بيسان الشيخصفحات مميزةعمر قدورلينا الطيبي

عن العالم الذي يكذب ليرتاح منا/ عمر قدور

نستحق، نحن السوريين، الكثير من الانتقادات الوجيهة والمحقة. أيضاً المعارضة السورية، بتشكيلاتها المختلفة، تستحق حساباً عسيراً على أدائها المتواضع خلال سنتين ونصف سنة من عمر الثورة. فشلنا في العديد من المواقف والمـنعطفات السياسية، وأن نردّ الفشل إلى ضعف الخبرة وإلى تغييبنا عن السياسة لمدة نصف قرن فهذا شأن لا يعفينا من واجب التعلم السريع، ولا من تبعات الفشل الذي ندفع ثمنه نحن أولاً.

قائمة مآخذنا على أنفسنا طويلة، وقائمة مآخذنا على معارضاتنا تطول باضطراد؛ بعض المآخذ جوهري لأن قسماً من المعارضة لم يعد ممكناً تمييز خطابه عن خطاب النظام؛ البعض الآخر لا يقل جوهرية لأن قسماً آخر من المعارضة، وإن تبنى خطاباً ثورياً، ينحدر بأدائه إلى مستويات لا تليق بقيم الثورة، وربما لا تخلو من شبهات الفساد هنا أو هناك. ذلك لن يمنع محاسبتنا على أداء المعارضة، على رغم أنها معارضة أمر واقع، منها ما هو موروث من النظام، ومنها ما جاء بتوصيات إقليمية أو دولية.

ثمة طائفيون وتكفيريون بين صفوفنا، وثمة آكل قلوب تباهى بفعلته أمام الكاميرا. ثمة طائفيون وتكفيريون آخرون أتوا من بلاد أخرى ليشنوا حرباً لا علاقة لها بحربنا، وبصرف النظر عن التسهيلات المخابراتية التي حصلوا عليها من جهات عديدة متناقضة المصالح فهُم موجودون، ويسيطرون على مواقع سبق تحريرها من النظام. فوق ذلك ثمة فراغ أمني بوسع من يشاء استغلاله بالاسم الحركي الذي يختاره لنفسه، وليس صعباً أن تُفتح كتب التاريخ للحصول على أسماء نحتاج وقتاً طويلاً لمعرفتها وفهم دلالاتها.

لـسـنا فـقط ضـحـايا الكيمـاوي، أو ضحايا مجازر الحولة والقبير والبـيـضا وبـانياس… إلى آخـر القائمـة، ولسنا فـقط ضحايا القتـل اليومي الذي أوقفه الإعلام عند عتبة المـئة ألف منـذ أشـهر. نـحـن سوق متـنوعة ترضي الراغبـين، وبـوسـع مـن يشـاء رؤيـة ما يـشاء منهـا، وسيـكون مــحـقاً تماماً. بل بوسـع من يـشـاء تـعديـل وجـهـة نظره كـلمـا رغـب فـي ذلك، كأن يـرى الـشيء تارة ونقيـضـه تـارة أخـرى. قد يعتقد بعضهم أننا مقصـّرون فـي إخفاء بضاعـتنـا الرديئة، أو التخلص منها، وعرض الجـيـدة أمـام الآخرين، لكـننا سـنكذب إن فعلنا، وعلى كل حال لا نفعل هذا لعجزنا، لا لتعففنا عن الكذب.

ثم إن الكذب حيلة يسهل كشفها عندما تصدر عن الضعفاء، وكلما كبرت الكذبة احتاجت قوة أعظم لفرضها على الآخرين. هكذا، مثلاً، يستطيع وزير الخارجية الأميركي في جلسة استماع مجلس الشيوخ القول إن نسبة المتطرفين في صفوفنا ضئيلة إلى مجموع الثوار، بعدما تلكأت إدارته لأشهر طويلة عن دعم الجيش الحر بذريعة ضعفه إزاء الجماعات المتطرفة ذاتها. بوسع أوباما أيضاً القول إن إدارته رصدت استخدام النظام للأسلحة الكيماوية أكثر من عشر مرات، من دون أن يعطي تفسيراً عن سكوته في المرات العشر السابقة. ثم بوسع كيري في الجلسة إياها التحدث عن مشروع متكامل لإضعاف النظام يتضمن دعماً عسكرياً للجيش الحر بغية فرض التغيير السياسي، ولا ضير بعدها في أن يخاطب رئيسه الشعبَ الأميركي بالقول إن إدارته لا تنوي مجدداً العمل على التخلص من ديكتاتور.

من فضائل الديموقراطية أنها تتيح الحق بالكذب أيضاً، وليس محتماً العملُ على كشفه، ومن نافل القول الإشارة إلى أنها والأخلاق شأنان منفصلان. لذلك بوسع الرأي العام العالمي محاسبتنا على أخطائه في العراق، وبوسعه محاسبتنا على أخطائه المزعومة في ليبيا. في الأخيرة لم يحدث شيء ملفت بعد التدخل الغربي باستثناء حادث السفارة الأميركية الشهير الذي يتم التركيز عليه وكأن المواقع والمصالح الغربية لم تتعرض سابقاً للعديد من الهجمات الإرهابية في أماكن لم يتدخل فيها الغرب بدءاً من خليج عدن وانتهاء بالمدن الغربية نفسها. أما في تجربة العراق فلا يسائل الرأي العام حكوماته عن الآثار المدمرة لتأخير إطاحة صدام، ولا عن صفقة انسحاب أميركا التي ضمنت لإيران منطقة نفوذ هائلة فيه على حساب الحلفاء من دول الخليج، وعلى حساب استقراره.

لا ضير أيضاً في الكذب في مسألة البديل المحتمل في سورية، وهذه قصة تُساق دائماً بالتوازي مع فشل المعارضة. السردية الغربية عن الافتقار إلى البديل تعني، في ما تعنيه، كفاءة النظام الحالي في الإمساك بملفات سيعجز سوريون آخرون عن إدارتها، وكأن سورية خالية حقاً من الكفاءات باستثناء العائلة الحاكمة، فضلاً عن أنها تضمر عدم أهلية السوريين الذين يُفترض بهم في حال سقوط النظام أن يختاروا سلطة بديلة بالسبل الديموقراطية. في المحصلة تبدو الديكتاتورية خياراً ينبغي على السوريين القبول به لأنه يوحي بالثقة للرأي العام الغربي.

وإذا وضعنا في الصدارة أمن إسرائيل فإن السردية الغربية تنص على أن البديل السوري سيكون أكثر عداء لإسرائيل، بصرف النظر عن أية سلطة مقبلة ستكون مهمومة فعلاً بإعادة إعمار البلاد، ولن تتسنى لها فرصة منظورة خلال العقود المقبلة لتطوير الآلة العسكرية. هنا أيضاً يُطالب البديل، أي بديل محتمل، بإعلان نوايا لا يفوق طاقته الوطنية فحسب، بل يفوق ما يقدّمه النظام الحالي من ضمانات لإسرائيل في الوقت الذي يعزز فيه خطاب الكراهية تجاهها؛ أي أن المطلوب التخلي مسبقاً وبلا شروط عن تصنيف إسرائيل كعدو محتل، وتقديم ضمانات إضافية علاوة على ما يقدمه النظام.

في موضوع البديل أيضاً لا يجيب الغرب عن مصير دورات تأهـيل كوادر الـيوم الـتالـي التي تُقام منذ سـنتين بـإشراف مؤســسـاته، الدورات التي تـشـارك فيـها كوادر من مـخـتـلف تـوجــهـات المعارضـة في الداخل والخارج، والـتي أصـبحت مثار شـبهات عديدة، بينها شبهات الفـساد المـشترك.

للثورة السورية أحقيتها التي جرى الحديث عنها في أثناء الترويج للضربة، ومساوئها وأخطاؤها التي سرعان ما ستطفو على السطح عندما يتم التراجع نهائياً عن الضربة. الكذب ليس ممنوعاً البتة، والعالم يحتمل أن يخرج لنا أحدٌ مدّعياً أن الضربة حدثت وحققت أهدافها فعلاً من دون أن نكون على دراية بها.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى