعمليات إرهابية أخرى على ما جرى في باريس… فيا له من اكتشاف!

ما لا يصدّق ان أوباما كاد ان يعلن انتصار البغدادي [ومن ورائه الاسد طبعاً] عندما قال بالحرف: “ان إيقاف “داعش” أمر صعب لأن التنظيم لا يخوض حرباً تقليدية… ليس هذا ما يجري، انهم قتلة، ولا يتعلق الأمر بدرجة تطورهم أو بالأسلحة التي يمتلكونها لكنه يتعلق بالعقيدة التي يتبنونها وباستعدادهم للموت!”.

اذاً يمكن المقاتلات الأميركية ان تواصل العروض الجوية بالتنسيق مع الروس طبعاً، لكن الأرض ستبقى متروكة بالتفاهم الضمني العميق والكامل بين واشنطن وموسكو، ساحة للحرب المذهبية التي ستطول وتطول بين السنّة والشيعة… أوليس هذا المطلوب، ولو حصل بعض الأذى الإجرامي في أمكنة أخرى مثل باريس؟

الناطق باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف أطلق رصاصة الرحمة على قمة العشرين وعلى مؤتمر فيينا دفعة واحدة، عندما قال من انطاليا، ليس هناك اتفاق موحد لدى الغرب على مكافحة الإرهاب. فاذا تذكرنا عدم وجود اتفاق بين روسيا وأميركا والغرب على هذا الموضوع، هل كثير اذا شاهدنا الاسد والبغدادي يرقصان التانغو داخل المقبرة السورية؟

النهار

 

 

 

 

“قتل المسلمين في فرنسا”/ موناليزا فريحة

اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي في الأيام الأخيرة بسجال عن حجم التغطية الاعلامية لتفجيرات باريس مقارنة بهجمات أخرى حول العالم، وتحديداً الهجوم الانتحاري المزدوج في برج البراجنة الخميس الماضي. فمع أن المجرم هو نفسه والضحايا مدنيون هنا وهناك، اجتاحت “فايسبوك” و”تويتر” وغيرهما، مواقف من التعاطف الشعبي والسياسي الواسع مع فرنسا وغير المتناسق مع الردود التي صدرت بعد تفجيرات بيروت.

بالطبع، ليست أرواح الفرنسيين أغلى من أرواح اللبنانيين الذين قضوا في تفجيرات برج البراجنة. وكما باريس عزيزة على قلوب الفرنسيين واللبنانيين والعالم، تبقى بيروت غالية لا لأهلها فحسب، وإنما لكثر زاروها أو سمعوا عنها. لكنّ المؤسف أن يتحول تفجيران انتحاريان في بيروت محطة شبه عادية في يوميات النزف المستمر في المنطقة، وتتحول إراقة دماء اللبنانيين جريمة جانبية في المجزرة الكبيرة المستمرة حوله.

ليس كره “داعش” للحياة في بيروت وباريس والعالم غريباً عن تنظيم كهذا ينمو ويتمدد دموياً. ومع ذلك، يبدو عداؤه لباريس تحديداً ولفرنسا عموماً، لافتاً. صولاته وجولاته فيها كانت كثيرة هذه السنة. من جريمة “شارلي إيبدو” والمتجر اليهودي، الى احباط اعتداءات تحمل بصمات التنظيم. تهديدات داعشية باغراق شوارع باريس بالجثث ونداء من أبو محمد العدناني لـ”قتل كافر أميركي أو أوروبي وتحديداً، فرنسي كافر وحاقد”. الواقع، ان استهداف “داعش” لباريس ليس عبثياً. فرنسا ليست الدولة الوحيدة المتحمسة للائتلاف الدولي ضده. ولا المسؤولون الفرنسيون وحدهم الذين يصرّون على استخدام تعبير “داعش” المهين. فكما يحاول التنظيم تأجيج الحساسيات الطائفية في لبنان المنقسم حيال الحرب السورية، يضع أمامه هدفاً عملياً باستهدافه باريس.

تضم فرنسا نحو ستة ملايين مسلم، وباتت أكبر مصدّر أوروبي محتمل للمجندين في صفوف التنظيم. ولن يكون غريبا أن يتطلع هذا التنظيم الى اثارة اعمال انتقامية ضد مسلمي فرنسا.تنظيم بهذا الدهاء الخطير قد يكون يتطلع الى أكثر من ليلة رعب وعشرات القتلى. خبير فرنسي في مكافحة الارهاب قال السبت لشبكة فرنسا الدولية “فرانس انتير”: “يريدوننا، في باريس وفرنسا، أن نقتل مسلمين… يريدون حربا أهلية في فرنسا”.

في باريس وبيروت وقبلهما في سيناء وسوريا والعراق وليبيا واليمن وغيرها، يمضي تنظيم “الدولة الاسلامية” في تنفيذ خططه الجهنمية. زعماء العالم يتنافسون على عرض عضلاتهم ضده، وهو يصطاد شعوبهم جواً حيناً وبراً حيناً آخر وبدم بارد في كل حين.

بعد أكثر من سنة من حرب “الريموت كونترول” حان الوقت لاستراتيجية جدية وحاسمة لاستئصال هذا الطاعون وأسبابه. العودة الى التخبط في متاهة “داعش” أولاً أم الاسد أولاً، ليست الا نصراً اضافياً لكلا الجانبين اللذين يتحملان تبعة الكثير من دماء اللبنانيين والسوريين والفرنسيين وغيرهم.

النهار

 

 

عنف الإرهاب وعنف العولمة/ سمير حمدي

عاد الإرهاب ليضرب من جديد في قلب أوروبا، وبعيداً عن التوصيفات الأخلاقوية التي تدين في جوهرها كل فعل عنيف يستهدف المدنيين، مهما كانت خلفياتهم الفكرية والعرقية والدينية، فإن السؤال المركزي الذي ما ينفك مسيطراً: من أين يستمد فعل العنف استمراريته؟ ولماذا فشلت محاولات إدماج الأقليات العربية الإسلامية، وتذويبها في المجتمعات الغربية؟ وأين تكمن الأزمة البنيوية في التعامل مع ما يسمى إرهابا بالنسبة للدول الغربية؟

لم يكن الهجوم المنسق على “ملعب فرنسا” ومسرح “باتاكلان” حدثاً طارئاً أو معزولاً (فقد سبقه من قبل الهجوم على مقر صحيفة شارلي إيبدو)، فهو يندرج ضمن سياق عام يغلب عليه التشنج والتوتر في العلاقات الغربية مع الآخر المغاير، سواء تمثل في أقليات كبرى تقطن ضمن المجتمعات الغربية نفسها، أو مع المجتمعات العربية التي تعاني بدورها من الإرهاب، وبأشكال أخرى متفاوتة الخطورة والتأثير.

بدايةً، يمكن القول إن الصراعات الكبرى في عصرنا لا تعود، أساساً، لخلافات دينية، ولذلك تجد الأديان نفسها في موقفٍ يصعب معه أن تتمكن من حلها، من دون أن يعني هذا غياب المؤثر الديني، أو فاعليته كعنصر تحريض أو تخليق للأزمات، وهو أمر لا يتعلق بدين بعينه بقدر ما يشمل غالبية الأديان التي تتجاذب الساحة العالمية. فالأصولية تنشأ في وضع تاريخي محدد، وهي تعبير عن مقاومات مختلفة لنموذج مهيمن، يحاول فرض رؤيته القيمية للعالم عبر آليات العنف والسيطرة.

إن النظام الغربي عبر سلطويته القصوى هو الذي يخلق الظروف الموضوعية لردود الفعل القاسية والعنيفة، حيث لا يجد بعضهم في غير الإرهاب أداة لإثبات الوجود، أو الدفاع عما يعتقد أنها هويته المهددة ورموزه الدينية التي يتم المس بها، والاعتداء عليها. فالمسألة الإرهابية، إن صح التعبير، بمعناها الشامل، تجد جذورها في عوامل كثيرة متشعبة، تغذيها وتمدها بالاستمرارية والبقاء، ويمكن تلخيصها في جملة من العوامل الأساسية:

الشعور بالإحباط هو الذي يولد ردود الأفعال غير المحسوبة، والتي تجنح إلى العنف المطلق، من أجل نقل الرعب إلى المعسكر الآخر، ويرتبط هذا الإحباط أساساً بشعور لدى جزء مهم من مواطني الدول العربية، أو المنحدرين منها، بأن القوى الغربية هي التي تقف وراء حالة الظلم وغياب العدالة الذي يسود بلدانهم، فدعم الغرب أنظمة الاستبداد العربي، أو تبريرها عنف الأنظمة من أجل استمرارها في الهيمنة قد أوجد جيلاً من الناقمين على الأنظمة السياسية الغربية، فما يجري في المنطقة من فوضى وعنف، واستمرار المذابح في سورية، وقبل هذا وذاك استمرار العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني جعل المشهد يفتقد للعقلانية المطلوبة من أجل إنجاز حوار حقيقي ومثمر بين الحضارات.

تحول النظام العالمي الى أداة قهرية، تجمع بين ازدواجية غريبة، فبينما يتم التبشير بمنظومات

“الأصولية تنشأ في وضع تاريخي محدد، وهي تعبير عن مقاومات مختلفة لنموذج مهيمن، يحاول فرض رؤيته القيمية للعالم عبر آليات العنف والسيطرة” قيمية كونية، قوامها الديمقراطية وحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها، نلاحظ على مستوى الممارسة أن القوى الغربية لا تسعى إلا إلى تحقيق مصالحها الأنانية، وتتحدث عن القيم بمكاييل مزدوجة، تتضرر منها الشعوب العربية، وهو أمر يمكن استنتاجه بسهولة، من خلال المواقف الغربية من قضايا العرب والمسلمين.

إن حالة الإحباط التي يشعر بها بعض العرب، والناجمة عن إفشال الخيارات الديمقراطية في مجتمعاتهم، وفشل نماذج التنمية المحلية المفروضة غربياً، بالإضافة إلى نموذج الهيمنة السياسي والثقافي الذي تبشر به العولمة، ويحرص الغرب على ترويجها قد أوجد مقاومات مختلفة، ولم تكن ردود أفعال المجتمعات العربية والإسلامية في العصر الحديث على هيمنة الغرب ومحاولاته للسيطرة، دائماً ردود فعل ذات طابع أصولي، بل إن الجماعات الأصولية لم تتصدر المشهد إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، ولم تأخذ طابعاً عنفياً ضد الآخر في عقر داره، إلا في السنوات الأخيرة مع ازدياد عنف العولمة، ومحاولتها تذويب الهويات المحلية، سواء للمجتمعات العربية الإسلامية، أو حتى للأقليات الكبيرة التي تعيش في الغرب حيث كان شعار الإدماج القسري الذي تبنته فرنسا زمن حكم ساركوزي عاملاً في إثارة نزعات هوياتية، لا يمكن ضبطها أو السيطرة عليها، وكما يؤكد جان بودريار، فإن الغرب هو الذي صنع قواعد اللعبة وطورها، “جمع كل الأوراق بين يديه، فألزم الآخر بتغيير اللعبة وتغيير قواعد اللعب… ففي مواجهة نظام عالمي، يطرح إسرافه في استعمال القوة تحدياً لا مساومة فيه، يجيب الإرهابيون بعمل تكون المساومة فيه، بحد ذاتها، منعدمة ومستحيلة”، فالإرهاب لا يطرح بديلاً أيديولوجياً، بقدر ما هو بصدد توجيه رسالة دموية، قوامها أن ثمة أطرافاً تضررت بفعل السياسات الغربية، وأن ما ينبغي القيام به هو البحث عن أسباب الأزمة التي تعاني منها شعوب المنطقة، بشكل أكثر وعيا.

وفي ظل الشعور بقوة الهيمنة التي يمارسها الغرب اقتصادياً وعسكرياً وقيمياً، يتضاعف الشعور لدى الآخرين (العرب في هذه الحالة) بضرورة أن يكون لديهم نظام خاص بهم، مستقل عن مراكز القرار الغربي، ويميزهم عن الآخر، ويثبت شعورهم بهويتهم المميزة، ويزداد هذا الإحساس لدى بعض العرب الذين تضطرهم ظروف حياتهم للإقامة في المجتمعات الغربية. ولهذا، ليس من المستغرب أن ينضم كثيرون منهم إلى الجماعات الأصولية الأكثر عنفاً وتطرفاً.

الإرهاب صناعة غربية أولاً وأساساً عبر سياسات طويلة الأمد، تجد جذورها في تاريخ الاحتلال الغربي للمنطقة العربية والرغبة الدائمة في حشر الهوية العربية الإسلامية في زاوية العدو، وهو ما يخلق شعوراً لدى بعض المنتمين إليها بالتهديد، ويفضي إلى ظهور ردود أفعال لاعقلانية وتصرفات عدوانية عنيفة، وإذا اعتبرنا أن الأصولية نفسها هي رد فعل إنساني لموقف تاريخي محدد، فمن غير الممكن أن نتوقع أن تفقد أهميتها وتأثيرها، بل وظهور نتوءات عنيفة من خلالها ما لم يتبدل الموقف الغربي من المنطقة تبدلاً جذرياً. فإرهاب الأصوليات هو، في النهاية، موجود في كل مكان، أشبه بفيروس، في قلب العولمة بحد ذاتها يناهضها، وهو نتاج لها في الوقت نفسه.

العربي الجديد

 

 

 

نحو مقاربة جديدة للحرب ضد الإرهاب/ علي أنوزلا

قد تعجز العبارة عن إدانة جرائم باريس الفظيعة وشجبها، فكل الكلمات قد تتحول إلى مجرد نثر مبتذل من النوع الذي ألفنا سماعه، عندما تتكرر مثل هذه الجرائم الرهيبة. ومع ذلك، لا بد من الشجب والإدانة القويين لما حصل، بسبب بشاعته وعدد ضحاياه، وأيضا للإعلان عن رفضه، وعدم تبريره بأي شكل. فمرة أخرى، كشف لنا تنظيم داعش الإرهابي عن بشاعة أساليبه في القتل والإعدامات وتنفيذ الهجومات. وكعادته، ما يبحث عنه هذا التنظيم، من جرائمه الفظيعة، هو الترويج الإعلامي لنفسه، واستقطاب مزيد من المرضى بسفك الدماء في أوساط أصحاب العقول المعتلة.

ما حدث في باريس كان نوعاً آخر من همجية داعش. ولا تحتاج الهمجية إلى وصفها، أو تحليلها أو تفسيرها، وأبعد من ذلك تقبلها أو تبريرها، الجواب الوحيد على مثل هذه الهمجية هو استئصالها قبل البدء في التفكير في أسبابها، والبحث عن طرق معالجتها. عندما يجتاح وباء البشرية، فإن أول ما تفعله هو عزل الحالات الميئوس منها، حتى لا ينتقل الداء إلى الآخرين. وما حدث في باريس أخطر من الوباء، لأن الوباء يمكن تشخيص أعراضه مبكراً، عندما يصيب الجسد.

من السهل تبرير ما حدث في باريس بأنه رد فعل على السياسة الفرنسية التي وضعت نفسها على رأس كتيبة الحرب العالمية ضد الإرهاب، بعد أن تراجعت أميركا عن قيادة هذه الحرب في عهد باراك أوباما، ففرنسا هي التي قادت، من طرف واحد، الحرب ضد المتطرفين في مالي، وهي تشارك في عمليات عسكرية إلى جانب العراق والأكراد ضد تمدد إرهاب داعش، وطائراتها تقصف منذ أسابيع معسكرات هذا التنظيم في سورية.

لكن، ليست فرنسا وحدها من يفعل ذلك، فهناك تحالف دولي كبير يقصف يومياً مواقع داعش في العراق وسورية. وكردود أفعال من هذا التنظيم على هذا التحالف، سبق أن تبنى الهجوم ضد تركيا، وإسقاط الطائرة الروسية فوق سيناء، وأعلن وقوفه وراء الهجمات التي ضربت باريس العام الماضي ضد جريدة “شارلي إيبدو”، ولم يتأخر عن تبني الهجمات الدامية التي شهدتها باريس أخيراً.

لذلك، يمكن القول إن مثل هذه الهجمات كانت متوقعة، وربما هي أيضا إشارة تحذيرات جديدة، يجب أخذها على محمل الجد، من التنظيم الإرهابي الذي يملك من القوة والمال والأنصار ما لم يملكه تنظيم إرهابي من قبله في التاريخ، من أن انتقامه قد يطاول أكثر من دولة، وأكثر من هدف، وأكثر من نفس بريئة.

أما الاستهداف فكان واضحاً ومعبراً، لأن التنظيم الإرهابي الذي برع في “اختراع” أساليب

” جريمة باريس الإرهابية استهدفت نمط العيش الغربي الذي يقوم على تقديس الحرية وتمجيدها” التقتيل الهمجي، اختار بدقة، هذه المرة، أيضا أهدافه، وفي عبارة واحدة، هو استهدف نمط العيش الغربي الذي يقوم على تقديس الحرية وتمجيدها، ومثل كل خفافيش الظلام التي تخاف من النور، فإن “الدواعش” يخافون من الحرية، ولذلك يحاربونها.

التعريف البسيط للإرهاب هو التفسير الذي يصفه بأنه “عملية ماركوتينغ” بشعة للعاجزين عن التعبير عن أفكارهم بشجاعة، والدفاع عنها بالحوار والنقاش. إنه سلاح الجبناء الذين يخشون المواجهة في ساحة الفكر الحر. لذلك، يختارون الإعلان عن “وجودهم” و”أفكارهم”، إن كانت لهم أفكار أصلا، لترويج قتلهم وبشاعتهم وترهيب الناس وإخافتهم إقامة ناموسهم.

أسوق هذا التعريف الذي سمعته من مثقف ألماني، جمعتني به مصادفة، أخيراً، في برلين على هامش لقاء فكري، لأقول إنه حان الوقت للتفكير في إعادة النظر في مقاربة “الحرب ضد الإرهاب”، لأنها أعطت نتائج عكسية، منذ أعلنها جورج دبليو بوش عام 2001، فقد ازدادت العمليات الإرهابية في العالم منذ ذلك التاريخ، وأصبحت أكثر بشاعة ودموية، ولم تستثن أي دولة، والوحيدة التي استفادت منها هي أجهزة المخابرات في دول الغرب، والأنظمة السلطوية والشمولية في العالم.

طبعاً النظام السوري، وقبله العراقي، كانا موجودين قبل تلك الحرب، لكنها أعطتهما الذرائع للاستمرار، تماما كما سبق لها أن وفّرت أسباب الوجود للنظام المخلوع في تونس، وتفعل الشيء نفسه اليوم مع النظام الانقلابي في مصر. وباسم محاربة الإرهاب، أحكمت هذه الأنظمة قبضتها على حرية شعوبها ومصائرها، ودفعت آلاف الشباب في أوطانها إلى تبني فكر المتطرفين. إن أكبر من يعبئ الشباب في المنطقة العربية، وفي غيتوهات الأحياء المنتشرة على امتداد أحزمة المدن الغربية الكبيرة، للالتحاق بصفوف المتطرفين، هي سياسة المقاربة الأمنية الضيقة التي تبني “فلسفتها” على “الحرب العالمية ضد الإرهاب”.

طبعاً، لا يعني هذا أنه يجب فتح الحوار مع التنظيمات الإرهابية، مثل تنظيم داعش، كما لا يجب أيضا فتح حوار مع نظام إرهابي، مثل نظام بشار الأسد في سورية، أو نظام مجرم مثل نظام عبد الفتاح السيسي في مصر، فكلهم تنظيمات وأنظمة وجوه متعددة للعملة نفسها التي ترفع أسهمها في السوق العالمية لمحاربة الإرهاب. تلك السوق التي تم تدشينها قبل 15 سنة، وحان الوقت لإغلاقها، لأن خسائرها أصبحت أكبر من نتائجها، أما أرباحها فلم يستفد منها إلا سماسرتها. وإغلاقها يجب أن يمر حتماً بتقديم سماسرتها للعدالة، لتقول كلمتها فيهم، لأنهم هم من عملوا، ويعملون، على استمرار أسباب وجودها.

وكما سبق أن كتبت، في “العربي الجديد” مرات، فإن العنف الذي ينسب إلى الإسلام والعالم العربي يجد دائما ما يبرره عند أصحابه بكونه، حسب زعمهم، رد فعل على ما يحصل منذ ستين سنة في فلسطين المحتلة من جرائم إرهابية وجرائم ضد الإنسانية، ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين. وأي حديث جدي عن محاربة الإرهاب على المستوى العالمي يجب أن يأخد بالاعتبار مقاربة مندمجة لهذه القضايا الثلاث: عدم التساهل مع الإرهاب، كيفما كان مصدره أو أيديولوجيته. لكن، بالعدل والقانون، وإعادة النظر في الحرب ضد الإرهاب ووسائلها وأهدافها، والبحث عن حل جدي لقضية فلسطين، يصون كرامة الفلسطينيين، ويعيد لهم حقهم التاريخي المغتصب، ويوفر الأمان للإسرائيليين.

العربي الجديد

 

 

 

 

الإرهاب والثقة/ لوسي ماركوس

بينما يحاول العالم أن يستوعب التداعيات والعواقب الأوسع نطاقا للفظائع الإرهابية في باريس، فإن هناك خطرا بأن تضيع قصة مهمة في خضم سيل التغطية والتحليلات، وهي قصة تتعلق بالدور الحيوي المتزايد الذي تلعبه الشركات الخاصة في التخطيط والاستجابة للحالات الطارئة، وهناك ما هو أبعد من ذلك بالنسبة لهذه القصة.

بينما تكشفت حقيقة موجة الهجمات المتزامنة قام الناس حول العالم بمتابعتها في بث حي مباشر من خلال تويتر، ولقد تواصل الباريسيون مع أولئك الذين تقطعت بهم السبل عن طريق توفير ملاذات آمنة مستخدمين وسم الباب المفتوح على تويتر، كما قام أولئك الذين أرادوا الاطمئنان على سلامة أقاربهم وأصدقائهم بالتحقق من خلال خاصية فيسبوك الجديدة “التحقق من السلامة”. لقد أعلنت شركة جوجل أن الاتصالات لفرنسا ستكون مجانية من خلال جوجل هانغ آوتس.

لقد تواصلت الحكومات حول العالم مع مواطنيها باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي؛ فالسفارة البريطانية في فرنسا أرسلت معلومات عن طريق تويتر للمسافرين، بينما أعلنت السفارة الأميركية هناك آخر المستجدات عبر فيسبوك.

لكن، ليست فقط شركات الاتصالات التي كانت على قدر المسؤولية، فشركات تقاسم المركبات عادة ما توجه لها الانتقادات في الصحف هذه الأيام، ولكن عندما احتاج الناس أن يخرجوا من المناطق التي حدثت فيها الهجمات بشكل آمن استجاب سائقو سيارات الأجرة في باريس لهذه الحالة الطارئة عن طريق توفير خدماتهم بالمجان، حيث كان دورهم مكملا للنقل العام.

إن هناك أشياء أكثر في حياتنا اليومية -الاتصالات والنقل والرعاية الصحية والطاقة وغيرها الكثير- تعتمد على الخدمات التي يوفرها القطاع الخاص عوضا عن القطاع العام، ولقد أصبحت تلك الشركات جزءا من نسيج مجتمعاتنا، والحالات الطارئة فقط تجعلنا ننتبه لهذه الحقيقة.

لكن زيادة السلطة تعني زيادة المسؤولية، وما تزال الشركات تجد أن من الصعوبة بمكان التعامل معها. إن الشركات لديها مسؤولية الاستعداد للأزمات بما في ذلك الكوارث الطبيعية والبشرية بشكل أكثر جدية مقارنة بأي وقت مضى، كما أن لديها مسؤولية التحقق من أنها جزء من الحلول للتحديات الوطنية والعالمية الأوسع نطاقا. باختصار، إن هذه الشركات لديها أيضا مسؤولية الوفاء بالتزاماتها الناشئة عن اعتمادنا عليها ومن الثقة التي نوليها لتلك الشركات ضمنيا أو صراحة.

إن التحدي هو أن مدى مسؤولية الشركات قد أصبح واضحا في وقت يتزايد فيه انعدام الثقة تجاه القطاع الخاص. إن هناك مخاوف قوية تتعلق بكمية المعلومات الخاصة التي نقدمها لفيسبوك وجوجل والشركات الأخرى، مما يمكنها من معرفة الكثير عن أين نذهب وماذا نفعل ومع من نتحدث، وهذا لا ينطبق فقط على الشركات التقنية، حيث إن هناك أيضا الشركات التي نعتمد عليها من أجل صناعة سيارات آمنة يمكن التعويل عليها، ومن أجل توليد الطاقة، وتعدين المواد الخام من أجل إنتاج أشياء نستخدمها كل يوم.

طبقا لأبحاث موري إيبسوس التي لم يتم نشرها، وتم إرسالها لي مؤخرا، فإنه عندما يتعلق الأمر بالحكم على شركة ما فإن الأمانة والنزاهة هي أهم من أي وقت مضى، فثقة الزبائن تتآكل باضطراد بسبب عدة عوامل تقود الناس إلى التشكيك في مدى تقدير تلك الشركات لهم كزبائن؛ وعليه فحتى ونحن بحاجة للشركات لتقديم المزيد من الخدمات الحيوية من النقل إلى الرعاية الصحية إلى خطط الإخلاء فنحن نثق بها بشكل أقل.

إن هذا لا يعد ردّ فعل مبالغا فيه على قضايا نادرة، وعلى العكس من ذلك فإن الناس يشعرون بالصدمة، وهو شعور له ما يبرره على تواصل نشر القصص التي تشكك في ما إذا كانت الشركات التي تقدم خدمات ضرورية في بلاد حول العالم تستحق ثقتهم.

إن الأكثر ازعاجا هو أن تلك الشركات التي تعد مدافعة صلبة عن حكم القانون عندما يتعلق الأمر بحقوقها تتعمد انتهاك القانون -دون اعتبار للعواقب- عندما يتعلق الأمر بزيادة أرباحها. إن قضية فولكس فاجن لا تزال تستعصي على الفهم، فكيف يمكن لشركة ضخمة متعددة الجنسيات أن تجعل السلوك الإجرامي جزءا من إستراتيجيتها التجارية؟

إن التحقيقات الأخيرة عما إذا كانت إكسون مويبل قد تعمدت تغطية أنها كانت تعرف معلومات أكثر عن مخاطر التغير المناخي تنطوي على التجريم كذلك.

وكما أظهرت الردود على الهجمات الإرهابية في باريس، فإن الشركات يمكن أن تعمل الكثير من الأشياء الجيدة، وأن تكون بمثابة شركات وطنية مسؤولة، ولكن هناك ما يشبه شخصية جاكل وهايد في ما يتعلق بتلك الشركات. فمثلا الشركات التي تنتج ملابس منخفضة التكاليف يمكن أن تصنع تلك الملابس في مصانع تستغل العمال والناس الذين ساعدتهم الشركات باقتدار وسخاء خلال الحالة الطارئة في باريس، وهم نفس الناس الذين خانتهم تلك الشركات، وأخفت معلومات عنهم في أوقات أخرى.

بالطبع، فإنه يتوجب النظر إلى هجمات باريس طبقا لشروط الجغرافيا السياسية والأمن، ولكن هناك درسا للشركات ولبقيتنا أيضا، وهو أننا سوف نكون في وضع أفضل لو أن الدافع لدى الشركات لتقوم بالشيء الصحيح في أسوأ الأوقات هو الذي يحدد كيف تتصرف تلك الشركات في جميع الأوقات.

الجزيرة نت

 

 

 

معضلة الوهابية السعودية تحت الأضواء بعد هجوم باريس/  انجوس مكدوال

يرى كثير من الأجانب وكذلك بعض الليبراليين السعوديين أن النهج الديني الصارم في المملكة هو السبب الأساسي في الخطر الجهادي الدولي الذي ألهب الوضع في الشرق الأوسط منذ سنوات وكانت آخر ضرباته في باريس الأسبوع الماضي.

ورغم أن الرياض عمدت إلى تضييق الخناق على الجهاديين في الداخل فزجت بالآلاف في السجون ومنعت المئات من السفر للقتال في الخارج وقطعت خطوط تمويل المتطرفين فقد أثار نهجها الديني معضلة.

فهي تهاجم عقيدة المتطرفين الذين يعلنون الجهاد على من يعتبرونهم كفارا أو ملحدين وهي في الوقت نفسه تحالف المؤسسة الدينية التي تدعو لعدم التسامح مع مثل هذه الفئات نفسها وإن لم تكن تدعو للعنف.

ويعتبر المذهب الوهابي – وهو المذهب الديني الرسمي في المملكة – أن المذهب الشيعي انحراف عن صحيح الدين ويثني على الجهاد ويحض على كراهية الكفار. ويدير رجال المؤسسة الدينية النظام القضائي في المملكة وميزانية لنشر نفوذهم في الخارج.

وقال أحد كبار رجال الدين السعودي لرويترز في العام الماضي “يجب أن يكون المسلمون منصفين لغير المسلمين. ولهم أن يتعاملوا معهم وعليهم ألا يعتدوا عليهم. لكن هذا لا يعني ألا يكرهونهم ويتجنبونهم.”

وبالنسبة للحكومة فإن التركيز على هذا التفريق بين قبول الكراهية والتحريض على العنف سمح لها بالاحتفاظ بدعم رجال المذهب الوهابي والمجتمع السعودي المحافظ بشدة وفي الوقت نفسه تنفيذ عملية أمنية كبرى تستهدف المتطرفين.

وتجيء المذبحة التي شهدتها باريس يوم الجمعة على أيدي تنظيم الدولة الإسلامية في أعقاب سلسلة من التفجيرات والهجمات بالأسلحة النارية من جانب أنصار الجماعة نفسها في السعودية خلال العام الأخير سقط فيها العشرات وأغلبهم من الأقلية الشيعية في المملكة.

وتدافع الحكومة عن سجلها في التصدي للتشدد الإسلامي وتشير إلى اعتقال الآلاف من المشتبه في تطرفهم وكذلك تبادل معلومات الاستخبارات مع الحلفاء ومنع رجال الدين الذين يشيدون بهجمات المتطرفين من ممارسة نشاطهم.

وفي مقابلة خلال الصيف رفض اللواء منصور التركي المتحدث باسم وزارة الداخلية فكرة أن الوهابية نفسها تمثل مشكلة وشبه 2144 سعوديا سافروا إلى سوريا بما يقدر بنحو 5500 مسلم أوروبي فعلوا الشيء نفسه.

وأضاف أن رجال الدين والدعاة الذين يحثون المسلمين بمن فيهم السعوديون على السفر إلى سوريا والعراق من أجل المشاركة في القتال أو لشن هجمات في مناطق أخرى يعيشون هم أنفسهم في مناطق خاضعة لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية لا في المملكة نفسها.

* رد فعل المتطرفين

وقد ندد مفتي المملكة أرفع رجال الدين في المذهب الوهابي ومجلس كبار العلماء أكبر مؤسسة دينية للمذهب بهجمات باريس وهما يستنكران منذ سنوات المتطرفين ويصفانهم بأنهم من الضالين والكفار.

ولكن رجال الدين السعوديين يذمون الشيعة صراحة ويسمونهم “الرافضة” وهو لفظ شائع متداول بين المتطرفين من أصحاب المذهب السني في الصراع الطائفي الذي نكب به عدد من دول الشرق الأوسط وفي كثير من الأحيان يرفضون اعتبار الشيعة مسلمين.

ولا يختلف تفسيرهم للجهاد عن تفسير الجماعات المتشددة سوى في أنهم يرون ضرورة الحصول على موافقة العاهل السعودي ومن يمثل المؤسسة الدينية الرسمية.

وبالنسبة للغرباء والليبراليين السعوديين ممن ينتقدون أسرة آل سعود الحاكمة يبدو الفرق غاية في الدقة بين هذين التفسيرين.

غير أن هذا التمييز يصب مباشرة في سياق السياسة الداخلية السعودية التي تعتمد فيها الأسرة الحاكمة على المؤسسة الوهابية لدعم شرعيتها وكثيرا ما تبدي مخاوفها من انتفاضة قد يشنها المتطرفون ضد حكمها.

ومن المؤكد أن التاريخ يبين أن أكبر التهديدات لاستقرار المملكة أكبر دول العالم تصديرا للنفط جاءت من ردود فعل المحافظين تجاه الليبرالية.

فقد ثار جيش الإخوان القبلي لمؤسس المملكة ابن سعود عليه بسبب معاهداته مع غير المسلمين. واغتيل الملك فيصل عام 1975 انتقاما لمقتل أمير عام 1966 خلال أعمال شغب احتجاجا على دخول التلفزيون المملكة.

وفي 1979 اجتاحت مجموعة من المتشددين الإسلاميين بدافع من مشاعر الغضب تجاه واشنطن الحرم المكي في عملية حصار دام. وانتشرت احتجاجات إسلامية واسعة في التسعينات. وفي العقد الماضي شن تنظيم القاعدة هجمات مميتة.

وساهمت هذه الهجمات والتفجيرات التي سقط فيها مئات القتلى في دفع أسرة آل سعود للتصدي للتطرف الصريح بين رجال الدين وتطبيق إصلاحات تهدف إلى تشجيع التسامح وتوظيف المزيد من الشبان السعوديين.

ومن هذه الإصلاحات برنامج للبعثات الدراسية سافر من خلاله مئات الألوف من السعوديين من الجنسين للدراسة في الخارج وحملة كبرى لتوظيف المزيد من السعوديات وكذلك إصلاحات هادئة للنظام القضائي والتعليم ومنع مئات الدعاة من ممارسة الدعوة.

وأدت تلك الإصلاحات إلى تصاعد الاستياء الوهابي من صاحبها العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله. وعلاقة الملك سلمان برجال الدين تسير على نحو أفضل رغم أنه لم يتخذ بعد تسعة أشهر من توليه الحكم أي خطوة كبرى نحو الرجوع عن هذه الإصلاحات.

* نفوذ عالمي

ويرد منتقدو الأسرة الحاكمة بأن المؤسسة الدينية التي تمولها الدولة تذعن أكثر مما يبدو لرغبات الأسرة الحاكمة ويتهمون الأسرة بأنها تلوح بخطر التشدد الديني لتجنب القيام بإصلاحات قد تعرض سلطتها للخطر في نهاية الأمر.

ويضيف هؤلاء أن الامتيازات السابقة التي صدرت في مواجهة مخاوف من رد فعل المحافظين منحت رجال الدين الوهابيين نفوذا عزز رسالة عدم التسامح.

وأحد المشاكل التي تواجهها أسرة آل سعود في محاولة التخفيف من صرامة الوهابية هو أن هذا المذهب نشأ صراحة للقضاء على ما يعتبره معتقدات إلحادية خاطئة. ومنها أيضا شروط اتفاق يرجع للقرن الثامن عشر بين الأمراء ورجال الدين يقسم السلطة بين الطرفين.

ويمثل تحدي أي من هذين المبدأين ضربة لمعتقدات جوهرية وللعقد الاجتماعي الذي يقوم عليه المجتمع السعودي.

ومع ذلك فقد حدثت بعض التغييرات. فبعد أن هزم ابن سعود الإخوان قام بترقية رجال الدين الذين أقروا تفسيرا أكثر شمولية للوهابية اعترفوا فيه بأن السنة من أصحاب التوجهات الليبرالية مسلمون وقبلوا فكرة التعامل مع كفار.

وعلى مر العقود لانت مواقف المؤسسة الدينية الرسمية بدرجة أكبر على مضض وأصبح دعاة ورجال دين ممن لا يجدون غضاضة في التواصل مع الغرب ومع الأفكار الحديثة ينضوون تحت لواء الوهابية الآن.

ورغم أن السعودية تمول دعاة ومساجد ومعاهد دينية في أماكن متفرقة من العالم ورغم تنامي المذهب السلفي بين المسلمين على مستوى العالم فقد أصبح نفوذ السعودية في هذه الحركة مخففا.

ولا تزال الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة من أهم مراكز تعليم المذهب السلفي للطلبة من مختلف أنحاء العالم لكن خريجيها لا يتمتعون بأي نفوذ أكبر من خريجي مثل هذه المؤسسات في دول أخرى.

وقالت ستيفاني لاكروا التي نشرت لها كتب عن السلفية والإسلام في السعودية “أصبح المشهد السلفي مفتتا ومتباينا في مختلف أنحاء العالم حتى أنه لم تعد للسعوديين سيطرة عليه. وعندما يتجه الناس لدراسة السلفية لا يذهبون إلى هناك وما يدرسونه هو سلفية لا سيطرة للسعوديين عليها.”

وفيما بين المتطرفين لم يعد النفوذ الديني السعودي واضحا كما كان من قبل. ففي كثير من الأحيان يلجأ الجهاديون إلى نصوص كتبها علماء راحلون من علماء الوهابية وكثيرا ما يتبنون أسلوبا سعوديا في الخطابة في خطبهم الدينية لكنهم يسخرون من رجال الدين المعاصرين في المملكة ويصفونهم بأنهم ألعوبة في أيدي نظام فاسد مؤيد للغرب.

رويترز

 

 

 

الإرهاب في باريس يكرّس معادلة “لا داعش ولا الأسد”/ عبدالوهاب بدرخان

تدور مجريات الإرهاب، والحرب عليه، أو معه، على نحو يذكّر بمواجهة مشابهة أيام الحرب الباردة، عندما كانت الأجهزة السوفياتية تستخدم أذرعها في بعض الأنظمة التابعة لها، ومنها مثلاً النظام السوري والنظام الليبي (السابق). ثمة وقائع تستدعي هذه المقارنة: منها أن بشار الأسد استغلّ فرصة هجمات باريس لتوبيخ «السياسات الخاطئة» الفرنسية معتبراً أنها ساهمت في نشر الإرهاب، وكأن سياساته «الصائبة» و «الحكيمة» لم تؤذِ نحو مليون سوري قتلاً وتعويقاً وإخفاءً، عدا الذين اقتُلعوا من أرضهم ليتوهوا في مشارد النزوح. منها أيضاً أن جميع الدائرين في فلك نظام فلاديمير بوتين وجدوا مصلحة في الحدث الفرنسي معتمدين منهجاً «أسدياً» في تحليله وتباروا في الشماتة كما لو أنهم يسقطونه على الخلاف في شأن اوكرانيا والعقوبات الموجعة التي نجمت عنه. ومنها كذلك انتهاز إيران ضربات «داعش» لتكرار تسويقها المفهوم «الأسدي» للأزمة السورية، وحتى لأزمات المنطقة، بأنها «مشكلة إرهابيين وتكفيريين» وأن إيران وحدها مع ميليشياتها مَن يتصدّى لهم.

هناك «داعش»، إذاً، وهناك المستفيدون منه، فعن أي «حرب على الإرهاب» يتحدث المحاربون، إذ يتعايشون مع تنظيم وحشي لا يسيطرون عليه، يغذّونه بضربات جويّة غير مجدية وهو يتخذ من المدنيين دروعاً بشرية، لا يريدون زواله بل يحافظون عليه وقوداً لصراعاتهم. في خطابه أمام مجلسي النواب والشيوخ، بدا الرئيس الفرنسي مشككاً في مدى استعداد الأسرة الدولية لمحاربة الإرهاب فعلاً، وخلال قمة العشرين في تركيا كرر رئيس المجلس الاوروبي مطالبته الولايات المتحدة وروسيا بـ «التعاون ضد الإرهاب»، ومن الواضح أنهما لا تحبذان مثل هذا التعاون. لكلٍّ منهما حربها الخاصة التي لا تدور على أرضها، ولا يموت فيها جنودها، ولا تنعكس الآن وتعتقدان أنها لن تنعكس مستقبلاً على أمنهما ولن تؤثر في مجتمعاتهما، ولذلك فهما لا تأبهان لموت سوريين وعراقيين في هذه الحرب، وها هما تتظاهران فقط بالاهتمام البروتوكولي حيال أعمال القتل في شوارع باريس.

لم يشعر عرب الشرق الأوسط والخليج، بل لم يشعر الفرنسيون، بأن قمة العشرين (الاقتصادية) خرجت بأي عزم جديد على ضرب الإرهاب، رغم أنها انعقدت غداة الصدمة الباريسية، ورغم أن طبيعة الحدث أنذرتهم جميعاً بأنهم ليسوا بمنأى عن التهديد، بل رغم أن العشرين دقّوا ناقوس الخطر بأن الإرهاب بات يعوّق اقتصادات العديد من بلدانٍ ويفسد جهود التنمية في أخرى. كل ما توصلوا إليه كان مما سبق قوله والتشديد عليه والإخلال بالتزامه ونسيانه: مضاعفة التدابير لتجفيف الموارد المالية للتنظيم، زيادة التعاون الاستخباري… إلا أنهم، على افتراض صدق النيات، لم يبلوروا إرادة عملية لمواجهة الخطر الذي يقولون أنهم موحّدون ضدّه. وقد سبق أن أكدوا مراراً تعزيز التنسيق الأمني، وما أن تحصل عملية وتتمكّن من إسقاط ضحايا حتى تتصاعد الشكاوى من نقص في التنسيق أو من انعدامه. غير أن الخلل الحقيقي يكمن في قطبَين دوليين يمارس أولهما الاميركي استراتيجية الفراغ الدولي، ويستغلّ الآخر الروسي «استقالة» الأول لاصطناع إنجازات سعياً إلى تجديد زعامة دولية على أكتاف الحكام المستبدّين وأنظمتهم المتهالكة.

لا يمكن فصل الإشكالية «الداعشية» عن تلك المتمثّلة بالنظام السوري ورئيسه، فمصير التنظيم أصبح مرتبطاً نهائياً بمصير النظام، ومن أجل القضاء على التنظيم يجدر إنهاء النظام، واستطراداً فإن النظام والتنظيم واحد، أي تهاون حيال أحدهما لا بدّ أن يقوّي الآخر، ولا معنى لوجود أي منهما من دون الآخر… هذا هو جوهر الاقتناع العام في قمة العشرين، كما في لقاءات فيينا السورية، كما بالنسبة إلى أي عقل سليم. لكن عقليات التسوية تقترح أن يكون بقاء الأسد ثمناً للتخلص من «داعش». هذه هي وصفة الاستسلام العاري لمنطق الإرهاب نفسه، أي الارتضاء بأحد هذين الوحشَين. وماذا عن سورية هنا، بل ماذا عن شعبها، لا أحد يريد مجرد طرح السؤال. كان واضحاً للعيان أن حصول هجمات باريس عشية لقاء جديد في فيينا هو أكثر من صدفة مرتّبة، لا تهدف فقط إلى تمكين روسيا وإيران من اقتراح «داعش أولاً» و «الأسد لاحقاً» في مقاربة مختلفة للأولويات الدولية في سورية. لم يكن لأحد أن يدحض ذلك فيما لم تجفّ بعد دماء الضحايا في باريس، حتى لو كان المغزى الواقعي لهذه الأولوية أن «داعش» ينقذ الأسد.

كانت أبرز السياسات الفرنسية «الخاطئة» في دعمها الثابت للمعارضة والدعوة إلى تسليحها، وفي قيادة الجهد الحقوقي الدولي لإثبات «إجرام» النظام وتوثيقه والتحضير لمحاسبته، كما أن فرنسا قدمت مشروع قرار في مجلس الأمن لإحالة رموز النظام على المحكمة الجنائية الدولية لكن «الفيتو» الروسي – الصيني أحبطه، بل كانت الدولة الوحيدة التي أبدت استعداداً لمشاركة الولايات المتحدة في ضرب النظام عام 2013 بعد استخدامه السلاح الكيماوي إلا أن اميركا تراجعت عن خططها، ثم إن باريس هي التي تبنّت قضية ضحايا التعذيب في سجون الأسد استناداً إلى آلاف الوثائق التي هرّبها المصوّر «قيصر» لدى هروبه وانشقاقه. بهذه المواقف، وإنْ لم تُحدث فارقاً كبيراً لمصلحة المعارضة، تميّزت فرنسا عن كل الدول الغربية بأنها الوحيدة التي تعاملت مع الأزمة السورية، انطلاقاً من القوانين الدولية ومشروعية طموحات الشعب. وبسبب هذه المواقف اختارها التنظيم – النظام، «داعش – الأسد»، هدفاً ينبغي ضربه والانتقام منه. ولعل نتائج الضربات الجوية التي استهدفت فرنسا فيها «داعشيين» فرنسيين هي التي جعلت قيادتهم في الرقة تأمر ذئابها بالتحرك. وربما كان مقتل عدد من البريطانيين وعلى رأسهم «الجهادي جون» وراء ازدياد احتمالات حصول عمليات إرهابية في بريطانيا.

لا شك في أن هذا التناغم بين التنظيم والنظام هو ما أبقى التداول بـ «مصير الأسد» سواء في فيينا أو في انطاليا، كما أن فرنسوا هولاند لم يفوّت فرصة الردّ على الأسد بقوله أن أي حل سياسي للأزمة السورية «لن يشكّل مخرجاً للأسد»، وكان الزعماء الغربيون ردّدوا قبله وبعده أنه لن يكون للأسد دور في مستقبل سورية. وهذا في حد ذاته ضغط على روسيا، وبالتالي على إيران، اللتين تعتقدان أن خريطة الطريق التي اعتُمدت للحل تراعي بشكلها الخارجي منهجيتهما، لكنهما غير مرتاحتين إلى موقف اميركا التي تتوقعان منها أن تليّن مواقف أصدقائها، إلا أن إعلان السعودية أنها ستعمل للحل السياسي كما لو أن الخيار العسكري غير موجود وستعمل للحل العسكري كما لو أن الخيار السياسي غير موجود. وفي ذلك تأكيد بأن ما سمّي «خريطة طريق» لم يحسم شيئاً، وأنه مجرّد خطوة أولى واختبار للأفكار ومحاولة لحصر الخيارات، ذاك أن كلمة السرّ في فيينا هي أن الحل لم يتبلور بعد وبالتالي لم يبدأ بعد ولذلك فإن أحداً لا يريد أن يترك الطاولة الآن ولا أن يكون سبباً في إفشال عملية لا تزال في ما قبل بداياتها.

ثمة بديهيات صارت محسومة وتكرّست أكثر بعد هجمات باريس، ومهما برعت الديبلوماسية في الخداع فإنها لن تستطيع تجاهلها أو تجهيلها في عملية بناء حل سياسي حقيقي. وأهمها أن ارتباط النظام والتنظيم لم يعد سرّاً استخبارياً فحسب، بل أصبح واقعاً ملموساً. أما معادلة «إمّا الأسد وإمّا داعش» التي تستخدم للتخويف فكانت لتصلح أساساً لتسويق بقاء الأسد «لفترة محدودة» لو لم يعتمد النظام وإيران على «داعش» في حربهما على المعارضة. والأكيد أن «لا داعش ولا الأسد» هي المعادلة الأسلم لتحديد مستقبل سورية.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

 

 

 

تحديات أمام العرب والعالم بعد إرهاب باريس/ شفيق ناظم الغبرا

أدى العنف الذي استهدف المدنيين في العاصمة الفرنسية إلى سيول من الدماء. المشهد العبثي والمحزن جاء بعد حادثتين: الأولى التفجير الذي وقع في الضاحية الجنوبية واستهدف مدنيين لبنانيين معظمهم من الطائفة الشيعية، والثانية إسقاط الطائرة الروسية فوق سيناء. يفتح هذا العنف الباب للمزيد من الكراهية في منطقتنا وفي العالم. ما وقع في باريس بالتحديد عنى عملياً أن تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) مستعد لمتابعة الطريق الذي بدأ مع «القاعدة»، وأن طموحه في الجهادية العالمية لا يقل عن طموح «القاعدة»، وهو في الوقت نفسه يعكس حالة العنف السائدة في منطقتنا على كل صعيد. إن قتل المدنيين في صورة عشوائية في قلب العاصمة الفرنسية وفي قلب بيروت وفوق سيناء يستحق كل إدانة لاستهدافه الأبرياء، وهو في هذا بسوء دموية الأنظمة الاستبدادية كما والغربية التي تمارس العنف بحق المدنيين في سورية والعراق ودول ومجتمعات عربية أخرى. في الوقت نفسه، تتحمل فرنسا والغرب مسؤولية كبيرة عن ترك دول منطقتنا كسورية والعراق وبقية الشرق وسط أنهار من الدماء. فما زال الغرب يحلم بحرب على الإرهاب (تقتل الكثير من المدنيين) تحاكي حرب ٢٠٠١، ولا يزال يعتقد أن عقد صفقات مع الذين سببوا كل هذا العنف في الجانب النظامي (الأسد مثلاً) يشكل مدخلاً لتطويق الإرهاب. ما زالت المشكلة الأساسية في منطقتنا مرتبطة بالاستبداد وثقافته وبالديكتاتورية ومصادرتها حقوق الشعوب وحرياتها وبأثر كل هذا على الناس والمجتمعات والأفراد وسلوكهم بل وعنفهم وتطرفهم. سيبقى كل هذا مع احتلال فلسطين هو المصدر الأول للعنف الذي يحيط بمنطقتنا.

كثيرة هي الأسئلة التي يطرحها هجوم باريس الدموي وهجمات «داعش» ضد أهداف مدنية في بيروت وسيناء. فسياسة «داعش» متناقضة مع نفسها. إذ كيف لتنظيم يخوض كل هذه المعارك الجانبية أن ينتصر في مشروع بناء «دولة»؟ ولو أراد «داعش» أن يحقق فعلاً هدفه لما ضربت في قلب فرنسا. وقد يكون الهدف هو الانتقام، لكن الانتقام لا يؤسس إلا للمزيد منه ولا يؤدي لتحقيق أهداف السياسة؟ وقد يكون الهدف هو فرض الانسحاب على فرنسا والغرب من سورية والعراق، ولكن هذه الضربات الدموية ستؤدي في المدى المنظور إلى مزيد من التورط الفرنسي والغربي ومزيد من الضحايا من المدنيين في المناطق التي يسيطر عليها «داعش»، وهذا بدوره سيعمم الحالة الدموية. ربما يريد «داعش» أن ينتقم من اللاجئين السوريين الذين تركوه وغادروا أراضيه ولم يقفوا معه وفضلوا اللجوء إلى الغرب وذلك بجعلهم يخضعون لقوانين متشددة حول إقامتهم في الغرب؟ وقد يكون هدف الهجوم الدموي جلب مزيد من التدخل الدولي إلى المستنقع السوري لموازنة كل تدخل آخر؟ الواضح أن «داعش» بطريقته الراهنة سيوحد أعداءه ضده كما سيزيد من عددهم وحشدهم. كما تعلمنا السياسة أن من الصعب أن ينجح عمل مسلح بلا مضمون وهدف سياسي واضح. ألا تخدم هذه الأعمال كل سياسة غربية موجهة سلباً تجاه المسلمين؟ سيستمر السؤال: كيف يستفيد «داعش» من عمليات كهذه؟

في تاريخ الشعوب حركات عنف كثيرة، ولكن الكثير منها اتبع سياسات وتكتيكات كان هدفها كسب الأصدقاء وشق الأعداء. الفيتناميون على سبيل المثال، وفي أسوأ مراحل حرب الولايات المتحدة الاستعمارية في فيتنام، لم يضربوا حتى لمرة واحدة على الأرض الأميركية. يبدو أن الفيتناميين كانوا أكثر تفاؤلاً بالمستقبل وأكثر ثقة باليوم التالي. فبالرغم من استباحة الولايات المتحدة بلادهم، إلا أنهم عرفوا كيف يتجاوزون المطبات القاتلة لقضيتهم. لقد دمرت أميركا فيتنام وأحرقتها من شمالها لجنوبها، ومع ذلك بقيت جبهة التحرير الفيتنامية على تركيزها الهادف لتحرير فيتنام وهزيمة الولايات المتحدة. بل سعى الفيتناميون لشق الموقف السياسي داخل الولايات المتحدة وكسب أصدقاء من وسطها السياسي والشعبي. وبالفعل انتقل الشعب الأميركي في الستينات والنصف الأول من سبعينات القرن العشرين إلى صف إيقاف الحرب والانسحاب والتعاطف مع شعب فيتنام. هذه عوامل أدت إلى هزيمة الولايات المتحدة وانسحابها الكامل عام ١٩٧٥.

نجد مثلاً في تاريخ العنف أن اليعاقبة الفرنسيين في زمن الثورة الفرنسية كانوا يرون أن ثقافة الدم هي وسيلة وطريقة للتعبير، كما أن الخمير الحمر من بين مهمشي التاريخ الحديث سعوا إلى تعميم ثقافة الدم في كل زاوية في كمبوديا. التاريخ مليء بحركات دموية برزت من صفوف أطراف مهمشة ومستضعفة كما حصل مع حركة كرومويل الدينية في القرن السابع عشر. لكن في التاريخ الإنساني لم تتطور فرنسا إلا بعد تصفية اليعاقبة، كما أن العالم كله واجه الخمير الحمر وهزمهم لمصلحة تسوية سياسية لكل كمبوديا، وحتى حركة اوليفر كرومويل بكل مغالاتها هُزمت مقابل التطور السياسي الذي عمّ بريطانيا بعد ذلك.

على القوى الدولية والاقليمية الساعية لإيقاف إرهاب «داعش» أن تتعلم من التاريخ، فإرهاب الدول والأنظمة يجب أن يتوقف، ولا بد من أن يكون ذلك ضمن تسوية عادلة وجادة مع البحث في مسببات بروز «داعش». يجب أن لا نتصرف كأننا لا نعرف كيف خرج «داعش» من رحم العنف والتهميش في كل من العراق وسورية! فالحرب على الإرهاب لن تنتصر في ظل تهميش فئات كبرى أو في ظل قصف فرنسي وأميركي لقواعد «داعش» من دون تصدّ جاد من قبل هذه الأطراف الدولية لأساس الظلم الذي تشعر به فئات سنّية كبيرة في كل من العراق وسورية. يجب العودة إلى جذور الثورة السورية في عام ٢٠١١ وطبيعة المطالب التي حركتها، وجذور الكارثة العراقية منذ عام ٢٠٠٣. فمن دون حل سياسي مقنع ورؤية إنسانية تتجه نحو الحواضن الاجتماعية في سورية والعراق ستبقى المشكلة تتمدد وتأخذ أشكالاً مختلفة.

شعوبنا في مرمى نيران الغرب من جهة وفي مرمى نيران أنظمتها كحال السوريين والعراقيين وغيرهم، كما أنها في مرمى نيران «داعش» الذي يسيء تمثيل حقيقة موقفها. كل شيء يختلط مع نقيضه في مشهد مدمر للإنسان وللحياة. فسياسة «داعش» بصيغتها العنيفة في مناطق حكمه وفي العالم تزيد الضغوط على الشعوب العربية، أكانت تلك الشعوب في الغرب أم في العراق وسورية، ولكنها في الوقت نفسه تثير كل الأسئلة دفعة واحدة، فـ «داعش» وأعماله بدأت تبدو أكثر تمدداً من «القاعدة»، مما ينذر ببروز من هو أخطر من «داعش» بعد إضعافه. من هنا ضرورة التصدي للمشكلات العميقة التي تعاني منها منطقتنا والتي تتلخص بالاستبداد والظلم من جهة وضعف الحقوق والقيم الإنسانية من جهة أخرى.

* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت.

الحياة

 

 

 

 

توظيف تفجيرات باريس لتغيير موقفها الإرهاب واللاجئون من عوامل الضغط/ روزانا بومنصف

قفزت مجموعة افرقاء على المأساة الفرنسية التي تمثلت في عمليات ارهابية عدة استهدفت باريس، من خلال السعي الى توظيفها لمصلحة احداث تغيير في الموقف الذي يعتمده الرئيس فرنسوا هولاند من الازمة السورية، وتحديداً من الرئيس السوري بشار الاسد الذي دخل بنفسه على الخط مسجلا موقفين، احدهما غداة العمليات التي وقعت في 13 من الجاري، معتبرا ان “هجمات باريس هي نتاج سياسة فرنسا الخاطئة في منطقتنا”، وهو امر لافت لرئيس دولة لم يعترف مرة بأن الثورة السورية هي نتاج سياسته الخاطئة، محملا دوما المسؤولية للآخرين، وكان الاعتراف بالخطأ ليكون امرا مساعدا في تخطي الحرب السورية في وقت من الاوقات. والموقف الاخر هو اعلانه في حديث الى مجلة فرنسية انه مستعد للتبادل الاستخباري مع فرنسا “شرط ان توافق على تغيير سياستها في شأن سوريا كما قال، فيما المقصود تجاهه هو شخصيا انطلاقا من ان فرنسا تبنت ولا تزال موقفا غير مساوم من ضرورة رحيل الاسد. وهو بذلك يحاول ان يوظف ورقة لطالما ساعدته، بل انقذت علاقاته مع الدول الغربية، وهي ورقة التبادل الاستخباراتي، اذ سمحت هذه الورقة مرارا وتكرارا بغض النظر عن نظامه انطلاقا من تزويده الدول الغربية معلومات استخباراتية ثمينة حتى في ذروة التناقض معها. ويمتلك البعض معلومات عن استمرار علاقات مماثلة حتى مع الولايات المتحدة على اثر صدور القرار 1559، ومطالبة الادارة الاميركية برئاسة جورج دبليو بوش القوات السورية آنذاك بالتزام هذا القرار. كما يسعى الى توظيف وجود رأي سياسي فرنسي ضاغط منذ بعض الوقت على الرئيس الفرنسي، وسابق للتطورات الاخيرة، من اجل تعديل سياسته ازاء رئيس النظام السوري، باعتباره الاقل سوءا، فيما تضغط على فرنسا تحديدا في الوقت الراهن مسألتان اساسيتان خطيرتان، إحداهما مسألة الارهاب المتفجر في شوارع باريس والاخرى موضوع اللاجئين السوريين. ولم تقتصر محاولة توظيف التطورات الباريسية المأسوية على رأس النظام السوري فحسب، بل تقدمها مسعى للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هذا الاتجاه، فدعا فرنسا في اثناء قمة العشرين في انطاليا التركية قبل ايام الى اعادة النظر في موقفها من ضرورة الرحيل الفوري للاسد، مشيرا الى ان الموقف الفرنسي من ضرورة بت مصير الاسد هو شرط مسبق لاي تغييرات سياسية، ومتسائلا هل حمى ذلك باريس من اعتداء ارهابي، وأجاب بالنفي.

وفيما يفترض المنطق ان دعم الاسد من فرنسا او تغيير الموقف منه يمكن ان يزيد المخاطر في حال التسليم جدلا بان تنظيم الدولة الاسلامية يحارب رأس النظام السوري ويريد رحيله وليس العكس، خصوصا ان دعم روسيا للاسد لم يحمها هي ايضا من العمليات الارهابية التي أسقطت الطائرة الروسية فوق سيناء، مما يعني ان لا دعم الاسد ولا المطالبة برحيله تقي فرنسا العمليات الارهابية، فإن الرئيس الفرنسي قال أمام البرلمان الذي انعقد بمجلسيه في فرساي قرب باريس إن الاسد لا يمكن ان يكون مخرج النزاع، وعدونا هو “داعش” ، مما يفيد انه مستمر بالتمسك بموقفه. لكن ثمة علامات استفهام تثيرها مصادر مراقبة من زاوية انه كما كانت تفجيرات 11 ايلول 2001 في الولايات المتحدة عامل تغيير جذري في قواعد اللعبة السياسية في المنطقة، فإن الذهاب الى الرهان على تغيير قواعد العملية السياسية القائمة يطل بقوة بعد العمليات الارهابية في باريس . فالرئيس الفرنسي سيسعى خلال الاسابيع المقبلة الى توحيد جهود التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة والعمليات التي تقودها روسيا ضد “داعش” في سوريا، على رغم ما يكتنفه ذلك من صعوبة وربما من اثمان تعود الى ان الغاية الاساسية لروسيا هي دعم الاسد وتعزيز فرص استمراره، فيما يعلي سياسيون فرنسيون بدأوا يعدون للانتخابات المقبلة الصوت من خلال ابراز ضرورة التعاون مع روسيا من جهة. ويذهب آخرون الى ضرورة التعاون مع الاسد. وقد طغت على هؤلاء اعتبارات سياسية مختلفة تحت عناوين مواجهة الارهاب ودفق اللاجئين والرغبة في التخلص من هاتين المشكلتين على نحو يذكر كيف سحب الغرب يده من لبنان في مراحل عدة وتركه لمصيره يتحكم فيه النظام السوري، ليس لسبب الا نتيجة تعرض الدول الغربية لعمليات ارهابية ورغبة في ترك المستنقع اللبناني ومشكلاته. وقد غاب عن كثير من السياسيين الفرنسيين الدافعين في هذا الاتجاه تجربة الاضطرار الى العودة الى التعامل مع النظام السوري في لبنان على رغم معرفتهم بمسؤوليته عن مشكلات كثيرة واجهها لبنان، وكانت قاطعته فرنسا بسببها، وذلك يعود لاسباب مصالح خاصة بفرنسا قد يتصل الكثير منها بالتعاون الاستخباري، شأنها في ذلك شأن دول غربية عدة وربما في ظل اعتقاد او اقتناع بان ذلك ربما يخدم لبنان تحت طائل عدم قدرة افرقائه السياسيين على الاتفاق، او ان امن البلد سيخرب وفقا لما كان يروجه النظام ومؤيدوه انذاك . ولذلك ليس غريبا ان يسعى الاسد الى توظيف ما يعتقد انها اوراق قد تربح او قد تفتح الباب المقفل امامه في فرنسا او الدول الاوروبية، خصوصا ان ورقته الاثمن هي الرهان على الوقت وفق ما اعتمد دوما، وهو ما سيشتريه له التفاوض مع المعارضة السورية وامهاله 18 شهراً على الاقل من المرجح ان تحمل متغيرات كبيرة بالنسبة اليه.

النهار

 

 

 

 

هجمات باريس وخيار التدخل العسكري الأطلسي في سوريا/ محمد صالح الفتيح

عندما يقول الرئيس الفرنسي، خلال ثاني كلمة له خلال 24 ساعة، إن هجمات باريس هي «عمل حرب نفذه جيشٌ إرهابي، جيشٌ جهادي، من قبل «داعش»، ضد فرنسا»، فهذا يفرض علينا أن نتوقع عملاً حربياً انتقامياً، ولا مسرحَ مؤهلا لمثل هذه الأعمال الحربية الانتقامية مثل المسرح السوري.

لا تملك فرنسا أن تتجنب الرد العسكري، كما فعلت الحكومة الإسبانية بعد تفجيرات قطارات مدريد في آذار 2004، وهو العمل الإرهابي الوحيد في القارة الأوروبية الذي يماثل دموية هجمات باريس. فالرأي العام الإسباني يومها كان ممتعضاً أساساً من المشاركة الإسبانية في حرب العراق 2003، وربما كان هذا أحد أسباب خسارة حزب خوسيه ماريا أزنار للانتخابات، التي جرت بعد ثلاثة أيام على التفجيرات، ولم يكن رئيس الوزراء الإسباني الجديد بالمتحمس لتكرار خطأ سلفه. كما أن تنظيم «القاعدة» يومها، بعد غزو أفغانستان، كان قد تحول إلى شبح أو تنظيم زئبقي لا يمكن تحديد مواقع وجوده بدقة ناهيك عن توجيه ضربة عسكرية، أخرى، له. كما أنه لم يكن هناك ما يوحي أن تفجيرات مدريد يمكن أن تتكرر، وهذا ما أراح الحكومة الإسبانية من ضغوط البحث في خيارات الرد.

ولكن في فرنسا، كان هناك، خلال الأشهر الماضية، محاولات فاشلة عدة لتنفيذ أعمال إرهابية. والرأي العام الفرنسي قد أصبح مقتنعاً بأن هذه الهجمات ستتكرر. وقد كان هناك تحضير للرأي العام الفرنسي لتقبل هذا الواقع. فقد نشرت صحيفة Le Canard enchaîné الفرنسية في شهر آب الماضي تحقيقاً تضمن تصريحاتٍ لمصادر في وكالة المخابرات الداخلية الفرنسية، ملخصها أن الحظ فقط أنقذ فرنسا، حتى ذلك الحين، من عمليات إرهابية تفوق دموية الهجوم على صحيفة شارلي ايبدو، وأن «هناك مخاوف من 11 أيلول/سبتمبر فرنسي تكون فيه أجهزة المخابرات الفرنسية مجرد متفرج».

وسط هذه الأجواء الداخلية المحتقنة، ووسط ما يبدو أنه عجز مخابراتي فرنسي، يبدو أن لا مفر من عملٍ عسكري في الخارج. والأكيد أن عملاً عسكرياً محدوداً على نمط ما قامت به إدارة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، بعد التفجيرات التي استهدفت السفارتين الأميركيتين في تنزانيا وكينيا، ليس بذي معنى أبداً. فمواقع تنظيم «داعش» تتعرض منذ أكثر من عام لضربات عسكرية تفوق ما تعرضت له مواقع القاعدة في أفغانستان في آب 1998، ولم يظهر سوى أن التنظيم قد أصبح أكثر قدرةً على مد أذرعه أبعد من السابق، وبشكل أكثر تنظيماً ووحشيةً. لا بد إذاً من ردٍ عسكريٍ أوسع نطاقاً وأعمق تأثيراً.

مقارنةُ دموية هجمات باريس بهجمات 11 أيلول تفرض توقع رد فعلٍ مماثلٍ لرد الفعل الأميركي يومها. ولكن لا بد من التذكير بأن رد الفعل الأميركي قد مر يومها من بوابة «حلف الأطلسي» والمادة الخامسة من ميثاقه التي تنص على أن أي عدوانٍ مسلح ضد أي من أعضاء الحلف سيُعتبر هجوماً على كل أعضاء الحلف الذين سيستخدمون حق الدفاع عن النفس بشكل جماعي. المفارقة هي أن هذه المادة التي صيغت منذ 66 عاماً، لمواجهة الاتحاد السوفياتي، لم تطبق سوى مرةٍ واحدةٍ فقط وذلك في أعقاب هجمات 11 أيلول 2001. يمكن إذاً لفرنسا أن تشعر بالطمأنينة إذ إن ميثاق «حلف الأطلسي» يحميها ويضمن لها العون الذي قد تحتاجه في ردها العسكري المحتمل.

المادة الخامسة تضمن رداً منسقاً ولكن ليس بالضرورة الحرب الشاملة. وتبقى الحقيقة أن «حلف الأطلسي» يواجه محدودية الخيارات نفسها التي تواجهها فرنسا. فكما أن الرد العسكري المحدود لا فائدة له، كذلك لا يوجد في «حلف الأطلسي» من هو متحمس لعملية واسعة تضع جنود الحلف على الأرض في مواجهة تنظيم «داعش»، سواء في العراق أو سوريا. والوضع السياسي المعقد في العراق والذي جعل الولايات المتحدة ترفض تقديم الدعم العسكري للقوات العراقية في انتظار حصول تغييرات سياسية معينة ترغب بها الولايات المتحدة هناك، غالباً ما سيدفع فرنسا و «حلف الأطلسي» أيضاً إلى تجنب التدخل في العراق. وهكذا يصبح الميدان السوري هو المرجح ليشهد الرد الأطلسي.

وفي الميدان السوري يبدو الخيار المفضل دائماً هو تسليح مجموعات محلية تقاتل تنظيم «داعش» على الأرض وتستفيد من الغطاء الجوي الأطلسي، الذي يفترض أنه سيكون أقوى من السابق، ولا سيما مع توجه حاملة الطائرات الفرنسية شارل ديغول إلى المنطقة. إلا أن المشكلة الرئيسية التي تواجه هذا الخيار هي أن القوة المحلية الرئيسية التي يمكن أن تتصدى لهذه المهمة هي وحدات «حماية الشعب» الكردية، التي تشكل اليوم عماد ما يعرف «بقوات سوريا الديموقراطية». فمن ناحية أولى يستبعد أن يكون الأكراد متحمسين للقتال أبعد من مدينة الحسكة حيث لا يوجد أي تجمعات بشرية كردية، فضلاً عن أن الطموح الكردي اليوم هو للتوجه غرباً إلى جرابلس وعفرين، وليس جنوباً إلى معاقل «داعش» الكبرى في الشدادي والرقة. ومن ناحية أخرى، أكثر أهمية، يستبعد أن تحظى خطة أطلسية تمنح دوراً رئيسياً للأكراد بموافقة تركيا. قد تجد هاتان المشكلتان حلاً في «جيش سوريا الجديد»، الذي يمثل محاولة إحياء لـ «جبهة الأصالة والتنمية»، الإخوانية والمحسوبة على تركيا، والتي كانت تملك يوماً نفوذاً كبيراً في شرق سوريا، قبل أن يطردها تنظيم «داعش». ولكن هل ستتم تهيئة هذه القوات بالحجم الكافي وفي الوقت المناسب؟ حتى الآن يبدو هذا مستبعداً ما لم يكن هناك تفاصيل خفية حول الحجم الحقيقي لتدريب المقاتلين السابقين الذين سيطروا في السابق على شرق سوريا.

قد يكون الخيار البديل، والأسرع، هو منح الغطاء الأطلسي لتركيا للتدخل في الشمال السوري. ومن الصدف الغريبة أن صحيفة «يني شفق» التركية تحدثت، قبل أيام فقط، عن تفاصيل خطة للتدخل العسكري التركي في الشمال السوري، في النصف الثاني من كانون الأول المقبل، لمواجهة تهديدات تنظيم «داعش» و «حزب العمال الكردستاني». وذكرت الصحيفة أيضاً أن الخطة تعتمد على الحصول على غطاء أميركي ضروري. الخطة التركية ليست الأولى من نوعها، وقد طلبت تركيا دعم «حلف الأطلسي» غير مرة ولكن من دون جدوى. ربما أصبحت الظروف مهيئة الآن لتحصل تركيا على مثل هذا الدعم، إذا ما طلبت فرنسا استخدام المادة الخامسة من ميثاق الحلف.

ولكن إن كانت الأزمة السورية قد علمتنا شيئاً، فهو أنها أزمة ديناميكية، تؤثر فيها قوى نشطة للغاية. حيث لا تزال روسيا تحاول ضم الأكراد في الشمال السوري تحت مظلة الحلف الروسي لمحاربة الإرهاب، وإذا ما نجحت روسيا في ذلك، أو نجحت في تأمين موطئ قدم لقواتها في محافظة الحسكة، كما تشير الأنباء المتداولة حول زيارات للعسكريين الروس لتلك المنطقة، فهذا سيعيق بشكل جدي مشاريع التدخل البري في الشمال السوري. وأيضاً بينما كانت فرنسا تدرس خيارات الرد «العديم الرحمة»، كما وصفه هولاند، اتفق لافروف وكيري على بيان جديد لحل الأزمة السورية ينص على حل للأزمة السورية يقوده السوريون يبدأ بحكومة مشتركة تصيغ دستوراً جديداً، ثم انتخابات رئاسية وبرلمانية خلال 18 شهراً. ولكن التفاوض بين الحكومة السورية والمعارضة، وفق هذه الخطة، لن يبدأ حتى بداية العام القادم، أي بعد شهر ونصف تقريباً، وهذه فترة غير قصيرة في ظل هذه الأحداث المتسارعة. يبدو إذاً أن جميع الأطراف في سباق مع الزمن أكثر من أي وقت مضى.

السفير

 

 

الإرهاب في قلب فرنسا: نحن خلقنا الوحش/ حسن عبد الله

سيكشف الزلزال الذي ضرب باريس عن الخبايا والأسرار التي رافقت ظهور «داعش» وتنظيمات مشابهة. وإذا كانت هجمات «داعش» في باريس قد فتحت أبواب الجحيم على الفرنسيين بحسب وصف الكثير من الصحافيين والسياسيين، فإن ارتدادات التفجيرات على المستويين السياسي والأخلاقي وعلى صعيد أروقة العمل الأمني تنذر بتداعيات لا تُحمد عقباها، أولاً على مستقبل الإدارة الفرنسية، ثانياً على الضمير الجمعي الفرنسي الذي لا يستكين أمام فضائح قد تطال مبادئ الجمهورية وأسسها.

آلان شوْوة (alin choueht)، المدير السابق لجهاز المخابرات والأمن الفرنسي، أعادته وسائل الإعلام إلى مسرح الأحداث ونقلت ما كان قد حذّر منه حول تحالف فرنسا منذ ثلاثين سنة مع رعاة ظاهرة الإرهاب، وهو كان قد قال في مقابلة نادرة منذ أربعة أشهر، إن ما نسمّيه «السلفية» هو باللغة العربية «الوهابية» وقد تعاملنا مع هذا الموضوع بازدواجية.

أحجار الدومينو تتدحرج في ما خصّ مسؤولية فرنسا وبعض الدول الغربية عن خلق ظروف نمو «داعش» وأخواته من التنظيمات الإرهابية. تشهد السجالات والنقاشات على حجم القلق والغضب اللذين يخترقان المجتمع الفرنسي. نويل مامير سياسي فرنسي ونائب ناشط من جماعة الخضر يوضح أن وجود تنظيم «داعش» ليس وليد الصدفة، ويقول إنه نتاج معركة طويلة خاضتها القوى الكبرى والاقتصادات البترولية الكبيرة للسيطرة على الاقتصاد. يستنتج السياسي الفرنسي بأن «داعش» وُلد من الفوضى التي ساهمت فرنسا والدول الغربية في خلقها، وينهي استنتاجه بالقول: «الوحش داعش أفلت منّا، وها هو أتى ليفترس أولادنا. لقد خلقناه».

هذه الاعترافات وغيرها مما ستظهره الأيام المقبلة، بعد أن يجفّ الدم في باريس، ستعيد تظهير الحقائق التي لطالما عملت دوائر الاستخبارات على إخفائها أو تحويرها بحسب ما كتبت شخصيات ووسائل إعلام ومراكز أبحاث كانت تحاول الاعتراض على الاستراتيجية التي سمــــحت بظهور التنظــــيمات الإرهــابية والمتطرفة بدءاً من ليبــــيا وانتهاء بسوريا.

كزافيه روفيه متخصص بعلم الجريمة يقول إن وراء «داعش» جيش من المبشّرين، ربما هناك دولة.. ويضيف بأن مسؤولين كباراً من العائلة السعودية أسرّوا له بأنهم قطعوا صلتهم بـ «داعش» قبل سنتين فقط. لا يحيد عن هذه الاتهامات رئيس الوزراء السابق دومينيك دو فيلبان حين يقول إن دولاً مثل دول الخليج غذّت «داعش».

أسئلة الفرنسيين، وهم الآن في مواجهة أسوأ أنواع الإرهاب داخل شوارعهم ومنازلهم ومطاعمهم، سوف تتصاعد. يكفي الاطلاع على وسائل التواصل الاجتماعي حتى نكتشف المرارة التي يتحدث بها الكثيرون من الأوساط الجامعية والبحثية والإعلامية وتدور في معظمها عما إذا كان بإمكان فرنسا تفادي الوصول إلى حافة الهاوية والاضطرار إلى القتال داخل بيتها ودفع الأثمان الهائلة. أسئلة من نوع لماذا وصلنا إلى هنا ومَن المسؤول عن نمو الإرهاب ومَن أخطأ في الحسابات؟ مَن دعَمْنا في الصراعات المتفرقة في الشرق الأوسط وهل تحالفاتنا كانت صائبة؟

تكفي متابعة السجال غير المسبوق بين رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس والنائبة عن الجبهة الوطنية مارشال لوبن داخل مجلس النواب لتبين حجم التوتر والغضب حتى على مستوى مَن يفترض بهم ترجمة دعواتهم للوحدة في مواجهة الإرهاب. اتهامات النائبة لوبن لحكومة هولاند بالتسبّب بكل هذه الفوضى واستغلال ما يجري لتحقيق مصلحة سياسية يردّ عليها فالس بعنف وانفعال متهماً «الجبهة الوطنية» اليمينية المتطرّف بالغش والخداع.

هذه عيّنة من المناخ السياسي الذي يسود العاصمة الفرنسية التي أعلنت الحرب على «داعش» وفرضت حال الطوارئ من دون أن تفسّر للفرنسيين في أي اتجاه ستقودهم في المواجهة المفتوحة مع الإرهاب، في وقت بدأت فيه نُذُر انفلات التعصب والكراهية من قبل اليـــمين المتطرف ضد المسـلمين والعرب. وهذه قضية أخرى سيكون لها التأثير الأشدّ مرارة على التاريخ الذي يصنعه الفرنسيون بدءاً من 13 تشرين الثاني.

السفير

 

 

 

التوحش الحداثي وتوحش الصراع في المشرق/ د. بشير موسى نافع

كنت أحسب طوال السنوات الماضية أن سياسة العنف الأهوج التي انتهجتها القاعدة منذ التسعينات، ثم تنظيم داعش مؤخراً، ليست سوى امتداد للفكر الخارجي في الموروث الإسلامي. خلال الشهور القليلة الماضية، بدأت أدرك أن تفسيري لهذه الظاهرة كان قاصراً، وربما غير صحيح أصلاً. تفجيرات نيروبي ودار السلام في التسعينات، والحادي عشر من سبتمبر/ أيلول في الولايات المتحدة، وبعدها تفجيرات لندن والدار البيضاء ومدريد؛ ثم ما شهدناه في السنوات القليلة الماضية من استباحة للحياة الإنسانية في العراق وسوريا، وفي تفجيرات أنقرة، 10 أكتوبر/ تشرين الماضي، وباريس، مساء 13 نوفمبر/ تشرين ثاني الحالي، ولدت من رؤية مشوهة للعالم والسياسة، بلا شك، سوغها مرتكبوها بلغة تحمل إشارات ما للإسلام، بلا شك، ولكنها ذات صلة واهية بالنموذج الخارجي. هذه ظاهرة حديثة بامتياز، ظاهرة توحش حداثي، لم يكن من الغريب أن يصفها منظرو داعش، في دلالة لا تخفى على نمط تفكير سايكوباثي، بزمن التوحش.

كان المشروع النازي لتدمير يهود أوروبا، خلال سنوات الحرب الثانية، أول محاولة إبادة واسعة النطاق، ارتكزت إلى النتائج المبهرة للعقل الحديث. لم يكن للنظام النازي إقامة آلة القتل الهائلة، التي انتهت بحصاد حياة الملايين من اليهود والغجر والروس، وغيرهم، بدون التطور غير المسبوق في أساليب الإدارة والسجلات، وطرق حفظ المعلومات ونقلها، وتوفر وسائل المواصلات السريعة، ذات القدرات الاستيعابية الكبيرة، والتقدم العلمي في مجالي الفيزياء والكيمياء، التي سمحت بتطوير عمليات قتل جماعية لم تعرفها البشرية في تاريخها. وربما لم يكن بوسع الدوائر النازية تصور عملية الإبادة من البداية لولا التقدم الكبير في أفاق العقل الإنساني والمقدرات العلمية المتاحة. داعش، بالطبع، ليست النظام النازي، ومن العبث والخطر على أمن العالم محاولة تشبيه تنظيم وحشي بائس، مهما بلغ انتشاره، بواحدة من أعتى الأنظمة العسكرية التي عرفها تاريخ العالم الحديث. ولكن من الصعب تجاهل السياق بالغ الحداثة الذي ولدت فيه داعش، وولد فيها تصورها للعالم ودورها في هذا العالم. هذا سياق من الانتقال السريع للصورة والبشر والأدوات، من الاغتراب المتفاقم للإنسان وفقدان الحميمية الإنسانية، سياق توفر المعلومات كما لم تتوفر من قبل، وتتاح فيه الرقابة المتناهية لمن يريدها إلى الدرجة التي تفقد فيها الرقابة امتياز التحكم الذي استبطنته على الدوام. في زمن التوحش الذي تعيشه داعش، ثمة خيط رفيع، لا يكاد يرى، بين الإيمان وفقدان الإيمان، وبين قيم التضحية وفقدان الشعور بالوجود الإنساني، وبين الالتزام بالحق والتوحش الحيواني.

بيد أن من القصور أيضاً أن ترى ظاهرة الموت الأهوج التي تنشرها داعش باعتبارها انعكاساً لانقلاب الحداثة على نفسها انقلاب الوعي الإنساني على نفسه، وحسب. داعش هي أيضاً ظاهرة سياسية، ولدت من سياقات سياسية محددة في أمكنة وأزمنة محددة. خلال الشهور القليلة التالية لانتصاري الثورة التونسية والمصرية غاب ذكر القاعدة نهائياً، تقريباً، عن المشهد العربي والإسلامي. أشرت الثورتان إلى نهج جديد للتغيير وإلى أفق جديد لشعوب المشرق العربي ـ الإسلامي، إلى إمكانية أن تقول الشعوب كلمتها وأن تسمع العالم صوتها، وتستعيد قرارها وإرداتها. بالرغم من بعض الخسائر وبعض العنف، جسدت الثورتان أعلى درجات الفعل الشعبي، المدني. وفي مثل هكذا عالم، لم يكن لعنف القاعدة الأهوج من مكان. ولكن المآلات المشتبكة لموجة حركة الثورة العربية الأولى سرعان ما فتحت المشرق على الاحتمالات. لم يكد عام الثورة العربية الأول يصل إلى نهايته حتى استنفرت قوى الثورة المضادة في المشرق، وأغرقت شوارع وميادين المدن العربية بالموت والدمار.

قادت إيران، مدفوعة بأسباب طائفية في أغلبها وجيوسياسية في بعضها، حركة الثورة المضادة في سوريا والعراق واليمن. وبدلاً من تشجيع حليفيها في دمشق وبغداد على الاستجابة لمطالب الشعوب، وضعت إيران كل مقدراتها التسليحية وخبراتها العسكرية والاستخباراتية من أجل تحقيق انتصار أنظمة حكم أقلوية على شعوبها.

واجه النظام السوري شعبه بالسلاح والقتل والاعتقالات الجماعية منذ خط تلاميذ مدارس درعا شعارات المطالبة بسقوط النظام على حائط مدرستهم، واستمر النظام في تطوير مستويات القمع إلى أن وصلت إلى التدمير الشامل للأحياء والبلدات واستخدام الأسلحة الكيماوية وبراميل المتفجرات العشوائية. منذ اليوم الأول لثورة الشعب السوري، وقبل ظهور قطعة سلاح واحدة في أيدي الثوار السوريين، وتنظيم أول مجموعة للقاعدة أو داعش، وقفت إيران، وأداتها الرئيسية في الجوار، حزب الله، إلى جانب النظام. وما إن بدا أن النظام فقد قدراته العسكرية وأن الشعب وقواه المسلحة في طريقها لإسقاطه، تدخلت إيران وحلفاؤها بصورة مباشرة للقتال نيابة عن آلة النظام العسكرية.

ولم يختلف الوضع كثيراً في العراق، الذي شهد هو الآخر حركة مطالب شعبية منذ نهاية 2011. وكما في سوريا، وبالرغم من تواضع مطالب الاعتصامات الشعبية العراقية، وقفت إيران بكل ثقلها السياسي ونفوذها في العراق خلف سياسة القمع بالقوة المسلحة التي اتبعها المالكي. أما في اليمن، الذي كان بالفعل في طريقه للانتقال نحو نظام حر وديمقراطي، دعمت إيران وأيدت حرب الحوثيين على اليمنيين بكافة مشاربهم.

في بلدان عربية أخرى، حملت دول عربية راية الثورة المضادة، وألقت بكل ثقلها المالي والسياسي لإجهاض حركة التغيير والتحول الديمقراطي. دفعت دول الثورة المضادة العربية، في تحالف مع رجال أعمال ودوائر الطبقة السياسة السابقة، نحو انقلاب الجيش على المسار الديمقراطي في مصر، حاولت تحقيق الهدف ذاته في تونس، وشجعت على انفجار ليبيا ما بعد الثورة وإسقاطها في خضم حرب أهلية. ولم تكن هذه الردة واسعة النطاق على عملية التغيير بلا ثمن. ففي مصر، قتل الآلاف من أنصار الشرعية الديمقراطية خلال الشهور القليلة التالية للانقلاب، ولم تزل آلة القمع والقتل مستمرة في مواجهة معارضي نظام الانقلاب. وفي ليبيا، لم يتورع الانقلابيون عن إيقاع دمار بالغ بمدن مثل بنغازي، وبحياة الملايين من الليبيين. وبالرغم من أن التدخل العربي وضع حداً لسيطرة إيران وحلفائها على اليمن، فإن الحرب لم تزل مستمرة، وتكلفة الحرب البشرية والمادية لم تحسب بعد.

نشرت إيران ودول الثورة المضادة العربية الموت والدمار بلا حساب، قاتلت، ولم تزل، بوحشية غير مسبوقة إلى جانب أنظمة حكم أقلوية، وأفسحت المجال بالتالي لمن هم لا يقلون وحشية.

فترة التجاهل والغياب التي فرضتها حركة الشعوب خلال شهور الثورة العربية الأولى على جماعات العنف، أفسحت المجال لصعود جديد لهذه الجماعات ولعنفها البدائي وممارساتها الوحشية.

الآن، يمكن لدول مثل فرنسا أن تتبنى ردود فعل مشابهة لردود الفعل الأمريكية على هجمات 11 سبتمبر/ ايلول 2001، وأن تعلن حرباً هوجاء على الإرهاب، يختلط فيها الحق بالباطل وتخرج بالمواجهة مع داعش من دائرتها الأمنية الطبيعية. مثل هذا الخيار، سيضع الفرنسيين، كما وضع الأمريكيين من قبل، في مواجهة شاملة مع قطاع واسع من العرب والمسلمين في العالم، ويوقع ضرراً بالغاً بوضع ملايين المواطنين المسلمين الفرنسيين واستقرار المجتمع الفرنسي. وليس ثمة شك أن هذه السياسة ستصب لصالح تصور داعش للعالم. ما يجب على فرنسا، وعلى الدول الغربية الرئيسية، رؤيته هو السياقات التي أدت إلى ولادة داعش وصعودها، إلى كارثة التعاون مع قوى الثورة المضادة في المشرق، والتخلي في المقابل عن الشعوب ورغبتها في التغيير، وإلى السياسات التي صنعت مناخات الموت والدمار وزمن داعش الوحشي.

٭ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث

القدس العربي

 

 

 

 

الموضة: أحمر وأبيض وأزرق/ إيمان القويفلي

تخضع الحكومات للموضة، مثل الناس، ومثل الناس أيضاً، من لا يلحق بها يُصنّف “مُتخلفاً”، “عديم الذوق”، على الرغم من أن بعض الحكومات لا يُلائمها ما يُلائم حكوماتٍ أخرى، وكما يحدث عندما يختار شخص الملابس الخطأ، فإنها تُبرز عيوبه، لا محاسنه. الموضة هذا الموسم هي ألوان العلم الفرنسي، رفعتها المدن والعواصم الغربية والشرقية، متّحدة في لحظة واحدة ضد الإرهاب، ومتضامنة مع مقتل مدنيين أبرياء. تلونت المباني الحكومية والتجارية والأثرية بألوان العلم الفرنسي، ووقف الناس في فعاليات رياضية وفنية دقيقة صمت حداداً على القتلى من شرق الدنيا إلى غربها. لا اعتراض من حيث المبدأ. أما من حيث التفاصيل، فتختلف، للغاية، رمزية العلم الفرنسي حسب السياق الذي يُرفع فيه، في السياقين، الغربي والعربي.

إلامَ يرمز العلم الفرنسي في هذه اللحظة؟ إلى التضامن مع الضحايا الفرنسيين الأبرياء، بالدرجة الأولى؟ يبدو العلم مُستوفياً هذه الرمزية، في سياقه السياسي الفرنسي، والغربي إجمالاً، عندما ترفعه حكوماتٌ لا تقتل مواطنيها، ويرفعه مواطنون لا يقتلون بعضهم، ويرتفع في سياق يمثل فيه مقتل 132 شخصاً “مذبحة تاريخية” لا يحتملها، ويظل المجتمع يعاني للتعافي منها سنواتٍ طويلة. لكن، ما معنى رفع العلم الفرنسي حداداً وتفجّعاً على 132 قتيلاً في السياق العربي الذي يُقتل فيه يومياً مثل هذا العدد من الأبرياء وبانضباطٍ ودأب ذي صلة بجهنّم، من دون أن يستحق هؤلاء القتلى رمزية في السياق نفسه وبالثقل نفسه، والإجماع المطلق، وبلا تردد؟ لماذا لم يستحقّ قبلها السوريون الذين يذبحهم نظام الأسد هذه الرمزية، الـمُتعالية على كل ما عداها، والتي لا تقبل الاستثناء ولا التأجيل ولا المساومة؟ ما معنى رفع العلم الفرنسي في السياق السياسي العربي الذي عندما لا يرتكب المذابح الجماعية، فإنه يدعمها صراحة، وعندما لا يدعم المذابح الجماعية، يجد طريقته للتعايش معها، وعندما لا يتعايش معها، يجد طريقة ليستثمرها. وفي كل الحالات، لا يشغل المواطن العربي، حياً أو ميتاً، في هذا السياق، إلا المكانة الأدنى والقيمة الأبخس. قطعاً، يفقد العَلَم في سياقه العربي ذاك المعنى الذي يؤديه في السياق الفرنسي والغربي، فهو المعنى الصحيح في السياق الـمُختلّ.

هل يرمز العلم الفرنسي، أيضاً، إلى التأكيد على التبرؤ من الإرهاب وذهنيته وممارساته؟ هذه

“في السياق العربي، تتحوّر رمزية العلم الفرنسي من أجل أن تكتسب معانيَ أخرى، يصير العلم الذي ارتفع من أجل المواطن الفرنسي رمزاً لامتهان المواطن العربي في سياقهِ العربي” الرمزية مُشكلة إلى حدٍ معيّن في السياق الغربي، من حيث أن تدخلاتِ الغرب في الدول العربية، وخصوصاً العراق، أسهمت في إنتاج سياق العُنف والإرهاب، ومن حيث أن مصالحهُ وحساباتهِ الخاصة منعت التدخّل، ومدّت عمر إرهاب الدولة في سورية، لكن هذه الرمزية مُشكلة بدرجة أكبر بكثير في السياق العربي الذي لا يُقاسي من التنظيمات الإرهابية المارقة بقدر ما يُقاسي من إرهاب الدولة الشرعية المباشر. ما الذي يمكن أن يعنيه رفع العلم الفرنسي حداداً وتضامناً ضد الإرهاب على الأهرامات في مصر، بواسطة النظام السياسي نفسه الذي أحرق وقتل في ساعات قليلة أكثر من 800 من مواطنيه المتظاهرين في ميدان “رابعة العدوية”؟ أو أن تؤكد حكومة العراق، ذات الجيش المليشياوي، أنها في الخندق العالمي نفسه مع أوروبا ضد الإرهاب؟ فضلاً عن حشد عربي من السياسيين المتضامنين ضد الإرهاب الذين يتمتعون (من حيث الجوهر) بذهنية إرهابية وخطابٍ إرهابيّ. تضامن لا يستقيم في السياق العربي، إلا وفق أضيق تعريفات الإرهاب على الإطلاق، فقط بصفته عمليةً انتحاريةً، يقوم بها عنصر من داعش في تجمّع للمواطنين الأوروبيين، فيما يختلّ وفق باقي المستويات والتعريفات.

في السياق العربي، تتحوّر رمزية العلم الفرنسي من أجل أن تكتسب معانيَ أخرى، يصير العلم الذي ارتفع من أجل المواطن الفرنسي رمزاً لامتهان المواطن العربي في سياقهِ العربي، قبل أي سياقٍ آخر. ويصير العلم الذي ارتفع رمزاً لرفض إرهاب داعش في أوروبا رمزاً لاحتضان السياق العربي مختلف أنواع الإرهاب الأخرى، ويصير العلم الذي يرمز إلى مُمَثلية الدولة الأوروبية مواطنيها وآلامهم ومصالحهم، رمزاً لانفصال الدولة العربية عن مواطنيها وآلامهم ومصالحهم، بل رمزاً لانفصال مواطنيها عن ذواتهم. قد لا يكون الامتثال العربي للموضة السياسية إلا المقدّمة السطحية لما ستأتي به الأيام الـمُقبلة من انتهازيةٍ عربيةٍ عميقةٍ لموسم الحرب المقدسة على الإرهاب، حيث سيُعاد تأهيل شخصيات وأنظمة وسرديات ومفاهيم كثيرة مهترئة، على الرغم من هذا، من الضروري تقديم رؤية نقدية للموضة، فسطحيتها وخفّتها قد تجعلها تبدو صادقةً بشكل ما، جميلةً بشكل ما. أما المؤسف، فهو أن جزءاً من هذا النقد، الذي قُدّم الكثير منه في الأيام الماضية، لم يكن أكثر من مخبأ لرابطة العُشّاق السريين لداعش الذين لا يستطيعون البوح بمكنوناتهم صراحة فيكتفون بمواعظ عن لا أخلاقية الدول الغربية والعربية، مواعظ تنبني على قواعد مُستعارة مؤقتاً. ولهذا لا تصل أبداً في نقدها إلى داعش، لا بوصفها “دولة”، ولا بوصفها “إرهاباً”.

العربي الجديد

 

 

 

 

ليلة رعب في باريس/ أنور الجمعاوي

كانت فرنسا تحبس أنفاسها، وكان العالم مشدوهاً، وهو يتابع تفاصيل المأساة الباريسية، عمّ الفزع عاصمة الأنوار، وتحوّل جمالها الأخّاذ إلى لوحة تراجيدية شاحبة. في شوارع المدينة الغرّاء، هرول الناس على غير هدى، وخيّم الخوف على المكان، فجأةً أصبحت المدينة المكتظّة بالحياة والمفعمة بالحركة مقفرة، وانتشرت قوات الشرطة، ودوّت صفارات الإنذار، وتوافدت سيارات الإسعاف من كل حدب وصوب… تناثرت جثث القتلى وأجساد الجرحى يميناً وشمالا، في مسرح باتاكلان، كما في محيط ملعب فرنسا، وكذا أمام مطاعم ومقاهٍ مختلفة في الدائرتين، العاشرة والحادية عشرة. وفي خضمّ المشهد الدموي الفاجع، بدا المواطنون العزّل بلا حارس وبلا رقيب، وبدا المعتدون بلا شفقة ولا رحمة، وبلا رادع ولا حسيب. كان أداء الشرطة مرتبكاً، ولم يواكب مستجدات الكارثة المفاجئة بالسرعة المطلوبة، فقتل المهاجمون ضحاياهم بدم بارد، وضربوا كبرياء فرنسا، وقوتها الأمنية القاهرة في مقتل. ودفع هول الهجمات الدامية النكراء الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، إلى إعلان الطوارئ، والأمر بغلق الحدود، والقول إن فرنسا في حالة حرب ضدّ الإرهاب، داعيا المواطنين إلى الاتحاد صفاً واحداً في مواجهة الخطر الإرهابي الداهم.

وبعيداً عن لوحة الدم الموحشة، يخبر تحليل الحدث أننا إزاء عمليات إرهابية/انتقامية دبرت على نحو دقيق، ووفق تخطيط مسبق، تبدو عليه بصمات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) واضحة، فالمرجّح أنّ مجموعة من الذئاب الانغماسية، المنتمية إلى خلية إرهابية نائمة، اخترقت الجدار الأمني الفرنسي، وبثت الرعب في البلاد في وقت قياسي، مخلفة عدداً كبيراً من الضحايا في صفوف المدنيين. والثابت أن اختيار الزمان لم يكن أمراً عبثياً، بل كان اختياراً دقيقاً إلى حد كبير، فميقات الهجمات القاتلة كان عطلة نهاية الأسبوع التي تعرف بتوافد الناس على الساحات العامة، وعلى أماكن الترفيه بكثافة، واختيار المكان لم يكن اعتباطياً، فباريس ذات قيمة رمزية حضارية بالغة، فهي درة فرنسا وجوهرة جمالها وقوام إشعاعها، وفي ضربها ضرب قيم الحداثة والحرية والتنوير. واستهداف أماكن ترفيهية شعبية (ملعب كرة قدم، مطعم، مسرح) في وقت واحد كان المراد به إهدار أكبر قدر من الدماء، وإرباك الآمنيين الذين وجدوا أنفسهم مشتتين بين بؤر توتر متعددة، في لحظة كارثية واحدة، وهذه الدقة في التخطيط والتنفيذ والاستهداف والنكاية بالخصم من العلامات الواسمة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي يعتبر أنصاره الغرب “معسكراً صليبياً بل دار حرب ومجتمع كفر يتعين مفاصلته، ومجاهدته، وإمعان القتل فيه”، بدعوى أنه عدو الإسلام ومصدر الوبال المشهود في أمة المسلمين. ويمكن

“تراجع تنظيم الدولة الإسلامية في سورية والعراق، وتقلص امتداده الجغرافي  دفعه إلى استدعاء خلاياه النائمة، وتفعيل دورها الهجومي” تفسير الحدث في سياقه التاريخي/ الجيوسياسي الآني بعدة معطيات، لعل أهمها استحكام العداء بين فرنسا وتنظيم الدولة الإسلامية في بؤر توتر مختلفة في مقدمتها سورية والعراق، فإقدام باريس على توجيه حاملة الطائرات “شارل ديغول” نحو المنطقة منذ حوالي شهرين، وتوجيهها ضربات مباشرة لمعاقل التنظيم، أورث حالة من الغيظ في صفوف” الجهاديين” الراديكاليين في سورية، وجعلهم يضعون استهداف المصالح الفرنسية في قائمة أولوياتهم. يضاف إلى ذلك أن هجمات باريس تأتي بعد أيام معدودة من إعلان السلطات الأمنية الفرنسية القبض على خلية إرهابية، كانت تنوي الاعتداء على قاعدة بحرية فرنسية في مدينة تولون، كما أن هجمات باريس تتزامن مع قمة فيينا التي يجتمع المشاركون فيها، بحجة البحث عن حل سياسي للأزمة السورية، مع الحرص على إقصاء الفصائل المسلحة، واعتبار داعش العدو الأول الذي يتعين القضاء عليه لبناء سورية الجديدة، ومعلوم أن فرنسا تحتل المرتبة الأولى في الدول الأوروبية التي التحق عدد من مواطنيها بصفوف داعش، وهي من أكثر الدول حماسة للفتك بتنظيم الدولة الإسلامية، لذلك كان استهداف باريس عقابا مباشرا لسياستها الخارجية من ناحية، ورسالة موجهة إلى مواطني التحالف الدولي المتكاتف ضد الإرهاب، مفادها أن داعش قادر على تحويل الحرب إلى بيوتهم، وإلحاق الأذى بهم في صورة استمر صناع القرار في بلدانهم في تعقب داعش، وترصده ودكّ معاقله.

والظاهر أن تراجع تنظيم الدولة الإسلامية بشكل لافت للنظر في سورية والعراق، وتقلص امتداده الجغرافي، وفقدانه مواقع نفوذ إستراتيجية في سنجار، كما في تخوم حلب والرمادي، قد دفعه إلى استدعاء خلاياه النائمة، وتفعيل دورها الهجومي، ليثأر لنفسه من خصومه من ناحية، وليبرز في موقع القوة القاهرة التي تضرب أينما تريد، ووقتما تريد، وكيفما تريد. ففي ظرف أيّام معدودة، تبنّى التنظيم إسقاط طائرة روسية في سيناء، وقام بتفجيراتٍ في برج البراجنة المأهول بأغلبية شيعية، موالية لحزب الله، واستهدف معسكرا للتدريب في الأردن، ونوّع من عملياته الإرهابية القاتلة في قلب باريس، ومراد التنظيم من ذلك القول إن داعش باق ويتمدد، والتنبيه إلى أنّه حاضر ويثأر….

بدا واضحا أن داعش أصبح يمثل خطراً على الأمن القومي العالمي، وأنه قادر على اختراق أعتى النظم الاستخباراتية في العالم، وإحداث المفاجآت الدامية في كل مكان، وبدا واضحا أنه قادر على ترويج إسلام “جهادي/راديكالي” طارد للآخر، على نحو يزيد من عزلة العرب والمسلمين، ويزيد من تنامي الإسلاموفوبيا، ويصبّ في صالح صعود اليمين المتطرّف في الدول الغربية.

كيف تسلل الإرهابيون إلى فرنسا وعبثوا بأمنها؟ ما هي أسباب الفشل المخابراتي في استباق هجماتهم؟ هل أصبحت للإرهاب حاضنة اجتماعية في فرنسا؟ هل فشلت الحكومات الفرنسية المتعاقبة في إدماج الأجانب؟ وهل المعالجة الأمنية وحدها كافية لمكافحة الإرهاب؟

أسئلة أخرى تثيرها فواجع ليلة مرعبة في باريس

العربي الجديد

 

 

 

إرهاب باريس يطيح استراتيجية إيران في المنطقة/ هدى الحسيني

عند بدء ترميم مسرح «باتاكلان» الباريسي يوم الاثنين الماضي الذي قتل فيه إرهابيو «داعش» 89 مدنيًا، جاء شاب فرنسي وأنزل «بيانو» من شاحنة، جلس أمام مدخل المسرح وبدأ يعزف أغنية جون لينون «تخيل»، فعادت الحياة إلى ذلك الحي وإلى المسرح كذلك.

قال الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند ورئيس وزرائه مانويل فالس إن حربًا أعلنت على فرنسا وستكون طويلة، وتعهدا بمواصلتها ضد «داعش». من المؤكد أن هولاند سيعزز دور فرنسا العسكري ضد «خلافة» البغدادي في الرقة. لكن هل سيتراجع عن قراره عدم إرسال قوات فرنسية خاصة إلى الرقة؟ الولايات المتحدة، بعد تمنع طويل، أرسلت قوات خاصة لمساعدة الذين يقاتلون «داعش».

لكن ما على فرنسا أن تفعل، أو ماذا ستفعل الآن أمران مختلفان، ويعتمد كل منهما على الموقف السياسي؛ عليها أن تعالج الأمر بشكل شامل، فـ«داعش» ظاهرة أو أعراض لمشاكل أكبر في المنطقة وفي فرنسا، لذلك تتطلب المعالجة الوصول إلى الجذور، ومنها ملامسة التهميش الذي يشعر به بعض المسلمين في فرنسا. ومع إظهارها أنها تدرك المشاكل الحقيقية التي يواجهها هؤلاء فهي مضطرة أن تكون حازمة بالمعنى الأمني.

قال فالس إنه يريد طرد الأئمة الراديكاليين لإبعاد الشباب عن تأثيرهم. منذ يناير (كانون الثاني) الماضي بعد عملية «شارلي إيبدو»، يدور النقاش في فرنسا عن دور الجالية المسلمة، والمشكلة أن هذه الجالية منقسمة، ولا تعمل بطريقة ذات معنى أو كنقطة مركزية أو كمرجع، وهي عجزت عن تقليص التأثير الراديكالي وتعزيز التأثير المعتدل. وكان لافتًا عندما زار الرئيس هولاند المغرب في سبتمبر (أيلول) الماضي أنه وقع اتفاقًا مع العاهل المغربي الملك محمد السادس لإرسال أئمة مغاربة لتعميق ثقافة الأئمة العاملين، أو الذين سيأتون إلى فرنسا إزاء تعاليم الإسلام السمحة. ولوحظ في العمليات الإرهابية الأخيرة الدور المخيف للمغاربة فيها. إلى جانب تقصير الجالية المسلمة بحق مسلمي فرنسا هناك تقصير الحكومة الفرنسية، التي ترفض مد اليد لمعالجة مشاكل الشباب المضطرب أو المشاكل التي تعانيها عائلاتهم، وهذا يعود إلى أسباب متنوعة منها تاريخية ومنها سياسية.

في عمليات باريس الإرهابية الأخيرة، أراد «داعش» التأكيد على أن باستطاعته الهجوم في أي لحظة وفي أي مكان، فهدفه نشر الرعب، ثم إن الإرهاب والإرهابيين لا يقيسون نجاحهم بعدد الناس الذين يقتلون، بل بعدد الناس الذين يخيفون.

عاصمة الحب باريس، أراد تدميرها أناس يحبون الموت، ونجحوا إلى حد ما، مما يشير إلى فشل أمني. هناك شعور أساسي لدى الشعب الفرنسي بأن الخصوصية قضية مهمة جدًا ويجب عدم التضحية بها لصالح الأمن القومي. ووقفت بالتالي الأجهزة الأمنية الفرنسية أمام عائق ثقافي أدى إلى تقليص كفاءتها، إذ لا يمكنها أن تتعامل مع الخطر الذي ينشره متطرفو القرن الحادي والعشرين، فيما الفرنسيون متمسكون بأفكار القرن التاسع عشر الرومنطيقية، من حرية التعبير، وحرية الحركة عبر أوروبا. ألسنا ومنذ أكثر من عقد نردد ونشعر باستمتاع أننا نعيش في «قرية عالمية»، لكن، وكما يبدو أنه من أجل حماية هذا الوعي الثقافي الثمين، يبدو أن الرأي العام الفرنسي صار مستعدًا للحرب وأن من واجبات فرنسا اقتلاع تنظيم داعش من جذوره.

غدي ساري، من «تشاتهام هاوس»، نجح في الحديث مع قلة في الرقة بعد الغارات الفرنسية المكثفة ليل السبت – الأحد الماضي. قالوا إنها كانت من أقسى الليالي في الرقة، واستبعدوا أن تكون فرنسا وحدها قامت بتلك الغارات. هم يصدقون أنه لم يقع ضحايا مدنيون، لأن الكل يتجنب الاقتراب من مقرات «داعش»، وفي الوقت نفسه فإن «داعش» يشكك بمدنيين يقتربون من مقراته، التي هي في الأساس مقرات رسمية سورية احتلها أثناء معاركه مع النظام، وعادة ما تكون معزولة عن المدينة والبيوت. ما لوحظ أن «داعش» لم يستعمل السلاح المضاد للطيران، وكأنه يتوقع مثل هذه الهجمات بعد عملياته السوداء، كما فعل عندما قصف الأردن مقراته ردًا على إحراقه الطيار الأردني معاذ الكساسبة حيًا.

قد تكون الأسلحة بدأت تنقص، لذا قال مراقبون متابعون تعليقًا إن «داعش» قام بعمليات باريس للتغطية على خسائره للأراضي في العراق والحسكة.

مع اهتزاز استراتيجيته التي تعتمد على توسيع أراضي «خلافته» تحول «داعش» بعملياته نحو أوروبا وروسيا، فهذه ولو أنها حتى الآن لا تقصف مقرات «داعش» مباشرة، إلا أنها تضغط على تحركاته. وبإسقاطه طائرة شرم الشيخ لم يكن فقط يستهدف السياحة في مصر بل العدو البعيد روسيا.

كشفت عمليات باريس أن آيديولوجية «داعش» صارت تشبه آيديولوجية أسامة بن لادن، مؤسس «القاعدة». كان هدفه دائمًا العدو البعيد، وكانت الولايات المتحدة ومصالحها الأولوية عنده، في حين أن آيديولوجية «داعش» كانت تركز على إقامة «دولة الخلافة»، وأنه ضمن حدود هذه الخلافة فإن الحرب الأخيرة ضد «الكفار» ستحسم. تمدد «داعش» نحو ليبيا، لأنها حسب نظريته المزعومة تجعل «الخلافة» تصل إلى روما، لكن خسارته أراضي شاسعة انعكست سلبًا على تأسيس هذه الخلافة في العراق وسوريا، فالتفت إلى فرنسا المشاركة في التحالف الدولي ضده، التي تتحمل وحدها، وبكل شجاعة، عبء محاربة التطرف الإسلامي في مالي. ثم إن العمليات وقعت مع انعقاد مؤتمر فيينا، وتوافق الأميركيين والروس والأوروبيين والعرب المعنيين وإيران على خريطة طريق لانتقال سياسي وانتخابات بعد 18 شهرًا في سوريا. وهذا يعني تحويل التركيز عسكريًا على «داعش».

لكن، وللأسف العميق، كشفت عمليات «داعش» الإرهابية عن صراع ثقافي وليس صراع حضارات. في الغرب يحترمون الديمقراطية، إنها نتاج حروب خاضها الآباء والأجداد كي يتنعم بها الأبناء إضافة إلى قيم احترام القوانين والأنظمة. حدود مفتوحة لتسهيل التحرك، وليس لتهريب السلاح والإرهابيين. الشرطة البريطانية تسير في الشوارع لحفظ الأمن من دون سلاح، إذ هناك القوانين التي تحمي وتردع. لكن، رغم أن الديمقراطية أثبتت أنها النظام السياسي الأكثر فعالية في التاريخ الحديث، فإنها أمام الإرهاب تصبح ضعيفة. هي كانت السبب الأساسي وراء ضعف مكافحة فرنسا وبلجيكا الراديكالية المتطرفة في الشوارع والأحياء. لذلك بعد وقوع عمليات «داعش» الإجرامية، تراجعت الديمقراطية لتفسح المجال أمام إجراءات قد يصفها البعض بالتعسفية: إغلاق الحدود، وقف القطارات، نشر قوات مسلحة في باريس، الطلب من المواطنين التزام منازلهم. على المدى القصير ستغير «انتصارات» هذا التنظيم على «الكفار» طبيعة المجتمع الفرنسي ونسيجه بشكل خاص، والمجتمع الأوروبي عمومًا. وقد تؤدي إلى تعزيز اليمين المتطرف، والعودة إلى الصراعات على أساس الهوية والعرق والدين في أوروبا. ستؤدي إلى إغلاق الحدود الأوروبية أمام الهجرة إلى أوروبا، وستضعف نقاط التقارب في الاتحاد الأوروبي. وإذا ما تعززت أفكار مارين لوبن وتوجهاتها في الانتخابات المحلية الشهر المقبل في فرنسا، فإن لعبة «الدومينو» ستتهاوى في جميع البلدان الأوروبية.

من جهة أخرى، فإن فرنسا من أهم أعضاء الحلف الأطلسي، ولاحظنا كيف أعلن كل قادة ذلك الحلف وقوفهم إلى جانب فرنسا. المملكة المتحدة أنشدت «المارسلياز» النشيد الوطني الفرنسي، جون كيري وزير الخارجية الأميركي ألقى جزءًا من خطابه مساء الاثنين في باريس باللغة الفرنسية. انتصارات «داعش» الدموية على الأبرياء وتهديداته بـ«الأعظم» ستزيد من الوجود العسكري للحلف الأطلسي في الشرق الأوسط، وقد تضع حدًا لتفكير الإدارة الأميركية في إدارة ظهرها وتخفيف وجودها العسكري في المنطقة، وهذا ما سينعكس سلبًا على سياسة الرئيس الإيراني حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف وقد يطيح بإدارته. لأن الوجود العسكري للحلف الأطلسي في الشرق الأوسط من ناحية، وتصعيد الصراعات فيه من ناحية أخرى، سيصيبان في الصميم «سياسة الاستقرار» التي سوّق لها روحاني وفريقه على أمل أن تصبح إيران القوة المسيطرة والمعتمد عليها في المنطقة. لقد أثبتت هذه العمليات أن استراتيجية تشجيع الصراعات خارج الحدود كي تبقى الدول المشجعة مستقرة، لها انعكاسات سلبية، ومحاولة إيران المناورة وإظهار أن كل شيء هادئ داخل حدودها، فيما الدول الأخرى في المنطقة تعاني من تدخلاتها، سيكون لها ثمن، وكان أول ثمن اضطرار روحاني إلى إلغاء زيارته الرسمية إلى باريس. إن نقل أوروبا وأميركا وإيران وتركيا مشاكلهم إلى أراضي الدول العربية انتهت فعاليته في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015.

المهم بعد أن تمر موجة الظلام الكالح هذه، أن تستمر فرنسا في الدفاع عن تميزها وتنوعها وطريقتها الفريدة في الحياة. إنها أرض الكلمة والريشة والضوء والحب.

الشرق الأوسط

 

 

 

 

ما بعد باريس/ ريتشارد ن. هاس

تأتي الهجمات التي شنها في باريس أفراد مرتبطون بتنظيم الدولة الإسلامية عقب التفجيرات في بيروت وإسقاط طائرة الركاب الروسية فوق شبه جزيرة سيناء، وهو ما يعزز حقيقة مفادها أن التهديد الإرهابي دخل مرحلة جديدة أشد خطورة.

ولا تخرج محاولات التعرف على الأسباب التي جعلت تنظيم الدولة الإسلامية يقرر شن هجماته الآن عن دائرة الحدس والتخمين؛ فربما لجأ إلى العمل على المستوى العالمي لتعويض خسارته الأخيرة للأراضي في العراق، ولكن الأمر المؤكد -أيا كان المبرر المنطقي- هو أن الاستجابة الواضحة باتت مستحقة الآن.

الواقع أن التحدي الذي يفرضه تنظيم الدولة يدعو إلى استجابات عديدة، ذلك أن أي سياسة منفردة لن تكون كافية، وهناك احتياج واضح إلى جهود متعددة في مجالات متعددة.

فأولا، هناك الرد العسكري؛ إذ يشكل تكثيف الهجمات من الجو ضد الأصول العسكرية لتنظيم الدولة الإسلامية، ومنشآت النفط والغاز التي يسيطر عليها، وقادته، أمرا بالغ الأهمية. بيد أن أي قدر من القوة الجوية لن يكون كافيا في حد ذاته لإنجاز المهمة، بل يتطلب الأمر إرسال قوات برية كبيرة على الأرض للاستيلاء على الأرض والحفاظ عليها.

من المؤسف أن الوقت المتاح الآن لا يكفي لبناء قوة من الشركاء على الأرض من نقطة الصفر. وكان مصير المحاولات السابقة الفشل، كما كانت الدول العربية غير قادرة أو غير راغبة في تشكيل مثل هذه القوة، ولم يكن الجيش العراقي أيضا على قدر المهمة، ولا تعمل المليشيات التي تدعمها إيران إلا على زيادة الأمور سوءا.

ويتلخص الخيار الأفضل الآن في العمل بشكل أوثق مع القوات الكردية ومجموعة مختارة من القبائل السُّنّية في كل من العراق وسوريا. ويعني هذا تقديم المعلومات الاستخبارية والأسلحة، فضلا عن الاستعداد لإرسال المزيد من الجنود -أكثر من 3500 جندي أميركي هناك بالفعل، بل وربما يبلغ العدد عشرة آلاف- لتوفير التدريب والمشورة والمساعدة في توجيه الرد العسكري.

ولا بد أن يكون مثل هذا الجهد جماعيا، وربما يكون غير رسمي -“تحالف من الراغبين”، ربما يشمل الولايات المتحدة، وفرنسا، والمملكة المتحدة، ودول عربية، بل وحتى روسيا في ظل الظروف المناسبة- أو ربما يجري تنفيذه تحت رعاية حلف شمال الأطلسي والأمم المتحدة.

ولا يمثل الشكل أهمية بقدر النتائج، ومن الأهمية بمكان أن يتم التعامل مع إعلانات الحرب الرمزية بحذر، خشية أن يبدو الأمر كأن تنظيم الدولة الإسلامية يكسب في كل يوم لا يخسر فيه.

ولا يقل العنصر الدبلوماسي أهمية لأي رد. الواقع أن الرئيس السوري بشار الأسد يمثل أداة تجنيد يستغلها تنظيم الدولة الإسلامية، ولا بد أن يرحل. ولكن أي حكومة قادمة لا بد أن تكون قادرة على الحفاظ على النظام وعدم السماح لتنظيم الدولة الإسلامية باستغلال فراغ السلطة، كما فعل في ليبيا.

وعلاوة على ذلك، لن يتسنى التغيير السياسي المنظم إلا بدعم روسي إيراني. ومن بين الخيارات التي تستحق الاستكشاف في الأمد القريب تشكيل حكومة ائتلافية يرأسها ممثل للأقلية العلوية، وهو التنازل الذي ربما يكون ثمنا لإبعاد الأسد من السلطة. وبمرور الوقت، يصبح من الممكن من حيث المبدأ تشكل حكومة وطنية أكثر تمثيلا، وإن كان الحديث عن إجراء انتخابات في غضون 18 شهرا أمرا خياليا تحت أي سيناريو.

بيد أن التوصل إلى تسوية على أساس هذه الخطوط ربما يكون مستحيلا. ولهذا السبب، يتطلب الأمر زيادة الجهود العسكرية لتشكيل جيوب أكبر وأكثر أمانا وقادرة على توفير حماية أفضل للمدنيين ونقل المعركة إلى تنظيم الدولة الإسلامية. ولا تُعَد سوريا دولة طبيعية بأي حال من الأحوال، ولن تتحول إلى دولة طبيعية في أي وقت قريب، إذا حدث ذلك على الإطلاق. وتُعَد سوريا التي تتألف من جيوب أو أقاليم نموذجا أكثر واقعية في المستقبل المنظور.

وتتضمن عناصر أخرى لا غنى عنها في أي إستراتيجية فعّالة، التوسع في مساعدة تركيا أو الضغط عليها لحملها على بذل قدر أكبر كثيرا من الجهد لوقف تدفق المجندين إلى تنظيم الدولة الإسلامية.

وتحتاج تركيا، وكذلك الأردن ولبنان، إلى المزيد من المساعدات المالية لتمكينها من تحمل القسم الأكبر من عبء اللاجئين، ويتعين على الزعماء العرب والمسلمين أن يقوموا بدورهم من خلال التفنيد الصريح لرؤية تنظيم الدولة الإسلامية وتجريد سلوكه من أي شرعية.

ولا يسعنا أيضا أن نغفل البعد المحلي للسياسة، فلا بد من تكييف الأمن الوطني وإنفاذ القانون -تكثيف تدابير الحماية على الحدود وفي الداخل- مع التهديد متزايد الخطورة.

من الواضح أن التعامل مع الإرهابيين المنفردين -الأفراد أو المجموعات الصغيرة التي تنفذ هجمات مسلحة ضد أهداف ضعيفة في مجتمعات مفتوحة- أمر بالغ الصعوبة، ويستلزم التعامل مع التهديد المفروض وحقيقة الهجمات التحلي بقدر أكبر من المرونة الاجتماعية وإعادة التوازن بين الخصوصية الفردية والأمن الجماعي.

والمطلوب أيضا جرعة من الواقعية، ذلك أن الصراع ضد تنظيم الدولة الإسلامية ليس حربا تقليدية، ولن نتمكن من استئصاله أو تدميره في أي وقت قريب، سواء بوصفه شبكة وفكرة أو بوصفه منظمة ودولة تسيطر بحكم الأمر الواقع على الأرض والموارد.

في حقيقة الأمر، كان الإرهاب وسوف يظل إحدى آفات هذا العصر، والنبأ السار برغم هذا هو أن التهديد الذي يفرضه تنظيم الدولة الإسلامية على الشرق الأوسط وبقية العالم يمكن تقليصه إلى حد كبير من خلال العمل المتضافر الدؤوب. ويتلخص الدرس الرئيسي المستفاد من هجمات باريس في حقيقة مفادها أننا لا بد أن نكون مستعدين للعمل في الوقت المناسب والمكان المناسب على حد سواء.

الجزيرة نت

 

 

الهجمات الانتحارية في فرنسا: الخلفيات والتداعيات/ رشيد خشانة

تفجيرات باريس قد تؤدي إلى غلق الأبواب في وجه اللاجئين والمهاجرين، وتشديد الخناق على مسلمي فرنسا، ومراجعة التشريعات الحالية واستبدالها بأخرى أكثر صرامة. (أسوشيتد برس)

ملخص

تدور النقطة المحورية في سياسة فرنسا اليوم حول السؤال التالي: هل تستمر باريس بعد تفجيرات 13 تشرين الثاني/نوفمبر في محاربة “داعش” والعمل في الوقت نفسه على تنحية الرئيس بشار الأسد، بوصفه حجر عثرة أمام الحل السلمي للأزمة السورية، أم أنها ستنضم إلى الموقف الروسي، الذي أذعن له حلفاء باريس الغربيين، والداعي لتشكيل تحالف دولي ضد “داعش”، مع الإبقاء ضمنا على الأسد أو في الأقل على نظامه؟ والأرجح أن الضغوط المتضافرة لقوى اليمين واليسار الفرنسيين على أولاند ستحمل هذا الأخير في نهاية المطاف، على لجم اندفاع الدبلوماسية الفرنسية الُتي وقفت حتى الآن ندا لموسكو في المسألة السورية، مُشترطة ذهاب الأسد كقاعدة لأي حل سياسي. أما التداعيات الداخلية للتفجيرات فيأتي في مُقدمها احتمال الإذعان لضغوط أقصى اليمين، الداعي إلى غلق الأبواب في وجه اللاجئين والمهاجرين، وخاصة من سوريا، وتشديد الخناق على مسلمي فرنسا والتضييق من فسحة الحريات، بما في ذلك مراجعة التشريعات الحالية واستبدالها بأخرى أكثر صرامة.

مقدمة

شكلت التفجيرات التي استهدفت “ملعب فرنسا”(Stade de France  ) في الضاحية الباريسية ومسرح باتاكلان وعددا من المطاعم في الدائرتين العاشرة والحادية عشر بباريس، أسوأ هجمات تعرضت لها فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية، إذ أوقعت ما لا يقل عن 132 قتيلا و400 جريحا. إنها بمعنى من المعاني 11 أيلول/سبتمبر الفرنسي. وقد اعتبر الرئيس أولاند أن فرنسا باتت في “حرب مفتوحة مع الارهاب”، ففرض حالة الطوارئ وأمر بحداد يستمر ثلاثة أيام. وتُعتبر هذه الهجمات، التي تبناها تنظيم “الدولة الاسلامية”، نقطة اللاعودة في معركة ستطول بين التنظيم من جهة والدولة الفرنسية ودول التحالف الدولي بشكل عام، من جهة ثانية.

أحدثت الهجمات هزة قوية للدولة والمجتمع على السواء بسبب العدد المرتفع للضحايا، فهي أكبر عملية في أوروبا بعد الاعتداءات على شبكة القطارات الاسبانية في 2004، كما أنها المرة الأولى التي يتم فيها استخدام أحزمة ناسفة في أوروبا.

1- سياق الهجمات

أتت هذه السلسلة من التفجيرات الجديدة في أعقاب عملية دموية طاولت مكاتب صحيفة “شارلي هبدو” في 7 يناير/كانون الثاني 2015 وأدت إلى مقتل 12 شخصًا كان قد تبناها تنظيم “القاعدة”، أما هذه الهجمات الجديدة فتبناها “تنظيم الدولة الاسلامية” في بيان أصدره بالعربية والفرنسية والانكليزية، وهي المرة الأولى التي يتبنى فيها عملية في فرنسا، فما هي أسباب هذا الاستهداف؟

يرتبط توقيت التفجيرات بثلاثة عناصر هي التالية:

أولا: هي تأتي بعد أسابيع من إطلاق فرنسا سلسلة غارات جوية على مواقع “داعش” في كل من سوريا والعراق، اعتبارا من 28 أيلول/سبتمبر الماضي، بالإضافة لإرسال حاملة الطائرات “شارل ديغول” في أوائل شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2015 للمشاركة في العمليات العسكرية ضد التنظيم، مما جعل الأخير يُعد لهذا الرد على الأرجح منذ تلك الفترة.

ونُلاحظ أن “داعش” سرعان ما رد الفعل على الدول التي باشرت شن الغارات الجوية على مواقعه بتفجير طائرة الركاب الروسية فوق سيناء في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2015، وقبلها بعشرين يوما، أي في 10 أكتوبر/تشرين الأول ضرب في أنقرة، ثم وجه ضربة من نوع آخر إلى فرنسا في الشهر التالي. وهذا دليل على تحول نوعي في قدرات التنظيم التخطيطية والعسكرية، إذ أصبح قادرا على إدارة مجموعات مختلفة تتسم بالحرفية والاستعداد للموت في بلدان متباعدة، بل في قارات مختلفة من سيناء إلى تركيا إلى لبنان وصولا إلى باريس.

ثانيا: تم توقيت التفجيرات قبل ثلاثة أسابيع من عقد المؤتمر الدولي حول المناخ21  COP الذي يُعد الفرنسيون لاستضافته منذ مدة طويلة، والذي دُعي لحضوره 117 رئيس دولة وتستمر أعماله أسبوعين. ومن الواضح أن هدف “داعش” هو إرباك المُنظمين وإثبات أن الأمن غير مستتب من أجل دفعهم إلى تأجيل المؤتمر.

ثالثا: قد يكون التنظيم أرسل عددا من عناصره إلى أوروبا ضمن موجات اللاجئين الذين وصلوا من سوريا عبر اليونان وتركيا، إذ كشف رئيس جهاز المخابرات الألماني أن “دخول آلاف اللاجئين إلى ألمانيا يستغله المتطرفون لتجنيد عناصر منهم”. كما أشار إلى “وجود إرهابيين قدموا مع اللاجئين” (1). ويمكن القول إن استراتيجيا التنظيم في هذا المضمار “رمت لإغراق أوروبا بمئات الآلاف من المهاجرين المسلمين الذين سيُنشأ من بينهم جيش المستقبل” (2).

يُضاف إلى هذه العوامل الثلاثة التنافس بين “داعش” و”القاعدة” الذي أشار إليه الباحث ماك كانتس باعتباره أحد العوامل المُشجعة على هذه “الغزوة” الباريسية (3).

2- الخلفيات والدلالات

لم تستهدف التفجيرات مؤسسات أو معابد يهودية أو رموزا سياسية أو دينية أخرى، خلافا لكثير من الهجمات التي عرفتها فرنسا في العقود الماضية (انظر تسلسل العمليات في الملحق). غير أن صحيفة اسرائيلية أبرزت أن صاحب مسرح “باتاكلان” يهودي، وقالت إنه كان “عُرضة لتهديدات من جماعات مناهضة للصهيونية” لم تُسمها، لتؤكد بعد ذلك أنه باع المسرح في أيلول/سبتمبر الماضي (4).

أما عن هوية المنفذين فالأرجح أنها تعود إلى ثلاثة منابع: الأول منبع فرنسي والثاني بلجيكي والثالث يتصل باللاجئين الذين عبروا من اليونان إلى أوروبا الغربية والشمالية خلال الأشهر الماضية. وتدل الخيوط التي كشف رئيس المُحققين الفرنسيين النقاب عنها على أن “داعش” استقطب شبابا من ذوي السوابق الضالعين في قضايا إجرامية، والذين لم يُعرفوا بانتمائهم للخلايا المتشددة المسجلة لدى أجهزة الأمن. ويوجد حاليا في فرنسا 1500 متشدد تحت رقابة الأجهزة الأمنية بحسب رئيس المرصد الدولي للإرهاب رولان جاكار (5). ويُقدر جاكار عدد المتعاطفين مع “داعش” في مواقع التواصل الاجتماعي بفرنسا بما بين 4000 و5000 شخص، فيما أكد وجود 1500 رشاش كلاشنكوف في فرنسا قال إنها هُربت من البلقان عبر إيطاليا.

غير أن السؤال الأكثر إلحاحا هُنا هو: من المُستفيد من تسديد هذه الضربة المؤلمة لفرنسا؟  ولماذا استُهدفت؟

من الواضح أن الروس هم أول المستفيدين من ضرب إصرار باريس على تنحية الأسد، فغالبية المواقف الدولية باتت مُذعنة لوجهة نظر موسكو التي تعمل على حشد الجهود لمحاربة “داعش”، في مقابل السكوت على نظام الأسد. أما فرنسا فهي الدولة الكبرى الوحيدة التي أصرت في الجولتين السابقتين من محادثات فيينا على التمسك برحيل الأسد كشرط لأية تسوية سياسية للأزمة في سوريا. كما أنها الدولة الوحيدة التي تُقارع روسيا في شرق المتوسط  بإرسالها حاملة الطائرات “شارل ديغول” إلى المنطقة، في الوقت الذي امتنع فيه الحلف الأطلسي عن تقديم الدعم لتركيا في غاراتها على مواقع “داعش”، بالرغم من كونها عضوا رئيسيا في الحلف.

والمستفيد الثاني هي إيران لأنها تأمل أن تحصد منها عُدُولا فرنسيا عن اشتراط رحيل حليفها الأسد لحل الأزمة السورية. أما المستفيد الثالث فهو النظام السوري الذي يعتبر فرنسا الخصم الدولي الرئيس المُطالب برأس النظام. فالأسد لم يكتف بعدم التنديد وإنما قال إن التفجيرات هي “نتيجة للسياسة الخارجية الفرنسية الخاطئة” (6). واستطرادا تطرحُ هوية المستفيدين من التفجيرات أسئلة مُلحة، من جديد، حول من يقف وراء “داعش”، إذ أن من يحصد ثمار هجماته هو في غالب الأحيان نظام الأسد وحُماته الروس والإيرانيون؟ كما أن هناك احتمالا أن يكون طرف آخر (أو أطراف أخرى) قد نفذ التفجيرات باسم “داعش”، لا سيما أن المنفذين ليسوا من العناصر المعروفة بانتمائها للتنظيم، مما يستدعي التساؤل عما إذا كانت التفجيرات ترمي لمعاقبة فرنسا على مواقفها المتوازنة من القضية الفلسطينية، وخاصة اعتراف البرلمان الفرنسي بدولة فلسطين، ودور باريس في منح فلسطين العضوية الكاملة في منظمة اليونسكو، واستعدادها لتقديم مشروع للأمم المتحدة يُمهل اسرائيل سنة ونصف السنة للإنسحاب من الضفة الغربية في إطار حل الدولتين؟

ويبرز هنا مُجددا ملف اللاجئين الذي سيُعاد النظر في أركانه حتما من دون انتظار نتائج التحقيقات القضائية الجارية في فرنسا، إذ باتت سياسة الاستيعاب التي انتهجتها بعض الدول الأوروبية وخاصة ألمانيا، جزءا من الماضي. والأرجح أن أعضاء الاتحاد الأوروبي سيُحاولون إقفال بابي الهجرة واللجوء، ولن يكتفوا بذلك بل سيُراجعون بدقة لوائح اللاجئين الذين توزعوا على بلدان الاتحاد. وستقود السياسة الجديدة في مجالي اللجوء والهجرة إلى مراجعة اتفاق شينغن، بما يُعيد تكريس سيادة الدولة في الفضاء الأوروبي ويُغلب التشريعات الداخلية على الاتفاقات الأوروبية، وصولا ربما إلى إعادة إقرار الحدود الداخلية.

واستطرادا يجوز التساؤل عن مصير الاتحاد الأوروبي نفسه بعد الخروج من دوامة الصدمة التي أحدثتها تفجيرات باريس؟ في المقابل تطرح التفجيرات على الصعيد العسكري سؤالا كبيرا عن مدى تأثيرها في احتمال مراجعة موقف الحلف الأطلسي من الحملة الدولية على “داعش”، بعدما خذل الحلف تركيا على هذا الصعيد، إذ يحق لفرنسا كعضو في الحلف أن تدعو لتطبيق البند الخامس من الميثاق، والذي يعتبر الاعتداء على عضو في الحلف اعتداء على باقي الأعضاء.

تبقى الإشارة إلى الموقف الإسرائيلي الذي استثمر هجمات باريس، كالعادة، للتقرب أكثر من فرنسا، في مقابل تعميق صورة القتلة التي ما انفك الإعلام الصهيوني يُروجها عن العرب والمسلمين لدى الرأي العام الفرنسي والأوروبي عموما، بالتذكير بأن الاسرائيليين هم أيضا ضحية “لإرهاب السكاكين” وللهجمات الانتحارية. وكتب قدعون ليفي في صحيفة “هآرتس أن “هناك رابطا بين سكين الطفل الفلسطيني في  الخليل وقنبلة الانتحاري في باريس” (7). وقد أبرز الإعلام الفرنسي التظاهرات التي حدثت في الدولة العبرية، والتي حضرها الرئيس الاسرائيلي الأسبق شيمون بيريز وألقى فيها “كلمة تضامن” مع ضحايا التفجيرات، وقد حرص على إلقائها باللغة الفرنسية.

3- التداعيات الداخلية الفرنسية

وبالعودة إلى التداعيات الداخلية الفرنسية يُطرح السؤال عن احتمال تغيير الموقف الرسمي من الأزمة السورية، فاللقاءات التي عقدها الرئيس أولاند مع زعماء الأحزاب السياسية أظهرت ميلا قويا لدى النخب، بدءا من حركة الجمهوريين اليمينية إلى الحزب الشيوعي في أقصى اليسار، نحو العدول عن المطالبة برحيل الأسد وتركيز كل الجهود على محاربة “داعش”. وبرز الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، الذي كان مهندس التدخل العسكري الأطلسي للإطاحة بمعمر القذافي في ليبيا سنة 2011، بموقف ضاغط على الرئاسة الفرنسية “من أجل إعادة توجيه السياسة الخارجية” بما يجعل الحرب على الارهاب تقتصر على قتال “داعش”. وتأكد من التصريحات التي أدلى بها الزعماء الفرنسيون بعد الاجتماعات التي عُقدت في قصر “الايليزي” أن هناك اتفاقا سيقصم ظهر الموقف الذي تبناه حتى الآن كل من أولاند ووزير الخارجية فابيوس من نظام الأسد. والأرجح أن احتمال ارتكاب “داعش” عمليات أخرى في فرنسا، مثلما لوح بذلك التنظيم في وسائل إعلامه، سيدفع أولاند للإذعان لمطالب المعارضة، وبالتالي إسكات صوت الدولة الكبرى الوحيدة المُطالبة برحيل رأس النظام في سوريا.

وتجدد الاعتداءات والتفجيرات هذا غير مُستبعد في ظل وجود 1800 عضو فرنسي في تنظيم “داعش” بسوريا (8)، فيما يُقدر الباحث حسن أبو هنية عددهم بألفي عنصر (9). كما أن وجود خزان من العناصر المتشددة في أحد الأحياء الفقيرة من العاصمة البلجيكية بروكسيل، والذي جاء منه بعض المنفذين، سيُسهل تأمين المدد اللوجستي لأية عمليات مقبلة. وتُعتبر بلجيكا “من الدول الأكثر تأثرا في أوروبا بمغادرة جهاديين للقتال في سوريا” (10). ومن المؤشرات التي تعزز احتمال تجدد الاعتداءات في فرنسا لحملها على وقف غاراتها الجوية على مواقع التنظيم قوة البنية الاعلامية والعملياتية الفرنكفونية لدى “داعش”، والمُوجهة اساسا لاستقطاب الشباب من فرنسا وبلجيكا والبلدان المغاربية والافريقية. وإذا أضفنا إلى ذلك أن التنظيم أعلن أنه أرسل ألفين من أعضائه ضمن مئات الآلاف من طالبي اللجوء الذين وصلوا إلى أوروبا، نُدرك أن التهديدات التي ما فتئ يُوجهها إلى فرنسا وسواها من البلدان الغربية ليست مزحة أو تهديدات كلامية. وهذا ما تتوقعه السلطات الفرنسية إذ صرح قائد الأركان الفرنسي بأن “السؤال ليس هل ستكون هناك هجمات جديدة أم لا، وإنما متى؟” (11). ومن هنا فإن الحرب ستستمر فترة غير معروفة لكنها لن تكون قصيرة.

والثابت حتى الآن أن صلاحيات أوسع مُنحت للجيش الفرنسي الذي تم تكليفه بحراسة المباني الرسمية سيكلف أيضا بالمزيد من المهمات في الحياة الداخلية الفرنسية في الفترة المقبلة، وسيكون له دور لم يسبق أن قام به منذ حرب التحرير الجزائرية (1954-1962). وبقدر ما عكست الهجمات الأخيرة إخفاقا أمنيا على صعيد التوقع والاستعداد لها، ستترتب عليها تداعيات تخص معاودة هيكلة أجهزة الاستخبارات، لاسيما أن الرئيس الفرنسي نفسه كان في منطقة الخطر لدى وجوده في “ملعب فرنسا” قبل إخراجه منه.

ويمكن الجزم بأن المسلمين الفرنسيين الذين يشكلون نحو 10 في المئة من سكان البلد (65 مليون ساكن) وهم أكبر جالية مسلمة في اوروبا الغربية، هم أولى ضحايا التفجيرات الأخيرة، إذ أن الإجراءات الأمنية المُتخذة ستنتقص من حرياتهم وحقوقهم كمواطنين فرنسيين. إنهم كبش الفداء في الحملات المتبادلة بين اليمين واليسار، والتي سترتفع وتيرتها مع اقتراب ميقات الانتخابات المحلية والبلدية المقررة للعام المقبل والانتخابات الرئاسية في 2017. ويُؤشر الجدل الدائر حاليا حول الملف الأمني على أنهم سيكونون في عين التدابير الردعية والعقابية التي تُطالب الأوساط العنصرية باعتمادها. وقد طالبت زعيمة حزب “الجبهة القومية” (أقصى اليمين) مارين لوبن بحظر “المنظمات الأصولية الاسلامية وطرد المتشددين الاسلاميين من فرنسا وترحيل الأجانب الذين يكرهون بلادنا وغلق المساجد التي يؤمها متطرفون وإقفال الحدود”.

ومن الواضح أن الحكومة الفرنسية تأخذ في الاعتبار الشحنة العاطفية التي يتعاطى الجمهور الفرنسي من خلالها مع التفجيرات باعتبارها شكلت اعتداء على سيادته ومجتمعه وثقافته، وهو ما يُفسر محاولة الثأر من خلال توجيه سلسلة ضربات جوية إلى مواقع “داعش” وانتهاج سياسة أكثر صرامة إزاء المهاجرين واللاجئين في المستقبل. لكن السؤال هو إلى أي مدى ستمتنع الرئاسة الفرنسية، الواقعة تحت ضغط شديد من الرأي العام والمعارضة، عن تنفيذ أعمال تبدو ثأرا للكبرياء الفرنسية الجريحة، أسوة بما فعله الرئيس الأمريكي الأسبق جورج والكر بوش في أعقاب اعتداءات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر في أمريكا، وإن بحجم أقل؟

____________________________________

رشيد خشانة – باحث في مركز الجزيرة للدراسات

 

الهوامش

(1) صوت ألمانيا. الرابط: http://germanyinarabic.com/archives/998

تاريخ الدخول 16/11/2015

(2) هرارة، أفرايم: استراتيجيا داعش هي اغراق اوروبا بمئات آلاف المهاجرين المسلمين. رأي اليوم بتاريخ 12 أيلول/سبتمبر 2015

الرابط:  http://www.raialyoum.com/?p=286034

(3) يعتقد ماك كانتس مدير مشروع أمريكا والعالم الإعلامي في معهد بروكينغز أن فقدان مزيد من الأراضي في سوريا والعراق ربما حمل “داعش” على تنفيذ ضربات في الخارج مثل سيناء وبيروت وباريس لإقناع الدول الأجنبية بأنها ستدفع ثمنا باهظا.

الرابط:

http://www.vox.com/world/2015/11/14/9735512/paris-attacks-isis-why

تاريخ الدخول 16/11/2015

(4) The Times of Israel 2015_11_14

http://www.timesofisrael.com/bataclan-theater-long-a-target-of-anti-zionist-groups-report-says/?utm_source=The+Times+of+Israel+Daily+Edition&utm_campaign=7ece06385f-2015_11_14&utm_medium=email&utm_term=0_adb46cec92-7ece06385f-55228793

تاريخ الدخول 41/11/2015

(5) Jacquard, Roland, France24 (French), Saturday november 14, 13.25 Paris time

(6) الحُميد، طارق: إرهاب باريس… الفرحون اثنان، الشرق الأوسط بتاريخ 16/11/2015

الرابط: http://aawsat.com/home/article/498061/%D8%B7%D8%A7%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%85%D9%8A%D8%AF/%D8%A5%D8%B1%D9%87%D8%A7%D8%A8-%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D8%AD%D9%88%D9%86-%D8%A7%D8%AB%D9%86%D8%A7%D9%86

(7) ليفي، قدعون: صحيفة هآرتس بتاريخ 16/11/2015

الرابط:

http://www.haaretz.com/opinion/.premium-1.686074

(8) Jacquard, Roland, Op.cit

(9) أبو هنية، حسن: الجزيرة برنامج الواقع العربي الساعة 00.18 بتوقيت مكة المكرمة

(10) قناة فرانس  24 بالعربية يوم 14/7/2015

الرابط:

http://www.france24.com/ar/20150714-%D8%A8%D9%84%D8%AC%D9%8A%D9%83%D8%A7-%D8%A5%D8%A8%D8%B9%D8%A7%D8%AF-%D8%A5%D9%85%D8%A7%D9%85-%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D9%87%D9%88%D9%84%D9%86%D8%AF%D9%8A-%D8%AA%D8%B4%D8%AF%D8%AF-%D8%AA%D8%B7%D8%B1%D9%81-%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%B6-%D9%83%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%8A%D8%A9-%D8%AD%D9%82%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%86%D9%81

(11) Moniquet, Claude, France 24 English, Saturday november 14, 22.30 Paris time

جدول يبيِّن سلسلة الهجمات التي استهدفت مدنًا فرنسية خلال العشرين سنة الماضية

تاريخ العملية

مكانها

منفذوها

الـمُستهدف

عدد الضحايا

13 تشرين الثاني/نوفمبر 2015

باريس

ثمانية

ملعب ومسرح ومطاعم

130 قتيلًا و400 جريحًا

7 كانون الثاني/يناير 2015

باريس

اثنان (الأخوان كواشي)

مجلة شارلي هبدو

12 قتيلًا

9 كانون الثاني/يناير 2015

باريس

واحد (كولي بالي)

متجر يهودي

6 قتلى

11-19 آذار/مارس 2012

تولوز

واحد (محمد مراح)

مصنع

7 قتلى

تشرين الثاني/نوفمبر 2011

باريس

واحد

مجلة “شارلي إبدو”

لاضحايا

11 كانون الثاني/يناير 2009

باريس وستراسبورغ

ثلاثة

معبد يهودي ومقر للعبادة

كانون الثاني/يناير 1996

باريس

غير معروف

محطة مترو الأنفاق بور رويال

4 قتلى و90 جريحًا

ملاحظة: كانت العمليات الإرهابية قبل 1996 من تنفيذ جماعات انفصالية إما مرتبطة بالحركة الانفصالية الكورسيكية أو بتنظيم إيتا الباسكي.

المصدر: مركز الجزيرة للدراسات

 

 

 

 

الأنظمة العربية شريك صعب للغرب في محاربة داعش/ كريستوف إيرهاردت

ندد العالم العربي بهجمات باريس. لكن الصحفي الألماني كريستوف إيرهاردت يرى مع ذلك أن الدول العربية تعتبر في الواقع شريكاً صعبًا للغرب في المواجهة ضد تنطيم الدولة الإسلامية. وفي وجهة نظره التالية يقارن بين نظام الأسد والأنظمة العربية الأخرى في هذا السياق.

“نفس الإرهاب ونفس الدموع” – كان هذا هو العنوان الرئيسي يوم السبت 14 / 11 / 2015 في صحيفة “لوريان لو جور” اللبنانية الصادرة باللغة الفرنسية. وأسفل هذا العنوان كانت توجد صورة لامرأتين لبنانيتين تبكيان على ضحايا التفجيرين الانتحاريين في بيروت عشية يوم الخميس 12 / 11 / 2015 وصورة من العاصمة الفرنسية باريس المذهولة من الهجمات الإرهابية. وأوردت صحيفة “السفير” اللبنانية أنَّ هذا المشهد يبدو وكأنَّه من لبنان وسوريا أو حتى من العراق.

العديد من المعلقين العرب سارعوا في ربطهم الهجومين (في بيروت وباريس) – وكذلك تحطم الطائرة الروسية في شرم الشيخ – مع تنظيم “الدولة الإسلامية” والأزمة السورية. وعلى ما يبدو فإنَّ هذه الأزمة تمتد وبشكل متزايد إلى ما هو أبعد من دول الجوار.

إذ إنَّ الهجمات التي يتم تنفيذها تحت راية تنظيم “الدولة الإسلامية”، باتت تستهدف على ما يبدو وبشكل متزايد أهدافًا بعيدة خارج حدود خلافة تنظيم “الدولة الإسلامية” في بلاد الشام. وهذا يمثِّل تهديدًا جديدًا، فحتى الآن كانت قبل كلِّ شيء استراتيجية تنظيم القاعدة هي أن يرفع من مكانة العمل الجهادي من خلال القيام بهجمات إرهابية مذهلة.

ابتهاج وسرور بين الجهاديين الفرنسيين

لاحظ خبراء مكافحة الإرهاب في فرنسا يوم الجمعة ابتهاجًا وسرورًا بين الجهاديين الفرنسيين في سوريا، حيث احتفل هؤلاء الجهاديون على شبكة الإنترنت بهذه الهجمات الإرهابية. وذُكر أنَّه كان يوجد من بين إعلاناتهم العشوائية أيضًا دعوات إلى مواصلة عمليات القتل في باريس.

وفي صورة انتشرت عبر موقع تويتر يُشاهد جمهور في حفل موسيقي – وقد تم داخل هذه الصورة تركيب قنبلة يدوية مع هذا النص: “القنبلة سهلة التفجير ومثالية ضدَّ الكفار”. وهذه الصورة تحمل دعوة تفيد بأنَّ الجهاد يجب ألاَّ ينحصر في سوريا فقط.

آثار الموت – شهدت العاصمة اللبنانية بيروت يوم الخميس 12 / 11 / 2015 هجومًا انتحاريًا مزدوجًا قُتل فيه أربعة وأربعون شخصًا. وقد أعلنت ميليشيات جهاديي تنظيم “الدولة الإسلامية” عن مسؤوليتها عن هذا الهجوم، الذي وقع في شارع تجاري مزدحم في حي برج البراجنة، وهو معقل من معاقل حزب الله الشيعي.

استغلَّ نظام الأسد في دمشق حمام الدم هذا الذي وقع في باريس، ليعرض نفسه مرة أخرى كشريك في محاربة الإرهاب الإسلاموي، الذي أشعله نظام الأسد بالذات في داخل بلده سوريا. ومثلما جاء عبر وكالة الأنباء السورية الرسمية سانا فإنَّ السوريين يدركون أكثر من جميع الآخرين ماذا تعني المعاناة من إرهاب الجهاديين.

وكان الطاغية بشار الأسد قد أعلن يوم السبت لوفد من النوَّاب البرلمانيين الفرنسيين أنَّ الهجمات في باريس لا يمكن فصلها عما حدث في بيروت (حيث كان المستهدف من ذلك الهجوم في آخر المطاف هو حزب الله، أحد أهم حلفاء الأسد)، وعما يجري في سوريا منذ خمسة أعوام. وقال إنَّ “سياسة فرنسا الخاطئة” أدَّت إلى انتشار الإرهاب، وأضاف أنَّه يجب على الرئيس الفرنسي فرنسوا أولاند تغيير سياسته. وعقَّب بقوله إنَّه – أي بشار الأسد – قد حذَّر منذ ثلاثة أعوام من شيء كهذا.

قلق الدول العربية من حمّام الدم

ومن ناحية أخرى ظهر زعماء الدول العربية – وفي مقدِّمتهم المملكة العربية السعودية ومصر وقطر والأردن والكويت – قلقين من حمّام الدم هذا وعازمين على محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”. وفي بيان صادر عن الخارجية السعودية أكَّدت القيادة السعودية على “ضرورة تكاتف المجتمع الدولي ومضاعفة جهوده لاجتثاث هذه الآفة الخطيرة والهدَّامة، التي تستهدف الأمن والاستقرار في جميع أرجاء المعمورة”.

وقال وزير الخارجية السعودي عادل الجبير إنَّ المملكة العربية السعودية دعت منذ فترة طويلة “لتكثيف الجهود الدولية وتوحيد الصفوف من أجل مكافحة الإرهاب بأي شكل كان”. ونُقل عن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قوله إنَّ “مثل هذه الأحداث الإرهابية لن تُضعف عزيمة الدول والشعوب المُحبة للسلام”.

أحمد الطيب الإمام الأكبر والرئيس السابق لجامعة الأزهر الإسلامية في القاهرة وشيخ جامع الأزهر، الذي يُعدُّ من المؤسَّسات الرائدة في الإسلام السُّنِّي، استنكر هجمات باريس “البشعة”. وفي افتتاح مؤتمر “رؤية الأئمة والدعاة لتجديد الخطاب الديني وتفكيك الفكر المتطرِّف” المنعقد يوم السبت 14 / 11 / 2015 في مدينة الأقصر المصرية، قال إنَّ هجمات باريس “عبثٌ منفلت من كلِّ قيود الدين ومبادئ الإنسانية الحضارية”.

ولكن في الواقع تعتبر الأنظمة العربية شريكًا صعبًا في هذه المعركة. إذ إنَّ إسلام الدولة السعودية المُتَزَمِّت والمُصَدَّر إلى الخارج بجهود كبيرة يوفِّر مع تصوُّراته الأرض الخصبة للفكر الجهادي. وفي مصر تدفع يدُّ النظام الثقيلة الكثيرين من المصريين الشباب إلى أيدي دعاة الكراهية الجهاديين ومجنّدي تنظيم “الدولة الإسلامية”.

ومن جانبه أدان الدكتور أحمد الطيب، وهو الإمام الأكبر وشيخ الجامع الأزهر الشريف الموالي للدولة، والذي يعتبر من أهم السلطات الدينية في العالم الإسلامي، هذه الهجمات الإرهابية وأكَّد على أنَّ الإسلام بريءٌ من الإرهاب. وفي المؤتمر المنعقد يوم السبت 14 / 11 / 2015 في مدينة الأقصر جنوب مصر تحت عنوان: “رؤية الأئمة والدعاة لتجديد الخطاب الديني وتفكيك الفكر المتطرِّف”، قال شيخ الأزهر إنَّ هجمات باريس “عبثٌ منفلت من كلِّ قيود الدين و(الضوابط) الإنسانية والحضارية”. وأضاف: “آن الأوان ليتَّحد العالم كلُّه من أجل التصدِّي لهذا الوحش” المسعور.

ولكن الفكر المتطرِّف في الواقع ينتشر حتى في مهاجع نوم الطلبة في داخل مؤسَّسته التعليمية الدينية، مثلما كان ذلك معروفًا في هذه الأيَّام في القاهرة من الشباب الإسلاميين.

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ 2015/ موقع قنطرة 2015 ar.qantara.de

 

 

 

 

فرنسا: ثقافة وإرهاب/ حسام عيتاني

في بلد يحتل فيه «المثقف العام» موقعا مهماً، تؤدي نقاشات الفرنسيين قبيل وبعد جريمة 13 تشرين الثاني (نوفمبر) جزءاً حيوياً من عملية رسم الطريق الذي سيمضي فيه مواطنو ذلك البلد على صعيد اجتماعهم السياسي وعلاقتهم مع الأقلية المسلمة والعالم.

شنت المجموعة التي تبنتها «داعش» هجماتها الدموية قبل أن يخف صخب سجال أثاره اعتداء داعشي سابق في قلب باريس استهدف مجلة «شارلي إيبدو» ومتجراً لمأكولات الكوشير اليهودية. في أجواء الصدمة التي ولّدها اعتداء كانون الثاني (يناير)، جذبت الفكرة التي طرحها ميشال هويلبيك في روايته «استسلام» التي صدرت قبل عملية «شارلي إيبدو» بشهور قليلة عن أسلمة المجتمع الفرنسي أسلمة «ناعمة» تفضي إلى وصول رئيس مسلم إلى قصر الأليزيه، اهتماماً عريضاً لتناولها قضية الإسلام الفرنسي والتعامل معه. النَفَس العنصري الصريح الذي كُتبت الرواية به، ساعد في انتشارها وحصولها على دعاية كبرى إضافة إلى وضعها على طاولة التشريح السياسي، بعد الأدبي، باعتبارها رسالة من أحد ممثلي النخبة الثقافية إلى مواطنيه.

لم تظل تظاهرات 11 كانون الثاني التي شهدتها المدن الفرنسية في منأى عن القراءة السياسية- الاجتماعية. ايمانويل تود، على سبيل المثال، خصص لها كتابه «من هو شارلي»، معتبراً أن التظاهرات رغم إصرارها على حمل القيم الجمهورية، إلا أنها تحت هذه اللافتات عكست إصراراً من منظميها والكثير من المشاركين على الحفاظ على أسس السيطرة السياسية والثقافية والاجتماعية التي سبق أن مهدت الطريق إلى المقتلة.

رغم ذلك، يمكن الجزم أن أصوات اليمين بجناحيه التقليدي والمتطرف كانت أقوى من اعتراضات اليساريين وتحذيراتهم من الانزلاق إلى الفاشية في التعاطي مع المهاجرين والفرنسيين من أصول لا تنتمي إلى «العرق الأبيض» بحسب تعبير نادين مورانو المسؤولة في حزب «الجمهوريين» الذي يمثل الكتلة اليمينية الأكبر في البرلمان الفرنسي.

انبرى عدد من مثقفي اليمين وأهمهم آلان فنكليلكروت للدفاع عن مورانو وحقها في استعارة هذا الوصف الذي قالت ان صاحبه هو الرئيس الأسبق شارل ديغول، مؤسس الجمهورية الخامسة وورد في مذكرات واحد من وزرائه.

فنكليلكروت وهو الآن الممثل الأهم لمجموعة «الفلاسفة الجدد» الذين ظهروا بعد أحداث 1968، والذين يسميهم خصومهم «الرجعيين الجدد»، كان غزيراً في التعليق والكتابة حول جريمة الأخوان كواشي ضد «شارلي» وجمع تعليقاته الإذاعية وغيرها (من مواقفه منذ 2012) في كتاب حمل عنوان «الصواب الوحيد» وصدر في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.

كرست مقالات الكتاب انزياح فنكليلكروت الحاد صوب اليمين المتطرف المعادي للأجانب الذين «لا نعرف ماذا يريدون» والذين «يتمتعون بتمييز إيجابي لمصلحتهم»، لكنهم يرفضون التعبير عن تضامنهم مع ضحايا «شارلي إبدو» والذين تصدر عنهم كل آفات المجتمع الفرنسي من مخدرات وبطالة وانتشار الجريمة ويصل إلى التعبير عن أسفه من ضياع مقاربة عالم الانثروبولوجيا كلود ليفي- ستروس أمام المقاربة التي أسسها عالم الاجتماع اليساري بيار بورديو. أو بحسب كلماته غياب فكرة تمحور المجتمع حول الثقافة مقابل الصراع بين المسيطرين والمسيطر عليهم. هذا الابتسار لمقولات ليفي- ستروس، كان في صلب الرد العنيف الذي حمله عرض اود لونسيلان لكتاب فنكليلكروت في مجلة «نوفيل ابسيرفاتور». المجلة ذاتها نشرت قبل يوم واحد من هجمات باريس الأخيرة رسالة مفتوحة من الكاتب آلان باديو حذر فيها فنكليلكروت من الانحدار الى قيعان اليمين المتطرف وتوفيره التسويغ الذي يحتاجه العنصريون للانقضاض على المجتمع التعددي.

يبدو النقاش السابق على جريمة 13 تشرين الأول، استمراراً لنقاشات قديمة تتعلق بالمفاهيم الاجتماعية التقليدية. مقاربة أكثر جدة بدأها باحثون شبان يهتمون بأثر ألعاب الفيديو ووسائل التواصل الاجتماعي والمعازل بمعناها الثقافي على أجيال من الشبان من أبناء المهاجرين الذين انفصلوا عن الواقع ولا يربطهم بالمجتمعات المحيطة بهم إلا شعور باللامبالاة والكراهية. من هنا يمكن فهم وصف «المنهجي» الذي تكرر كثيراً في كلمات الناجين من الجريمة عند حديثهم عن كيفية قتل المهاجمين ضحاياهم.

الحياة

 

 

 

 

كي لا يحقق «داعش» هدف يوم الجمعة الأسود!/ صالح القلاب

المفترض بعد جريمة مساء الجمعة الدامي في باريس أن يكون هناك اجتماع عاجل، غير اجتماع البيئة الذي استضافته العاصمة الفرنسية، تحضره الدول الفاعلة المعنية بالأزمة السورية، ليس للترحُّم على أرواح الضحايا ولا للأخذ بخاطر الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، ولكن لـ«تقييم» الأمور وتحديد الأسباب والمسببات التي أبقت على تنظيم داعش الإرهابي وجعلته يضرب، خلال أيام قليلة، أهدافًا رئيسية، أكثرها قسوة وأشدها بشاعة ما تم قبل خمسة أيام في عاصمة النور والإشعاع والحضارة، التي اضطر الجنرال بيتان للتعامل مع النازيين ليجنبها الدمار والخراب الذي حلَّ بمدن أوروبية كثيرة بينها لندن، التي لا يزال بعض أهلها يكتشفون مخلفات الغارات الجوية على بعض أحيائها الجميلة، في الحرب العالمية الثانية.

كان يجب أن تسارع الدول الفاعلة المعنية بالأزمة السورية، التي رافقتها منذ قبل أربعة أعوام وحتى الآن، إلى وقفة نقدٍ ونقدٍ ذاتي لتحديد العوامل التي جعلت «داعش» يتحول إلى دولة نفطية وجعلته بكل هذه القدرة والقوة ليضرب في مناطق متعددة في الوقت ذاته ولينفذ عملية دموية كعملية مساء الجمعة الماضي بالانطلاق من أكثر من دولة أوروبية وبمشاركة ثمانية من الإرهابيين القتلة، من دون اكتشاف ولو خيط واحد من خيوطها، وذلك مع أن المفترض أن هناك تنسيقًا أمنيًا على مدار الساعة بين دول الاتحاد الأوروبي وأن الأجهزة الأمنية الفرنسية في حالة الاستنفار القصوى.

كانت أكبر خطيئة ارتكبتها الولايات المتحدة، بمشاركة بعض الدول الأوروبية التي ذاقت مرارة طعم الإرهاب أكثر من مرة، أنها بقيت مترددة تجاه «داعش» وتجاه نظام بشار الأسد الذي هو في حقيقة الأمر مَن حول هذا التنظيم الإرهابي إلى دولة نفطية، وكانت النتيجة أنَّ معالجة هذا الوضع الخطير فعلاً باتت تتطلب استخدام الأسنان، بينما كان من الممكن معالجتها بالأصابع، فالرئيس الأميركي باراك أوباما المصاب بـ«فوبيا» زجّ القوات الأميركية في تدخل أرضي جديد، إنْ في سوريا أو في غيرها، بعد تدخلها المكلف في أفغانستان وفي العراق، لم يدرك أيضًا مدى الخطورة التي أصبح عليها هذا التنظيم الإرهابي، ويبدو أنه لم يدرك أن الاعتماد على الغارات الجوية قد يضعف هذا التنظيم لكنه لا يمكن أن يقضي عليه أو على الأقل يحوله من حالة الهجوم إلى حالة الدفاع!!

لقد كان على جنرالات باراك أوباما أنْ «يُفهمُوه» أن هناك مبدأ عسكريًا «استراتيجيًا»، يقول «إنه إذا كان لا بد في النهاية من مواجهة الخصم وقتاله فإنه عليك أن تكون من يضرب أولاً»، وأن عليهم أنْ يذكروه بأن فلاديمير إليتش لينين فيلسوف الثورة البلشفية التي أنجبت الاتحاد السوفياتي، قد قال وفي ذروة انتصار هذه الثورة: «إنك إنْ تمكنت من أن تسقط خصمك أرضًا فإنَّ عليك ألا تدعه يقف لأنه إنْ وقف فإنه سيسقطك أرضًا».

إن هذا هو الخطأ الأول الذي ارتكبه الرئيس باراك أوباما وارتكبته إدارته بالنسبة للأزمة السورية، أما الخطأ الثاني فهو الركض وراء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دون إدراكه، ولعل مصيبة المصائب على هذا الجانب أنَّ روسيا استمرت تتمسك بثوابتها، التي من بينها بقاء بشار الأسد وعدم المساومة عليه، بينما دأبت واشنطن على التراجع خطوة بعد خطوة، إلى أن جاء هذا الغزو العسكري الروسي لسوريا، الذي وضع الأميركيين أمام مستجدات لم يكونوا يتوقعونها، فكانت النتيجة أنهم أصيبوا بكل هذا الارتباك، وأنهم لم يجدوا إلا سفينة «فيينا» ليضعوا أنفسهم فيها وهم يعرفون سلفًا أنها غارقة لا محالة.

لقد صعَّد الأميركيون في البدايات وقدَّموا دعمًا معنويًا وغير معنوي للمعارضة السورية، الائتلاف الوطني والجيش الحر، لجَعْلِ العالم يعترف بها ممثلاً للشعب السوري ويتعامل معها على هذا الأساس، لكن باراك أوباما فاجأ حلفاءه وأخصامه بانجراره وراء الروس في مناورة «تنْظيف» سوريا وتجريدها من الأسلحة الكيماوية، وكانت النتيجة أن فلاديمير بوتين قد حقق ما يريده وأن الولايات المتحدة قد تخلت عمليًا عن فصائل وتشكيلات المعارضة السورية، مما أصابها بالوهن والإعياء، وجعل بعض المنتمين إليها، خاصة مِنْ العسكريين، يغادرونها حتى إلى «داعش» وبعض الفصائل المتشددة الأخرى.

ويقينًا لو أن الرئيس باراك أوباما أدرك بالنسبة لمواجهة «داعش» أنَّ آخر الدواء في مثل هذه الأمور هو الكَي، ولو أنه بالإضافة إلى الغارات الجوية دفع التحالف، الذي تم تشكيله للقضاء على هذا التنظيم الإرهابي، إلى مواجهة أرضية، وعلى طريقة تنظيف السجاد العجمي، لما كانت الأمور قد وصلت إلى ما وصلت إليه، ولما أصبح هذا الوباء القاتل متجذرًا في العراق وسوريا على هذا النحو، وأيضًا لما أصبح، أي هذا التنظيم، قادرًا على تنفيذ عمليات بحجم عملية مساء يوم الجمعة الماضي في باريس، هذه العملية الدموية التي أوجعت ضمائر الفرنسيين، وأدمت قلب كل صاحب ضمير إنساني في العالم بأسره.

لا يجوز أن تبقى الولايات المتحدة تضع كل بيضها في السلة الروسية، فروسيا، كما أوضح وزير خارجيتها سيرغي لافروف في المؤتمر الصحافي الذي جرى عقده بعد «فيينا2»، لها حسابات غير حسابات الولايات المتحدة، ثم ومع أن بشار الأسد لا يرغب في كل ما يعرضه عليه الروس الآن وكما كان أبوه لا يرغب في «بريسترويكا» ميخائيل غورباتشوف، إلا أنَّ ما بات في حكم المؤكد هو أنَّ موسكو تريد في الحقيقة إعادة الأمور في سوريا إلى ما كانت عليه قبل عام 2011، ولكن مع بعض الرتوش التجميلية بالطبع، وهذا لا يمكن أن يكون حلاً مقبولاً، ولو في الحدود الدنيا، مما يعني أن المواجهات العسكرية ستستمر على أعنف مما هي عليه الآن وفي أي فترة سابقة.

وهكذا فإما أن يقبل الروس ببيان «جنيف1» وبكل بنوده من دون لفٍّ ودوران، وإما أن تنتقل الولايات المتحدة إلى الدائرة الأكثر جدية وتبادر، بعد الإعداد لهجوم بري على «داعش»، لإخراج هذه الورقة من يد موسكو ومن يد إيران، وبالتالي من يد بشار الأسد، إلى دعم المعارضة (المعتدلة) ولملمة شملها، وإلى السعي جديَّا لإقامة المنطقة العازلة التي يجري الحديث عنها على الحدود السورية – التركية، وإلى العمل على خط مجلس الأمن الدولي لاعتبار أن كل المجموعات المذهبية التي استقدمتها إيران لذبح أبناء الشعب السوري، ومن بينها الحرس الثوري وحزب الله اللبناني، تنظيمات إرهابية على غرار تنظيم داعش الإرهابي.

ثم وكي لا يحقق «داعش» أحد أهم وأخطر أهداف الجريمة النكراء، التي نفذها مساء يوم الجمعة الماضي، فإنه على الفرنسيين والأوروبيين عمومًا ألا يسمحوا لليمين الفرنسي والألماني والبلجيكي والبريطاني واليمين الأوروبي كله بأن يجر شعوب هذه البلدان إلى حملات عنصرية ضد مواطنيهم من أصول جزائرية ومغربية وتونسية وموريتانية ومن أصول مشرقية عربية، سورية وغير سورية، وضد المسلمين الذين غدوا أوروبيين منذ فترات بعيدة وقريبة، فهذا في حقيقة الأمر إنْ حصل فإنه سيكون أسوأ كثيرًا مما حصل في باريس في ذلك المساء الأسود، وهذا سيكون كارثة الكوارث، وسيسيء على وجه الخصوص لما أرسته الثورة الفرنسية المجيدة من قيم حضارية وإنسانية في المجتمع الفرنسي وفي مجتمعات الغرب كلها.

وحقيقة، حتى نكون أكثر وضوحًا وصراحة، فإن هناك بعض المؤشرات التي تدل على أنه قد تنفذ بعض تشكيلات اليمين الأوروبي الغربي بعض الأعمال ذات الطبيعة العنصرية ضد اللاجئين السوريين وضد الأوروبيين من أصول «مغاربية» وعربية، وهذه مسألة يجب أن يأخذها اجتماع غدٍ الجمعة الأمني بعين الاعتبار، فالمفروض أن مسؤولي أوروبا وقادتها يعرفون أن «داعش» يسعى لإشعال نيران حروب دينية في هذه المنطقة المستقرة من هذا الكون المضطرب، ولذلك فإنه لا بد من قطع الطريق على هذه المؤشرات الخطيرة، وإنه لا بد من تصدٍّ إعلامي جدي لما يروّج له اليمين العنصري في بعض هذه الدول، خاصة في فرنسا وبلجيكا وألمانيا وبعض الدول الاسكندنافية.

الشرق الاوسط

 

 

 

 

تنظيم الدولة في فرنسا: ليس الحل سحريا/ بدرالدين عرودكي

لن يُنظر إلى ما حدث مساء يوم الجمعة 13 تشرين ثاني/نوفمبر 2015 بوصفه حدثاً عابراً. ولا يمكن أن يعامل على أنه كذلك. فمنذ أن قررت فرنسا المشاركة في ضرب تنظيم الدولة في سوريا بعد اقتصارها من قبل على العراق، بدأ ترقب رد الفعل يشغل دوائر الأمن الداخلي والخارجي فيها مثلما يشغل السياسيين.

في 11 كانون الثاني/يناير من العام الحالي وُجِّهت الضربة لصحيفة سياسية ساخرة «شارلي إيبدو» أريد لها أن تلعب دور الرمز من خلال قتل معظم صحافييها. واكتشف الفرنسيون جميعاً أن الفاعلين فرنسيو الجنسية مولداً ونشأة، ومن الجيل الأول أو الثاني، رغم أصولهم الثقافية العربية أو الإسلامية البعيدة.

قيل الكثير يومها: عن الإرهاب والحرب ضد الإرهاب، مثلما سال حبر الكتاب من أجل تحليل هذا الحدث ومعانيه وكذلك لعاب المعلقين الصحافيين وهم يحتلون الشاشات يجادلون ويحاججون. ثم قيل أكثر من مرة إن الدوائر الأمنية قد أحبطت أكثر من عملية إرهابية كان يتم الإعداد لها. لكن ذلك لم يكن يحمل الطمأنينة إلى أحد. لا إلى المسؤولين السياسيين والأمنيين، ولا إلى الناس الذين استغرقوا من جديد في حياتهم اليومية لاسيما وأن المستهدفين من هذه العملية الإرهابية كما روجت وسائل الإعلام كانوا المعنيين مباشرة بالموضوع، وليس ذلك حال بقية الفرنسيين.

فقد توالت العمليات الإرهابية خلال عام 2015 منذ عملية «شارلي إيبدو» بلا توقف، في نيسان/ابريل ثم في حزيران/يونيو ، ثم في تموز/يوليو حين قبض على أربعة شباب تتراوح أعمارهم بين 16 و23 عاماً كانوا يحاولون الهجوم على معسكر للجيش الفرنسي في منطقة البيرنيه الشرقية، ثم في آب/اغسطس حين حيل بين الإرهابيين وتنفيذ عمليتهم من قبل بعض المسافرين في القطار، وأخيراً عملية 29 تشرين أول/اكتوبر التي أحبطت قبل وقوعها والتي كانت تستهدف السلاح البحري في مدينة طولون بجنوب فرنسا.

هكذا، بدت عمليات 13 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي كما لو أنها جاءت لا لكسر التقليد السائد في العمليات الإرهابية التي نفذت في فرنسا وفي مختلف الدول الأوروبية فحسب بل لتثبت أن ما حدث في بداية العام كان مجرد تمهيد لما سيأتي، وأن كل التصورات التي حملها هؤلاء وأؤلئك، من أيديولوجيي الأحزاب الفرنسية أو من المسؤولين السياسيين الحاليين أو السابقين في اليمين وفي اليسار، أو من «المحللين الاستراتيجيين»، كانت قاصرة عن رسم الصورة في كل أبعادها، تلك التي رسمها تنظيم الدولة بباريس أخيراً في عملياته الإرهابية.

لنتأمل في عناصر هذه الصورة:

التاريخ والتوقيت: اليوم جمعة، والتاريخ 13 تشرين الثاني، عشية عطلة نهاية الأسبوع التي يمرح فيها شباب باريس (ست عمليات تمَّت خلال أربعين دقيقة).

المكان: أماكن التسلية التي تجمع عادة فرنسا بألوانها المختلفة (ملعب كرة القدم في ضاحية سان دني)؛ قاعة للحفلات الموسيقية بباريس: «باتاكلان»؛ وأرصفة مقاهٍ ومطاعم في الدائرتين العاشرة والحادية عشر الباريسيتين: شارع بيشا، وشارع فونتين أو روا، وشارع شارون وشارع فولتير.

الضحايا: 132 قتيلاً و412 جريحاً ينتمون إلى 26 جنسية مختلفة، معظمهم بالطبع من الفرنسيين. وكانت الغالبية العظمى من القتلى والجرحى تضم من هم في سن الشباب.

منفذو العمليات الست: شباب فرنسي أو بلجيكي ذوي أصول عربية، لا تتجاوز أعمار أكبرهم سناً الثامنة والعشرين.

لكن الأهم، هو أن ثمة في هذه العمليات مراتٍ أولى: تفجير بعض منفذي العمليات أنفسهم ليقتلوا أكبر عدد حيث يتواجدون من حولهم. أيضاً الذين نجوا من موت محقق وأمكن لهم أن يقدموا شهاداتهم قدموا وصفاً لمشاهد القتل في مختلف الأماكن المشار إليها تقشعر لها الأبدان. قتلة يمارسون القتل بدم بارد وهم يحدقون في عيون ضحاياهم، يصيبون خبط عشواء أناساً كانوا يتساقطون قتلى أو جرحى قبل أن يتمكنوا من وعي ما يحدث لهم. ذنبهم الوحيد أنهم تواجدوا في ذلك اليوم في ذلك المكان في تلك الساعة وما كان بوسعهم الدفاع عن أنفسهم. كان هدفهم من اختيار المكان والزمان قتل أكبر عدد ممكن من الشباب في أعمارهم. من هنا احتلالهم لقاعة الباتاكلان الحافلة بالبشر من كل فئات الأعمار والجنسيات. ومن هنا محاولتهم الوصول إلى ملعب فرنسا المدرج حيث كانت تجري مباراة كرة القدم، ثم استهداف الناس على أرصفة المقاهي حيث كان الشباب أفراداً وجماعات يتسامرون أو يتناولون العشاء. ولكن لماذا؟

سارع بعض الصحافيين إلى تفسير هذه الضربة لتنظيم الدولة بوصفها رداً على قصف فرنسا لها في سوريا. وندر أن كتب أحدهم شيئاً يتجاوز التفسير السطحي لما حدث ويحدث في فرنسا وفي سواها من أعمال إرهابية. وكالعادة، هناك مشجب تعلق عليه كل هذه الأفعال: الإسلام والتطرف الإسلامي. مشجب مريح يستخدمه اليمين واليسار بلا تقتير. نسوا جميعاً ما كان جان بودريار قد كتبه في تحليل العمليات الإرهابية وتشخيص الفعل الإرهابي وفاعليه والمستهدفين منها في المجتمعات الغربية: «…الحدث الأساسي يتمثل في أن الإرهابيين قد كفوا عن الانتحار انتحاراً يتجلى محض خسارة. ذلك أنهم يضعون موتهم في الرهان بطريقة هجومية وفعالة، وحسب حدس استراتيجي هو بكل بساطة الحدس بهشاشة الخصم الهائلة: هشاشة نظام وصل إلى شبه الكمال ومن ثم فقد صار فجأة حسّاساً لأقلِّ شرارة. لقد نجحوا في أن يجعلوا من موتهم سلاحاً مطلقاً ضد نظام يعيش على استبعاد الموت ويقوم مثله الأعلى على عدد صفر من الموتى. كل وسائل التدمير والترهيب والتدمير لا تستطيع شيئاً ضد عدوٍّ جعل من موته سلاح هجوم مضاد..». وحين ينبري مفكر سياسي مثل فيليو ليقول بالحرف الواحد «إن ما يعمل عليه تنظيم الدولة لا يستهدف جعلنا ندفع ثمن ما يجب أن تكون عليه سياستنا، أو ما نفعله، بل إنهم يستهدفون ما نحن عليه. إنهم يريدون أن نقتل المسلمين في فرنسا انتقاما مما فعلوه. مايريدونه، هو قيام حرب أهلية في فرنسا»، يبدو وكأنه صوت نشاز في جوقة اعتادت تكرار لحن واحد: الإسلام والتطرف الإسلامي!

المشكلة على مختلف الأصعدة، السياسية والإعلامية، أن الجميع ظنوا أن الأمر انتهى بعملية «شارلي إيبدو» في كانون الثاني/يناير الماضي، في حين أنها، كما ثبت فيما بعد، لم تكن إلا البداية.

ربما كان تشخيص المشكلة على الصعيد السياسي في الأساس يشكو من قصور خطير لا في الولايات المتحدة أولاً، منذ 11 أيلول/سبتمبر 2001، بل في أوروبا وفي فرنسا. ذلك أن تصريحات الرئيس الفرنسي ورئيس وزرائه، لم تكن تخرج عن السياق العام في رؤية مشكلة تنظيم الدولة، ومن قبله القاعدة، وفروعها الدولية من أفغانستان حتى المغرب الأقصى: «نحن في حرب ضد الإرهاب». كان ذلك تصريح الرئيس الأمريكي حين أقامت الولايات المتحدة التحالف الدولي لضرب التنظيم الذي استعاده الرئيس الفرنسي حرفياً حين انضمام فرنسا إلى هذا التحالف ثم حين اتخاذه القرار بضربها في سوريا.

كان دومينيك دوفيلبان، رئيس الوزراء الفرنسي السابق، قد بيّن بجلاء مشكلة هذا التعبير في ندوة تلفزيونية أذيعت في أيلول/سبتمبر الماضي كان يشاركه فيها هوبير فيدرين، وزير الخارجية السابق. ففي تبرير رفضه لهذا التعبير «نحن في حرب مع تنظيم الدولة»، يُذَكِّرُ بأن الحرب تُخاض ضد جيوش نظامية، وأن الحرب ضد الإرهاب ضمن المفاهيم والطرق المعلنة لن تنتصر لأن الفشل معلن سلفاً. ذلك «أن يد الإرهاب غير مرئية، إنها يد متحوِّلة، متغيرة، انتهازية. ولا يمكن القتال ضد يد لا مرئية بأسلحة الحرب التقليدية. لابد من استخدام قوى العقل، والحيلة، ووسائل السلم من أجل فكِّ عرى القوى التي تلتصق بهذه القوى الإرهابية. لابدّ من استراتيجية سياسية، لابد من رؤية سياسية، وقدرة على تفكير الفعل فيما وراء القصف والعمل العسكري بالمعنى الحرفي للكلمة.»

دوفيلبان: نحن من أنجب

تنظيم الدولة في قسم كبير منه

لكن الأخطر في قول دوفيلبان ما يتعلق بتنظيم الدولة. يقول: «لنكن واعين أن تنظيم الدولة، نحن من أنجبه في قسم كبير منه. من الحرب عام 2003 إلى 2011، إلى التخلي عن الثوار السوريين. ثمة حلقة مفرغة حبسنا أنفسنا فيها لم تكن غير فعالة فحسب بل خطيرة أيضاً، لأن منطقة الشرق الأوسط، ويمكننا الحديث عن مجمل العالم العربي والإسلامي، حافلة بالأزمات، مغطاة بالجروح المميتة بينما تعيش أزمة تحديث عميقة وفي القلب منها أزمة اجتماعية تطال في الأعماق الطبقات الفقيرة والطبقات الوسطى بسبب الفساد والموارد النفطية وغياب العدالة الاجتماعية. قسم كبير من هؤلاء الجهاديين جاؤوا من هذه الطبقات المتوسطة». وعلى أن فيديرين وافق دوفيلبان في حججه الأساس واعتبر أن تعبير «الحرب ضد الإرهاب» خطأ في الأساس وفي الإعلام، إلا أنهما كلاهما لم يشيرا إلى أنه وإن كان صحيحاً توصيف المشكلة في العالم العربي رغم نسيان العنصر الأساس فيها: نظم الحكم الاستبدادية، فإن المشكلة تمسّ أيضاً بنى المجتمعات الغربية عموماً والمجتمع الفرنسي خصوصاً الذي لم يستطع حتى الآن حل مشكلة استيعاب الأجيال المتعاقبة الفرنسية من أبناء المهاجرين، لا على الصعيد الثقافي فحسب بل وكذلك على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي. وإلا كيف يمكن تفسير انضمام العشرات بل المئات من الشباب الفرنسيين المنتمين إلى الجيل الأول أو الثاني من أبناء المهاجرين المغاربة إلى تنظيم الدولة؟ ألم يكن منفذو عمليات 13 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي فرنسيين وبلجيكيين خريجي المدارس العامة في البلدين، ثم ثاروا حتى على أبناء جيلهم حين قبلوا القيام بهذا النوع من العمليات؟

العضوية

بين تنظيم الدولة والأسد

أحد المفكرين السياسيين الفرنسيين الذين لم يكفوا عن التنبيه إلى العلاقة العضوية بين تنظيم الدولة والأسد، وإلى أن الفصل بينهما في معالجة مشكلة العمليات الإرهابية التي يقوم بها تنظيم الدولة سوف تؤدي إلى مجازر أخرى، هو جان بيير فيليو. تتمثل أهمية هذا التنبيه في كشفه عن تعقيد المشكلة التي يطرحها تنظيم الدولة على المجتمعات الغربية خصوصاً. مشكلة ذات وجوه متعددة: سياسية، وأمنية، وعسكرية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية؛ مثلما أنها ذات مستويات متعددة: داخلي، وأوروبي، ودولي. ومن هنا فإن الاقتصار على اختصار مشكلة تنظيم الدولة بموضوع الهجرات الأجنبية كما يفعل اليمين الفرنسي، أو بوضع الإسلام والمسلمين موضع اتهام كما تفعل الكثرة من السياسيين والصحافيين، أو على اعتبارها مشكلة عسكرية يمكن حلها بشن الحرب على التنظيم في عقر داره، يتجلى عاجزاً عن الإحاطة بمختلف العناصر التكوينية لهذه المشكلة والتي لن يتم الانتصار عليها كما نشهد جميعاً في أي حرب عسكرية تخاض ضده، ولا في التنديد بالمسلمين الذين يعيشون في المجتمعات الغربية، ولا بالحد من الهجرات التي لم تتوقف يوماً رغم كل محاولات إيقافها من اليمين أو من اليسار.

ليس الحلّ سحرياً. وهو أيضاً، في تعقيده، لا يقل عن تعقيد المشكلة كما تجلت في وجه من وجوهها إثر عمليات التنظيم في باريس أي في ردود الفعل كما تجلت في تعبير العالم عن التضامن الحار مع فرنسا، مثلما تجلت ولا تزال في غضه النظر بلامبالاة عما يحدث في سوريا منذ خمس سنوات.

القدس العربي

 

 

 

 

 

«فعل حرب» ضد فرنسا.. وحرب سياسة على أولاند: هجمات باريس أنعشت خطاب اليمين وأعادت حديث الحرب على الإرهاب/ آدم جابرا

باريس ـ «القدس العربي»:حالة من الخوف والترقب تلك التي تعيشها فرنسا بشكل عام، والعاصمة باريس وضواحيها بشكل خاص، عقب الاعتداءات الدامية التي شهدتها المدينة الجمعة 13 من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، وراح ضحيتها 129 قتيلا وأكثر من ثلاثمائة جريح. حالة الترقب هذه تأتي بعد تحذير رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس من خطر استخدام الإرهابيين أسلحة كيميائية وجرثومية في هجمات إرهابية جديدة «محتملة». وقد جدد الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند دعوته الشعب إلى «عدم الاستسلام للخوف». بينما وجهت المعارضة سهام انتقاداتها إلى الحكومة متهمة إياها بالتقصير في مكافحة الارهاب.  وشدد أولاند، في خطاب استثنائي أمام البرلمان الفرنسي بغرفتيه، في قصر فرساي، على أن فرنسا في «حالة حرب ضد الإرهاب» متمثلا في تنظيم «الدولة الإسلامية»، وأعلن عن مجموعة من الإجراءات الداخلية والخارجية لمكافحة الإرهاب.

على الصعيد الداخلي، طلب أولاند تمديد حالة الطوارئ لمدة 3 أشهر. ودعا في الوقت نفسه إلى مراجعة الدستور الفرنسي، حتى يتسنى للسلطات العامة «التحرك ضد الإرهاب الحربي». كما أعلن الرئيس الفرنسي عن تعزيز إمكانات أجهزة الشرطة والدرك والقضاء بـ8500 وظيفة إضافية مع حلول عام 2017، أي مع نهاية فترته الرئاسية.

خارجيا، شدد أولاند على أن تنظيم الدولة الإسلامية هو «العدو الرئيسي» لفرنسا والعالم، الأمر الذي وصفه مراقبون بالتحول في الموقف الفرنسي إزاء الأزمة السورية؛ فقد تمسكت باريس طويلا قبل اعتداءات الأخيرة، تمسكت بأن تنظيم «الدولة الإسلامية» والنظام السوري وجهان لعملة واحدة. وهو الموقف الذي دافع عنه بقوة وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس في أكثر من إطلالة إعلامية له بمقولة «لا الأسد ولا الدولة الإسلامية». وقد عزز موقف فابيوس مرارا بموقف مشابه من وزير الدفاع جان ايف لودريان، الذي طالما اعتبر أن تنظيم «الدولة الإسلامية» هو عدو فرنسا وأن «بشار الأسد عدو شعبها»، حتى أن لودريان كان قد سعى منذ فترة طويلة إلى أن تتدخل فرنسا عسكريا في سوريا لقصف معاقل التنظيم.  مع الساعات الأولى لما بعد اعتداءات باريس، أعلن الرئيس الفرنسي عزم بلاده تكثيف عملياتها الجوية في سوريا لدحر «الدولة الإسلامية». وأعطى بعد ذلك بقليل أمرا بتسيير حاملة الطائرات «شارل ديغول» إلى شرق البحر المتوسط، وعلى متنها 26 مقاتلة فرنسية، فضلا عن 12 مقاتلة أخرى مرابطة في كل من الإمارات العربية المتحدة والأردن، ما سيتيح لفرنسا حسب وزير دفاعها مضاعفة قدراتها ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا.

حرب سياسية.. على أولاند!

أحزاب المعارضة الفرنسية تعاملت مع هذه الإجراءات بطريقة «نعم ولكن؟» مرحبة بتمديد حالة الطوارئ والحزم المصاحبة من الإجراءات المعلن عنها من قبل الرئيس الفرنسي. إلا أن ذلك لم يمنع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، الزعيم الحالي لحزب «الجمهوريين» اليميني، من توجيه سهام الانتقادات إلى حكومة مانويل فالس، متهما إياها بـ»إهدار وقت كثير» منذ الهجوم على مجلة «شارلي إيبدو» الساخرة ، في شهر كانون الثاني/يناير الماضي.

وطالب ساركوزي بحزمة جديدة من الإجراءات على غرار وضع الشرطة «سواراً إلكترونياً في أيدي المتطرفين المقيدين في سجلات الشرطة، لتتمكن الاستخبارات من مراقبتهم عن كثب»، كما طالب بتجريم الأشخاص الذين يدخلون مواقع الجماعات المتطرفة على الانترنت.

على هذا المنوال أو بخطاب أكثر راديكالية، واصلت زعيمة حزب «الجبهة الوطنية» المتطرف، مارين لوبان، والمعروفة بمعاداتها للأجانب والمسلمين في فرنسا، قائلة إن الدولة الفرنسية أضعفت بسبب الهجمات الإرهابية الأخيرة وتعامل الحكومة معها. وشددت على ضرورة أن تستعيد فرنسا حدودها الوطنية وأن تعمل الحكومة الاشتراكية الحاكمة على إيقاف «تدفق المهاجرين» وبأسرع وقت ممكن وفق قولها، ولم تفوّت زعيمة اليمين المتطرف الفرصة كي تدعو إلى حظر جميع المنظمات الإسلامية وإغلاق المساجد «المتشددة» و»طرد الأجانب الذين يدعون إلى الكراهية من الأراضي الفرنسية».

ويعتبر الربط بين الإسلام المتطرف والهجرة، أنشودة قديمة متجددة لزعيمة اليمين المتطرف، لكن يرى متابعون للشأن الفرنسي أن لوبان تناست أنشودتها هذه فيما يتعلق باعتداءات يوم الجمعة، ذلك أن خمسة من بين الانتحاريين الذين نفذوا هجمات باريس، تبين أنهم فرنسيون وليسوا مهاجرين قادمين من سوريا أو غيرها.

في المقابل بدا الرد واضحا من الرئيس الفرنسي بشأن اللاجئين، حيث أكد أن بلاده لن تتردد في استقبال اللاجئين الفارين من الموت، وأنها ستحترم القرار السيادي الذي تعهدت به والقاضي باستقبال 30 ألف لاجئ، ولكن ذلك سيتم، بحسب أولاند، بعد التأكد من أنهم يريدون فعلاً اللجوء. وأوضح الرئيس المحسوب على التيار اليساري أن تعديلات ستطرأ على قانون استقبال اللاجئين، تسمح بسحب حق اللجوء من الأشخاص الذين يهددون أمن فرنسا.

كما وجهت مجموعة أخرى من السياسيين انتقادات لاذعة لحكومة فالس بشأن «علاقاتها الجيدة مع دول تقوم بتمويل جماعات جهادية تعتمد ما سموها بـ»الأيديولوجية الوهابية»، بل إن زعيم حزب اليسار جان لوك ميلانشون ذهب أبعد من ذلك متهما بعض الدول الغربية المشاركة في التحالف الدولي ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، بشراء بترول هذا التنظيم عن طريق تركيا كوسيط. فيما تحدثت صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية، من جهتها، عن وجود منح مالية تصل إلى التنظيم، من طرف منظمات إسلامية غير حكومية، في تركيا والسعودية.

وفي رد له على هذه الاتهامات، أكد وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس أن الأجهزة الفرنسية المعنية قامت بعمليات التثبت الضرورية، وبأن ما تملكه الحكومة من معطيات لا يخول لها توجيه الاتهام لحكومات هذه الدول، وأوضح فابيوس أنه في حال ثبت ذلك في المستقبل، فإن علاقات بلاده مع تلك الدول ستتغير حتما بشكل كامل.

«ثغرات».. في مكافحة الإرهاب

في سياق متصل، تواجه السلطات الفرنسية انتقادات وتساؤلات عديدة من قبل بعض المراقبين ووسائل الإعلام، حول «عيوب منظومة الاستخبارات الأوروبية»، فعلى الرغم  من أن القوات الأمنية  الفرنسية حققت تقدما مهما، في إطار التحقيقات الجارية بشأن اعتداءات باريس، ونجاحها ـ أي القوات الأمنية ـ في القضاء على المدعو عبد الحميد أباعود الملقب بأبي عمر البلجيكي (28 عاما)، والذي يعتبر العقل المدبر لهجمات باريس، غير أن  تواجده في ضواحي العاصمة الفرنسية عنى ـ وفق المراقبين ـ فشلا ذريعا لسلطات مكافحة الإرهاب الأوروبية وفي طليعتها الفرنسية، بالأخص وأن أباعود كان معروفا لدى أجهزة الاستخبارات كأحد أخطر عناصر تنظيم «الدولة الإسلامية»، ومع ذلك استطاع العودة إلى الأراضي الأوروبية العام الماضي، بعد رحلة إلى سوريا ليخطط لهجمات باريس ومن داخل أراضي الجمهورية الفرنسية.

يضاف إلى ذلك، أن المدعو صلاح عبد السلام (26 عاما) المشتبه في أنه هو من استأجر السيارات الثلاث التي استخدمت في هجمات باريس، وشقيق أحد انتحاريي قاعة باتاكلان في باريس، كان يتحرك بحرية تامة بين الدول الأوروبية، خلال الأشهر الأخيرة ودون أن يتعرض لأي مضايقة، على الرغم من كونه هو الآخر مسجلا ومعروفا لدى الاستخبارات البلجيكية والفرنسية بتورطه في أعمال سرقة وتهريب مخدرات وعمليات سطو في بروكسل مع عبد الحميد أباعود العقل المدبر لهجمات باريس. ويحمل كل من أباعود وعبد السلام الجنسية البلجيكية.

إخفاق آخر يسجل للاستخبارات الفرنسية، يتعلق هذه المرة بإطلاقها سراح الفرنسي المدعو فابين كلين، وهو الذي ظهر لاحقا وهو يتلو نص البيان الذي يتبنى تنظيم «الدولة الإسلامية» فيه هجمات باريس. وكانت السلطات الفرنسية قد أطلقت سراحه في العام الماضي، بعد أن قضى أعواما خمسة في السجن مدانا بانضمامه إلى مجموعة متطرفة كانت تضم أيضا محمد مراح، منفذ الهجوم في مدينة تولوز عام 2012 والذي قتل فيه سبعة أشخاص. كما سبق لكلين أن هدد باستهداف قاعة باتاكلان ذاتها، لاشتباهه بأن مالكيها يهود صهاينة.

وقد لعب كلين دورا كبيرا في إقناع شباب فرنسيين بالانضمام إلى صفوف تنظيم «الدولة الإسلامية»، والذين تقدر السلطات الفرنسية عددهم بـ 600 شخص توجهوا إلى سوريا والعراق. وقد عاد منهم 250  إلى فرنسا، من بينهم عبد الحميد أباعود الذي يصنف «إرهابيا خطيرا». كما نشرت له صور، خلال فصل الشتاء المنصرم، في مجلة «دابق» التي يصدرها تنظيم «الدولة الإسلامية»، وهو يفتخر بأنه نجح في الذهاب إلى بلجيكا للتخطيط لعملية أحبطت بعد مداهمة قامت بها الشرطة البلجيكية ثم عاد إلى سوريا من دون أن يتم رصده.

ويبدو أن الاتهامات التي انصبت على أجهزة الأمن الفرنسية حول «إخفاقاتها» دفعت ببعض الشخصيات الفرنسية إلى رمي الكرة في اتجاه الجانب البلجيكي، متهمين الأجهزة الأمنية البلجيكية بالتقصير وبأنها تتحمل مسؤولية السماح لخلية جهادية بالتخطيط من بروكسيل لشن هجمات في العاصمة الفرنسية. وقد خاطب القائد السابق لجهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسي، آلان شوات، السلطات البلجيكية قائلا إن البلجيكيين ومع أن لديهم العدد الأكبر من المتوجهين إلى سوريا من بين الدول الغربية إلا انهم ليسوا في المستوى.

الرد البلجيكي أتى سريعا، عبر  تصريح وزير الخارجية ديدييه ريندرس، الذي أوضح أن البلجيكيين  كانوا أول من تحمل الصدمة العام الماضي في المتحف اليهودي ببروكسل، والذي قتل فيه أربعة أشخاص، مشيرا إلى أن مرتكب هذا الاعتداء كان فرنسيا عائدا من سوريا، وأن ثلاثة فقط من مرتكبي هجمات باريس هم من قدموا من بلجيكا، أما الخمسة الباقون فهم فرنسيون.

وتشكل اعتداءات باريس سابقة من نوعها في أوروبا يتم فيها استخدام الأحزمة الناسفة في الأماكن المكتظة بالمدنيين. فالتصور السائد أن هذا النوع من الهجمات الإرهابية يحدث غالبا في البلدان التي تعيش «حالة حرب» على غرار أفغانستان. ومما لفت النظر أن منفذي هجوم باريس لم يعملوا كـ»ذئاب منفردة» خلال عملياتهم في قلب العاصمة الفرنسية، بل تحركوا ضمن خلية منظمة وبشكل متزامن. كما أن الجديد الآخر الذي أتت به هجمات باريس وتبعاتها هو بروز أول انتحارية في أوروبا، وهي قريبة عبد الحميد أباعود، العقل المدبر لتفجيرات باريس وتدعى حسناء آيت ولحسن الفرنسية من أصول مغربية، والبالغة من العمر 26 عاما. وقد فجرت نفسها داخل الشقة التي داهمتها الشرطة الفرنسية فجر الأربعاء، الشقة ذاتها التي لقي فيها أباعود حتفه واعتقل ثلاثة آخرون يشتبه في ضلوعهم في اعتداءات باريس.

القدس العربي

 

 

 

 

هجمات باريس: حسابات «تنظيم الدولة» وصورة المستقبل/ إبراهيم درويش

السؤال الذي طرح في أعقاب هجمات باريس يوم الجمعة 13/11/2015 دار حول معاني استهداف تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام فرنسا وللمرة الثانية في أقل من عام. وحاول معظم المحللين فهم «التحول» في استراتيجيته ونقله للمعركة من «العدو القريب» إلى «العدو البعيد» وتساءلوا إن كانت هناك صلة بين العمليات الأخيرة في سيناء وبيروت وأنقرة والتراجعات التي عانى منها التنظيم في الأشهر الأخيرة وكان آخرها انسحابه من سنجار في شمال العراق بعد عملية أمريكية ـ كردية. ورغم وجود صلة بين الداخل والخارج في استراتيجية تنظيم الدولة إلا ان مجلة «إيكونوميست» (21/11/2015) نقلت ما قاله منشق لصحافي أمريكي من أن تشديد الرقابة على الحدود التركية وتراجع نسب المتطوعين الأجانب تعتبر عاملا مهما في قرار نقل المعركة للعدو البعيد. وتساءلت المجلة قائلة إن التنظيم لم يكن بحاجة لنقل المعركة والقيام بمهام خارجية خاصة أن هناك 36 جماعة أقسمت الولاء لزعيمه أبو بكر البغدادي. وأحصت صحيفة «نيويورك تايمز» عدد القتلى الذين سقطوا منذ بداية العام الحالي بسبب العمليات التي نفذتها الفروع بحوالي 1.000 شخص سواء كانت جراء هجمات انتحارية في اليمن أو تونس والسعودية أو تلك التي نفذتها جماعة بوكو حرام في نيجيريا.

ومع ذلك فالعمليات الخارجية هي جزء من شعاره «باقية وتتمدد» فالتوسع يشمل مناطقه التي عزز فيها سلطته في العراق وسوريا. ويشمل جذب الجهاديين وتدريبهم وتشجيع «الذئب المتوحد» لانتهاز الفرص والحصول على بيعات جديدة. وأشارت «إيكونوميست» إلى أن تنظيم الدولة يتمتع بنوع من الحكم الفاعل، فعائدات النفط الشهرية التي تقدر بحوالي 50 مليون دولار كفيلة بتوفير المواد الغذائية الرخيصة الثمن والخدمات الأساسية ورواتب البيروقراطية. بل وأشار التقرير لقدر من الأمان الذي تتمتع به هذه المناطق. ونقلت عن عمال إغاثة أتراك قولهم إن ما يزيد عن 70.000 لاجئ سوري هربوا لمناطق «الدولة» في الشهرين الماضيين ومنذ بداية التدخل الروسي نهاية شهر إيلول/سبتمبر. ومن هنا يظل قرار التنظيم نقل المعركة للخارج وإن كان مرتبطا بتداعيات داخلية تحولا خطيرا وسيؤدي بالتأكيد لارتدادات سلبية على «الدولة» في وجه القوة المعادية.

وكما ترى مجلة «إيكونوميست» فالقوة القتالية التي يتمتع بها مقاتلوه لن توازي القوة القتالية التي يتمتع بها أعداؤه وهم في الحقيقة كل العالم. فبالإضافة لاستعدائه أمريكا وحلفائها العرب استعدى روسيا التي ظلت مترددة في ضربه وركزت كل هجماتها على المعارضة السورية المعادية لنظام بشار الأسد. وكما يقول نيكولاس بلانفورد في «كريستيان ساينس مونيتور» (18/11/2015) فقد اختار التنظيم محاربة مجموعة من الأعداء الأقوياء القادرين على تهديد «خلافته» البالغة من العمر 18 شهرا. فالهجمات التي جرى التخطيط لها على ما يبدو لعدة أشهر تعكس درجة من التطور وتعبر عن قرار استراتيجي أكثر منه ردة فعل للنكسات التي مني بها في الميدان. ونقل عن يزيد صايغ كبير الباحثين في مركز «كارينغي» بيروت قوله «مع كل هذا الضغط يجب أن يكون هناك تراجع إلى حد ما ولكن واضح أنهم لا يزالون قادرين على القتال». وفي هذا السياق أجرى البعض مقاربة بين هجمات باريس وقرار القاعدة ضرب أمريكا في 9/11/2001 وهو ما أدى لخسارة زعيمها أسامة بن لادن ملجأه الآمن في أفغانستان وبنهاية عام 2001 خسرت القاعدة 80٪ من عناصرها كما لاحظ لورنس رايت. وجرى استحضار التحليل نفسه في سياقات مختلفة، فبحسب البروفسور دانيال بيمان من جامعة جورج تاون تعبر عمليات باريس عن تغير في استراتيجية التنظيم من التركيز على البناء المحلي إلى التمدد الدولي. وأكد أننا لا نعرف عن علاقة القيادة العليا بها وإن كانت عملية محلية؟ أو كانت تعبر عن تغيير في الاستراتيجية؟ وأيا كان الحال فقد استفاد التنظيم من العملية من ناحية الظهور بمظهر حامي حمى الإسلام في العالم واستغلاله لمظالم المسلمين غير تلك التي نتجت عن غزو العراق مثل الرسوم الكرتونية الدانماركية والوحشية الروسية في الشيشان والإعتداء على الحجاب. وكان هجوم «شارلي إيبدو» بداية العام الحالي دليلا على استثمار التنظيم لهذه المظالم، خاصة أن المجلة معروفة بهجومها على النبي محمد. ولا يستبعد الكاتب أن يكون ضرب «العدو البعيد» مرتبطا بتناقص عدد المتطوعين الأجانب. مع أن توسع العمليات الخارجية سيرفع من مكانة التنظيم ويحسن صورته بين الشبان المتعاطفين معه إلا أنه سيعرض قادته لملاحقة وكالات مكافحة الإرهاب الدولية بنفس الطريقة التي تمت فيها تصفية قيادات القاعدة في الباكستان وأفغانستان واليمن والصومال وليبيا. ويرى بيمان أن فتح المعركة على الأعداء جميعا تعني اصطفافهم جميعا ضدك «لو أصبح تنظيم الدولة أكثر طموحا فيحب أن يتوقع العالم أعمالا مروعة جديدة. وفي الوقت نفسه يجب أن يفهم الجميع أن تحولا في استراتيجيته ستكون مكلفة وسيؤثرعلى طموحاته لتحقيق أهدافه على المدى البعيد».

ويرى ويليام ماكانتس الباحث في معهد بروكينغز ومؤلف «قيامة تنظيم الدولة» أن الجهاديين العالميين يخطئون عندما يبدأون بتوسيع المعركة للخارج من مناطقهم الآمنة، ويذكر هنا القاعدة في اليمن التي أقامت عدة إمارات في جنوب البلاد بدايات 2011. وتمت إقامة دولة انفصالية في شمال مالي عام 2012 من فرع آخر للقاعدة وسقطت تلك الدولة بعد عام بدخول القوات الخاصة الفرنسية. وكذلك كانت تجربة الشباب في الصومال حيث سقطت على يد القوات الكينية والاتحاد الأفريقي. ويرى ماكانتس أن تنظيم الدولة بدا حتى وقت قريب حريصا على ألا يستثير أعداءه لمهاجمة «دولته» مباشرة وكان حريصا على السيطرة على الأراضي والحكم أكثر من الإنضمام للثوار السوريين في حربهم ضد نظام الأسد. ونشأ عن هذا الوضع تجنب تنظيم الدولة من جهة والنظام السوري وحلفائه الروس والإيرانيين من جهة أخرى بعضهما في ساحة المعركة. وفي الواقع كان مقاتلي التنظيم والجيش السوري حلفاء بحكم الواقع حيث كانا يقاتلان مجموعات الثوار نفسها. وفي مقال نشرته مجلة «فورين بوليسي» (16/11/2015) تحت عنوان «كيف أعلن تنظيم الدولة الحرب على العالم» قال فيه إن «الدولة الإسلامية ظهرت في الأسبوعين الفائتين على أنها إحدى أكثر الدول الداعمة للإرهاب شراسة إن كنا نصدق دعواها، فأعضاؤها قاموا بمهاجمة دولتين من الخمسة الأعضاء الدائمين لمجلس الأمن- فرنسا وروسيا. وكان الهجوم في باريس يوم الجمعة هو الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية وكان اسقاط الطائرة الروسية بعد اقلاعها من مطار شرم الشيخ هو أحد أسوأ الهجمات الإرهابية ضد روسيا منذ سقوط الإتحاد السوفييتي. وفوق هذا الهجوم الإنتحاري الثنائي في بيروت يوم 12 تشرين ثاني/نوفمبر». وضمن فهمه للتنظيم كدولة حقيقية وكراعية للإرهاب يرى ماكانتس أن توجهه نحو العمليات خطير نظرا للقدرات المالية التي يتمتع بها. ومهما كانت المخاطر المترتبة على قراره التوجه خارجيا إلا أنه لم يكن من الحكمة أن يستعدي أقوى أعدائه وخاصة روسيا. فربما اعتقد التنظيم أنه يمنع المزيد من الاعتداء على الأراضي التي يسيطر عليها أو ربما أمل بتحقيق انتصارات إعلامية تساعده في تجنيد المزيد أو ربما إيمانا بخطابه الرهيب حول حرب هرمجدون ومحاولة اشعالها. ومثل سكوت أتران ونفيس حميد بمجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» يرى أن التحول للخارج قد يكون مرتبطا بـ «إدارة التوحش» وهو كتاب لأبو بكر الناجي يدعو لتوسيع الحرب ضد العدو القريب والبعيد ونشر الفوضى.

وبعيدا عن كل هذا فقد وضع التنظيم نفسه أمام معركة شاملة لكن الرد يعتمد على أعدائه البعيدين خاصة أنه راهن دائما على خلافاتهم وتناقض مصالحهم. ورغم النبرة الداعية للتعاون بين دول المجتمع الدولي في مرحلة ما بعد باريس إلا أنها لم تترجم بعد على الواقع كما تقول صحيفة «نيويورك تايمز» (18/11/2015) التي قالت إن التحالف الذي يجري الحديث عنه يظل «نظريا» حتى في ظل الجهود التي يحاول الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند بذلها لجسر هوة الخلافات بين روسيا التي برزت كلاعب رئيسي في الساحة السورية والولايات المتحدة الأمريكية التي أثبتت الهجمات الأخيرة فشل سياسة الإحتواء التي تبنتها منذ العام الماضي. وترى كارين دونفايرد مستشارة أوباما ومديرة مؤسسة مارشال الألمانية أن التحالف قد يكون جيدا في مجال الغارات الجوية في سوريا ولكن «ماهو التزام روسيا بمواجهة تنظيم الدولة، وهو ما لا أعرفه». ويرى ستروب تالبوت، مدير معهد بروكينغز أن أي تحالف حقيقي يقتضي تغيرا جوهريا في الموقف الروسي من سوريا خاصة ما يتعلق بمصير الأسد.

ويعتقد ديفيد إغناطيوس في صحيفة «واشنطن بوست» (19/11/2015) أن الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية تقتضي التفكير بما بعد «الدولة» وما تحتاجه الدول المعنية بحرب تنظيم الدولة الإسلامية هو رسم خريطة طريق للمستقبل بعد هزيمته. واقترح هنا قراءة خمس معاهدات تعين على رسم المستقبل. الأولى هي اتفاقية ويستفاليا عام 1648 التي أنهت حرب الثلاثين عاما في أوروبا والثانية مؤتمر فيينا عام 1815والتي أعادت لأوروبا توازنها بعد الإضطرابات التي تبعت الثورة الفرنسية والحروب النابليونية والثالثة اتفاقية فرساي عام 1919 في نهاية الحرب العالمية الأولى، وهي التي تسببت في رأي البعض بما يعاني منه الشرق الأوسط الحديث بعدما تقاسمت القوى المنتصرة (بريطانيا وفرنسا) أراضي الإمبراطورية العثمانية بموجب اتفاقية سايكس بيكو (1916). والرابعة الاتفاقية التي صاغتها الولايات المتحدة عام 1945 وأنهت الحرب العالمية الثانية. أما الإتفاقية الأخيرة التي تستحق التأمل بينما نفكر فيما يحل محل «الدولة الإسلامية» هي اتفاقية الطائف لعام 1989 وأنهت 14 عاما من الحرب الأهلية اللبنانية، وأوجدت توازنا للقوى بين طوائف لبنان المتناحرة وكانت القاعدة التي قامت عليها هي «لا غالب ولا مغلوب». ويقول إن الحرب ضد تنظيم الدولة تعطي الفرصة لإصلاح ما كان فاسدا لقرن تقريبا، فالتحالف يحتاج إلى طائرات بدون طيار ومقاتلات ولكنه يحتاج أيضا لمراجعة بعض كتب التاريخ.

القدس العربي

 

 

 

نحن و”داعش” والغبي المتغابي/ أرنست خوري

وحده الغبي أو المتغابي، بالتالي الخبيث، في بلاد العرب، قادر على إيجاد مبررات فهلوية لوحشيةٍ حيوانيةٍ تمارس فعلها بنرجسية مطلقة، مثل جرائم تنظيم داعش وأخوته. وحده الغبي أو المتغابي، أيضاً بخبث، هو الذي يظنّ أن الحديث عن فرنسا “قاتلة المليون جزائري” مثلاً، أو “أميركا ربيبة إسرائيل” قد يعني شيئاً غير المزيد من إلحاق الأضرار بنا كعرب في بلادنا أو في الغرب، وبقضايانا وبأناسنا. ولأن المسافة بين التبرير والشرح، شَعرة، تقع تغريدات ومقالات عربية بالجُملة، منذ جريمة باريس في 13 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، في محظور ما ترغب في تصويره على أنه شرح بريء للجريمة، بينما هو في الواقع تبرير بشع، عن قصد أو عن خبل أو عن سوء نية، لما نعاني منه، نحن قبل غيرنا، كجرائم قروسطية. أصلاً، كثيرون عندنا يستكثرون تسمية ما حصل جريمة أو إرهاباً، بل ينحون نحو مصطلحات غير آدمية، مثل “حادثة”، تماماً كالإهانة اليومية التي تمتلئ بها صفحات ميديا العرب باستخدام مصطلح “الأزمة السورية”، وكأن الأمر برمته أزمة دستورية أو كارثة طبيعية أو سجال قانوني على تفسير صلاحيات المؤسسات في بلاد البعث، لا إبادة منظمة تشترك فيها أمم بأسرها ضد الفئة الأوسع من الشعب السوري.

تكشف نظرة سريعة لحجم الدمار الارتدادي اللاحق بشعوب العرب وقضاياهم ومهاجريهم نتيجة تنظيم داعش وأمثاله وجرائمه، أنّ عدم اتخاذ موقف جذري من دون “ولكن” إزاء هذه الظواهر التي تتفوق، في كل مرة، على ما سبقها من تنظيمات باسم “الجهاد” و”الخلافة”، وأننا نحن، العرب، نقف كالخاسر الأكبر على جميع الصعد. بدءاً من النتيجة الأكثر مباشرة، أي ارتفاع وتيرة العنصرية القديمة في بلاد الغرب والعرب على حد سواء، والإسلاموفوبيا، يُطرح التساؤل البديهي: لماذا نستغرب أن تميل الشريحة “المتوسطة” أو “العادية” من الرأي العام الغربي، أمام ظواهر لا نفعل ما يكفي لمكافحة ادعائها تمثيل الإسلام والعرب، كالقاعدة وداعش. لماذا نستغرب أن تميل تلك الشريحة نحو النظرات النمطية ووضع العرب والمسلمين في قالب واحد ستيريوتيبي مزنَّراً بحزام ناسف، يتربّص بالمدنيين، ليذبحهم إن لم يكونوا قادرين على تلاوة آيات قرآنية، مثلما فعل مهاجمو فندق مالي قبل يومين؟ وهل المطلوب من العامل الهولندي أو المزارع البريطاني أو الموظف فئة ثالثة في بولندا، وحتى لو لم يكن أياً من هؤلاء يهودياً، أن يتمتع بشعور عربي بالفطرة، أو أن يجري في دمه، هكذا، بالفطرة، وعي سياسي فلسطيني ليفهم أن تنظيم داعش يقتل من العرب والمسلمين أكثر بكثير مما يقتل من الأوروبيين وغير المسلمين عموماً؟ لماذا نتعجّب كيف تقلّ أعداد المتعاطفين في أوروبا مع القضية الفلسطينية في كل مرة يفجر مهووس بالدم نفسه وسط مدنيين أوروبيين أو أميركيين في برج تجاري؟ هل فعلنا حقاً واجبنا، في تفكيك العلاقة العضوية بين الاستبداد والثورات المضادة على موجة انتفاضات العرب في 2011 من جهة، وعودة شباب الإرهاب في العام العربي الأسوأ 2013؟

الحديث عن فرنسا قاتلة الجزائريين في معرض التعليق على جريمة باريس، مجرد تبرير دموي للقتل، فالفرنسيون والأجانب الـ130 الذين قتلوا على يد ملثمي السوء ليسوا هم أصحاب القرار الفرنسي زمن ما قبل استقلال الجزائر. استذكار إبادة المهاجرين إلى أميركا الشعب الأصلي الذي نسميه، في معرض عنصريتنا غير المقصودة ربما، “هنوداً حمراً”، ليس سوى فعل انتحاري غبي أيضاً لعلم قائليه أننا في عام 2015، وأنّ لا علاقة لجيل مؤسسي الاتحاد الأميركي على أنقاض حضارات أبيدت بالفعل، بمواطنين أميركيين، منهم من هو صهيوني، ومنهم من هو عروبي أكثر من عرب كثيرين.

العربي الجديد

 

 

 

 

داعش تجمع بين فرنسا وروسيا/ خطار أبو دياب

الثالث عشر من نوفمبر الباريسي، أي الحادي عشر من سبتمبر الفرنسي، غيّر وجه باريس، أدخل البلاد حالة الطوارئ وأوجب إعادة النظر في سياساتها الداخلية والأوروبية والخارجية.

إنها ليست المرة الأولى التي يضرب فيها الإرهاب باريس التي تبدو كالحلقة الأضعف غربيا، أو الأكثر تعرضا لتداعيات ما يحصل على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط. إبان الصراع العربي – الإسرائيلي كما خلال حرب العراق وإيران أو أثناء العقد الدموي في الجزائر كانت الارتدادات تطال فرنسا والإرهاب يضربها، وهذه المرة تصلها إحدى حمم بركان الشرق الأوسط وخصوصا من فوهته السورية المتفجّرة، وكان من الملفت للنظر أنه وسط مجزرة صالة باتكلان وبين رشقات الكلاشينكوف، ردد الناجون ما سمعوه من أحد الإرهابيين “هذا بسبب ما فعله رئيسكم في سوريا”.

فرنسا مستهدفة كبلد يرمز إلى منظومة قيم وانفتاح، إنه البلد العلماني الذي يتواجد فيه أكبر حضور للمسلمين في أوروبا. لكن سياسة فرنسا إزاء الملف السوري والحرب ضد الإرهاب هي المستهدفة، وكأن هناك من يريد ليَّ ذراعها ويلزمها بتغيير خياراتها.

من يراقب مشاهد الحرب في شوارع باريس وسان دوني، يستنتج أن تحضيرات ما أسمته “داعش” في بيان تبنيها “غزوة باريس”، جرى التحضير له منذ عدة أشهر وأنه لا يشكل الجواب على بدء الغارات الفرنسية ضد هذا التنظيم منذ أوائل هذا الخريف. ومهما كان التقييم العملاني للخلفيات والمحركين، أصبح داعش العدو الأول بامتياز، واعتبرت فرنسا نفسها في مواجهة جيش إرهابي وأنها في حالة حرب مفتوحة.

سرعان ما بدأت المراجعات وأعلن الرئيس فرانسوا هولاند عن توجه فرنسا نحو روسيا من أجل تكوين “ائتلاف كبير” جنبا إلى جنب مع الولايات المتحدة الأميركية لمحاربة ما يسمى تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش). وضعت باريس جانبا تحفظاتها على التدخل الروسي في سوريا، وتلقفت موسكو الطرح الفرنسي وأصدر فلاديمير بوتين أوامره بالتنسيق مع القوات الفرنسية البحرية والجوية، وكأنه غَدَا سيد شرق البحر الأبيض المتوسط.

جمعت مصيبة داعش الفرنسيين والروس، خاصة بعد إعلان موسكو عن تحطّم الطائرة الروسية فوق شبه جزيرة سيناء بعمل إرهابي في 31 أكتوبر الماضي، وتتالت الغارات الروسية والفرنسية على الرقة تحت غطاء الدفاع عن النفس. فرضت الواقعية السياسية نفسها في ترتيب سريع بين باريس وموسكو، بالرغم من عدم التوافق على كل حيثيات الملف السوري. لكن السؤال الأهم يتصل بقبول واشنطن فكرة الائتلاف الدولي الموحد وطي صفحة التوتر مع القيصر الروسي. والتجاذب لا يصطدم بعقبة الخلاف حول مستقبل الرئيس السوري بشار الأسد فحسب، بل يطال رؤى استراتيجية حول النفوذ في الإقليم والممارسة الروسية في أكثر من مكان.

وجد الرئيس الفرنسي نفسه في وضع صعب، وكان عرضة لضغط من زعيمة الجبهة الوطنية، مارين لوبان، ومن الرئيس السابق، نيكولا ساركوزي، كي يغير سياساته باتجاه المزيد من التشدد الأمني داخليا والتوجه نحو موسكو خارجيا بهدف شن حرب فعالة ضد العدو المشترك. بالطبع يهلل الفرنسيون المعجبون بالرئيس الروسي لهذه الاستدارة الفرنسية نحو روسيا، وهذا الفريق كان يأخذ على هولاند ووزير خارجيته لوران فابيوس تمسّكهما برحيل الرئيس السوري، وأتت الآن الفرصة كي يصل الأمر ليطالب هذا الفريق بإعادة التواصل الرسمي الأمني والعسكري مع نظام الأسد.

ولكن باريس التي تسجل الآن تراجعا تكتيكيا مع التركيز على أولوية الحرب ضد داعش، ليس بوارد خلع ثيابها والاستسلام الذي يعنيه التسليم بالأسد للأبد كما يتوهّم البعض. وللعلم فإن باريس لاحظت تغييرا في الأداء الروسي وتريد البناء عليه، إذ قبل ضرب الإرهاب لفرنسا، وقبل تسليم موسكو بالعمل الإرهابي ضد طيرانها المدني، كان ما لا يقل عن ثمانين بالمئة من الغارات الروسية تستهدف القوى المعارضة للرئيس السوري، ومنذ الأسبوع الماضي كثفت موسكو من ضرباتها لداعش لأن الانخراط الفرنسي سلط الأنظار على الميدان مع تزامن ذلك مع طرد داعش من سنجار، وتحضير واشنطن لعملية برية ضد داعش داخل سوريا معتمدة على قوى متعاونة معها وأبرزها قوات سوريا الديمقراطية التي تشمل قوات الحماية الكردية وجيش سوريا الجديد. بالإضافة إلى هذه التطورات لم تنجح الحملة الجوية الروسية في تعديل ميزان القوى لصالح نظام الأسد، ومن هنا أتت العمليات الإرهابية والاستدارة الفرنسية لتساعد موسكو بشكل غير مباشر حتى لا يبدأ انزلاقها في المستنقع السوري.

وفي حين يتعدى التنسيق العملياتي الفرنسي – الروسي (الذي لا يمكن أن يذهب بعيدا مع احتمال العمليات البرية، خاصة أن باريس تعتمد كثيرا على معايير ومعطيات الناتو)، لا يبدو أن موسكو ستغير أولوياتها فعلا، إذ أنها تدخلت عسكريا في سوريا بهدف التعبير عن دعم الأسد. وهي تقول إن تنحّيه يعني انهيار الدولة السورية لصالح المتطرفين الإسلاميين، بينما لا تزال باريس تعتبر أنه بالإمكان بدء المرحلة الانتقالية مع الأسد، لكن يتوجب استبعاد ترشيحه لانتخابات رئاسية مبكرة وهذا يجعل الحل السياسي ممكنا من الناحية العملية.

يحاول فرانسوا هولاند الخروج من مأزق “لا للأسد ولا لداعش” عبر الائتلاف الكبير مع واشنطن وموسكو، وفي حال تحقق ذلك وسلّمت به الأطراف الإقليمية النشطة، لا بد حينها من حصول مساومة روسية – غربية حول سوريا وأوكرانيا ومسائل أخرى، ولكل طرف في هذا الشأن أولوياته وهواجسه.

بعد السلسلة السوداء من العمليات الإرهابية في الأسابيع الأخيرة، أصبح القضاء على تنظيم داعش الهدف المعلن للكثير من اللاعبين على الساحة السورية، وهذا لا يمنح بالضرورة زخما لمسار فيينا في الفترة القادمة، طالما أن الاتفاق على الأولويات غير واضح، ولأننا لن نكون على الأرجح أمام تحالف دولي كبير بالمعنى التقليدي للكلمة.

* نقلا عن “العرب”

 

 

 

 

الإرهاب والحفاظ على القيم الديمقراطية في الاتحاد الأوروبي/ خيري حمدان

شهدت فرنسا مأساة غير مسبوقة، إثر تنفيذ عمليات إرهابية بتوقيت موحّد، في أهم معالم باريس، راح ضحيتها قتلى وجرحى كثيرون، وعوقبت باريس التي لا تنام على مدار الساعة بإعلان حالة الطوارئ وحظر التجول، ورفع مستوى التأهب، للمرّة الأولى منذ عقود، إلى الدرجة الحمراء “ألفا”، بعد تنفيذ هذه العمليات الإرهابية التي أطلق فيها ما يزيد على ألف عيار ناري في مسرح باتاكلان في باريس، وفجّرت أحزمة نارية في أماكن أخرى، وهذا هو الحادث الإرهابي الثاني الذي تشهده باريس خلال العام الحالي 2015.

إعلان حالة الطوارئ وإغلاق الحدود

باريس عاصمة منفتحة على الحضارات كافة، وتعمل الأجهزة الأمنية الفرنسية، على مدار الساعة، للحفاظ على الأمن، والحيلولة دون وقوع عمليات إرهابية، خصوصاً وقد عانت باريس، في يناير/كانون ثاني الماضي، من اعتداء دموي ضدّ طاقم صحيفة شارلي إيبدو. وعلى الرغم من المهنية العالية لأجهزة الأمن الفرنسية، تعرّضت باريس لهزّة جديدة، أنجزتها مجموعة من الجهاديين المدرّبين بصورة متقنة، وبتنسيق دقيق وتمويل وتدريب عسكري خارجي، علمًا أنّ الأجهزة الأمنية أفشلت بعض العمليات الإرهابية أخيراً، وتوقعت، في الوقت نفسه، وقوع عمليات إرهابية جديدة، من دون معرفة الوقت والمكان وآليات التنفيذ، لتفضيل الخلايا الإرهابية العمل بصورة مستقلة، واتخاذ القرار، من دون العودة إلى المركز، وتبقى إمكانيات وقوع مزيد من هذه العمليات قائماً في المستقبل المنظور.

ذكر الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، للمرة الأولى، كلمة الخوف، في كلمته المقتضبة في الساعات المتأخرة من مساء الجمعة، 13 نوفمبر/تشرين ثاني الماضي، حيث أعلنت حالة الطوارئ في فرنسا، للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى حظر التجول ومنع مرور العربات والشاحنات والتصريح عن تشكيل مناطق أمنية مغلقة بالكامل.

المعايير الأمنية المعلنة شبيهة بالتي سنتها فرنسا في حرب التحرير الجزائرية، وستمارس الأجهزة الأمنية حقّ التفتيش والاعتقال، أينما وكيفما شاءت، ويمكنها أن تفرض كذلك الرقابة الصارمة على وسائل الإعلام، عملياً بدأت مرحلة جديدة متوقعة للحدّ من الحريات الشخصية باسم الأمن والاستقرار.

علامات استفهام بشأن اتفاقية الشنغن

سارعت بلجيكا باستعادة نقاط ومراكز رقابة أمنية على الحدود المشتركة مع فرنسا، وسيتم تفتيش أفواج المسافرين بين البلدين، جواً وبراً، وعلى متن القطارات السريعة. عمليًا، انتهت مرحلة العبور الحرّ بين البلدين، وقريباً سترفع دول أوروبية عديدة حواجز تقنية، وربّما جدراناً وأسلاكاً شائكة داخل حدود المنظومة الأوروبية. وفي أفضل الأحوال، ستفرض إجراءات رقابة حثيثة على الحدود الداخلية، من دون إغلاقها أو المطالبة بتأشيرات دخول، لكنّ هذه الخطوة تعتبر شرخًا أصوليًا للحلم الأوروبي الداعي إلى التجوّل والتنقّل بحرية بين دول المنظومة.

أدى الحادث إلى إلغاء زيارات رسمية عديدة من وإلى فرنسا، كما عطّل الرئيس الفرنسي

“قريباً سترفع دول أوروبية عديدة حواجز تقنية، وربّما جدراناً وأسلاكاً شائكة داخل حدود المنظومة الأوروبية” مشاركته في اجتماع قمة العشرين التي عقدت في مدينة أنطاليا التركية. وعلى المستوى البعيد، هناك توقّعات حقيقية وخطرة لانقسام القارة الأوروبية إلى قطبين سياسيين، فور انتهاء أثر صدمة الحدث، وسيستثمر اليمين الأوروبي المتطرف الهجمات الإرهابية إلى أبعد الحدود، لتأليب الرأي العام ضدّ التوجهات الليبرالية والديمقراطية في هذه الدول. عملياً، هناك مخاطر لانقسام المجتمع الأوروبي بشأن حقوق، بل وجود الأقليات بين فئات المجتمع، ويتوقع كثيرون بدء عمليات انتقام مبرمجة وعشوائية ضدّ اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط، رافق ذلك ارتفاع أصوات كثيرة مطالبة بتسفير فوري للاجئين، بعيدًا عن أراضي المنظومة الأوروبية، بغض النظر عن انتماءاتهم وجنسياتهم.

وقامت الأجهزة الأمنية في معظم دول المنظومة الأوروبية، بعمليات تفتيش واعتقالات موسعة، طاولت كل تجمعات الأقليات، ومن المتوقع تضييق الخناق على حرية الحركة والتحويلات المالية ومراقبة دفق المعلومات عبر الإنترنت ووسائل الاتصال وشبكات التواصل الاجتماعي. وقدمت العمليات الإرهابية في باريس خدمة غير مسبوقة لليمين المتطرف الذي قرع طبول الحرب، وأعلن اقتراب اندلاع الحرب العالمية الثالثة، مطالباً، على الفور، بإغلاق الحدود وتسفير اللاجئين بالجملة، بل وحتى التسليح الفردي للدفاع عن الذات عند الضرورة، كما الحال في الولايات المتحدة الأميركية، مع إدراكهم لوقوع آلاف الضحايا من المواطنين في أميركا الذين يلقون حتفهم في أثناء عمليات إطلاق النيران العشوائية في المدارس والتجمعات البشرية.

هناك دلالات عديدة بشأن اختيار الأماكن التي تعرّضت للتفجيرات الإرهابية، وهي المنطقة العاشرة والحادية عشرة الباريسية، حيث تجمّعت الفئات الشبابية، ذات التوجهات اليسارية الاشتراكية، التي انتخبت محافظ المنطقة من حزب الخضر، وصوّتت لآن هيدالغو، الأندلسية المنشأ، لمنصب عمدة باريس، وتفضيلها خلال انتخابات العام الماضي على المرشحة اليمينية ناتالي موريزيه، ورواد هذه المناطق في معظمهم من الجنسيات المختلفة. كما شهدت باريس هجوماً تمّ بالقرب من استاد باريس، رمز اندماج الأقليات في المجتمع الفرنسي، حيث تجلّى نجم الكرة العالمي، زين الدين زيدان، ويمارس فيه حاليًا رياضة كرة القدم لاعبون محترفون من كل الجنسيات المختلفة.

لم تختر المجموعات الإرهابية الشانزيليزيه أو المناطق المحافظة الواقعة على يسار نهر السين أو المراكز الحكومية، بل ضربت التجمعات الشبابية اليسارية المتعاطفة نسبياً مع الأقليات، وهذا بمثابة تحدّ كبير وغير مسبوق للمجتمع الأوروبي، ومقدّمة لتوجهات دكتاتورية ناعمة قد تؤدي إلى الحد من الحريات لاعتبارات أمنية، كما شهدت الولايات المتحدة الأميركية إثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

مسلسل العنف

الأزمة السورية حاضرة في الحدث الدولي والإقليمي، لم تنجح المعارضة السورية السلمية التي

“قدمت العمليات الإرهابية في باريس خدمة غير مسبوقة لليمين المتطرف الذي قرع طبول الحرب، وأعلن اقتراب اندلاع الحرب العالمية الثالثة” انطلقت مطالبة بالعدالة والحريات قبل سنوات، وسرعان ما تصاعد العنف، وتسلّحت المعارضة في محاولة للدفاع عن نفسها ووجودها، ثمّ ظهرت التنظيمات الراديكالية عبر الحدود الواسعة المفتوحة. واستخدمت الأسلحة التقليدية والنوعية والكيميائية والبراميل المتفجرة فوق المدن والقرى ورؤوس العباد الآمنين في أنحاء سورية، ليظهر تنظيم داعش. وفي الأثناء، يستمر التمويل والتسليح والعبث بأمن الإقليم. وأخيراً، تقرّر روسيا التدخل العسكري مباشرة لصالح النظام السوري، ويتواصل مسلسل العنف وتوجيه الضربات الجوية ضدّ المدن والأحياء الشعبية. وسط كلّ هذا الدمار والموت، شهدت تركيا وسيناء وشرم الشيخ، وباريس للمرة الثانية، بعضاً من القهر وأعمال العنف.

وكانت المنظومة الأوروبية قد قرّرت، في مؤتمر القمة الأوروبي الأفريقي، الذي عقد قبل أيام في مالطا، منح الدول الأفريقية نحو ملياري يورو، للحدّ من موجات الهجرة القادمة من إفريقيا، وتخصّص القارة الأوروبية المليارات لمكافحة الإرهاب، وتعتبر اللجوء جزءاً من مخاطر الإرهاب المتوقع فوق أراضي المنظومة الأوروبية.

الدكتاتورية منبع الأصولية والتعصّب

يتعامل الغرب مع مشكلات العالم العربي من وجهة نظر أنانية للغاية، ويتحسر مثقفون عديدون في أوروبا لغياب معمّر القذافي مثالا، لأنّه لعب دور صمام الأمان في وجه موجات الهجرة القادمة من إفريقيا متوجهة عبر البحر إلى أوروبا، خلافًا لما تشهده القارة الأوروبية في الوقت الراهن، بغض النظر عن موقف الشعب الليبي من زعيمه المغدور، والطريقة التي حكم بها ليبيا في العقود الماضية، وينطبق الأمر على مواقفهم بشأن مخاض الربيع العربي في الدول التي شهدت محاولات لتغيير الحكم الشمولي، وتحقيق أسس الديمقراطية ونيل الحريات.

وتقول الصحفية الإيطالية الموجودة في سورية منذ سنوات، فرنتشيسكا بوري، إنّ تنظيم الدولة

“يرى الخبراء والمحللون أنّ “داعش” هو نتيجة منطقية للاستبداد، وحال التغلب على الدكتاتورية في الإقليم، سيفقد داعش نصف أنصاره على الفور” في نظرها هو السائق الذي يقود الشاحنة بين حلب وباقي سورية لتأمين الطعام للأهالي، وليس السفاح جون، وهي مصرة على البقاء في سورية، حتى انتهاء الحرب هناك، لتقديم المساعدات الإنسانية للأهالي والمصابين، وتؤكّد أنّ الأمم المتحدة لم ترسل أيّة مساعدات لسكان سورية المنكوبين، في فترة وجودها الطويلة بينهم. وتضيف إن الغرب فشل في فهم العالم العربي، بل ويبدو غير راغب بفهم هذه الحضارة. وأوضح نيكولا إينين الصحافي الفرنسي الذي أطلق داعش سراحه، أخيراً، ليعود إلى فرنسا، أن جهاديي داعش لا ينتمون للثقافة المحلية، بل هم نتاج للثقافة الغربية، يشاهدون الأفلام نفسها ويلعبون ألعاب الفيديو الغربية نفسها. كلا الصحفيَين يرون أنّ منابع الراديكالية والعنف في الإقليم، وما نتج عنهما من تصدير للحرب إلى فرنسا، وغيرها يتمثل في عدم وجود إرادة سياسية غربية لمواجهة الدكتاتوريات العربية، ورفض مسالكها القمعية.

ويرى الخبراء والمحللون أنّ “داعش” هو نتيجة منطقية للاستبداد، وحال التغلب على الدكتاتورية في الإقليم، سيفقد داعش نصف أنصاره على الفور، لانفتاح الآفاق أمام فئات الشباب الذين وجدوا أنفسهم ضحية دوامة العنف في الإقليم في السنوات القليلة الماضية، وهذه هي الخطوات الحقيقية الجادّة لمواجهة التطرف والإرهاب.

قلق وتوتر في دول المنظومة الأوروبية

طالب قادة وزعماء في مؤتمرات القمة الأوروبية، أخيراً، بإغلاق حدود المنظومة الأوروبية، لوقف تدفق اللاجئين بالقوة، ولتتمكن المنظومة من استيعاب الموجودين فوق أراضيها من اللاجئين. وافتتاح مراكز لجوء خارج إطار المنظومة، لتحديد المستحقين للحصول على وثائق اللجوء والإقامة في أوروبا.

وهناك ضرورة للتمييز بين المواطنين المتورطين في العمليات الإرهابية والحاملين جنسيات غربية، وما بين مئات آلاف من اللاجئين الباحثين عن مخرج آمن من دوّامة الموت المتواصلة في الإقليم. لكن القلق والتوتر فرض حضوره في دول عديدة في المنظومة، فقد امتنعت بولندا، مثلاً، عن قبول حصّتها من اللاجئين، وفق خطة التوزيع التي أعلنتها بروكسل بين دول المنظومة، أخيراً، إثر الأحداث الإرهابية التي شهدتها باريس. كما تمّ الإعلان عن تأجيل مسابقة يوروفيجن للأطفال في صوفيا، حتى انتهاء فترة الحداد الوطني ثلاثة أيام في فرنسا، ولرفع حالة التأهّب الأمني لحماية مهرجان الغناء الدولي للأطفال.

وطالب أندريه بابيس، نائب رئيس الوزراء التشيكي وزعيم حركة “مواطنون ساخطون 2011″، بإغلاق كامل حدود فضاء الشنغن، وصرّح أنّ أوروبا تواجه حرباً حقيقية مع الإرهاب.

حرب برية ضدّ داعش

وطرح خبراء استراتيجيون، في مداولاتهم أخيراً، أفكارًا بشأن الحصول على تصريح أممي بقرار من مجلس الأمن، لشنّ حرب برية شاملة ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية، وإطاحة رأس الأفعى، ويبدو أنّ لهجة التسامح المألوفة في أوروبا آخذة بالتراجع، إثر الضربات في باريس. مع وجود قناعة شبه كاملة بعدم جدوى الهجمات الجوية، وضرورة الحسم العسكري على الأرض، والعمل، قبل ذلك، على وقف تمويل داعش وتسليحه بكل الطرق الممكنة. ترتفع هذه الأصوات في المنتديات الأوروبية، في وقت يبدو فيه حلّ الأزمة في سورية بطرق سلمية، وحول طاولة المفاوضات شبه مستحيلة في الوقت الراهن. لكن، هل الغرب حقاً مستعد لتقديم آلاف الضحايا البشرية في حرب برية طاحنة؟

قد يكون الوقت قد حان ليتعامل الغرب مع أزمات الشرق الأوسط بشكل جادّ وعادل، إذا رغب أن يحقن دماء شعوبه، والإبقاء على الحريات والمبادئ الديمقراطية التي أنجزها في القرون الماضية، والتوقف عن التعامل مع أزمة اللاجئين باعتبارها مجرّد أرقام وإحصائيات، يمكن معالجتها والتغلب عليها بضخّ المليارات للبقاء بعيدًا عن حدودها، في زمن أصبحت فيه الحدود الدولية افتراضية، وغير قادرة على البقاء مغلقة، مهما ارتفعت الجدران والحواجز التقنية على طول الحدود الممتدة بين القارات والبحار والمحيطات.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى