صفحات سوريةفاروق حجّي مصطفى

عن المعارضة السورية، وخياراتها..


* فاروق حجّي مصطفى

برغم من كل ما حصل من تطورات على كل الأصعدة ( النظام،  الشارع ) في سوريا، لم تكلف المعارضة السورية نفسها عناء توحيد صفوفها تنظيمياً أو حتى الإيحاء للرأي العام بأنها متحدة ومتجانسة ومنسجمة مع ذاتها رغم كل الصيحات التي تطالب بالوحدة ورص الصفوف، من الشارع السوري وحتى من الأطراف الدوليّة والصحافيين وأصحاب الرأي، وهذا الأمر يظهر للعيان مدى ضعف الاستجابة لدى المعارضة للاستجابة لمثل هذه الصيحات وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على استهتار واستهانة هذه المعارضة لما يجري حولها من تطورات.

فهذه المعارضة(خصوصاً الخارجية منها) في الوقت الذي يتطلب منها أن تكون صانعة للتطورات و منظّمها وفاعلها لتمنع من يريد استغلال ما يجري في سوريا من معاناة وآلام تسعى لتحقيق مصالحها الآنية، هي تلجأ إلى البحث في القشور وتستهلك مجهودها في أمور قد لا تشكل لدى السوريين همّاً أساسياً في هذه المرحلة مستغلة للفراغ الذي تركته المعارضة الوطنيّة الديمقراطيّة العاملة على أرضّ الأحداث. هذا المسار فبدلاً من أن يكون عاملاً مساعداً للشارع  صار اليوم عبأً ثقيلاً عليه، وبطبيعة الحال تتحمّل المعارضة الداخليّة المسؤوليّة الكاملة، إذ بتباطئها في تناول المسؤولية تجاه ما يجري، أدّى إلى فراغ  وهو ما دفع بالمعارضة الخارجية للعمل ضمن سياقات قد لا تكون مساعدة للحراك بل ربما كانت معيقا لنشاطه وأساءت إلى سمعة وأحقيّة ومشروعيّة استمراره بل تواجده. صار يفهم من المؤتمرات التي تعقد في الخارج على أنَّها مؤتمرات تحقق أجندات معينة ليس إلاَّ. حتى وإن كانت ثمّة نيّاّت صادقة وسليمة لدى البعض الذين يسعون لعقد مثل هذه المحافل في الخارج وذلك لبلورة بعض المفاهيم، والبحث في إشكالات مثل العروبة والإسلام والعلمانية والليبراليّة، حيث هذه الإشكالات هي الآن مبعث للمخاوف لدى الشعب السوري وخاصة الأقليات الدينيّة والعرقيّة منها هذا عدا البحث عن سبل الانتقال الآمن إلى دولة ديمقراطيّة مدنيّة لا تحمل جنيناً قابلاً لافتعال حالات الثأر والانتقام ويهيئ حالة من نشوة الانتصار، ومن يدري ربما هذه النشوة قد تكون لها تبعات سيئة في النسيج السياسي وحتى الاجتماعي في بلدنا الذي طالما يصيح أبناؤه للحفاظ على الوحدة الوطنيّة، بمعنى آخر لا يحبذ أحد على أن تترجم الأحداث  في النهاية بحالة مثل أن يشعر طرف أنه الخاسر الغابن في هذا الحراك وطرف يرى نفسه الرابح أو المنتصر لأنّ مثل هذا الشعور لو حدث سيكون قاتلاً ومميتاّ وقد يخلق غبناً في الحالة المجتمعيّة والسياسية وربما يكون له عواقب وخيمة على النسيج المجتمعي والسياسي السوري.

والحق أنه مهما أبدت المعارضات السورية بأنها متفقة (فيما بينها) على العناوين العريضة مثل دولة المواطنة وضرورة الانتقال من دولة الاستبداديّة إلى الدولة الديمقراطيّة، وأوحت أنّها منسجمة إلى حدِ ما مع هذه العناوين إلا أن هذه المعارضات تعاني من أزمة توحيد الخطاب الذي ما فتىء وصار أمراً أهمّ من أي أمر آخر، ولعل ما شاهدناه في مؤتمر اسطنبول قبل فترة كيف انسحب بعض الأكراد من المؤتمر هو دليل على أن المعارضة بحاجة إلى نقاش ووضع النقاط على الحروف لا أن تتستر وراء مفردات فضفاضة مثل الديمقراطيّة والتعدديّة . للتو لوحظ كم إن المسافة التي تفصل بين المعارضة السورية الخارجية والداخلية عريضة. وقد لا يصح أن نقفز فوق الحقيقة  وأنّ نوظّف ما قالته “هيئة التغيير الديمقراطي” في وثيقتها الأولى بأنّه لا فرق بين معارضة الخارج والداخل وضرورة التواصل بين شقي المعارضة لأنه ما زال ثمة غشاوة تطغى على الداخل والخارج، هذه بمثابة عُقّد يصعب فكها، ولعل من يتحمل المسؤولية بالدرجة الأولى المعارضة الخارجية التي تعمل بهيئة الغرور وأنها فهيمة أكثر من المعارضة الداخلية إلى درجة وصلت الأمور معها إلى عدم أخذ المزاج الشعبي بعين الاعتبار حتى أنّها لم تقدّر الحالة التي تعيش فيها المعارضة الداخلية والتزاماتها الأخلاقية تجاه التطورات السورية، ولعل السبب في هذا الانحراف من قبل المعارضة الخارجية عن مهمّات واقعية متزنة هو أن غالبية هذه المعارضة متشوقة إلى روح القيادة والشعور بأنّها قائد فعليّ وهذا يصعب تحقيق مثل هذا المنال من قبل الشارع السوري الذي يحتاج إلى قيادة من الداخل تقود وتضبط الحراك وتحقق الفرز الحقيقي بين الموالي والمعارض.

تجدر الإشارة إلى أنّ الخلاف بين المعارضة الداخلية والخارجية قائم منذ 2005 عندما أعلن بعض الشخصيات في الخارج الأمانة الخاصة بها بالخارج الأمر الذي دفع جماعة “إعلان دمشق ” بالداخل بإعلان موقف عدم التبني لما يصدر من الخارج من بيانات ومواقف غير منسجمة مع التطورات السياسية وعلاقة السلطة بالمعارضة، وطالبت الأحزاب المنضوية في “إعلان دمشق” من ممثليها في الخارج الالتزام بما يصدر من الداخل وعدم الانزلاق نحو التطرّف والمبالغة في الشعارات ما أدى في النهاية إلى بقاء حالة التشرذم وطغيان مناخها على كل مشهد المعارضة ومن يدري ربما ستمدد مدة طلاق الخارج والداخل إلى أمدِ بعيد !

تساؤلات في أسباب الشقاق..

منذ أن بدأت حركة الاحتجاجات في سورية، والكل يسأل، ترى لماذا لا تتوحد المعارضة السورية؟ هل هناك أسباب بنيويّة متعلقة ببنية المعارضة، أم هناك أسباب إيديولوجية، أي تعدد المشارب: قوميّة، إسلامية، فكريّة، أم هناك اعتبارات أخرى، وهل للنظام دور في بقاء حال المعارضة هكذا، وهل أثرّت العلاقات والحساسيات التي تحكم بين رموز المعارضة على أن يبقى التشرذم سيد الموقف، ويحول دون توحيد صفوفها الذي ما فتئ وصار عبئاً على الشارع المنتفض؟ للوهلة الأولى يُستنتج بأن كل هذه الأسباب لها علاقة بتشرذم المعارضة السورية مضافاً إليها أسباب أخرى معيقة لتوحيد صفوفها ولا سيما العلاقة بين المعارضة الداخلية والمعارضة الخارجية حيث بقيت هذه العلاقة مرهونة بتجاذبات ما بين السلطة والمعارضة ما أدى إلى تعميق الفجوة بين المعارضتين.

والحق يقال إذا كان للنظام له دوره وتوابعه في صفوف المعارضة قبل حركة الاحتجاجات فإنّ النظام الآن عاجز عن التأثير على أداء المعارضة، حتى أنّه عاجز عن الحفاظ  على من كان تابعاً له في صفوفها، ولا يخفى على أحد أنّ من كان تابعاً للنظام وسامعاً لإشاراته يوماً من الأيام يتجنب الظهور الآن، ولعل السبب يعود بالدرجة الأولى إلى أنّه لا يريد إحراق نفسه في ظل سيادة حركة الشارع على مسار التغيير في البلد، وهذا ما نراه على أرض الواقع إذ في عدد من المواقع رأينا ثمة أشخاص وكتل شاركوا في ندوات النظام وكانوا محاضرين وملقين للخطاب المؤيد له سواءً بزي إيديولوجي أو فكري أو تستر بزي الدفاع عن الوطن ضد الهجمة” الامبريالية العالمية”، وما أكثر المحاضرات والمقالات والافتتاحيات التي تهاجم العولمة وملحقاتها. واليوم شيئاً فشيئاً تريد هذه الكتل والشخصيات التهرّب من ذلك التراث الضخم المنعش بأيديولوجية اليسارية الخشنة.

تجدر الإشارة إلى أنّ بعض هذه الشخصيات كانت قد تبنّت جزءا” من خطاب المعارضة الداخلية ولا سيما الخطاب الذي تبناه مؤتمر “سميراميس” الأول للمعارضين المستقلين وذلك للدخول إلى ساحة التغيير من خلال هذا الخطاب. طبعاً يستثنى المفكر السوري طيب تيزيني من هذه الكتل حيث تبنى تيزيني الفكر التغييريّ مع بداية الانتفاضة في سوريا.

في الحقيقة إنّ النظام نفسه يتجنّب الضغط على من كان يوماً من الأيام يعمل له عبر “ريموت كونترول”، ليس  لأنّ النظام لا يحتاج لهم بقدر ما أنّهم لا يشكلون مقداراً لا معنوياً ولا مادياً وذلك لضحل الفاعليّة لدى هؤلاء، وقد يكونوا عبئاً على النظام نفسه.

ثمة من يرى بأنّ هذا النوع من المعارضة  كان موجوداً حتى في فترة “ربيع د مشق” وكان له دور كبير في الحالة المعارضة السورية حينذاك، لكن سرعان ما تهرّب من الخطاب الذي تبناه “إعلان دمشق” وتبين أنّ هناك من لا يريد الخروج من تحت عباءة النظام. لما لا فلو كان الأمر غير ذلك لماذا لم تتفق جميع الأطراف على إكمال المشوار الديمقراطي في إطار “إعلان دمشق” مع أنّ الغالبيّة كان لها دورا” في بلورة فكرة “إعلان دمشق” وبيانه الأول، وملحق البيان، واللذان وضعا المخطط التدرّجي للتغيير الديمقراطيّ. وما أن أعلنت جماعة “الإعلان” بأنها في طريقها لتأسيس “المجلس الوطني” ليكون بمثابة الإطار التشريعي لجماعة المعارضة  حتى طفح الكيل، طرف أعلن تجميد عضويته في “الإعلان “، وطرف خرج من هذا الإطار، أمّا الطرف الكردي، فإنّه عجز أن يعمل شيئا” يفيد “الإعلان” وبرامجه، ووجهت اللائمة على الكرد خصوصاً بعد الاعتقالات التي حدثت في صفوف قيادة “الإعلان” كونهم لم يفعلوا شيئاً أو قصروا في تأديّة واجبهم الأخلاقي تجاه رفاقهم في السجون، في حين رأى الكرد أنّهم إذا فعلوا شيئا” سيستغلّ النظام الوضع وسيقول للرأي العام السوري بأنّ الكرد يستغلون القضيّة الديمقراطيّة ويقومون بتكريد المسألة الوطنيّة السورية أو أن يقال بأنّ الكرد يستغلون الوضع لإظهار قضيتهم على سطح الجدال السياسيّ أو أن الكرد همهم الأول ليس دمقرطة الحالة السياسيّة إنّما ترويج قضية الكرد، وتالياً يكون البلوغ إلى أهدافهم  سهلاً ويسيراً .

 العامل الإقليمي..

بيد أنّه، ومع اتساع نجمة حركة الاحتجاجات، وفي حين أنّ البعض من المعارضة استجاب للتجاذبات الداخليّة والعلاقة مع النظام، دخل اليوم على خط المعارضة العامل الإقليمي، ولا سيمّا بعد أن عقدت المعارضة سلسلة مؤتمراتها في تركيا. وما برح وصار جماعة  “الإخوان المسلمين” السورية يعتمدون إلى درجة كبيرة على حزب “العدالة والتنمية” الحاكم في أنقرة  على أن يساهم هذا الحزب باستعادتهم إلى الملعب السياسيّ السوريّ كون لتركيا دوراً مهمّاً في سوريا، ولا نستغرب أنّ هذه الجماعة  تعمل تحت هذه المؤثرات مع أن هذا النوع من العلاقة له تأثير في لم شمل المعارضة، وذلك للاعتبارات التالية:

 1-إنّ الأكراد لا يحبذون العلاقة العميقة مع تركيا، ولا يريدون الوصاية التركية للمرحلة المقبلة، حتى أنّهم لا يثقون بتركيا فيقولون كيف أنّ الأتراك ينتهكون حقوق الإنسان في كردستان تركيا ويدافعون عن حقوق الإنسان في سوريا.

 2- عندما تعقد المؤتمرات في تركيا لا تنتبه هذه المعارضة إلى الطروحات التي يتم طرحها في المؤتمر، إذ تكون غريبة عن المستوى الذي بلغه الوضع السياسي في الوطن. بالمختصر أنّهم (أي جماعة المعارضة الخارجية ولا سيمّا الإخوان ) يعملون بمحض من الأنانية ويلتقطون أنفاسهم على أن لا تضيع الفرصة التي تتحضر تركيا لها ولعل ما سلف يكون سبباً مباشراً لتفقد المعارضة وجهاً وحدوياً.

والحال هذه فإنّ حال المعارضة العلمانية ليست أحسن حالاً من حال “الإخوان” فهي أيضا تعمل  ضمن إطار إيديولوجي تقليدي لا يستجيب بسهولة للتطورات، وأحياناً تعجز عن المواكبة بسبب المواقف المسبقة، ومن المعروف أن المواقف المسبقة هي من أكثر العقبات التي تقف في وجه التطور، فلا بد من تحطيمها والتغلّب عليها كما يقول الكاتب والسينمائي الكردي الراحل يلماز كوناي، ولعل أكثر العلمانيين السلبيين هم العلمانيون الذين  ما زالوا تحت تأثير المسار الشيوعي أو المسار القومي.

يمكن القول أنّ المعارضة العلمانيّة هي محتارة اليوم أكثر من أي وقت مضى لأنها لا تثق كثيراً بالمعارضة الدينيّة حيث الأخيرة تطالب بالنظام الديمقراطيّ المدنيّ، على مقاسها، في حين تحبذ المعارضة العلمانيّة النظام الديمقراطيّ المدنيّ بحيث يكون ميالاً إلى العلمانيّة لأنه يفتح الآفاق نحو تحرر أكثر عمقاً كما أنّه مفيد لوضع مثل سوريا كونها تتصف بتعدد المشارب والأيديولوجيات والأقوام ..الملل والنحل كما أنّهم يخافون من “الإخوان” بعد أنّ رأينا كم أنّ النقاش كان عقيماً بين حواضن التيارات في العمليّة السياسيّة والديمقراطيّة المصرية بعد نجاح الثورة. أما الكرد فالكل يقفز من فوقهم. بيد أنّ “الإخوان” في باطنهم لا يحققون آفاقاً منعشة لهم. ولا العلمانيين الذين بعضاً منهم متشبثون بالفكر الشموليّ اليساريّ الذي كان طاغياً على كل الإيديولوجيات في المشرق. إنّما،أي الكرد،هم قريبون إلى حد ما من العلمانيين.

ولا نستغرب أنّ القوميون العروبيون ربما يكونون أكثر انسجاماً مع الحالة الكردية من “الإخوان” وهنا لا أقصد المناخ الديني حيث ربما يكون للأقليات مكان في هذا المناخ، العيب الوحيد في هذا المناخ الديني أنّه ما زال الحيّز (الإسلامي) السياسيّ السوريّ  الذي لم ينتج حالة المعارضة الإسلامية الديمقراطيّة الحقّة، ولا يمكن الاستناد إلى الوثيقة وأخذها بمحض الثقة ،التي حررها “الإخوان” في أواسط هذا العقد، التي تفيد ببناء دولة ديمقراطيّة مدنيّة.

بقي القول أنّ التجربة المصرية تدفعنا إلى عدم الوثوق بشكل مفرط بالإسلام السياسيّ خصوصاً أنّه وفي بعض الأحيان تلازمهم صفة الانتهازيّة، ولعلنا لم ننس ما قاله الناطق الرسمي ل”الإخوان” السورية  زهير سالم على قناة المستقلة، بأنَّ سوريا بلد مسلم ويجب أن يكون المصدر الأساسي للدستور هو الإسلام، هذا فضلاً عن أنّه رأينا كيف كان بعض الإسلاميين يستعجلون في انجاز أطر أو مؤسسة بديلة ليس للنظام فحسب وإنّما لكل السوريين المعارضين والشباب ، والسؤال، هل ستتوحد المعارضة وتدرك كم أنّها تأخرت في انجاز حالة طليعيّة  منسجمة مع العمليّة السياسيّة في بلدنا الذي ينزف دماً منذ أشهر؟!!

المقال منشور بالتعاون مع مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org

* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى