صفحات الرأيطيب تيزيني

العلمانية ليست لاهوتاً/ د. طيب تيزيني

مع انطلاقة «الربيع العربي» انفتحت أبواب متعددة على معضلات فكرية كانت ثاوية في النظام الثقافي السياسي العربي، وكانت تبرز سابقاً وفق التغيرات والتحولات، كمؤشرات على اتجاهين كبيرين، أولهما ينطلق من القاسم العام الجامع بين البلدان العربية على صعيد النظام الثقافي السياسي، وهذا يندرج تحت مصطلح «الثقافة العربية» بخصائصها البنيوية والوظيفية العامة. أما الاتجاه الثاني فيفصح عن نفسه في الخصوصية التي تظهر معبِّرة عما لا تجده ماثلاً إلا في واحد أو أكثر من البلدان العربية إياها. وهنا نضع يدنا على خصوصية تطور كل بلد عربي على حدة، ومن ثم تأثره بالمحيط الخارجي، مما يسمح بوضع اليد مثلاً على علاقة المغرب العربي بفرنسا أو غيرها من البلدان الأوروبية، مما فتح معابر جديدة للثقافة الأوروبية بوتائر متباينة، وهي المعابر التي جلبت معها أفكاراً برزت نتيجة التحولات الثقافية الكبرى منذ عصر النهضات الأوروبية. وكان مفهوم العلمانية من ضمن ذلك، بل ربما كان من أهمه، إذ ظهر ضمن ظروف تاريخية وثقافية مختلفة.

ولما كانت علاقة الثقافة والسياسة قد أخذت حيزاً بارزاً مع الكنيسة في أوروبا، فقد كانت هذه العلاقة ذات حضور كثيف في المجال العربي، ومنذ ذلك الحين، راحت مسألة العلمانية تظهر بصيغ آخذة في الاتساع داخل الثقافة العربية، محدثة خلافاً بين مجموعات كبيرة من المسلمين ومجموعات أخرى ذات طابع نخبوي.

كان ذلك ينشأ ضمن أوساط إسلامية، تسعى للإجابة عما كان يواجه المجتمعات العربية الإسلامية، ولما كان ذلك قد ظهر بعد انكسارات عدة أصابت حركة الاستقلالات العربية وأضعفت زخم تحولات النهوض الحديث، فقد تبلورت مشكلات فكرية ودينية زائفة في صلب تلك المحاولات. وسنعرض هنا تجربة اثنين من المفكرين العرب البارزين، كان الإمام محمد عبده أولهما، بينما كان فرح أنطون ثانيهما. أما عبده فقد أعلن مشروع إصلاح للإسلام، منطلقاً من العبارة المركزية التي أصبحت ناظماً وموجِّهاً لمشروعه، وهي أنه إذا كان يوجد في الغرب (في القرنين التاسع عشر والعشرين) إسلام دون مسلمين، فإنه يوُجد في البلدان الإسلامية مسلمون دون الإسلام. وكان ذلك تعبيراً عن أن النهوض الأوروبي كان قد التقى تاريخياً مع ركائز عامة لمنظومة مهمة من المبادئ الصحيحة للإسلام. والمعنى هنا يتمثل في إيجاد دولة عادلة وقوانين ينتظم الجميع تحتها، وتدعو إلى العمل والخير، بغض النظر عن المرجعية اللاهوتية إلا في صفتها العمومية.

أما السؤال الآخر الذي ظهر في حوار المفكرين فأفصح عن نفسه كما يلي: سأل الإمام المفكر: ماذا لو ظهر أن رئيس جمهورية أساء لعمله، وهو مسيحي أو مسلم، فما العمل؟ أجاب أنطون: إن معيار الحكم في ذلك هو التوافق مع القانون المحصّن بمبادئ الفطرة، وبتوافق بين اللاهوتي والمجتمعي، في توجهه نحو الخير وإثراء حياة الناس.

وقد اتسع أفق الحوار بين المفكرَين، حيث اقترح أنطون مصطلح «الحيادة» العربي بدلاً من «العلمانية». وقد وضح أن المصطلح الثاني، أي العلمانية، يحمل بعض الالتباس، وقد أساء لنفسه في الفكر العربي، لأن الكثير يضعونه متلازماً مع الإلحاد. وهنا يتضح أن هذا التماهي الزائف بين المصطلحين يُنتج الاعتقاد بأن مرجعية العلمانية هي ذات البنية اللاهوتية، ويكون الخيار قائماً على التماهي بين الغربيين. إن إعادة قراءة العلاقة بينهما في البُعدين البنيوي والوظيفي من شأنها اكتشاف مرجعيتين اثنتين، وليس مرجعية واحدة. ونرى أن هذا الاضطراب الاصطلاحي أتى من خلط الأدوار البنيوية والوظيفية، ومن ثم النظر إلى هذه الأدوار خارج التاريخ، وضمن نظرة توجد اضطراباً كبيراً بين السياسة واللاهوت، وذلك على نحو أسهم في إنتاج صراع بينهما. وحين نأخذ بتصدع الأبنية الفاسدة التي أنتجت الجهادية الشامية والعراقية والنصرة وغيرها، فإننا نواجه ما أصبح معروفاً تحت تسميات سلفية متشددة خطرة، استمراراً «للقاعدة» ولما يدور الآن حولها. ذلك هو ما نواجهه على يد النظام حالياً، وبصيغة أيديولوجية يُراد منها تحويل الثورة إلى هوس وهذيان وانحطاط!

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى