صفحات مميزةياسين السويحة

عن الوطنيّة ورموزها..


ياسين السويحة

تابعتُ منذ أيام نقاشاً حول العلم السوري جرى بين بعض الأصدقاء في إحدى الشبكات الاجتماعيّة، ورغم أنني لم أشارك في النقاش إﻻ أنني اطلعت على كل الآراء المتضاربة حول أفضليّة اتخاذ “علم اﻻستقلال” علماً للبلاد أم الإبقاء على العلم الحالي. لم يكن اختيار أحد العلمين مهماً بالنسبة لي قدر أهميّة رؤية الحجم الذي يمكن أن يصل إليه نقاشٌ حول هذه المسألة من جهة، والحجج والمبررات التي يسوقها كل طرفٍ من الأطراف لتفضيل اختياره من جهة أخرى. يؤسف القول أن بعض هذه المبررات (ومن الطرفين) تنفع كأمثلة ساطعة حول مدى التشوّه الذي وصل إليه مفهوم الوطنية بعد أربعين عاماً من اﻻستبداد.

لن أدخل في نقاش أيّ الأعلام أفضّل، فالعلم، باعتقادي، يرمز لشيء، وهذا الشيء، أي البلاد وحالها وأهلها وحقوقهم وحرياتهم، هو ما يجب أن نناقش، لا الرموز. ما نفع اتفاقنا على ألوانٍ وأعداد نجماتٍ، أو على نشيد، أو حتى على الاسم الرسمي للبلاد، إن لم نكن متفقين على الجوهر الذي تمثّله هذا الرموز؟ ما نفع اﻻتفاق على علم بين شخصين، يرى أحدهم أن الوطنيّة مفهومٌ ينفع فيه تبرير تقييد حقوق وحرّيات المواطنين بحجّة مواجهة أخطارٍ تهددها في حين يرى الآخر أن الوطنيّة هي الإطار القائم من أجل صون كرامات وحقوق وحرّيات الناس، وأن حسن أدائها في ما يخص هذه المهمة هو بالذات ما يعطيها حصانة ومناعة ضد كلّ الأخطار؟

يمكننا تخيّل موقع الوطنيّة في عقل اﻻستبداد عندما نرى أنه يحاكم معارضيه بتهمة “وهن نفسيّة الأمة وإضعاف الشعور القومي”.

من يفهم الوطن كزيّ موحّد الطراز واللّون، والوطنية كرخصة سلاح، ﻻ يمكن أن يأتي إﻻ بالخراب، له ولغيره. هؤﻻء ﻻ منطق لديهم وﻻ فلسفة إﻻ الخراب, بل ربما يصبح لديهم ﻻهوت خرابٍ بطقوسٍِ وآلهة و سدنة وقدّيسين.. وشياطين.

علينا أن ننظر ونفكر مليّاً في خطورة المناخات التي تلغي التفكير العقلاني والحس النقدي و تدفع نحو الولاءات العصبية والغريزيّة في الأزمات السياسيّة واﻻجتماعية وتنتج هذه الأنواع المميتة من أدوات العدميّة البشعة.

في وقتٍ مبكّر من اﻻنتفاضة السوريّة، شاع حديثٌ عن “سقف الوطن” في الأوساط الإعلاميّة المقرّبة من النظام، حيث أنهم كانوا يتحدثون عن “حوار تحت سقف الوطن” أو “تغيير تحت سقف الوطن” أو غيرها من العناوين البرّاقة التي أضحت، بحق، محطّ تندّر وسخرية قبل أن تختفي غير مأسوفٍ عليها. عندما يتحدّث النظام السوري (أو أي نظامٍ عربي) عن الوطن والوطنيّة فإنما يعني نفسه والولاء له. الوطن هو النظام، والنظام هو رأسه. الوطنيّة في عُرف اﻻستبداد ليست إﻻ تأسيساً لفظيّا لقضيّة مشتركة بين المستبد وضحاياه، ولا عمل لهذه القضيّة إﻻ ابتزاز الضحايا عاطفياً وأخلاقياً بحجّة أن عليهم التحمّل وإﻻ فسيكونون “خونة”.

لا سقوف للأوطان، بل أن الوطنيّة هي الأرضيّة المشتركة للعدالة والمساواة والحرّية لجميع المواطنين، وأي تعريفٍ آخر ليس إﻻ شوفينيّات استبداديّة.

الأعلام والرايات بحالها ﻻ تعني شيئاً. إن رفعتها في مدرسة أو معتقل أو حديقة أو مقبرة فسترفرف بنفس الطريقة.

يمكننا اعتبار الانتفاضة الشعبية في سوريا أيضاً صراعاً على تعريف (أو إعادة تعريف) الوطنيّة. بين الولاء المطلق للاستبداد وتبرير ويلاته على البلاد والعباد وتخوين من يقف بوجهها ويرفضها بحجّة الوطنيّة، وبين مفهومٍ جديدٍ للوطنيّة يعمل على جمع المواطنين حول حقوقهم وحرّياتهم الفرديّة والجماعيّة بعيداً عن منطق اﻻبتزاز.

استطراداً: ما الفرق بين أتباع النوع الأول من “الوطنيّة” ومن يحرّم الخروج على الحاكم الظالم؟

إنّ أرخص أنواع “الوطنيّات” هي تلك المصنوعة من قطعة قماش على شكل علم وجزمة عسكرية وشخص يرفع إحداهما أو كلاهما حسب ما يقتضي مزاجه “الوطني”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى