الحرية لرزان زيتونة، الحرية لمخطوفي دوماصفحات مميزة

عن رزان زيتونة وسميرة الخليل/ نجوى بركات

 

 

لا معرفة بيننا، لا صداقة، ولا عِشرة، ولا حتى لمحة، أو لقاء عابر ذات مرة. ومع ذلك، لا أدري لم أشعر أني مرتبطة بهما، كأنّ لهما عليّ، وأنا مدينة لهما.

إنهما الناشطة الحقوقية والكاتبة السورية، رزان زيتونة، مؤسِّسة مكتب توثيق انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب، وسميرة الخليل، الناشطة وزوجة المعارض ياسين الحاج صالح. كانتا قد اختطفتا من المكتب في مدينة دوما، ليل 9 ديسمبر/كانون الأول 2013، مع زوج رزان، وائل حمادة، والمحامي ناظم الحمادي، لأنهما، مع رفاق لهما، كانتا تعملان على جمع الحقائق التي ستكون جزءاً من ملف سورية في مسار العدالة الانتقالية القادمة في سورية، تمهيداً لانتقال سورية إلى دولة مدنية ديمقراطية. قيل إن رزان كانت قد تعرضت إلى التهديد سابقاً، وتحديدا في سبتمبر/أيلول 2013، عندما أطلقت مجموعة، لم تعرف هويتها، الرصاص أمام باب منزلها، وبترك رسالة مكتوبة بخط اليد، تضمنت تهديداً بالقتل، في حال أنها لم تغادر المنطقة في غضون أيام.

طبعا، لم تخف رزان ولم تغادر، واستمرت في عملها، وكأن شيئا لم يكن، ثم حدث ما حدث، وكان ما كان. وأنا، حين علمت بما جرى لهما، أصابني ما يشبه الهوس، فصرت أركض وراء أخبارهما، كأنّ لي شأنٌ وأكثر، بل وكأنني مرتبطة بهما بما يعدو التضامن، لا بل وحتى الصداقة، إلى ما يشبه صلة الدم. كأنهما أختاي الصغيرتان، وأنا مكلفة بحمايتهما. كأنهما ابنتاي وقد فشلت، وتلكأت، في مكان ما، فكان ما أصابهما. أو كأنهما أمي، وقد ضاعت وهي تجري بحثاً عني في الغابة، حيث تحيا الغيلان. وحين أُمعن التفكير في أسباب انجذابي وغرقي في تقصّي غيابهما، يخطر لي أن فيهما ما يتجاوز قدرتي على الفهم، وقدرتي على الفعل، وربما هذا من دواعي انعقاد صلتي بهما.

هكذا، يسكننا أشخاص لا نعرفهم، يقيمون بين أضلاعنا، يجلسون إلى مائدتنا، ويأكلون معنا أفكارنا. ثمّة ما يربطنا بغيابهم، بعذابات أرواحهم، وقد طُليت زفتا أسود، وأوثقت بالسلاسل والحبال. وفي كل مرة، ينأون ويغورون في النسيان، يأتي شيء ليذكّرنا بهم، وليحفر كالسكين في الموضع إياه.

انظر إلى الوجه الأبيض الباسم، إلى الشعر الأشقر الملموم بمنديل مثني صغير، إلى الجسد النحيل، ثم إلى الشعر الأسود القصير، والبسمة الخجولة، والكتف العارية التي لا تلقى وزن الريح، واتخيّل ما هي أيام رزان وسميرة في الأسر. هل أبقوهما معاً، وكيف احتملتا كل ما مورس بحقهما، وكيف ما زالتا إلى اليوم تحتملان؟ والآن، وقد تعبت يدا الخاطف من التعذيب، وقد أتى وقت الأسر، الوقت الثقيل البطيء الذي لا يتقدم، ولا يمرّ، الوقت الذي يأسن كالمستنقع، يصير سميكاً، لزجاً، دبقاً، تملأ روائحه النتنة الخياشيم. الوقت الآسن الذي يغلّف العينين، والأطراف والقلب والروح، كيف تُحتسب الأيام فيه، وهل يوقّعها ضوء النهار، أم أنه ليل طويل مقيم لا ينتهي؟ هل هما معصوبتا العينين، موثقتا اليدين، أو طليقتان يمكنهما التحرك تحت الحراسة، في بضعة أمتار؟

ألاّ تتمكن امرأة من غسل شعرها، وجهها، أسنانها. أن تحيض، تبرد، تجوع، تمرض، تشتاق. أن تكون في الظلمة، ولا ترى أوجه من تحب. أن تُقتل أنوثتها، ثم تُقتل روحها، ثم يُقتل دماغها، ولا تطلق عليها رصاصة الرحمة.

أكاد لا أجرؤ على تخيّل ما يعدو تلك التفاصيل، فما أن تحضر صورة الخاطف، حتى أخشى أن يكون ما تخيلتُ، وهو، في عرفي، أقصى العذاب، تفصيلاً يسيراً في مسلسل همجي طويل، يصبح الموت، مع تصوّره، أمراً رحيماً.

عشتِ رزان. عشتِ سميرة. عاشت سورية التي تشبهكما.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى