صفحات سوريةعبدالله تركماني

عن الحامل الاجتماعي للثورة السورية


د. عبدالله تركماني

لم يكن روبرت مالي، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية، مجافياً للحقيقة حين قال: ‘إن النظام يقوم، خطوة خطوة، بالابتعاد عن دعامات تأييده الرئيسية: قاعدته الاجتماعية (الأغلبية الصامتة في البلاد وقواته الأمنية ذاتها). إنه يحوّل، من خلال أفعاله، أزمة قابلة للإدارة إلى شيء أكثر خطورة بكثير على نفسه وعلى المجتمع بصورة عامة’. فبعد ما يزيد عن أربعة أشهر من انطلاق الحركة الشعبية السورية تكشفت محدودية القاعدة الاجتماعية التي يرتكز إليها نظام الحكم، وحجم الخراب الذي أوقعه في الدولة السورية.

وفي المقابل تكبر كرة الثورة، وتنضم فئات جديدة من المجتمع السوري إلى المناخ الثوري. ويبدو أنّ الحامل الاجتماعي للثورة السورية سيكون العامل الحاسم في سيرورتها وآفاقها المستقبلية، بعد أن تجاوزت مرحلة الاحتجاجات والتظاهرات المحدودة، التي بدأت بعشرات أو مئات الأشخاص، لتتحول إلى تظاهرات تضم مئات الآلاف، مما يدل على اتساعها وانتشارها الواضح أفقياً وعمودياً، وبعد أن استطاعت كسب تعاطف فئات اجتماعية واسعة في مختلف أنحاء البلاد. وتكمن أهمية مؤشر انخراط مكونات وفئات جديدة في فعاليات الثورة، في إمكانية إعطاء الثورة هوامش حراك ومناورة ضرورية وحيوية، تخرجها من وصف ‘ثورة الريف’، أو ‘ثورة المساجد’، أو ‘ثورة الأحزمة العشوائية’، وهو الأمر الذي بقدر ما يعطيها القدرة على الاستمرار والتواصل، يمنحها أيضاً القدرة على تحقيق التمثيل لأكبر فئات المجتمع ومكوناته، على طريق الحالة الوطنية الشاملة، التي ترتكز إلى استنهاض الشعب، ككتلة سياسية فاعلة، لها مطالب واضحة تخص الجميع وترتبط بالإطار الوطني الجامع وبالمشاركة السياسية.

إنّ الثورة السورية، كبقية الثورات العربية، لا تقتصر على لحظة انفجار محددة بزمان ومكان معينين، لكنها مسار تصاعدي يمتد وفق زمنيته الخاصة ليشمل مناطق وأماكن جديدة. وما يبدو اليوم تلكؤاً لمدينة حلب قد ينقلب في أية لحظة انخراطاً متسارعاً لها، ولنا في حماه خير دليل على الكيفية التي قد تتسارع فيها الأحداث، فهذه المدينة الثكلى انتظرت عشرة أسابيع قبل التحاقها، لا من باب التمرد الإسلامي المسلح كما في بداية ثمانينات القرن الماضي، ولكن من باب الحرية والكرامة والوطنية السورية الجامعة والتحرك السلمي.

أما في دمشق، فقد نجحت السلطة في إبعاد الاحتجاجات عن الجامع الأموي، وأغلقت بقوة الحديد والنار ساحات دمشق العامة في وجه المتظاهرين، كما حدث في المناطق المحيطة بساحة العباسيين حيث سقط عشرات الشهداء. لكنّ التظاهرات امتدت إلى بعض أحياء دمشق الشعبية كالميدان والقابون والقدم وركن الدين وشملت معظم ريفها وضواحيها، والتي لا تزال عصية على القبضة الأمنية. ومن يعرف خصوصية التداخل والتكامل بين دمشق وغوطتها وريفها القريب، حيث يقيم العديد من سكانها، يدرك أنّ دمشق الحقيقية، التي تتقطع أوصالها بالحواجز الأمنية ويُرَاقبُ سكان ضواحيها أثناء الدخول إليها، إنما تتظاهر وترفع شعاراتها وتعبّر عن مدنيتها، خارج الأسوار، بعدما أحكمت الدولة الأمنية قبضتها على المجالات العامة داخلها.

وهكذا، فإنّ السوريين الجدد، حسب تعبير الكاتب والناشط فايز سارة، هم أبناء الحراك الشعبي، وغالبيتهم من الشباب، وقسم كبير منهم من المتعلمين، وعلى رغم أنّ أكثرهم من الرجال، فإنّ قسماً مهماً منهم من النساء، ويتركز وجود هؤلاء جغرافياً بصورة أساسية في الأرياف وفي المدن المتوسطة وعلى حواف المدن الكبرى، ولهذا الانتشار الجغرافي ما يبرره. ففي غالبية هذه المناطق كان السكان مهملين أو على هامش الحياة العامة بمناحيها وأنشطتها، حيث لا أنشطة ولا مشاركة سياسية، وإن حضرت فإنها أنشطة ومشاركات للتسبيح بحمد وشكر السلطة وحزبها، في وقت لا تتوافر فيه الفرصة لأنشطة من ألوان سياسية وأيديولوجية أخرى، كما لا تتوافر الفرصة لأنشطة عامة في إطار المجتمع المحلي أو منظمات المجتمع المدني ومنها الجمعيات التي تهتم بالبيئة أو التنمية وحقوق الإنسان وغيرها.

إنّ الطيف الشبابي أعاد السياسة إلى الفضاء السوري العام، بعد أن غابت لعقود، والحرية تعني له آفاقاً مفتوحة أرحب تحيل إلى سورية كمجال عمل، وإلى خبرات اجتماعية وسياسية واقتصادية مشتركة، أساسها الشعور بحصار السلطة وضآلة الفرص، وإلى قيم إنسانية عامة كالمساواة والاحترام.’لقد أعلنها واضحة جلية أنّ الوحدة الوطنية هي قدس الأقداس، وأنه لا جدوى من أي شحن طائفي، أو غرس الرعب في أفئدة الناس عبر إيحاءات تمتد خيوطها إلى مكاتب المسؤولين في أجهزة المخابرات. فالوحدة الوطنية السورية المبنية على قاعدة احترام الخصوصيات، وتأمين الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لجميع المواطنين من دون أي استثناء، مثل هذه الوحدة الوطنية هي التي تعد الحاضنة الكبرى القادرة على جمع كل السوريين، بعيداً عن روحية الأحقاد، وعقلية الانتقام والإقصاء، وسياسة اعتماد الولاءات ما قبل الوطنية، المتناغمة مع النزعات الاستبدادية.

وهكذا، يبدو أنّ الثورة السورية قد تجاوزت مرحلة الخطر، بعد أن حققت الانتشار، وصنعت الديمومة، وأفرزت قياداتها، وباتت تملك الهوامش الضرورية للمناورة والمساومة وتحقيق الإنجازات. فالعامل الرئيسي في النهاية هو الشعب السوري، تصميمه على خوض معركة الحرية والكرامة إلى نهايتها، ووعيه بحقيقة الفرصة التاريخية المتاحة أمامه اليوم، ومخاطر تفويتها على مستقبل سورية وحريتها، كما على وعيها بذاتها ودورها العربي.

نحن أمام ثورة وطنية تجمع فقراء المدن والأرياف إلى أبناء الطبقة الوسطى، للمطالبة بالحرية والمشاركة السياسية والتقاسم العادل للثروة. والحل في سورية اليوم هو في انخراط جميع مكونات المجتمع السوري في عملية التغيير، لإعادة بناء وتشكيل دولة الحق والقانون المدنية التي تضم كافة مكونات المجتمع دون استثناء ودون خوف أو قلق.

إنّ القراءة المتأنية تثبت نجاح الثورة في صراعها مع السلطة على الصعيد الموضوعي من خلال اكتسابها قطاعات واسعة من الشعب السوري وتفكيك الخطاب الرسمي السياسي والإعلامي، وعلى الصعيد الذاتي عبر بناء شبكات تنظيمية فاعلة على امتداد القرى والمدن السورية، وبلورة رؤى سياسية واجتماعية لدى تيارات معارضة جديدة للمرحلة الانتقالية، ومرحلة ما بعد الاستبداد. وهي مقومات تدفعنا إلى الاعتقاد بأنه طالما حمت الثورة نفسها من خطر التسلح والطائفية، فإنّ ما اكتسبته من قوة وتنظيم وخبرة يكفيها لإكمال مشوارها اعتماداً على طاقتها الذاتية. ومهما حاولت السلطة المكابرة فإنّ الحقائق على الأرض راسخة، تؤكد أنّ الثورة تتمدد في الجغرافيا السورية كلها، وأنها تأخذ مظاهر العصيان الشامل في العديد من المدن.

‘ كاتب وباحث سوري مقيم في تونس

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى