صفحات مميزة

عن بيان الهيئة الدينية في مجدل شمس الصادر أمس والتحديات العملية التي يواجهها


بشار طربيه

لا بد أولاً، من توجيه التحية لأهلنا في الهيئة الدينية في مجدل شمس على بيانهم الذي يعبر بوضوح، في نَصّه ومعناه، عن غيرة هذه الهيئة على مجتمعنا وقلقها الحقيقي مما قد يترتب عنه الاختلاف بالمواقف بين تيارين في الجولان المحتل؛ صاغ كل منهما مواقف واضحة ومتعاكسة تجاه الأحداث العاصفة في بلدنا سوريا. وهذا الموقف هو تحول نوعي في موقف الهيئة الدينية عمّا كان عليه قبل بضعة شهور عندما ألقت الحرم الديني والاجتماعي على فردين من أبناء الجولان لمشاركتهما بصفات أشخاصهم بمؤتمر للمعارضة السورية في تركيا، وهذا سبب إضافي لتثمين هذا الموقف الذي تحاول فيه الهيئة الدينية أن تمارس دورا توفيقيا في المجتمع.

لكن، ومع التأكيد على أهمية هذه النقلة النوعية في الموقف، لا بد أيضاً من التحاور مع البيان بسبب هيمنة الضبابية، بدلاً من الوضوح، على مضمونه.

الحفاظ على “وحدة الصف” الذي تدعو إليه الهيئة الدينية لا يمكن أن يُطرح كمطلق بدون معالم تحدد معناه. فالبيان يلمّح إلى أن الخلاف بين مؤيدي النظام في سوريا وبين مؤيدي الثورة السورية قد يفرّق الصفوف ويكسر التلاحم الاجتماعي. وإزاء هذا الخلاف يدعو البيان الجميع ليكونوا “أوفياء للوطن” ولصيانة وحدة الصف من خطر “الانقسام والتشرذم”.

لكن “الوفاء للوطن” هو مصطلح فضفاض و”الانقسام والتشرذم” هما صفتان مرادفتان للأزمات الكبرى. وتاريخياً انقسم المجتمع السوري وتشرذم، ككل مجتمع، في الأزمات الكبرى التي واجهها، وتدريجياً تحققت وحدة نسبية بين كافة شرائحه على أساس رفض الظلم والرغبة بتحقيق العدل والكرامة للجميع.

ونحن في الجولان اخترنا حقبة الثورة السورية الكبرى — التي قدَّم أجدادنا فيها، وبما لا يقارن، أرواحاً وخسائر أكثر من أي منطقة أخرى في سوريا– على أنها المعيار والمحك الذي بناءاً عليه سنقيس مواقفنا تجاه كل حدث سياسي جلل يواجهنا. ثار أجدادنا في حينه ليس فقط ضد ظلم الفرنسي، وإنما ضد دويلات الطائفية وضد الطائفيين من بيننا. ولم تكن النُصُب التي أقمناها لمجاهدي هذه الثورة تخليداً لهويتهم الطائفية، وإنما تخليداً لإرثٍ من المواقف الصعبة والمكلفة التي رفضت الظلم أياً كان منبعه.

كجزء من الشعب السوري، وليس كطائفة، نتذكر سلطان الأطرش وعبد الرحمن الشهبندر وصالح العلي ويوسف العظمة والشيخ إسماعيل الرفاعي وحسن الخراط وإبراهيم هنانو وأسعد كنج أبو صالح (وباقي مجاهدي الجولان) وعادل أرسلان وفوزي القاوقجي وسعيد العاص وغيرهم مئات الأبطال لأنهم كانوا قاماتٍ من الكرامة والمبدئية، أوقفوا، مجتمعين، انفجار سد احتقنت خلفه سيول الطائفية والفئوية، وأنتجوا بلداً وتاريخاً نعتدّ به.

نتذكر كيف أعلن سلطان الأطرش انضمامه للثورة العربية ضد الدولة العثمانية وكيف لم يتراجع أمام معارضة وتهديد أكثرية زعامة أبناء طائفته له، برئاسة ابن عمه سليم الذي هدّده بالتصفية الجسدية ومشايخ العقل الثلاثة الذين أصدروا ضدّه حرماً دينياً واجتماعياً إذا لم يتراجع عن الثورة.

ونتذكر سلطان ثائراً ضد الفرنسيين بين عامي 1920 و 1925 وغالبية زعامة طائفته تتنافس على اتخاذ المواقف ضده طمعاً بمنصب وجاه ومال يغدقه عليهم الفرنسيون في دولة درزية طائفية. ونرى الدولة الطائفية توظف رجال الدين في استصدار قرارات مقاطعة دينية واجتماعية له ولرفاقه المجاهدين وصلت إلى استصدار قرارات تهديد بمقاطعة قرى بأكملها والتهديد بتطليق المجاهدين من زوجاتهم إذا لم يعودوا خلال سنة من الأردن؛ مركز انطلاق عمليات مقاومتهم.

نتذكر سلطان ورفاقه لأنهم لم يعذِّبوا ولم يقتلوا من أسروا من فرنسيين وأعوانهم، ولم يظلموا ولم يغتصبوا بخلاف ممارسات أعدائهم. ونتذكره يأمر بإعدام أحد مجاهدي الثورة لأنه اغتصب امرأة من قرية حاربت ضد الثورة.

نتذكر سلطان ورفاقه لأن الشعار الذي اختاروه لثورتهم كان “الدين لله والوطن للجميع” حالمين بجمهورية سورية ديمقراطية لكل ساكنيها وليست ملكاً لحزب ما، أو قومٍ ما، أو طائفةٍ ما، أو عائلةٍ ما.

نتذكر سلطان ورفاقه حلفاء للعدالة والمستضعفين، رافضين للظلم وهيمنة القلّة، مقاومين في أكثر اللحظات حلكةً، ومناصرين للمبدأ الأخلاقي بغض النظر عن ثمن الوصول إليه.

هذه هي المبادئ التي نتوقع ونتمنى لمؤسستنا الدينية أن تعتمدها نبراساً في اتخاذ قراراتها. لكن، وكحدٍّ أدنى، نتمنى من مؤسستنا الدينية أن لا تقف عقبةً أمام أحد، شخصاً كان أو تياراً، في التعبير عن رأيه/ها بالطريقة التي يرتئيها بعيداً عن العنف والتخوين، وأن تقدم المظلة الأخلاقية العامة التي يمارس الجميع مواطنتهم السورية في ظلها.

والواضح في جولان اليوم أن الانقسام هو حقيقة لا يمكن لأحد أن يتجاهلها أو يلغيها. فالوفاء للوطن من وجهة نظر مؤيدي النظام (باستثناء قلة) هو الدعم المطلق وغير المشروط لرئيس جمهورية وأتباعه وإسكات أي صوتٍ معارض بأي ثمن بدءاً بالتلويح باستعمال العنف ومروراً بمحاولة استغلال الهيئة الدينية لأغراضهم الحزبوية، وانتهاءاً بتخوين شامل، لا يتظاهر حتى بالخجل، للوطنيين والمناضلين الداعمين للثورة. وفي آخر مسلسلات التخوين هذه، رأيناهم في الحلقة الأولى يتفاوضون ويساومون ويهددون ويتوعدون عائلة أسيرنا وئام عماشة بأن حضورهم لاستقباله مشروط برفع صورة الرئيس في خيمة الاستقبال، وفي الحلقة الثانية نراهم يقاطعون استقبال الأسير المحرر لأن وجود العلم السوري فقط في خيمة الاستقبال فيه “قلّة وفاء للوطن”، وفي الحلقة الثالثة نرى بعضهم، ومن طرفيّ خط وقف إطلاق النار، يخوّنونه وباقي الوطنيين الذين لم يوافقوهم بالرأي. لكن هذا التصعيد، إذا لم تتم إدانته الآن قبل غدٍ، يبشّر بحلقة قادمة يطغي فيها العنف على تصرفات هذا التيار، قد تؤدي فعلا الى نتائج كارثية على وحدة وتماسك مجمعنا.

والعكس ينطبق على داعمي الثورة السورية (باستثناء قلة)، فإنهم لم يخونوا أحدا، لا مجموعاتٍ ولا أفرادَ من داعمي النظام، وبدلاً من محاولة استغلال الهيئة الدينية لأغراضهم، رفضوا حتى مطالبتها بأخذ دورها الاجتماعي الطبيعي الذي يقضي في مثل هذه الأيام العصيبة أن تعلن بوضوح بأنها، وكل مجتمعنا، ستعاقب كلَّ من يلجأ للعنف ضدّ أي شخص أو مجموعة في الجولان تمارس حقها بمواطنتها السورية وبالتعبير عن رأيها كتابة أو اعتصاماً أو احتجاجاً أو بأي شكل آخر من التعبير.

وحيث أنه من الواضح أن “وحدة الصف” و”الوفاء للوطن” هي اصطلاحات لا يمكن التوفيق بين تعاريف التيارين لمعانيها وكيفية تنفيذها والتعبير عنها، لا يبقى، برأيي، أمام الهيئة الدينية والمجتمع بشكل عام، سوى التأكيد والتعميم بالطريقة التي يرتئياها على أن لكل طرف في الجولان الحق بالتعبير عن موقفه كتابةً واعتصاماً وتظاهراً بمعزل عن أي تهديد بالتخوين أو العنف، وأن وحدة صفنا تتمثل بتعايش الآراء والتيارات وبنبذ ممارسة العنف بيننا، وأنه سيتم إنزال أشد عقاب اجتماعي على كل من يخرج عن هذا الإجماع الأهلي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى