صفحات الرأي

صاحب العذاب

سلام عبود
منذ الولادة (41 أو 42 هـ)، حتى الموت( 95 هـ)، وما بينهما، كان الحجّاج بن يوسف الثقفي خصماً مفضلاً لدى الخيال السردي العربي. تأرجحت صورته بين الجنّة والنار، بين العبد والسيد، بين الأمير المقتدر والطاغية المهوس بالقتل، بين رجل الضرورة التاريخية والقدر الأعمى الغاشم، بين التوازن والتماسك النفسي والجنون الدموي المنفلت العقال، وبين الحكيم المؤمن الشجاع والمريض الكافر الجبان. امتدحه البعض لسعة صدره واحتماله شاتميه! ووصفه عروة بن المغيرة، واليه على الكوفة، بأنه “متعجل ومتسرع في القتل”. هذا هو الحجّاج، كما صوّرته الروايات التاريخية.
لم تنتقم المخيلة العربية من رجل بقدر انتقامها منه. فقد ولد منقوعاً بالنجيع، وأبى أن يرضع، إلا بعدما طلي ثدي أمه بالدماء. أما وفاته فقد تسببت بها دويبة صغيرة لسعت يده، هي الخنفساء، وفي رواية أخرى دويبات أصغر حجماً، استوطنت بطنه. بذلك قُتل جبّار العرب على يد أحقر المخلوقات وأضعفها. بلغ عدد سجنائه ستين ألفاً، وقيل ثلاثمئة الف رجل وامرأة، أما ضحاياه فقد بلغوا مئة الف وقيل مئة وخمسين ألف قتيل، ماتوا بتهم باطلة، عدا من مات في المعارك والحروب.
هكذا رسمت المخيلة صورة موت الحجّاج وولادته.
احتفل العراقيون بموته مرتين. في الأولى سهواً، بسبب شائعة سرت عن موته؛ وفي الثانية حقيقة حينما مات، فأقاموا ما سمّاه التاريخ “عرس العراق”.
استمد الحجّاج شرعية البطش من شرعية البناء التراتبي في النظام الملكي المطلق. فالحاكم، في نظره، صاحب الحق الشرعي الأوحد. وبما أنه ممثل صاحب الحق، فهو مالك شرعية الحق بالنيابة. هذه الفكرة الاستبدادية كانت الأساس الذي بُني عليه جهاز القمع الجماعي في حقبة الحجّاج، وفي مراحل التاريخ كافة. نُقل الحجّاج الى العراق بعد نجاحه في القضاء على عبدالله بن الزبير، القطب العربي العائلي الثالث المُطالب بالخلافة، بعد العلويين والأمويين. وقيل إن عبد الملك بن مروان رماه على العراقيين، لكي يتقي شرّهم بشرّ الحجّاج. هذا التبرير الانتقامي وضع قاعدة الاستبداد والقسوة الحجّاجية في موضعها المحدد، ومنحها شرعية إدارية وأخلاقية وسياسية مطلقة. بنى الحجّاج سياسة العقاب الجماعي بالطريقة نفسها التي رماه بها عبد الملك على العراقيين. فقد ضرب الحجّاج العراقيين بعضهم ببعض قسراً وكرهاً، جبانهم بشجاعهم، خائفهم بجريئهم، شرّيرهم بطيّبهم، صادقهم بمنافقهم: “ضربت بمقبلهم مدبرهم وبمطيعهم عاصيهم”. استخدم الحجّاج هذه القاعدة بناء على استقراء جيد لطبائع الناس. فقد لاحظ أنهم يتميزون بسرعة الاندفاع من دون تبصر، ثم بسرعة الإنكفاء والتنصل من دون مقدمات. وهي ظاهرة لمسها فيهم كل من عايشهم. جهر بها الإمام علي في مخاطبة أهل الكوفة والبصرة، ثم شهدها ابنه الحسين عملياً، ومن بعده ابن ابن ابنه زيد بن علي. وقد خذل شيعة علي ممثله في مصر محمد بن أبي بكر، فقتله الأمويون بسبب ذلك. لكن أعظم عبر الخذلان نجدها في ثورة التوّابين، الذين ثأروا لأنفسهم بسبب نكوصهم عن نصرة الحسين. لقد ثارت ضمائرهم، ولو بعد حين. لكن توبتهم لم تقم دليلاً على نجاح انتفاضة النفس ضد الخذلان، لأن نتائجها النهائية أثبتت استحكام الخذلان في النفوس. كانت نوازع الخضوع، لدى كثيرين منهم، أقوى في الفعل والأثر من ميول الثورة والتمرد على نزعة الخذلان. ففي معركة عين الوردة (65 هـ) الحاسمة، لم يتبق مع سليمان بن صرد (93 عاما) من 16 ألف مبايع توّاب سوى أربعة آلاف مقاتل، مما سهّل على الجيش القادم من الشام سحقهم وإبادتهم. هنا تكمن العبرة. لقد وعى الحجّاج تلك الظاهرة. لذا طبّق أشد قوانين التعبئة صرامة، واتخذ من العراق قاعدة رئيسية للبعوث الحربية المتوجهة شرقاً. وقد حاول البعثيون استثمار هذا الإرث الثقافي بالطريقة عينها في حرب إيران والكويت والأنفال، ولم يكن احتلال العراق أميركياً، خارج هذا السياق. لقد أضحى العراق قاعدة نموذجية لتسيير الجيوش. ولما كان العراقيون أهل مدن وحضر، لم تكن أعباء المعارك القسرية، والابتعاد عن المسكن والأهل، قليلة الأثر على نفوسهم. فحالما يعودون متذمرين من المعارك يصابون بالكسل والاسترخاء، وتشقّ عليهم العودة الى الحرب، فيتم إجبارهم بوسائل القهر الجماعية على الذهاب الى حرب جديدة. لكن ذهابهم الى الحرب لم يكن سوى اتقاء لشرّ يكرهونه أكثر من الحرب، ألا وهو عقوبة الحجّاج المعروفة. كانت الحرب في معادلات الحجّاج لعبة حظ، تشبه الروليت الروسية، فيها موت مرجح وحياة ممكنة. أما معارضة الحرب، فلم تكن سوى خيار واحد: الموت على يد الحجّاج. لقد أضحت حياة العراقيين في زمن الحجّاج، كحياة العراقيين في زمن صدّام وما بعده، عبارة عن موتين متلازمين، موت معه أو موت ضده. عاش العراقيون هذه المحنة منذ السيطرة الفارسية، التي اتخذت طيسفون (المدائن) قاعدة لحكمها، واتسعت عند الفتح الإسلامي، وأصحبت أكثر بروزاً وعمقاً حينما تحوّل العراق مركزاً للخلافة الإسلامية في زمن الإمام علي، وغدت حالة ثابتة المعالم عند مجيء بني أمية. لقد حاول بعض قادة الإمام علي استمالته الى استخدام سياسة نفعيّة، قائمة على توازن المصالح، كأساس لإدارة الصراع السياسي بنجاح. لكنه رفض نصائح أخلص قادته، وأصرّ على محاسبة المخالفين، وعلى رفض مبدأ تحييدهم وتأجيل محاسبتهم بحجة التفرغ للخصم الأكثر خطورة، فكان الفشل سياسياً من نصيبه. بيد أن عليّاً جرّب أيضا النفعية السياسية، ولكن بطريقته العادلة، من طريق إشراك أبناء الخلفاء الراشدين في الحكم، لتوحيد الأمة بقوة المثل الأعلى. وكان مصير تجربته الفشل مجدداً. فقد جرّب تولية محمد بن أبي بكر على مصر، وانتهت بمقتله، وجرّب تولية عبدالله بن عمر بن الخطاب على الشام، انتهت برفض عبدالله، عزوفاً عن الحكم أولاً، وخشية الوقوع ضحية لمعادلة مختلة الأطراف، بين نفعية عادلة وخاسرة ونفعية شريرة، لكنها رابحة. لم يكن ندمه على هذا العزوف نافعاً، فقد قُتل بسهم مسموم من جند الحجّاج. أمّا سياسة بني أمية فقامت على أسس مغايرة تماماً، فحواها: كل الوسائل والخيارات شرعية لتحقيق غايات الحاكم. وكان الحجّاج نفسه أحد خيارات بني أمية المفضلة والضرورية. لكنه خيار ذو شفرة مسمومة.
كان الحجّاج من أقدر البشر على معرفة مواهبه ومقدراته وحدود طموحه. لم يأخذ أكثر مما يُعطى له، ولم يمارس سلطة خارج منطق الشرعية الممنوحة له. وكل ما فوق سلطة الوالي، عدا بعض الاختلافات الإدارية الطارئة، التي نشأت بسبب تعقيدات تكوين العراق الإداري، لم تكن ضمن أحلام الحجّاج. ذلك كله يتوافق مع إرادة الحاكم الأموي وسياسته. هذا التوافق بين الشخصي والعام، في لحظة تاريخية محددة، هو سر نجاحه كمستبد، طليق اليدين والروح، وهو سر ظهور الطغاة عموماً. إن المستبد اتحاد تاريخي للموهبة الفردية الناضجة بالضرورة الاجتماعية القاهرة، التي تبيح الاستبداد.
الرواية الحجّاجية ومصادرها عظيمة الاضطراب أيضاً. يصل فيها التناقض بين التقبيح والتبرير حدوداً تلغي حسابات المنطق. كان الحجّاج مُسيِّرا ومخططا للمعارك، لكنه لم يكن شخصياً في عداد المحاربين. على العكس، تؤكد الروايات، بما فيها المحايدة، أنه قبل بروز اسمه، شارك الأمويين في موقعتين خاسرتين. الأولى الربذة عام 63، والثانية الحرة عام 65. وفي المعركتين كان نصيب الحجّاج الفرار من أرض المعركة.
علا شأن الحجّاج باعتباره مبرزاً ومبتكراً في شؤون القسوة، ومنظّماً سَوقيّاً بارعاً. بدأ عهده في شرطة أبان بن عبد الملك في فلسطين، وتدرّب على أعمال القتل والتعذيب هناك، لا باعتباره جندياً محارباً، وإنما باعتباره عيناً وتابعاً لصاحب الشرطة.
انتقل الى دمشق تحت إمرة صاحب الشرطة، فأبدى موهبة عالية في القسوة. كان الحجّاج هو من طوّر القصاص في حق المتخلفين والهاربين، من تعنيف وجلد، الى حرق البيوت والقتل الفوري. أظهر موهبة تنظيمية عالية في مجال التعبئة، لذلك أولى عناية للتدوين والسجلات والقيد والسكة، لأنها جزء من مهارة التعبئة والتنظيم، وهي جزء من ميول المركزية، وجزء من ملكة الضبط وتوثيق الأفراد تعبوياً. في أول معركة ناجحة شارك فيها، حملة عبد الملك على مصعب عام 73، فاجأ الحجّاج الخليفة بثلاثة أمور: حسن التعبئة، واجتراء ما لم يقم به أحد من الأمويين من قبل، حينما ساق المتخلفين من أهل الشام بالقوة، وثالثهما فكرة إرسال رأس مصعب الى أخيه عبدالله المتحصن في مكة، التي رفعت مكانته في عين الخليفة، وجعلته يصلب عبدالله منكوساً. وهي حكاية تشبه حادثة شطر التابوت ومن يرقد فيه من المعارضين شطرين، التي أشاعها البعثيون عن مدير الأمن العام العراقي ناظم كزار، الذي رفعته الحادثة الى مرتبة القيادة أيضاً.
يُنسب الى زمن الحجّاج ابتكار طريقة التعذيب بالخيزران الفارسي المشقوق، المصحوب بسكب الخل على الجروح. كان يتلذذ تلذذاً جنونياً باستنطاق أسراه قبل إعدامهم، وكان يمارس التلذذ السادي ذاته عند اختياره زوجاته. هو صاحب سجن “الديماس” الشهير في واسط، الذي جعله بعض الرواة يضم ستين ألفا من الرجال والنساء، وسجن النساء “قصر المسيرين” في البصرة. وهو أبرز من طوّر الوظائف البشعة والمهمات الإجرامية لـ”صاحب العذاب” في التاريخ السياسي العربي. فرض الحجّاج حالة منع التجوال ليلاً على العراقيين لعقدين متاليين، حتى غدا الفرد العراقي مخلوقاً نهارياً، يتساوى في هذا مع الطيور والدجاج.
كان جند الشام، الذين أحاط نفسه بهم، ضرباً من القوات الخاصة المنتقاة، منعوا من الاختلاط بالعراقيين، وتميزوا في عطائهم وملبسهم ومكانتهم وتعاملهم مع السكان المحليين. كانوا أقرب الى المحتلين منهم الى جيش الدولة. وهذا ما عزز الانفصال بين الحجّاج والعراقيين. فقد كان حاكماً غريباً، حتى بالنسبة الى من لا يوالون العلويين والخوارج. وبرغم أن الحجّاج خصّ العلويين بكره استننائي، إلا أنه كان شاملاً في قسوته، التي ذاقها المسلمون والنصارى والسنّة والشيعة. كان الحجّاج يعيش، مع قواته الخاصة، مغترباً فكرياً وشعورياً واجتماعياً عن المجتمع الذي يحكمه. في واسط عزز الحجّاج عزلته حينما منع الغرباء من دخول المدينة. عاملان أساسيان من أعراض الاستبداد: العزلة الشخصية (الانغلاق النفسي)، والإخلاص العقائدي المطلق (التعصب)، توافرا في الحجّاج بشكل ناضج. فلم تكن هناك قوة تردعه أخلاقياً وسلوكياً وعقائدياً عند ممارسة التنكيل بالخصوم السياسيين. لذلك يخطئ من يشبّه صدام حسين به. فهما يجتمعان في حسن التعبئة والتنظيم والمركزة السياسية، وفي سعة البطش، وفي الإيمان القدري بصواب ما يقومان به خيراً أو شراً. بيد أنهما يختلفان جذرياً في المكوّنات السلوكية. الحجّاج، محدود الطموح، يشبه من حيث المكوّن النفسي والبواعث السلوكية، أحد أهم الشخصيات العدوانية في تاريخ العراق الحديث، ألا وهو ناظم كزار، القبضة النارية لصدام حسين، في مرحلة صعود البعث، حتى إعدامه عام 1973. هما نسختان متطابقتان سلوكياً ونفسياً ووظيفياً. هذا يبطش باسم بني أمية وذلك باسم البعث، هذا لصالح سيده عبد الملك وذلك لصالح صدام، هذا باسم الولاء لتراتب السلطة، وذلك باسم الولاء للتراتب التنظيمي.
لا يستند الحجّاج الى عقيدة تمنح الحق لمن هو غالب فحسب، بل يستند الى أن السيف هو حارس هذا الحق الإجباري. وهي عقيدة تقف في مواجهة فسحة العقل التي استمدت ضوءها من مبدأ الاختيار. لذلك لم تكن حرب الحجّاج سياسية صرفة، بل كانت أيضا معركة لتثبيت أركان العقيدة الجبرية، التي كوّنت الأساس التاريخي لسلطة فاسقة، لكنها تحكم باسم السماء
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى