صفحات الثقافةعمر قدور

عن الدبابة والجزرة

 


عمر قدور

“مغسل ومشحم الحرية للدبابات”، هذا إعلان فكاهي أطلقه ناشطون على الفيس بوك، لكن الدبابة موجودة في الشوارع، يُسمع هدير مجنزراتها، والبعض بات يميز صوت قذائفها. وهي، أي الدبابة، كما نعلم ليست مصدر فكاهة أصلاً، وقد صممت من أجل الحروب بين الجيوش لا من أجل الاستخدام المحلي. أما هذا الاستطراد في تعريف الدبابة فلا شك أنه يقلل كثيراً من أثر الطرفة، ويسير في منحى التعريف والشرح اللذين يتسم بهما من يرى في نفسه معرفة تفوق مستمعيه، ما يقتضي سعة صدر من القارئ ومن كاتب هذه السطور معاً!

في طرفة ثانية: يحتجّ ناشطو الفيس بوك على غياب العدل في توزيع الدبابات على الشوارع. فبعض الشوارع نال قسطاً أكبر من بعضها الآخر، والبعض منها حاز على دبابات ذات طراز أحدث من نظيراتها التي تتبختر في الأحياء الأخرى. العدل أساس المُلك، يقول أصحاب هذا الاحتجاج، ويأخذوننا على محمل السخرية الأولى أيضاً إلى الظن بسهولة التعايش بين الناس والدبابة. ولعلنا لا نستبعد هذه الألفة مع الدبابة عندما تصبح من التفاصيل اليومية للعيش، وإن تكن لقذائفها مهمة منافية تماماً للحياة، وقد يجد فيها الأولاد النموذج الواقعي بدلاً من الدبابات التي يلهون بها في الألعاب الصينية الرخيصة، دون أن يعوا الفرق بين الهزل والجد، فيكونون أحسن حالاً من الرضيع الذي استيقظ فزعاً لحظة انفجار القذيفة.

ربما يتواعد العشاق عند الدبابة المرابطة على المفرق، فيتخلل غرامهم شيء من المخاطرة يزيد في تأججه، ويحتفظون بهذه الذكرى لأبناء سيتحسرون مستقبلاً على انقضاء ذلك الزمن الجميل الذي يختلط فيه العشق بالدبابات، خاصة عندما يبالغ الآباء في تضخيم مآثرهم فتبدو المدرّعة صغيرة جداً ومنكسرة حيال الحبيبين. وبعيداً عن فروسية العشاق، إن طال الحال هكذا، ليس من المستبعد أن يتعزز تعايش الضرورة بين سكان البيوت وسكان الدبابات، وخلافاً لأوامر القادة يتخلى العناصر عن تأهبهم، ويرون في جيرانهم أولاداً يشبهون أخوتهم الصغار وأمّهات يشبهن أمهاتهم البعيدات فتنتابهم نوبات من الحنين، ولن يخلو الحال من خدمات متبادلة كأن يساعد الجنود امرأة في إيصال أسطوانة الغاز امتناناً منهم لزجاجة الماء البارد التي أعطتهم إياها قبل قليل.

غير أن أنسنة الدبابة على النحو السابق يشوبها التمني، والتحايل على الخوف. فالدبابة ما تزال تقوم بواجباتها المعهودة. وهي، بخلاف القناصة، تعوزها الدقة فيكون لها نصيب أوفر من الضحايا غير المستهدَفين، هذا إن افترضنا الدقة في التسديد والاستهداف أصلاً. ومن المؤكد أن الضحايا لم تتح لهم الفرصة ليتعايشوا مع الدبابة أو يرسموا لها صورة مرحة. ولو أتيحت لهم العودة إلى عالمنا لما رأوا فيها غير الويلات، مع أنهم على الأرجح سيفضّلون الموت السريع بقصف منها على الموت تحت التنكيل والتعذيب.

من جهة أخرى؛ ليس من المعلوم تماماً لماذا ارتبطت الجزرة بالأرنب، ولماذا بدوره ارتبط الأرنب بالخوف، مع أن الخوف فعل غريزي يزيد العقل من الإحساس به. وتصور لنا الثقافة أن الجزرة، لأنها طعام الأرنب المفضل، هي بمثابة المكافأة التي يحصل عليها كل مجدّ ومطيع، متجاهلين في هذا أن الأرانب بحدّ ذاتها لا تعقل معنى المكافأة أو الجد والطاعة، وتُساق إلى الذبح لا لذنب ارتكبته بل لأنها أرانب وحسب. قد يغيب هذا الارتباط أحياناً، فيبقى المجاز الذي يحفظ للجزرة مكانتها كمكافأة يحصل عليها البشر، رغم أن الجزرة لا تعتلي سلم الأغذية بالنسبة إليهم.

هكذا يشارك البشر الأرانبَ نصيبهم من الجزر، وفي المقابل تُسلب منهم امتيازاتهم التي تسمو بهم فوق الغرائز المجردة، خاصة إذ تقترن الجزرة بالعصا، فتفقد الجزرة حتى نكهتها البريئة من المعنى لتنطوي على ثواب يضمر التهديد والوعيد. تصبح الجزرة بهذا المعنى رمزاً لما يتم التحصّل عليه تحت طائلة الخوف، يكبر حجمها أو يصغر تناسباً مع أثره دون اكتراث بما هو مُستَحقّ فعلاً ما دامت اليد التي تمسك بالعصا هي التي تمسك بالجزرة أيضاً. ثم إن اقتران الجزرة بالعصا قد يظهر مألوفاً حيث يتطلب الحال شكلاً يشبه الهراوة مع حفظ الفوارق بين الاثنتين، إذ يصعب على الجزرة الارتقاء إلى حجم الهراوة، وقلما تواضعت الأخيرة إلى حجم الجزرة.

العصا أسبق زمنياً، لأن الجزرة يلوَّح بها في نهاية النفق، ويقتضي الوصول إليها مكابدة، إن لم يكن تجرعاً للذل. في الطريق إليها قد يكون ثمة فتات جزرة، أما الجزرة بتمامها فهي مرصودة كخاتمة للمساومة والابتزاز. وقد تطول المسافة إليها بمقتضى الوهن أو التقاعس. وفي هذه المسافة قد يعتاد الساعون إليها تمزقاً في أنفسهم، فأبصارهم وأفئدتهم مشدودة إلى الجزرة بينما أجسادهم تكابد الأوجاع المبرحة للعصا. قد تبدو صورة مهينة أن نتخيل الناس يلهثون كالأرانب خلف الجزرة، لكن هتلر كان سباقاً في الكشف عن المجاز فدأب على وصف خصومه بـ”ما دون البشر”، وربما لم يكن لديه الوقت والمزاج الكافيين ليبت في فصائل الحيوانات التي ينتمون إليها كما سيحدث لاحقاً.

لا شك أن الصلة بين الدبابة والجزرة قد تعدت الآن موضع التلميح، وإذا درجت الأدبيات السياسية العالمية على الحديث عن “سياسة العصا والجزرة” فإن قادة لنا، فضلاً عن بدعتهم المتمثلة بإدخال البلطجة إلى السياسة، قد ابتدعوا أيضاً سياسة الدبابة والجزرة. وبصرف النظر عن عدم التكافؤ المطلق في الحجم بين الاثنتين؛ الدبابة موجودة لا تخطئها العين، وهي بدورها لا تخطئ الأجساد برمتها، أما الجزرة فيُلوَّح بها من بعيد، ويُعتقد على نطاق واسع أنها لا تعدو عن كونها رسم جزرة.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى