صفحات الرأي

عن الجريمة وأَشْكلة “المسلمين”/ سامر فرنجيّة

 

 

لم يستغرق الأمر كثيراً من الوقت، فاقتصرت لحظات الضياع والريبة على بضع دقائق، فصلت بين خبر الهجوم على مقرّ مجلّة «شارلي إيبدو» والتأكيد المصوّر لهوية المجرمين. ومع سماع صرخة «الله أكبر» التي أطلقها أحد الأخوين كواشي في لحظة فعلته، تحرّرت الخطابات من انتظارها الطويل، وانكبّت على الحدث لتفترسه وتجرّ ما تبقى منه إلى كهوفها المعتادة. وفي تكرار مملّ لحاضر مجمّد، توزعت أشلاء الحدث على مقولات «صراع الحضارات» و«حرية التعبير» و«الإسلاموفوبيا»، وانتهت مرحلة جديدة من سيرورة «أشكلة» المسلمين.

بعد الوليمة، ظهر سؤال وحيد بتلاوين مختلفة: هل يمكن الكلام عن هذا الحدث من دون المشاركة في عملية أَشكَلة هذه الهوية، أو هل هناك خطاب «بريء» من عملية تصليبها، أو هل هناك أفق لهذه الإشكالية من داخل إحداثيات هذه الأشكَلة؟

فالبدء مع مقولة «حرية التعبير»، ومع خطّها المستقيم من فولتير إلى سلمان رشدي، وصولاً إلى الملايين التي تظاهرت دفاعاً عنها ضد خطر غير محدّد لكون الفاعلين، على رغم طمأنة الجميع، باتا إشارة إلى جسم أكبر منهما. فعلى رغم تحذير الجميع، وعلى رأسهم زعيمة «الجبهة الوطنية» مارين لوبن، من خطورة الخلط بين الأخوين كواشي ومسلمي فرنسا، بات هذا الخلط واقعاً مع تعدد «الرسائل المفتوحة» من المسلمين وإليهم، واستعادة أسطوانة الإصلاح المفقود في الإسلام والبحث العبثي عن البطل المفقود، أي «مارتن لوثر المسلم» (الذي رآه البعض في صورة أحمد مرابط واندماجه في فرنسا، على رغم كونه فرنسياً). الأخوان كواشي لا يمثلان «الإسلام»، يردد العقلاء، غير أنّ «المسلمين» مطالبون بالمثول أمام محكمة «حرية التعبير» لتحديد طبيعة إسلامهم، بعدما حُسمت هويّتهم كـ «مجرّد مسلمين». «حرية التعبير» في هذا السياق باتت مرادفاً عن البحث عن «المسلم الطيب»، هذا الكائن الذي عليه الاندماج في مجتمع وزمان معينين من دون المسّ بهما.

ملحمة «حرية التعبير»، التي تظاهر من أجلها الملايين، هي ملحمة، على رغم أهمية الدفاع عنها. بيد أنّ الملحمة، على رغم فعاليتها الحماسية، لا تشكّل دليلاً تاريخياً موثوقاً. فتاريخ قوانين «حرية التعبير» وتنظيمها لا يستقيمان ضــمن ثنائيات الملحمة، بل يتحرّكان وفـــق إيقاع مختلف وحول قيود قانونية واجتماعية، بعضها عقلاني، والآخر موروث، والبعض قمعي والآخر ضروري. هذا لا يعني أنّها مجرّد غطاء لمصالح فئوية وعنصرية دفينة، بل يشير إلى أنّ مسلمي فرنسا لا يتواجهون مع ملحمة «حرية التعبير» وسهولتها بل مع تاريخها وتعقيداته. والتاريخ الحالي لهذه المواجهة مرتبط بمسألة «الإسلاموفوبيا» وتحويل المسلمين، خاصة المقيمين في الغرب، إلى مشكلة أو إشكالية، يجب تنظيمها وقوننتها، كما تشير مسألة الحجاب ومنعه والأكل الحلال وتنظيمه والشريعة والخوف منها وصولاً إلى الخوف المتزايد والمعلن عن فقدان فرنسا هويتها جراء موجات الهجرة المغربية. وفي مناخ ما سمي بـ «١١ أيلول ثقافي»، نُشِر كتابان، باتا من الأكثر مبيعاً في فرنسا، الأول يتهّم الفرنسيين بالانتحار لخروجهم عن تقاليدهم والآخر يتنبأ بأسلمة فرنسا عام 2022.

ولدى هذا «اليمين الحضاروي»، الذي يتحوّل تدريجياً إلى وسط مقبول، ليس من مطالبة موجهّة للمسلمين أو من محكمة يمثلون أمامها، كونهم غير قادرين على الإصلاح أصلاً. فهم مجرّد استنتاج بشري لنص، يذوبون ويتوحدون فيه، على رغم مصائرهم الكثيرة. «العاقل» يخيّر المسلمين بين إسلامين، أما «الرجعي»، فيحترم اختلافهم ويعفيهم من خيار كهذا.

غير أنّ هذين التفسيرين لحدث «شارلي إيبدو» ليسا المشاركين الوحيدين في عملية «أَشْكَلة» المسلمين. فقد بات مناهضو «الإسلاموفوبيا» جزءاً من هذه العملية، خاصة بعدما طغى الطابع الثقافي على النقاش. فيقوم هذا التفسير على تذويب الإسلام كهوية في لحظة الجريمة، وبالتالي إعادة تكرار فكرة تنوع المسلمين في وجه النظرة العنصرية، ليعود ويصلّب الهوية في طور استضعافها. ولهذا التصليب أسباب عدة، منها ضرورة الدفاع عن المستضعف في وجه محاولات تنظيمه وإدارته، ومنها رومنسية رأت في الإسلام «الآخر» المخلّص، بعد ضمور أبطال التاريخ الماضين. ففي مناخ من أشكَلة الهوية وصراع الحضارات، استسهل العديد الدفاع عن المستضعفين عبر قلب الصورة من دون التشكيك بشروط الحوار، وبالتالي انتهوا، على رغم النوايا الجيدة، في المشاركة بعملية الأشكَلة هذه.

لقد أعادت جريمة «شارلي إيبدو» طرح مسألة «ماهية» المسلمين، بعدما كانت الثورات العربية غطّت عليها لفترة قصيرة من خلال سحب حصرية التمثيل السياسي للمسلمين من الإسلاميين وإعادة فتح مسألة تمثيل العالم العربي على تنوعه المادي. فشل الثورات بات فشلاً كونياً، قضى على إمكانية الخروج من الحلقة المفرغة التي تدعى مسألة الهوية، ليفقد الخطاب «براءته» ويصبح مرادفاً لعملية أشكَلة المسلمين. الكلام عن المسألة بات كلاماً في الهوية.

الخروج من حلقة مفرغة كهذه قد يقتضي، كما كتب أوليفييه روا في صحيفة «لوموند»، الاعتراف البسيط بأنّه ليس هناك من أمّة إسلامية أو هوية إسلامية واحدة، بل هناك مسلمون متنوعون (9/1/2015)، وبالتالي الاعتراف بأنّ عدداً من المسائل المطروحة مصطنع. هذا الرفض للحاضر الخطابي باسم حاضر واقعي قد يبدو بسيطاً، غير أنّ اعترافاً كهذا بات مرهوناً بتحوّلات بنيوية، بينها اعتراف الغرب بتاريخه وحاضره الفعليين، اللذين لا ينتظمان في روايته عن ذاته القائمة على «حرية التعبير» وحسن استضافته لمهجّري العالم، وبالتالي بتاريخ مكوّنه الأساسي، أي الدولة-الأمة. كما أنّه يتطلب سحب الاستثمار النفسي لدى الكثيرين في مسألة الهوية والخروج من عملية «أشكَلة» المسلمين. هذا ما لن يحصل اليوم.

غير أنّ الحياة لا تنتظم تماماً داخل الخطابات، وتبقى تفيض عنها، بصراعاتها ويومياتها. وهذا ما ليست له ترجمة خطابية. فلربّما كان الموقف «البريء» الوحيد في وجه افتراس الخطابات بعضها البعض وافتراس أجسام من يسائلونهم عن إسلامهم وفي وجه عملية تشبيع الحدث بالخطابات، هو الصمت ومحاولة الإصغاء لمن لا يتكلّم.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى