صفحات الرأي

عن الإسلام والحداثة… في مهب الانتفاضات

 

حسن شامي

قبل عام ونيف صدر كتاب بالفرنسية عن دار سندباد في باريس، بعنوان «فرنسا التي نعرفها»، وهو عبارة عن محاورة معمقة حول نظرة ثلاثة مثقفين ناشطين في الشأن العام إلى علاقتهم بفرنسا تاريخاً وثقافة وسياسة، وموقع هذه العلاقة في مسار كل منهم وتشكل وعيه الذاتي وشواغله. اثنان من المتحاورين عربيان وهما المؤرخ والسفير الفلسطيني في «يونيسكو» الياس صنبر والكاتب المتعدد الاهتمامات ومدير السلسلة العربية في دار نشر سندباد – أكت سود المعروفة فاروق مردم بك. المحاور الثالث إدوي بلينيل مدير التحرير السابق في جريدة «لوموند» ومدير موقع «ميديا بار» الإلكتروني.

لن نتحدث عن هذا الكتاب الحافل بمقاربات ولمحات مكثفة ومرهفة تجمع بين الخاص والعام، بين وجوه وعناصر سير ذاتية وبين شواغل كبرى كالمسألة الكولونيالية والقضية الفلسطينية وتشكل الهويات الوطنية واندماج المهاجرين والنظرة إلى الإسلام والأجانب. في هذا الكتاب يروي المثقف السوري فاروق مردم بك، في سياق الحديث عن أصدقاء راحلين، كيف كان يلتقي كل يوم صديقه الكاتب والمخرج المسرحي الراحل سعد الله ونوس. طرح ونوس غير مرة، وهو في غمرة الدراسة والبحث، سؤالاً يستحق الاهتمام: هل يمكننا أن نتحدّث، في معنى أن ندخل في الحداثة، من دون أن نتفرنج أي أن نحذو حذو الأوروبيين في سائر شؤون الحياة ووجوهها.

يكاد هذا السؤال أن يكون برنامجياً. لكنه ليس جديداً إذ أنه يستأنف، في سياقات مستجدة ومضطربة، أسئلة ومسائل طرحها قبلاً، وعلى طريقتهم، كتّاب عصر النهضة ومفكروه، خصوصاً دعاة التيار الإصلاحي والتجديدي. فهؤلاء لم يشككوا في صلاحية التحديث ولا ضرورة الاستفادة من التجربة الأوروبية ومبادئها، لكنهم كانوا يخشون أن يكون تقليد الفرنجة آلية بلا روح ومجرد نقل لعقلية وسلوكات التقليد المتجذرة في الثقافة الاجتماعية والدينية من مرجعية إلى أخرى. وكان يقلقهم اتساع الهوة بين دائرتين اجتماعيتين يزداد التنابذ بينهما بمقدار ما يزداد تمسك كل دائرة بمرجعيتها ورفضها لقيمة الأخرى. وهذا ما حمل دعاة الإصلاح على قبول المؤسسات الحديثة مع الحرص على ربطها بمبادئ الإسلام وأخلاقياته. ولا يستقيم هذا الربط من دون تبديل في الصورة والمفهوم الشائعين عن الدين. ومعلوم أن هذا ما كان يثير حفيظة المحافظين التقليديين الذين كانوا يخشون أن يقود التجديد والتحديث إلى تقويض أسس سلطتهم المادية والرمزية وفقدان مكانتهم ونفوذهم وامتيازات بعضهم أحياناً.

السياق الذي طرح فيه ونوس سؤاله هو سياق وعي نقدي راح يتشكل في الستينات ومطالع السبعينات، حيث تحتل الفكرة العربية وتصوراتها عن الهويات الوطنية ووعي الذات والحرب الباردة مكانة بارزة. وفي خلفية السؤال قضايا مثل المثاقفة والتبعية والاستقلال والتحرر الوطني. ففي ما يتعدى المقولة الخلدونية، على أهميتها، عن اقتداء المغلوب بالغالب وهي مقولة تصوغ وتستشرف بلغة متشائمة وشبه قدرية علاقة أسلوب العيش وتبدلاته باستراتيجيات السيطرة والسلطة والتراتبية، وفي ما يتعدى أيضاً مسألة القابلية للتقليد، يلامس السؤال جانباً مهماً يمكن وصفه بالحداثة السوسيولوجية. على أي حال، يصدر مثل هذا السؤال، أي سؤال ونوس والنهضويين قبله، عن شعور مستبطن بثقل وجاذبية المؤسسات والتقاليد التاريخية في مجتمعات معينة. والمقصود بعبارة «الحداثة السوسيولوجية» هو تغلغل صور وتمثيلات وسلوكات حديثة تتصل بنمط العيش وأساليبه وأذواقه، بما في ذلك تبدلات العلاقة مع المكان والزمان، لكنها لا تجد تعبيرها في نظم مرجعية حقوقية أو حتى ثقافية تتمتع بمقدار من الاستقرار.

في وضعيات من هذا النوع الذي يستسهل بعضهم وصفه بالانفصام الثقافي يمكننا أن نقع على مفارقات بليغة حيث تتجاور في السلوك الواحد، وبطريقة لا تخلو من التزاحم أو التدافع أو التدبر، وجوه وصور لا تقيم في زمن اجتماعي واحد ولا تنتظم في مدونة ثقافية معهودة. لا ينبغي إذاً أن نستغرب تعايش قيم مختلفة ومتضاربة أحياناً في طرائق العيش «الحديث».

تكاد الصفة العلمانية تختصر اليوم مواصفات الحداثة السوسيولوجية بالنظر إلى ما يقابلها من ظواهر الإسلام السياسي. والوضعية المشار إليها تجد ما يوازيها في حقل السياسة حيث، هنا أيضاً، تتجاور ممارسات وأشكال حكم تستمد قوتها من شرعيات متفاوتة وغير مستقرة، بعضها تقليدي أسري وقرابي وبعضها سلطاني وبعضها ديني وبعضها أيضاً كاريزمائي. ومن الممكن أن يكون لكل هذه نصيب في تشكيلات معينة. الانتفاضات العربية لم تُخرِج إلى العلن فقط التباسات الحداثة السوسيولوجية ومفارقاتها ناهيك عن تنوع أشكالها وفق تنوع التاريخ الاجتماعي والثقافي لكل بلد. فهي أخرَجَت أيضاً ما كان يعتمل على الضفة المقابلة: الإسلام السوسيولوجي. فوسط الصخب والعنف ينطرح اليوم، وبقوة، سؤال من طراز السؤال الحداثي أعلاه. هل يمكن أن يكون المرء مسلماً من دون أن يكون سلفياً أو متشدداً أو جذرياً؟

بات أمراً مألوفاً أن نرى مسلمين ومسلمات يشاركون في التظاهرات المناهضة للإسلام السياسي في نسخته «الإخوانية» وفي نسخته السلفية. يحصل ذلك بوضوح في مصر، وبدرجة أقل في تونس وفي بلدان أخرى، وفي كل الأحوال يستفيق كثيرون، ومن أصناف ومشارب مختلفة، على أهمية الإسلام التقليدي والشعبي كأحد مكونات الشخصية الثقافية للمجتمع. وهم يفعلون ذلك في معظم الأحيان لمجابهة الظاهرة الأصولية المتعاظمة. ولا يحتاج المراقب إلى أي جهد لملاحظة الفقر الروحي في أدبيات الإسلاميين إذ يبدو الهاجس الأكبر لديهم هو التسيّد وفرض المعيارية المطابقة لحرفية الحدود الشرعية. لقد عرف التاريخ الإسلامي على الدوام تقريباً فصولاً من التباين والتعارض على أرضية التدين الواحد بين أهل الحقيقة التائقين إلى التعبير والتجريب والمكاشفة وبين «الشرعيين» على ما كان يصف الشيخ محمد عبده العلماء المحافظين والمتشددين. التمييز بين النموذجين هذين للتدين يتخذ اليوم أكثر فأكثر صورة تعارض بين مفهوم خفيف للإسلام يواكب الحياة الحديثة بعجرها وبجرها، وبين مفهوم ثقيل ومعياري يختزل الحداثة إلى التقنية المحضة المرمية على الطريق. ويعني هذا أن الحداثة السوسيولوجية ستلقي بظلالها وببعض حمولاتها على الشطر الإسلامي العريض والواسع. نحن، على الأرجح، أمام بداية تركيب بين الدائرتين، ولن يحصل ذلك بهدوء وسلمية.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى