صفحات العالم

حكومة كل السوريين أو خطر الحرب والوصاية


سليمان تقي الدين

بعد عشرة أشهر يصعب على السوريين أن يتوقعوا نهاية قريبة للأزمة، أو أن يستشرفوا مصيرهم ومستقبلهم شعباً ودولة. تنزلق سوريا في طريق العنف والفوضى فتضيف إلى مشكلاتها مشكلات جديدة. هل نتصوّر حجم الأضرار الجسيمة التي أصابت المجتمع إنسانياً ومادياً، وحجم الشروخ العميقة التي حرّضت فئات المجتمع واستعدت بعضها على بعض، حتى صار مطلوباً حضور ممثلي الطوائف ودعمهم لمواجهة الهواجس والمخاوف وبث التطمينات!

كان يمكن للسلطة أن تذهب إلى عناوين المعالجة السياسية قبل أن تستفحل الأزمة وتأخذ بُعداً يهدّد وحدة الدولة والكيان جراء تجاهل المشكلات الفعلية وتحويرها وإنكارها، والتعامل مع فئات واسعة من الشعب بالقمع والترهيب بدلاً من سياسة الاحتواء والحوار والمشاركة. اتسعت الأزمة وتشعّبت فساهمت المعارضات المفكّكة بتحجيم صورتها وبإضعاف فعاليتها ومصداقية بعض واجهاتها، لا سيما في الخارج، وهي تستجلب التدخل الأجنبي أو تتورّط في تغطية عنف الجماعات المتطرفة وفي عسكرة الانتفاضات الشعبية. وليس خافياً كم كان لكل هذه العناصر من دور في تحييد فئات واسعة وترددها واستنكافها، فضلاً عن رفضها الصريح لمحاذير ثلاثة: التدخل الخارجي، العنف، والطائفية. بل إن ما حصل في العديد من المواقع أثار أكثر من التحفظات على ممارسات استحضرت ذاكرة سوداء من العنف الطائفي، وأوحت بمخاوف تتغذّى من صعود التطرّف الديني والنزاعات المذهبية على المستوى العربي.

التبس الصراع في سوريا كما التبس من قبل في لبنان والعراق، وكما صار شائعاً عن الصراع الإقليمي بأبعاده الجيوسياسية والمذهبية. وذهب الارتياب معززاً بالعديد من القرائن عن احتمالات التورّط في حروب أهلية تجعل المشرق العربي فريسة لتقاسم نفوذ إقليمي لا تكذّبه وقائع السياستين الإيرانية والتركية، كما تطلبه علناً دولة الكيان الصهيوني وتسعى إليه. لقد حفرت مشاريع التغيير في المشرق العربي مسارات لانهيار الدول وليس لتغيير الأنظمة.

وراكمت تجربة العقود الأخيرة في لبنان والعراق مؤشرات سلبية عن مصير الوطنيات والاندماج والشراكة على خلفية انكشاف الأوضاع العربية على المداخلات الخارجية وشراسة الاستبداد وضعف وهشاشة البناء الديموقراطي وتخلّف ثقافة المعارضة. لقد انهارت الأنظمة الفاقدة لشرعيتها الشعبية والوطنية لكنها استخلفت منظومات سياسية رسمية وشعبية عاجزة عن استيلاد حلول وطنية توحيدية وديموقراطية في لبنان والعراق. بينما استولدت الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا سلطات يتعسّر معها تعميق البُعد الوطني والديموقراطي برغم استمرار الصراع حول البرامج والخيارات. فقد كان «استنقاع» الحياة الوطنية العربية أو ركودها سبباً في قصور قوى التغيير التي حملت بيئتها الاجتماعية إلى المستوى السياسي تنظيماً وفكراً وممارسة. وبالفعل تلوّثت «السياسة العربية» في الدولة كما في المجتمع لأنها قامت على ثقافة الإلغاء والعنف والتبعية والولاء غير المشروط والتعصب والانتهازية. فكانت لنا «مجتمعات متأخرة تاريخياً» وليس فقط أنظمة متخلّفة واستبدادية. فلا بد من «نقد» المعارضة وهي تخوض معركة «نقض» الأنظمة. فلا يمكن للشعوب، التي خرجت من سجن سياسي متعدد الجدران، أن تسترخي لسجون عقائدية حصرية نافية لمبدأ الحرية في الضمير والتفكير والممارسة. فمن إيجابيات المشهد العربي أنه يكشف كل العناصر الفاعلة فيه في الداخل والخارج ويترك لحركة الشعوب وقواها السياسية أن تختار مصيرها وهويتها ومصالحها وتستردها من احتكار السلطة.

لقد آن لهذه التجربة العربية بعد عام من المخاض متعدد الوجوه أن تعطي دروسها للآخرين من سلطات ومعارضات. ولا مبرّر للعزوف عن مبدأ التغيير بذريعة مخاطر التشوّهات الممكنة أو المحتملة، فلا تعالج مشكلات التغيير إلا بالتغيير ومشكلات الحرية إلا بالحرية. فهل استفادت سوريا، نظاماً ومعارضة، من تجربة الآخرين ومن تجربتها المريعة حتى الآن كي يستدرك الجميع فيصير التغيير واقعاً والحل السياسي وسيلة وحيدة والحفاظ على المقوّمات الوطنية أساساً لكل معالجة؟ ربما إذا جاءت الحكومة الموعودة مستوفية شروط التمثيل الوطني الواسع والشامل من غير إقصاء لأي مكوّن له حضوره السياسي مدخلاً إلى إنقاذ سوريا من خطري الحلول الأمنية المستحيلة والتدويل المدمّر لسوريا دولة ومجتمعاً. لقد صار هذا الأمل أوسع بكثير من رغبة السوريين أنفسهم، لأنه الوسيلة الممكنة أو المحتملة لقطع الطريق على مشهد الحرب الأهلية التي ارتسمت معالمها بسياسات القوة.

هذا المنطق الذي ساد في الإلغاء المتبادل لفئات مختلفة من الشعب السوري قاد إلى الفوضى التي لا يمكن إنكارها وتجاهل تداعياتها. ولعل ما كان سهلاً من قبل صار أكثر صعوبة اليوم لفك تعقيدات الوضع السوري، حيث يتزايد ثقل العامل الخارجي فيه على حساب الحل الداخلي مع كل وقت يمضي من دون إطار شرعي للحوار قبل الانزلاق إلى التفاوض على محاصصة النفوذ بين شعب منقسم ودول متهافتة على وراثة سيادته وتقاسمها.

وما هو أدهى أن سوريا فعلاً هي نقطة الدائرة الجاذبة للحدود الرخوة من حولها، فإذا انكسرت تشظت الدائرة وكان ذلك هو التجسيد الحقيقي لا سواه لاستباحة الخارج الدولي كيانات المنطقة ومستقبلها إلى مدى غير منظور.

الوقت سيف يقطعنا فماذا ننتظر في القليل من الأيام، حكومة إنقاذ تمثل كل السوريين أم خطر تعميق الأزمة والوصاية الدولية!؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى