أكرم البنيصفحات سورية

عن الإرهاب والعنف وسؤال الجدوى!/ أكرم البني

 

 

كان يرفض عمليات الاغتيال والتفجير التي شهدتها سورية أواخر السبعينات، يعتبرها تضر بالمسلمين ومشروعهم السياسي. بدا صوته نشازاً بين سجناء الطليعة المقاتلة، لكنهم سمعوه على مضض، ربما لأنه السجين الأكبر سناً والأقدم، وربما لأن حديثة حظي بتعاطف سجناء آخرين، أكثرهم تأثيراً. كان قد فقد بصره وتشوه وجهه نتيجة خلل في تفجير حزامه الناسف، كان يكرر معه لازمة: إنك على حق، لقد خاب أملنا! ولم يمض وقت طويل حتى خلص الإخوان المسلمون في سورية إلى نبذ العنف واعتماد الخيار السلمي نهجاً.

وفي أواخر السبعينات أيضاً، عندما سئل أحد قادة الجبهة الشعبية في ملتقى حواري عن سبب التوقف عن خطف الطائرات للضغط على المجتمع الدولي وتحريك القضية الفلسطينية، أبدى، في ما يشبه الوقفة النقدية الحازمة، رفضه الشديد لهذا الأسلوب، واعتبره أحد الاندفاعات الطفولية التي أضرت بالنضال الفلسطيني!.

من البديهي بعد زمن وتجربة أن تتجه الجماعات السياسية نحو مراجعة مواقفها، لتحاكم عقلياً ما قامت به، وتدرس تكلفته وجدواه، ومن هذه القناة يصح النظر إلى ما خلفته أنظمة استبدادية اعتادت ممارسة العنف وكل وسائل الفتك والتنكيل لقهر وتطويع شعوبها ضماناً لاستمرارها في الحكم والحفاظ على امتيازاتها، ثم إلى النتائج المؤلمة لانزلاق بعض المعارضات العربية إلى لغة القوة والسلاح حتى لو بررت الأمر بانسداد الأفق أو كرد فعل على عنف سلطوي استفزازي ومفرط، ومن القناة ذاتها يمكن النظر إلى إصرار معتنقي الفكر الجهادي على تكرار عملياتهم الإرهابية ضد المدنيين في غير عاصمة أوروبية وأخرها باريس، من دون حساب للجدوى وللأضرار التي تكبّدها المسلمون لقاء هذا الخيار منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر) حتى اليوم! فكيف الحال حين تسمعهم يطلقون التهديدات عن غزو وشيك لرفع علم دولة الخلافة في أهم العواصم الغربية!.

ربما ليس ثمة حافز عند هؤلاء لإجراء مراجعة نقدية في ظل تعبئة أصولية مجبولة بكراهية الآخر وتبدو كالهوى المشحون بالحقد القادر على استيلاب العاطفة والعقل والخيال! فأنّى يمكن للعقل أن يعمل في ساحة من التعصب الأعمى تختزل الأفكار في أنظمة مغلقة، وتحيلها من أداة للتغيير والانعتاق، إلى وسائل لقمع البشر وقهرهم؟! وكيف يعمل المنطق لدى جماعة أصولية تدعي احتكارها لقيم الإيمان والهوية الدينية وتفرض بلغة السيف ما تعتقده صحيحاً على الناس أجمعين، وتفاخر بتلقين الأطفال فنوناً مقززة من القتل والذبح ضد الآخر المختلف؟!.

إذا كان استمرار ظواهر الاستبداد والقهر السلطوي وانتهاك حقوق الإنسان والتخلف والأمية والفقر، إضافة إلى السياسات الدولية الظالمة لحقوق العرب، هي عوامل متضافرة توفر المناخ لنمو ردود أفعال مناهضة ورافضة للظلم والقهر، فقد حان الوقت كي ندرك أن خيار الإرهاب الجهادي، وربطاً بتجاربه المريرة والكارثية، عديم الجدوى والفائدة في رد المظالم، بل هو الخيار الأسرع لتأبيد هزائمنا وانكساراتنا. والقصد أن جل ما خلفه دعاة «أرهبوا أعداءكم» هو المزيد من البؤس والتردي، وما قاموا به لم يكن أكثر من أفعال عبثية غرضها التخريب وزرع البلبلة والفوضى من دون أن تعير انتباهاً للنتائج السلبية المترتبة على مستقبل المجتمعات العربية والإسلامية وسوية علاقتها بالحضارة الإنسانية.

والقصد، أن ما حصدته شعوبنا من العنف والإرهاب هو المزيد من اللاجدوى والحصار والخيبة، فإذا كان الغرض من القتل والتفجير العشوائيين هو رفع راية الإسلام وكسب المزيد من الأنصار لإحياء دولة الخلافة في أبهى صور ماضيها، فقد أخفقت مشاهد الذبح المرعبة والتفجيرات الدامية في إيقاظ الجمهور وحفز دوره لدعم المشروع الإسلاموي، بدليل الفرار الجماعي من القوى الجهادية أنّى حلت، وما تكابده القلة التي أكرهتها ظروفها على البقاء تحت سلطة تنظيم داعش.

وإذا كان الهدف من العمليات الإرهابية إضعاف الأعداء والخصوم وكسر إرادتهم أو خلق حالة من الاضطراب الأمني تضعضع دول الغرب وتنال من هيبتها وتحضها على تغيير مواقفها، فإن ما حصل كان على النقيض تماماً، حيث مكنها الإرهاب في كل مرة، من إعادة ترتيب قواها ومنحها ذريعة قوية لاستخدام العنف المضاد، وتحرير الفعل الأمني عالمياً، وتمرير العديد من انتهاكات حقوق الإنسان، ليغدو كل شيء مباحاً لها، بما في ذلك التدابير الاحترازية الصارمة التي تتخذ للحؤول دون تكرار هذه الأعمال، كتشديد الرقابة على الحدود وعلى نشاطات الأفراد وسن قوانين لسحب الجنسية من كل من يدعم الإرهاب!.

وأخيراً إذا كان الغرض إثارة الرأي العام العالمي وشد الأنظار صوب مظالم المسلمين فقد حصل النقيض أيضاً، فالمواطن الغربي ومع تكرار العمليات الإرهابية لم تعد تهمه، تحت وطأة حقه في الأمن والحياة، ما يكابده المسلمون، أو حتى تمييز الحدود بين الإسلام والمسلمين عموماً وبين جماعة توظف الدين لأغراض دنيوية وغايات سياسية، وهنا لا يمكن وضع اللوم على العقل الغربي حين يغدو العربي أو المسلم في تلك البلاد محاصراً أكثر بعيون الناس وخوفهم وربما بازدرائهم أيضاً!.

صحيح أن الإرهاب هو في نهاية المطاف عمل معزول ويحمل في أحشائه مقومات اندحاره، ما دام لا يقيم للسياسة وزناً، ولا يمنح الناس والقوى الاجتماعية أي دور في الحياة والتغيير، وصحيح أن سقفه محدود وعمره الافتراضي قصير مهما كانت الأسباب والدوافع الحافزة لنشوئه واستمراره، لكن الصحيح أيضاً أن الإرهاب الذي تنامى في غير بلد عربي وتمدد عبر تنظيم «داعش» وأخواته، لعب دوراً فاعلاً ومؤثراً في تخريب حياتنا الإنسانية والسياسية وعلاقتنا مع أنفسنا ومع الآخر، والأهم في تشويه الربيع العربي وتدمير رغبة الشعوب المقهورة في الخلاص من كابوس الاستبداد والظلم والفساد، لترتد عملياته سلباً على مجتمعات تعيش أصعب أوقاتها، لتغدو ساحات لحروب الغير ونزاعاتهم على الهيمنة!.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى