أكرم البنيصفحات سورية

عن التصعيد العسكري التركي في الشمال/ أكرم البني

تصدي الطائرات التركية لمقاتلات سورية وإسقاط إحداها، تكرار تهديد أنقرة بضرب أي طائرة حربية تخترق المجال الجوي، ما يثار عن تأهب حكومة أردوغان واستعدادها لتأمين منطقة حظر جوي ربما تقتصر على الشريط الحدودي مع سورية، وإذا أضفنا ما يشاع عن مساعدة قدمتها لفتح ما سمي «بمعركة الساحل» عبر تسهيل مرور أعداد كبيرة من مقاتلي المعارضة المسلحة عبر أراضيها ودعمهم لوجستياً وتزويدهم ببيانات عن تحركات القوات النظامية، وأضفنا أيضاً ما سرب عن خطة تركية للتدخل العسكري تمت مناقشتها في اجتماع لوزراء وقيادات عسكرية وأمنية تنفذ في حال أفضت التطورات الميدانية في سورية إلى ما يهدد المصالح العليا للدولة، نقف أمام أهم عناوين التصعيد العسكري لحكومة أنقرة ضد دمشق.

والحال، ثمة ثلاثة أسباب يمكن أن تفسر جدية موجة التصعيد العسكري التركي الأخيرة وتمنحها عزم الاستمرار لإحداث تغيير في مسار الصراع السوري حتى لو أفضى ذلك إلى حرب، وذلك بخلاف موجات سابقة كانت تحاصر وتلجم كي لا تصل إلى لحظة المواجهة العسكرية المباشرة بين الطرفين.

السبب الأول يتعلق بمتغيرات طرأت على حلفاء النظام السوري وعلى قدراتهم في الدفاع عنه وفي ردع أي محاولة للتدخل العسكري ضده، فروسيا منشغلة اليوم بما يجري في أوكرانيا ومرتبكة بتواتر العقوبات الاقتصادية الغربية عليها، الأمر الذي يدفعها للتريث قبل الاقدام على مغامرة عسكرية دفاعاً عن النظام ضد تركيا ربطاً بتنامي حاجتها لمهادنة أنقرة كي تحافظ على الاتفاقات الاقتصادية الواسعة المبرمة بين الطرفين، بينما تبدو إيران أضعف عزماً اليوم وقد أنهكها طول أمد الصراع السوري وما صرفته من إمكانات مادية وبشرية، وتالياً أكثر تحسباً في دفع موقفها إلى النهاية وخوض حرب دعماً لحليفها، واضعة في حساباتها انحسار الدور الروسي، وضرورة تخفيف العقوبات المفروضة عليها عبر الاستمرار في مفاوضات شاقة مع الغرب مبتدأها إعادة بناء الثقة بقدرتها على التعايش سلمياً مع المجتمع الدولي، ما يرجح اكتفاؤها بتهديد أنقرة باللجوء إلى العقوبات الاقتصادية لردعها وتحديداً بقطع إمدادات النفط، وعليه فقد استندت حكومة أردوغان إلى مثل هذه المتغيرات لتوقيت تصعيدها العسكري، فكيف الحال إذا تكامل الأمر مع صمت الغرب وحلف شمال الأطلسي وتواطؤهما على منح أردوغان فرصة جدية لمنع النظام من تحقيق نتائج عسكرية ذات مغزى تمكنه وحلفاؤه من قطف ثمار انتصار ولو باهت، وتالياً لإجباره على العودة مجدداً إلى طريق المعالجة السياسية.

السبب الثاني يرتبط بمسار الصراع السوري ذاته، وما يجب ملاحظته اليوم أن تركيا لن تقف مكتوفة الأيدي وهي ترى المشهد يتغير وتوازنات القوى تتبدل لمصلحة النظام بعد تمكنه من استعادة مناطق مهمة في ريفي دمشق وحمص، والمعنى أن ثمة حسابات إستراتيجية وراء التصعيد العسكري لقطع الطريق على مسارات تعتبرها أنقرة خطرة على مصالحها، إن لجهة التخوف من نجاح النظام في تعزيز وتمكين البنية الاجتماعية والاقتصادية في المدن المسيطر عليها تاركاً الإمارات الجهادية ومناطق الدمار والخراب عبئاً على البلدان المجاورة وعلى تركيا، وإن لجهة الخشية من حصول تطور في بعض المناطق يفضي إلى ما يشبه الكانتونات الطائفية والقومية، ما قد ينعكس سلباً على الداخل التركي بفعل مكونات عرقية وثقافية متداخلة بين البلدين، فلا يناسب حكومة أردوغان أن تجد الأقلية العلوية ظهراً تستند اليه في سورية كي تجاهر بهويتها وخصوصيتها، مثلما يسبب لها تفرد حزب الاتحاد الديموقراطي السوري في السيطرة على بعض المناطق ضرراً كبيراً. فهو نصير حزب العمال الكردستاني المعارض، وينذر حضوره بالقرب من حدودها، بشحن النزعة القومية وربما إعادة الاعتبار لخيار العنف والكفاح المسلح وإجهاض فرصة التسوية السياسية التي أرستها المفاوضات بين عبدالله أوجلان والدولة التركية.

أما ثالث الأسباب فيتعلق بأزمة اردوغان الداخلية، حيث سبقت موجة التصعيد العسكري الانتخابات البلدية التركية لتبدو كأنها جزء من المعركة لكسب مزيد من الأصوات المتعاطفة مع معاناة الشعب السوري، بخاصة أن حزب العدالة والتنمية لم يكن في أفضل حالاته، بل كانت تلاحقه فضائح الفساد ومعارضة استطاعت تسيير تظاهرات حاشدة ضده، وما يؤكد جدوى العزف على وتر التعاطف مع ما يكابده السوريون، إصدار بعض القرارات التي تسهل فرص حياتهم، في العمل والتعليم والصحة، إن داخل مخيمات اللجوء أو خارجها، من أن نغفل توظيف هذا التصعيد لاستعادة ثقة الشارع العربي بحكومة أنقرة، وقد اهتزت بسبب التناقض بين تصريحاتها وممارساتها وبين عجزها عن القيام بفعل ملموس يرقى إلى مستوى المأساة السورية الفريدة، بما في ذلك إعادة بعض البريق للعمارة الاسلامية الديموقراطية التي يدافع عنها حزب العدالة والتنمية كنموذج يحتذى، بعد أن أصابها تشوه وتصدع جراء تخبط الإسلام السياسي وانحسار شعبيته في بعض بلدان الثورات العربية وخاصة في مصر.

صحيح أن تركيا حاولت الافادة من الثورة السورية لتوسيع رقعة حضورها ودورها في المشرق العربي، وصحيح أن ثمة مخاوف ومصالح كانت تلجم دخولها في صراع عسكري مفتوح مع النظام السوري، بدليل مواقفها الهادئة والمتريثة في الرد على تكرار قصف بعض المواقع التركية وإسقاط إحدى طائرتها الحربية، لكن الصحيح أيضاً أن حكومة أنقرة التقطت اليوم ما يحصل من متغيرات كي تتشجع وتسوغ تصعيدها العسكري، لكنها على الأرجح لن تذهب بعيداً في هذا الخيار، فهي خير من يتحسب دفع الأمور إلى حدها الأقصى وإلى معركة كسر عظم، فسياستها البراغماتية وحسابات الربح والخسارة لا تخفى على أحد. وربما لن نفاجأ، بعد وقت قصير، أن نرى حكومة أردوغان تسعى هي ذاتها إلى التهدئة، إن ضمنت حصة ترضيها ومستوى من الشراكة والنفوذ في معالجة الملف السوري.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى