صفحات سورية

عن الثورات، وعن اصطيادها/ ثائر ديب

 

 

إذا كان من غير الممكن فهم الظواهر بمعزل عن السياق التاريخي الذي يخترقها، فإنّ ما يُدعى بـ «حقبة ما بعد الحداثة» كما تتجلّى في العالم العربي الذي يتّسم بتخلف بناه وتبعيته، هي إطار ثورات «الربيع العربي» وسياقه.

ما يعنيه الوجود في «ما بعد الحداثة» هو الوجود في حقبة تاريخية مخصوصة تبدي ارتياباً بقيم «التنوير» ومعاييره، كالحقيقة والموضوعية والعقل والتقدم، وتعتبرها «سرديات كبرى» أفل عصرها، وترى إلى العالم بوصفه طارئاً وعَرَضياً، بلا أساس، ولا ثبات، بعيداً عن أيّ قطع، بل مجرد مجموعة من التأويلات الخلافية والسرديات الصغرى هي منبع الارتياب المشار إليه.

مثل هذه الرؤية لها شروطها المادية، الأمر الذي قد لا يروق لما بعد الحداثيين: فهي تنبع، كما يرى مفكّرون ماركسيون، من تحوّل تاريخي شهده الغرب صوب شكلٍ جديد من الرأسمالية، وصوب عالمٍ من التكنولوجيا والنزعة الاستهلاكية واستيلاء المصالح التجارية على الثقافة؛ عالم سريع التبدد والزوال، بلا مركز، انتصرت فيه صناعات الخدمات والمال والمعلومات على المصنع التقليدي، وأخلت فيه السياسات الطبقية الكلاسيكية الميدان لسلسلة واسعة ومتباينة أشدّ التباين من «سياسات الهوية والجماعة».

بلغت هذه الحقبة ما بعد الحداثية العالم العربي، المتخلف والتابع أصلاً، مع بلوغها آخرها وأزمتها في الغرب. وبذلك انضافت إلى ركام سابق من «تطور التخلّف» في بنية تاريخية اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية عربية تجمع في كيان واحد بين القديم والحديث، والتقليدي والمعاصر، فتحضر هويات حديثة بالمعنى الحقيقي الواضح للكلمة إلى جانب هويات حديثة لكنها تبدو كأنها تستمد مضمونها وشكلها من ماض قديم فائت تريد استعادته: هويات حديثة تسير بخلاف الحداثة.

بعبارة أخرى، لا تنطوي ما بعد الحداثة وعولمتها السائدة الآن على تزامن حضاري برغم إقامتها الأساس لحضارة عالمية. ففي حين يعيش الجميع داخل الحداثة وما بعدها، إلا أنَّ بعضهم فحسب هم الذين يعيشون معها، في حين يعيش بعضهم الآخر بخلافها وإن يكن ليس خارجها. وليس هذا باللعب على الألفاظ بقدر ما هو إشارة معقدة إلى واقع معقد.

هذه الآلية المعقدة الموحَّدة والمتباينة في آن معاً، هي الإطار الذي يفسّر ما نواجهه من ظواهر ثقافية جديدة. ففي حين تجعل العولمة من الصعب فهم ما يحدث في مجتمع محدد من دون الالتزام بتقديم تصوّر شامل، وفي حين تجعل من العالم وحدة التحليل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وتضع الهوية الثقافية القائمة على الدولة الوطنية تحت ضغط كبير، وتعمل باتجاه تفكيك العلاقة بين الهوية والمحلّة أو المنطقة أو الدولة، نجد أنّها بآثارها هذه، تولّد ردود فعل متنوعة، منها ما يسعى إلى تعريف الهوية تعريفاً غرباوياً تابعاً ومائعاً، ومنها ما يسعى إلى تعريفها تعريفاً ضيقاً وخطيراً تحدوه نزعة عنصرية عدوانية تكشف عن نوع من الارتداد الدفاعي. وهذا ما نجده في كلّ من المركز الغربي والأطراف التابعة، حيث يُضاف إليه في هذه الأخيرة ذلك الأثر الذي يولّده عدوان المركز، مما يخلق نزوعاً قوياً إلى التحصّن بالماضي والإيواء إلى التراث والأصول والانغلاق على هويات خاصة مضادة.

هذا السياق ما بعد الحداثيّ، في منطقة متخلفة وتابعة يسودها الاستبداد الوحشي، يجعل من الثورات التي يخترقها نموذجاً تاريخياً جديداً يتّسم بكثير من السمات الخاصة التي يجب تتبّعها، ومنها التأليف بين مطالب ذات خلفيات مختلفة في الوقت ذاته: طبقات وفئات اجتماعية مختلفة ومتناقضة، تيارات سياسية مختلفة ومتناقضة، مطالب هوياتية وغير هوياتية مختلفة ومتناقضة، فنرى في مواجهة الأنظمة الحاكمة كلّا من الليبراليين واليساريين والتديّن المعتدل والإرهاب الديني، ونرى في صف الثورة قوى ثورية بالفعل إلى جانب قوى الثورة المضادة. كلّ ذلك في إطار من الاستبداد المحلي الذي صحّر الواقع وكاد يفني قواه الحيّة سجناً وقتلاً وطوائف، وفي إطار من العولمة التي أحلت «الناشط المموَّل» محلّ «المناضل» وأحلّت الـ NGOs وورشاتها التدريبية، حيث يُخصى من يريد من المناضلين، محلّ الأحزاب والنقابات الثورية.

هذا الاتساع والتعدد والتناقض في المطالب، مضافاً إليه قمع الأنظمة الوحشي الذي لا حدّ له، يضع عقبات ومخاطر كثيرة في طريق انتفاضات شعوب منطقتنا: تبدأ هذه المخاطر بصعوبة قيام قيادة فعلية واضحة ومسموعة، ولا تنتهي بفرض أجندات خارجية هي أبعد ما يكون عن الشعارات والمطالب الأساسية المتمثلة بالحريات والحقوق والكرامة والعدل الاجتماعي والمواطنة المتساوية، مروراً بغياب أي برنامج جدّي للحكم القادم. لكن الأخطر على الإطلاق هو ما يمكن أن يترتب على عنف الأنظمة من عنف مقابل يمكن أن يجرّ البلد في مهاوي الخراب والدمّ والطائفية. والأمر، باختصار، أننا إزاء ثورات تقف عند مفترق طرق جاهزة للسير في هذا الاتجاه أو ذاك من الاتجاهات المتناقضة.

ما تشير إليه تجارب ما دُعي بـ «الربيع العربي» إلى الآن، هو أنّ الحفاظ على روح الثورة حيّة، والحيلولة دون تحولها في اتجاهات هوياتية دينية وطائفية، ودون اصطياد مطالبها في شبكات الحرب الأهلية، يقتضي من قواها الحقيقية فكراً وممارسةً يتّسمان بأشد الدقّة والحذر والنَّفس الطويل: بحيث يُحَافَظ على حضور الحراك وسلميته ووطنيته (بمعنى شموله كلّ أبناء الوطن بصرف النظر عن مذاهبهم، كما بمعنى حمله القضايا الوطنية والقومية وعدم تركها لادّعاءات الأنظمة)، وبحيث يُحْرَص على إمكانية توسّعه باتجاه فئات لا تني تتزايد بدلاً من جعلها تفرّ بالحرب، وبحيث يُبْقَى على الطابع الراديكالي الأصلي للصراع بوصفه صراعاً من أجل الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، لا صراعاً قاتلاً بلا أفق بين هذه الطائفة وتلك، ذلك أنَّ حرف الصراع في مثل هذه الاتجاهات كفيل بأن يحوِّل أولاد البلد الفقراء والمظلومين من قوى للثورة إلى قوى للتدمير المتبادل، ومن قوى للحلّ إلى جزء من المشكلة، سواء علموا أم لم يعلموا. مثل هذه المطالب الاقتصادية الاجتماعية هي التي يجب أن تشكل الأساس الذي تقوم عليه مطالب الهوية وليس العكس، وإلا فليس من أفق سوى الموات والخراب.

ما سبق يقتضي وجود سياسة للثورة، على عكس بعض الدعوات الطفولية التي اعتبرت أنّ الثورة سياسة ذاتها. وسياسة الثورة في ظروف كظروفنا تقتضي شعارات ممكنة التحقيق، وتقتضي التفريق بين الممكن النظري والممكن التاريخي والشعار العملي الذي يمكن رفعه وتنفيذه. فهذه مسائل مختلفة كل الاختلاف ويقتضي الانتقال من واحدها إلى الآخر زمناً ونضالات. وربما أمكن القول إنه كلما كبرت الشعارات ابتعدت الثورة، وإن الأفضل للثورة هو شعارات مدروسة ومحددة تكون عبارة عن خطوات مترابطة جاذبة وعامة لا تدفع أبناء البلد الى طوائفهم، ولا تجعلهم يفرّون من الميدان بدخول المسلحين إليه.

ما سبق قد يشير أيضاً إلى ضرورة المقارنة بين تجارب التحول الديموقراطي في مناطق مختلفة، كأوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية وعالمنا العربي، لاستكشاف ما يميّز كل تجربة على الرغم من اندراجها جميعاً، بنجاحها وفشلها وخصائصها المتفردة، تحت العنوان العريض للثورة السياسية الرامية إلى الديموقراطية والمواطنة ودولة القانون. ومع أنّ مثل هذه المقارنة يمكن أن تبقى عند الشكليات التقنية، فإنها يمكن أيضاً أن تمضي إلى عمق الأمور: تميّز كل بلد في بنيته وتاريخ تطوره، تميّز المواقع الجيوسياسية، تميّز الثقافة والدين، تميّز قيادات الثورات واختلافهم الجذري بين ثوّار حداثيين يعتبرون أنفسهم جزءاً من هذا العالم المتناقض والصراعي وينظرون باتجاه مستقبل أفضل و «ثوّار» يريدون استعادة ماضيهم «المجيد» المرتبط بالدين غالباً فلا ينفكّون ينظرون وراءهم ويخبطون رؤوسهم بجدران الحاضر المنيعة.

أخيراً، لعلّ الأقلّ نقاشاً في هذه الأيام ما بعد الحداثية التي غزاها ناشطو الـ NGOs من جهة وملتحو التكفير والإرهاب الدينيين من جهة أخرى، هو موضوع التنظيم وقيادة الثورة. صحيحٌ أنّه يصعب تصور حزب لينينيّ في هذه الأيام، إلا أنّ حزباً كحزب العمال البرازيلي لا يصعب تصوره البتّة. ففي مثل هذا الحزب الذي لا تلعب فيه الإيديولوجيا سوى دور الخلفية التي تقف بعيداً، ثمّة مقاتلون في حرب العصابات وشيوعيون كلاسيكيون وتروتسكيون وماويون ورجال دين ومثقفون مستقلون ومحض تقنيين … وضعوا لأنفسهم ولبلدهم برنامجاً عاماً وخصصوا كثيراً من فرص النقاش وأدواته كي يتفقوا على ما يجب القيام به كلّ فترة، قبل أن ينصرفوا إلى تنفيذه بكلّ انضباط، وبوسائل سلمية هي التي جلبت لهم ما حازوه من أصوات أبناء شعبهم. مثل هذه الأشكال الحديثة والتقدمية والجماهيرية من التنظيم هي أداة استمرار أي ثورة، وإلا لغرقت في أيدي أغرار لا يلبثون أن يؤذوا أنفسهم قبل أن تؤذيهم الأنظمة، أو في أيدي ناشطي التمويل الذين يُراد إبرازهم على أنهم ثوّار العصر، أو في معمعة الجماعات الإسلامية الأصولية التي تدعمها تركيا ودول النفط مع وجود قوي لـ «القاعدة» و «داعش» في ظلالها.

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى