روزا ياسين حسنصفحات الثقافة

“عن الانتظار، والسحر الذي غيّر البدايات” لروزا ياسين حسن(*)

 

 

ثمة رائحة غريبة تفوح من “دمشق”، لا تشبه رائحتها المعتادة، أقرب إلى رائحة قلق وترقّب. بضع لفتات من حولك ستجعلك متيقناً من شعورك. روحك ستنبئك بأن شيئاً تبدّل في المكان، في التفاصيل، شيئاً تبدّل في القلوب! يوم رأس السنة للعام الجديد 2012 لا يشبه أي يوم رأس سنة مرّ على “دمشق” قبلاً! “دمشق” لا تشبه “دمشق” أبداً! كأن لعنة الزمن أصابتها، غيّرت مزاجها، خرّبته. أشبه بهجرة قسرية أجبرتها على الانتقال من زمن إلى زمن آخر.

على الأقل هذا ما شعر به “صفوان الشيخ” وهو يقبع إلى جانب سائق سيارة الأجرة التي أوقفها في رأس طلعة “مساكن برزة”! كانت زوجته “مريم محمود” تنتظره في الشارع الفاصل بين حي “كفرسوسة” القديم والمشروع الجديد. اتصلت به قبل لحظات لتقول بأن أصوات إطلاق الرصاص تلعلع، وأنها ستنتظره فهي لا تجرؤ على العودة وحدها إلى البيت! قالت باقتضاب: سأنتظرك قرب “السيتي مول”، وأغلقت الخط. اتصل بها واتصل ثم اتصل، وحده صوت نسائي معدني من شركة الاتصالات ينبئه بأن الرقم مغلق أو خارج نطاق التغطية! قطعوا الاتصالات عن المنطقة. شتم “صفوان” قبل أن يبدأ بالهرولة من ساحة “برزة البلد” باتجاه الأتوستراد. هرول لاهثاً باتجاه الجنوب علّه يعثر سريعاً على سيارة أجرة مارقة. لم تعد الكثير من سيارات الأجرة تجرؤ على الدخول إلى هنا بعد الأحداث المتلاحقة في “برزة البلد”، لكن حظه كان طيباً وعثر على سيارة تحاول الهرب بعيداً، فالتقطها بصفرة مترجية ليجلس بجانب السائق، ثم يستحثّه على المضي بسرعة إلى حي “كفرسوسة”.

لكن البلد مليئة بحواجز الأمن… لن نصل قبل ساعة إلى هناك!

قال السائق. لكن لم يكن أمام “صفوان” من خيار إلا أن يستحثّ السائق للإسراع.

تأخر كثيراً في زيارته. ربما لذلك كانت “مريم” ممتعضة. فقد مرّ أكثر من شهر على مقتل شقيق “أبو خيرات”، صديقه الحميم من حي “برزة البلد”، ولم يقدّم له التعازي حتى اليوم. عزّاه على الهاتف فحسب بعد ثلاثة أيام من الحادثة حين وصله النبأ. لم يعد المرء يستطيع الإحاطة بكل واجبات التعازي في هذه الأيام. لا يكاد يسمع بموتٍ حتى يدهمه موت آخر! موت يومي وتعازٍ يومية، حتى ليكاد المرء يعتاد الأمر! وتمرّ أخبار الموت وجلسات التعزية كما تمرّ معظم تفاصيل يومه الثقيل.

فكّر “صفوان” وهو يستحثّ السائق من جديد على الإسراع.

حين كانوا في “حمص” لم يكن يمرّ يوم بدون عزاء! كان “صفوان” قد قرر الانتقال من “حمص” إلى بيت جديد في حي من أحياء مدينة “جرمانا” على أطراف “دمشق”. ترك بيته هناك وجاء إلى هنا! ففي صباح اليوم الذي قرر فيه الانتقال كانت سيارته عند مدخل البناء ممعوسة بالأرض. أتت دبابة ومشت عليها من جملة السيارات الأخرى التي مُعست كذلك. رأى “صفوان” الدهان الأحمر البرّاق متفتتاً متآكلاً على الإسفلت، والزجاج متفتت في كل مكان. أحسّ بأن قلبه تفتّت مع سيارته تحت جنزير الدبابة. حينها لملم ما كان يدّخره من مال، إضافة إلى ما بقي من مصاغ “مريم”، ويمّموا شطر “دمشق”، تلك التي كانت ماتزال أكثر أمناً.

لم تكن الأجواء في بيت “أبو خيرات” في “برزة البلد” تنبئ بحزن مقيم. على كلٍ هذا هو الموت الثالث في العائلة خلال خمسة أشهر وأسبوع، حسبما علّق “أبو خيرات”، كأنه يبرر تبدد الحزن السريع. أما حضور الراحل فقد اقتصر على صورة بإطار وشريط أسود على زاويتها، عُلّقت على عجل في منتصف الحائط الكبير في الصالون، كُتب أسفلها: “ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون”، وبضعة أحاديث مقتضبة تحدثت بها أمه قبل أن تتركنا، “أبو خيرات” وأنا، نكمل أحاديثنا المتراكمة. أذكر أمه قبل أقل من سنة، بدت لي حينذاك صبية مشعّة في أواسط ستينياتها وهي تحدّثني عن تفاصيل الفطور النسائي الذي يجمعها صباح كل أربعاء مع صديقاتها! اليوم بدت عجوزاً منهكة مطفأة، بوشاح صوفي أسود على رأسها ورداء طويل من اللون ذاته. لم أعرفها حين قدمت للسلام علي! ظننتها واحدة من عمات “أبو خيرات” الكثيرات. قبّلتُ يدها العارقة فربّتت بتؤدة على رأسي، ودعت لي بالعمر المديد. صوتها أبحّ وثقيل كان. استأذنتني من ثمّ للعودة إلى مجموعة النسوة المتحلّقات في الغرفة المجاورة، اللواتي يحاولن ختم القرآن اليوم وقد أتين لتعزيتها من “الغوطة الغربية”.

رحت أتأمل ذاك الشاب الباسم أبيض الوجه في الصورة التي على الحائط، بشعره المصفف وسكسوكته المحددة بعناية، في الوقت الذي ذهب فيه “أبو خيرات” لإحضار صينية القهوة المرّة. لم أسأله عن تفاصيل رحيل أخيه، عرفت فحسب بأنه قتل برصاصة قناص. مرّ وقت طويل على الحادثة، أكثر من شهر يعادل سنة في كثافة الأحداث المتتالية كل يوم.

يوم الثلاثاء، قبل يوم من مقتله، كان وشباب حي “برزة” مفعمين بفرحة امتلاك جهاز للبث المباشر، هدية من بلد عربي، حسبما علّق “أبو خيرات” وهو يصبّ القهوة القاتمة في فنجان مستدير أبيض. كان سيؤمّن لهم صلة مباشرة بالقنوات الفضائية المتعاطفة معهم، الأمر الذي سيخفف عبء تصوير المظاهرات بالموبايلات وتحميلها على الكومبيوترات لبعثها إلى القنوات! لكن في اليوم التالي كانت جثث شباب الحي ملقاة في الشوارع لساعات ولم يستطع ذووهم التقاطها، فالقناصات على الأسطح المحيطة بالمرصاد لكل من يقترب.

– لا يمكنك أن تتخيّل كيف يكون شعور المرء وهو يرى جثث أحبابه بعيدة عنه أمتاراً لا غير، ولا يمكنه احتضانها!

رمى الجملة ولم ينتظرني كي أرد، فقد ولج من فوره نقاشاً عن المؤتمر الأول الذي سيعقده المجلس الوطني المعارض في “تونس”.

الآن وسائق سيارة الأجرة يراوغ قوافل السيارات الأخرى ليصل إلى حي “كفرسوسة”، لم يكفّ “صفوان الشيخ” عن حثّه على الإسراع، وهو يحاول الاتصال مراراً بموبايل “مريم”. صوت المسجلة العالي يزعق بأغنية سريعة وصاخبة، تحكي عن رجل يتمنى أن يتحول إلى تنباك للأركيلة. طلب “صفوان” من السائق أن يخفض الصوت قليلاً ليستطيع سماع الاتصال. خفّض السائق الصوت، لكنه بقي يغني مع المطرب المتحمّس: “وبحس بحالي ربحت الكاس… أول مين شفافك باس…”

منذ وقت طويل لم نسمع هكذا أغاني.. تعرف، نقضي الوقت كله أمام نشرات الأخبار!، قال “صفوان”.

نحن أيضاً، لكن فهمك كفاية، أبقي صوت الأغاني عالياً حتى يسمعها عناصر الحواجز. يريدوننا أن نقتنع بأن الدنيا بخير، ولا يوجد مشاكل، والأزمة انتهت وهكذا… صدقني كل السوريين مثلك لا يستمعون إلا لنشرات الأخبار!

ابتسم “صفوان” وصمت.

دبابة بلون أخضر غامق تقف تحت جسر المشاة، يرفّ على سبطانتها العلم الرسمي لسوريا وتتجه إلى الشرق. ذاك الطريق مغلق بسياج حديدي عالٍ. تُغيّر السيارة طريقها باتجاه آخر، مغلق أيضاً بسيارتي أمن ستيشن بيضاوتي اللون. تُبدّل إلى طريق مغاير! كان “صفوان” يريد أن يقطع ساحة العباسيين بدون أن يمرّ قريباً من حي “جوبر”، فذاك الشارع يجعله يرتعد خوفاً مع كل الاحتمالات التي قد تأتي منه. شارع “فارس الخوري” مزدحم معفّر ومنهك، لكن “صفوان الشيخ” أصرّ على الانتظار حتى استطاع السائق المراوغة ولوج الساحة.

“ساحة العباسيين” التي لطالما امتلكت تجهّم الحكماء، غدا تجهّمها اليوم مثقلاً منفّراً. لا يشبه بحال خفة ودلع ساحة “السبع بحرات” مثلاً، فكّر “صفوان”.

“كل ساحة في “دمشق” لها غوايتها المتفرّدة: “ساحة الأمويين” تتمدد كامرأة مغوية، لكن مظهرها يشي بقليل من الابتذال. “ساحة عرنوس” أم مشغولة بأطفالها العشرة. “ساحة الشهبندر” غامضة وتشي بالكثير من القصص المطمورة، أما “ساحة المرجة” فعجوز سبعينية، بقدر ما هي حنون وحكيمة بقدر ما هي حانقة على هذا الزمان الذي أوصلها إلى ما هي عليه الآن بعد ماضيها المتعالي”.

كل أمكنة “دمشق” اليوم تغيرّت. فقدت صبغتها القديمة تلك، وأضحى لتفاصيلها ملامح مغايرة لا تشبهها.

(*) مقطع من كتاب “الذين مَسّهم السّحر/ من شظايا الحكايات” لروزا ياسين حسن، صدر تواً عن منشورات الجمل وينشر بالاتفاق مع الناشر.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى