صفحات الثقافة

خطابات نوبل… مقاربة أخلاقية/ خيري منصور

 

 

حين قرأت لأول مرة خطاب البير كامو بمناسبة فوزه بجائزة نوبل، أحسست على الفور بأن بضع صفحات يكتبها مفكر أو أديب كي تُقرأ بمناسبة، تكشف عن مستويات من الوعي بالذات والآخر والكون لا تكشفها النصوص الإبداعية، لأن المتكلم في هذه الحالة لا ينسب ما يقول لسواه، سواء كانوا شخوصا في رواية أو مسرحية. وتمنيت يومئذ لو أن مؤسسة أو حتى فردا يقوم بتجميع ما أمكن من خطابات نوبل لتسهيل المقارنات، وحين عثرت على محاضرات نوبل التي جمعها وترجمها عبد الودود العمراني شعرت بأن الرغبة قد تحققت، رغم أن الفترة التي اختارها المترجم تشمل عددا محددا من الفائزين بهذه الجائزة.

في خطبة البير كامو شعرت بالقشعريرة ذاتها التي شعر بها هذا الكاتب عندما تذكّر ما سماه الفزع الغريزي لاصابعه وهو يتسلق سلم البيت في حي بلكور الجزائري، حيث كانت تقيم أمه هناك، ولعب وجودها في الجزائر دورا في تحديد موقفه السياسي من الثورة، فقد أجاب من سأله ذات يوم عن احتلال بلاده للجزائر بأن موقفه مرتبط بوجود أمه وحيث تقيم، رغم أن رواية «الطاعون» التي تدور أحداثها في مدينة وهران طالما اعتبرت نقديا تعبيرا عن الاحتلال، وما الطاعون سوى المعادل الرمزي لهذا الاحتلال، وإن كان أحد دارسي كامو وهو القس الإيرلندي الفرد أوبراين رأى المسألة من زاوية مضادة وليست مختلفة فقط، حين أشار إلى أن اسماء الشخوص في الرواية فرنسية خالصة، وكأن البير كامو في لاوعيه تعامل مع وهران على أنها إقليم فرنسي، وينتهي أوبراين إلى عبارة بالغة الدلالة هي أن جرثومة الطاعون تسللت من الرواية إلى المؤلف وأصابته أيضا.

* * *

منذ أول فائز بالجائزة عام 1901 وهو الفرنسي سولي برودوم والسجال لا ينقطع حول نزاهة الجائزة وعدم ارتهانها لما هو سياسي أو آيديولوجي، وإن كانت نوبة هذا السجال تضاعفت بعد فوز كُتّاب من طراز يوسف عجنون بهذه الجائزة وهو كاتب يهودي مشحون بأشواق صهيونية تجلّت في قصة قصيرة بعنوان «تهلّة»، سبق أن ترجمها الصديق الراحل غالب هلسا وكتبتُ مقدمتها.

ولأن التوقف عند كل خطابات أو محاضرات نوبل يتطلب مساحة وربما مقاما آخر، فقد آثرت مدخلا آخر هو الهواجس التي شغلت من نالوا الجائزة، ومدى شعور كل منهم بالاستحقاق، فما كتبه غونتر غراس مثلا ينقل المناسبة إلى موقع آخر، إلى أناس عاديين تعلّم منهم مثلما قال هنري ميلر عن اصدقائه من سائقي الشاحنات وما قاله كامو عن صديقه صانع البراميل وما تعلّمه كازانتزاكي من بطله زوربا، الذي هو شخصية واقعية تماما، كما أن العجوز في رواية همنغواي «العجوز والبحر» شخصية واقعية أيضا، وثمة من يقولون إن همنغواي اشترى منه القصة بمبلغ من المال.

خوزيه ساراماجو يجزم في خطابه أن أكثر الناس حكمة من بين الذين عرفهم هم العاجزون عن القراءة والكتابة، وكأنه يفاضل بين المعرفة المجردة والتجربة، لكن لصالح التجربة، وهذا ما يشي به الحسد السري الذي يشعر به الكاتب الذي تشبه حياته النباتات الزجاجية الداجنة، أزاء من يشبه الغابة في بريّته وبراءته معا، كما هو الحال في رواية «زوربا» .

كلود سيمون بسطر واحد يختصر المسألة الوجودية كلها، حين يتساءل عما تساويه الكتب كلها في هذا العالم أزاء موت طفل؟ وهذا ما قاله أيضا سارتر حين سُئل عن رواية «الغثيان»، فهي لا قيمة لها أيضا أمام موت طفل وبالحاح درامي يتجاوز هذا كله تساؤل القس في رواية «الطاعون» لكامو عن ذنوب الطفل الذي مات من الوباء التي سيعتذر عنها أو يعترف بها!

توني موريسون تختار مدخلا حكائيا لخطابها عن عجوز عمياء يسألها مجموعة من الشبان يحمل أحدهم عصفورا عما إذا كان العصفور حيا أو ميتا، وبعد أن تصمت بعض الوقت تقول: لا أعرف فالعصفور إن كان ميتا فأنتم إما وجدتموه كذلك أو أنكم قمتم بقتله، وإذا كان حيا فإن عمره بين أصابعكم، ولكي تصل حكاية موريسون إلى المرسل إليه فإن لها قرائن ذات دلالات لا حصر لها، منها أن تلك العجوز أمريكية سوداء. تقول موريسون نحن نموت ولعل ذلك مغزى الحياة لكننا ننتج اللغة ولعل ذلك مقياس حيواتنا.

نادين غورديمير تضع الكتابة بديلا للكينونة، وليس فقط معادلا لها، وتقول لا توجد أي طريقة أخرى لفهم الكائن إلا من خلال الفن، وما يعطي هذا الحكم الجازم صدقيته هو أن مرجعيات علم النفس التحليلي هي نصوص أدبية، سواء تلك التي وضعها فرويد تحت المجهر النفسي من أعمال ديستويفسكي ومنها جريمة قتل الأب أو ما استنبطه محللون آخرون من رواية «البحث عن الزمن الضائع» لمارسيل بروست.

الياباني كنزابورو اوى يقول في خطابه، إن ما كتبه أودن عن الفن الروائي هو ما أصبح عندي سُنّة حياة وهو:

وسط الغبار أن يكون عادلا

وكذلك وسط القاذورات والأوساخ

وفي شخصه الضعيف إذا قدر على ذلك

يجب أن يحمل بكمد كل خطايا البشر

أوكتافيو باث أثار في خطابه مسألة تخص ثقافتنا العربية إلى حدّ بعيد، هي مصطلح الحداثة الملتبس وقال إن لكل ثقافة، بل لكل مجتمع حداثته، وهو يذكرنا بما كتبه هنري لوفيفر حين أصر على تبنيه قرائه بأن كلمة الحداثة عندما ترد في أي سياق يكتبه تعني الحداثة الفرنسية وليست مصطلحا يشبه القبعة، يمكن لأي رأس أن يرتديه. لكن باث رغم اقترابه مما قاله لوفيفر يرى أن الحداثة أشبه بعصفور نراه في كل مكان ويبقى خارج ملامستنا له، إنها اللحظة التي يتعذّر اقتناصها.

داريو فو الإيطالي، طلب من أعضاء الأكاديمية التي تمنح جائزة نوبل أن يقتسم الجائزة مع رفيقته فرانكا رامي التي شاركته كما يقول في إنجاز أكثر من نص مسرحي، وبدعابة لا تخلو من مكر قال إن الصحافة أخبرت فرانكا بأنها أصبحت زوجة رجل حاصل على نوبل، وأن في بيتها هرما، وكان تعليقها أنها منذ سنوات تمارس الرياضة وبأوضاع تؤهلها لحمل هذا الهرم على كتفيها.

* * *

بين قراءتي المبكرة لخطاب البير كامو الذي كان مطرزا ببلاغة متوسطية والذي استذكر به أيامه الصعبة برواقية تليق بالمتمرد الذي قاسم سيزيف صخرته، وبين قراءة هذه الخطابات التي جمعها مجلدان شعرت بأن الفائز بأي جائزة يشعر، إن كان عادلا، بأن عدد من يستحقون الجوائز هو أضعاف من ينالونها، لكن هذا الإحساس بالإيثار نادرا ما يرشح من أي خطاب في عصرنا.

بقي أن اضيف بأن من رفضوا الجائزة وهما برنارد شو وسارتر فإن خطاب كل منهما كان صمتا يبحث عمن يترجمه وبعيدا عن تلك السلالم الصقيلة واللامعة في ستوكهولم، برنارد شو اعتذر عن الجائزة لأنها تأخرت عن موعدها، وسارتر اعتذر عن قبولها احتجاجا على غياب العدالة والحرب الأمريكية ضد فيتنام، تماما كما رفض مارلون براندو جائزة الأوسكار دفاعا عن الشرف القليل الباقي في عصرنا.

كاتب أردني

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى