بدرالدين عرودكيصفحات سورية

عن الدولة الديمقراطية الصورية وأرض الإفلات من العقاب/ بدر الدين عرودكي

 

 

قبل أكثر من أربعين عاماً، كان الكاتب السوري أنطون المقدسي يتحدث في مجالسه عن «الدولة الديمقراطية الصورية» التي كان الانقلاب العسكري الذي حمل اسم «الحركة التصحيحية» بسوريا في طريقه إلى بنائها. وقبل عشرة أيام نشر المحامي السوري، أنور البني، دراسة قانونية جديدة حملت عنوان «أرض الإفلات من العقاب»، يستعرض فيها الأسباب العميقة التي تقف وراء جرأة النظام السوري خلال السنوات الخمس الماضية في ارتكاب أبشع المجازر على مرأى من العالم كله، والجهد في بث أشد صورها بشاعة في ممارسة العنف المجاني: أسباب قانونية تمَّ وضعها بعناية منذ بداية الحركة التصحيحية، أي منذ اللحظة التي بدأ فيها بناء هذه «الدولة» الصورية.

ذلك ما يحمل كل مَنْ عرف هذا الواقع على الدهشة والسخرية حين يشهد جهد كثير ممن سوّقوا أنفسهم لتأجير خدماتهم خلال الثورة السوريا من أجل الظهور على شاشات الفضائيات العربية للدفاع عن النظام الأسدي بوصفه أميناً على دولة كاملة الأوصاف، كي يحاججوا بأنّ من أراد بها شراً لم يكن إلا مأجوراً أو سلفياً أو عميلاً صهيونياً. يتناسون، بل يتجاهلون عمداً وخبثاً، أنَّ الأساس في قيام الثورة كان خروج الناس في مدن وقرى سوريا جميعاً مُنادين بالحرية وبالكرامة اللتين افتقروا إليهما تحت وطأة نظام استأثر بالقوة وبالعنف المنهجي لحرمانهم منهما.

ليس الأساس في حقيقة الأمر إلا ما يتجاهلونه: نظامٌ اغتصب السلطة بانقلاب عسكري كان آخر خطوة في إعداد البلاد لاستملاكها في جميع المجالات، بدءاً بالجيش وانتهاء بالحياة الشخصية لكل فرد من أفراد الشعب. وكأنما بات هذا الاستملاك، الذي عاشه كل مواطن سوري، بديهية من بداهات الاجتماع والسياسة في عالم اليوم يمكن القفز عليها بسهولة للنقاش في ما هو أجدى: جهل شعب بأكمله بفضائل نظام استطاع خلال أربعين عاماً أن يثبت لما يسمى «المجتمع الدولي» جدارته وقدرته على الحفاظ على الهدوء خلال أربعين عاماً على الحدود مع إسرائيل، وهو ينادي بمقاومتها مثلما ينادي سادته بمحوها من الوجود!

استطاع باني النظام الأسدي، حافظ الأسد، بعد أن شارك منذ عام 1963 في استبعاد الضباط والقيادات العسكرية المناوئة لحكم البعث كافة، أن يعيد، طوال ممارسته لمهام وزير الدفاع بين عامي 1966 و1970، تنظيم الجيش من القاعدة إلى القمة بما يسمح له بسهولة أن يستولي على السلطة استيلاء سمّاه «الحركة التصحيحية»، وأن يستبعد بعد ذلك، سجناً أو اغتيالاً أو نفياً، كل شركائه من قبل ممن وفروا له الإعداد لحركته الانقلابية.

حركة تصحيحية بلا مظاهر عسكرية يقودها وزير دفاع سابق وقعت في عهده وتحت مسؤوليته أكبر هزيمة عسكرية عرفتها سوريا في تاريخها الحديث، سوف يرتقي بعدها منصبَ الحاكم بأمره تحت مُسَمّى رئيس الجمهورية!

حركة تصحيحية يُصارُ، بعد إعلانها بالتدريج، إلى العمل على تنظيم ما يشبه الحياة المدنية في مجتمع يسير وفق ما يشبه النهج الديمقراطي، المتمثل في ما يشبه فصل السلطات الثلاث، وفي ما يشبه تعددية الأحزاب، وفي ما يشبه حرية الصحافة («لا رقابة على الفكر إلا رقابة الضمير»!)، ويقف في الطليعة من البلدان العربية الأخرى في سياسته الخارجية القائمة على الصمود والتصدي ثم المقاومة والممانعة. أوحى ذلك كله بدولة حديثة ديمقراطية تجري فيها انتخابات «حرة»، «لممثلي الشعب» في برلمان «يشرع» و»يراقب» السلطة التنفيذية، ولرئيس جمهورية يرشحه مجلس الشعب كي «ينتخبه» الشعب مباشرة عن طريق الاستفتاء، وقضاء مستقل، ونقابات تمثل مختلف القطاعات الصناعية أو الزراعية، ومسيرات «تشبه» المظاهرات لكنها تخرج للتأييد والتمجيد. بدا العالم وكأنه يريد لنفسه وللسوريين تصديق هذه المهزلة. ذلك ما أوحى لأنطون مقدسي بالتشبيه المذكور: الديمقراطية الصورية. تلك التي شُبِّهَت للشعب السوري، مثلما شُبِّهَ له وللشعوب العربية الأخرى صمود هذا النظام ومقاومته ثم ممانعته وذلك من دون إطلاق رصاصة واحدة لا هجوماً ولا دفاعاً، حتى حين تستباح أجواء سوريا وأراضيها من خلال العمليات الخاصة التي قامت بها قوات إسرائيل بحرية تامة. ذلك أيضاً ما أتاح للنظام إحكام سيطرته على المجتمع في الداخل من خلال تقنين حريته الكاملة وغير المحدودة في استخدام سائر الوسائل التي تتيح لمختلف الأجهزة الأمنية أن تتصرف في ما يُطلب إليها تنفيذه من مهمات، غير عابئة بالنتائج التي يمكن أن تترتب على ذلك آنياً أو مستقبلاً. يكفي أن نتابع مع المحامي أنور البني تسلسل مواد القوانين التي تقنن هذه الحرية غير المحدودة وهذه الحماية المطلقة من العقاب منذ إقرار دستور عام 1973 حتى اليوم كي ندرك صلابة الإرادة الأسدية في استملاك بلد وشعب، وفي ضمان الحماية من كل مساءلة قانونية لمن يقوم على خدمة هذا الهدف وضمان استمرار آثاره.

ضَمِنَ حافظ الأسد لنفسه حماية مطلقة داخلية وخارجية:

ــ حماية داخلية حين اعتبر دستور 1973 أن رئيس الجمهورية «لا يكون مسؤولاً عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة مهامه إلا في حالة الخيانة العظمى»، وأنه في حال اتهامه بالخيانة العظمى، تجري محاكمته حصراً أمام المحكمة الدستورية العليا». يبدو ذلك للوهلة الأولى طبيعياً. لكن ما ان نعلم أنه لا وجود لجريمة «الخيانة العظمى» في قانون العقوبات السوري أو سواه، وأن الدستور نفسه ينصُّ على أن «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنصٍّ قانوني» حتى ندرك استحالة محاسبة رئيس الجمهورية حتى لو ارتكب الخيانة العظمى! لكنَّ حماية الرئيس أُحكِمَت أيضاً من خلال الهيئة المنوط بها إجراء المحاكمة، أي المحكمة الدستورية العليا التي يعيّن أعضاءَها ورئيسَها لمدة أربع سنوات رئيسُ الجمهورية نفسه.

ــ وحماية خارجية حين رفضت سوريا في عهده الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية بما يجعل مسؤوليها محميين من أية ملاحقة يقوم بها المجتمع الدولي لأي جريمة يرتكبونها!

ومن حماية الرئيس نفسه إلى حماية من يخدم أهدافه من «الموالين والأتباع» كما يقول المحامي أنور البني، أي عناصر الجيش، وإدارة المخابرات العامة، وكذلك العناصر المتعاقدة، وذلك عن طريق حصر مسؤولية الإحالة إلى المحاكمة لخطأ ما بالمدير، بما يعني بقاء الموالين والأتباع تحت رحمة رئيسهم المباشر، مهددين كل لحظة بالعقاب إن لم يمتثلوا لأوامره!

لم تقتصر الحماية على القطاعين المشار إليهما، بل امتدت لتشمل، مع بشار الأسد وبموجب مرسوم صدر عام 2011، عناصر الشرطة والجمارك والأمن السياسي، مؤخراً، ثمَّ كل من يدافع عن النظام الأسدي من العناصر التابعة لقوات خارجية، كما هو الأمر في الاتفاقية الموقعة مع روسيا التي نصت صراحة على الحصانة الكاملة والشاملة لكل ما يمت للقوات الروسية جواً وأرضاً بصلة.

تلك هي المهزلة الدستورية والقانونية التي حكمت سوريا خلال نيف وأربعين عاماً. على أن المهزلة الكبرى تتجسّد في قانون الطوارئ، الذي سبق لأنور البني نفسه أن تعرض له في دراسة سابقة حول «آلية السيطرة والهيمنة على المجتمع في القوانين السوريا». فهذا القانون، الصادر عام 1962 والذي حدد طريقة وحالات إعلان الطوارئ ومن يُناط به إعلانها، لم يُطبق حين أعلنت عام 1963 حالة الطوارئ بأمر عسكري، ولم يؤكدها رئيس الجمهورية بعد إقرار الدستور الدائم الصادر عام 1973. أي أن تطبيق النظام الأسدي لقانون الطوارئ طوال هذه السنوات الخمسين كان يفتقر قانوناً إلى الشرعية!

مع هاتيْن المهزلتيْن في النظام الأسدي، لا يزال بعض معتوهي السياسة أو متذاكيها في العالم يسأل بصدده: ولكن، ما البديل؟

٭ كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى