صفحات مميزة

عن مأساة حلب –مقالات مختارة لكتاب سوريين-

 

بعد حلب… أزمة المنظور الروسي في سورية/ سلامة كيلة

يتوضّح أكثر بعد معركة حلب أن روسيا تسير في خيار الحسم العسكري، وإنْ كانت تعمل على ذلك بـ “هدوء”، أو بـ “بطء”. فقد سكّنت الجبهة الجنوبية بالاتفاق مع النظام الأردني. وأخذت تقطف ثمار الحصار الطويل لكل المدن والبلدات في محيط دمشق، من خلال تحقيق “المصالحات” التي تقتضي خروج المقاتلين والسكان منها. وقرّرت حسم الصراع بالقوة في حلب وإدلب والشمال عموماً، بعد أن سمحت لتركيا بالسيطرة على شريطٍ من حدودها مع سورية في حرب ضد “داعش”. وهي غير مهتمة بـ”داعش” ومناطق سيطرته، لأنها تستطيع استعادتها بـ “هدوء” حين تريد، لأنها تخدمها من خلال السيطرة على مناطق النفط التي باتت من حصة الشركات الروسية، وحيث تتحكّم في جزء منها هناك. لهذا لم تقاتل مسلحي “داعش”، على الرغم من “الأفلام” التي نشاهدها بين حين وآخر. ويبدو أنها تريد الآن تشكيل “معارضة معتدلة”، تقبل الاتفاق مع النظام، لكي تقول إنها أنهت الصراع الطويل في سورية، وأعادت الهدوء إلى هذا البلد.

يتمثل المنظور الروسي في حسم الصراع بالقوة وفرض بقاء بشار الأسد ونظامه. ولهذا، يستخدم قواته الجوية والبرية، ويعتمد على مليشيا طائفية من بلدان عديدة. هذه هي، باختصار، الإستراتيجية الروسية التي استخدمت سورية حقل تدريب لجيشها، وتجريب سلاحها الجديد، واستعراض قوتها لكي تزيد من مبيعات سلاحها. وهي تريد احتلال سورية من أجل مسائل عديدة. أولها استراتيجي، يتعلق بأن سورية مرتكز توسيع السيطرة على “الشرق الأوسط” الذي يعيش حالة انسحاب أميركي. وثانيها عسكري، يتعلق بتوفير قواعد بحرية في سورية من أجل الهيمنة على البحر المتوسط، وقواعد جوية وبرية لـ “حماية مصالحها” في سورية و”الشرق الأوسط”. وثالثها الحصول على مصالح اقتصادية، تتعلق بالنفط وإعادة الإعمار ومشاريع تقطف ثمارها الشركات الروسية. ورابعها التحكّم بخطوط النفط والغاز، لكي تمنع كل إمكانية لمد خطوط عبر سورية، تنافس روسيا في أوروبا.

ولا شك في أن ذلك كله “مصيري” وحاسم لروسيا، البلد الإمبريالي الذي يريد الأسواق، لكنه يريد كذلك منع التنافس، كي يُبقي أوروبا في حاجةٍ إليه في ما يتعلق بالنفط والغاز. لهذا، تسعى إلى فرض احتلال على سورية، وليس فقط إقامة علاقات متميزة، لأن هذا هو ما يضمن لها ذلك كله، ولأن ضرورة إقامة قواعد عسكرية يعني فرض الاحتلال، كما أرادت وتريد أميركا في العراق. وتدفعها كل هذه الأمور إلى الحسم العسكري، والسيطرة على كل سورية (وهنا، يصبح كل حديث عن التقسيم لعبة مسلية، هدفها تشتيت النقاش وتضييع الحقائق). لكن، لنفترض أن روسيا استطاعت، بكل تفوقها العسكري، أن تسيطر على كل الأرض السورية، فهل تستطيع ضمان قدرة النظام على الحكم؟

السؤال نابع من ملاحظة بسيطة، هي أن النظام لم يعد يمتلك جيشاً، وهذا ما اعترف به بشار

“يتمثل المنظور الروسي في حسم الصراع بالقوة وفرض بقاء بشار الأسد ونظامه”  الأسد في صيف سنة 2015 مقدمة لطلب التدخل الروسي، حيث هناك بقايا جيش، وعصابات تسمى “الجيش الوطني”، وحتى فرق الجيش باتت تتشكل من هذه العصابات، بعد فرار أغلبية الجيش أو انشقاقه، وهروب الذين يُطلبون إلى الخدمة العسكرية، ومقتل آلاف منه. ولهذا، من يقاتل الثورة “قوى خارجية”. هكذا بالضبط، وهي حزب الله والمليشيا الطائفية العراقية والأفغانية والباكستانية، والحرس الثوري الإيراني، ومرتزقة من فلسطين ولبنان وغيرهما. وبالتالي، كيف يمكن أن يحكم بعد تحقيق “الانتصار”؟

أمام روسيا خياران. الأول الاعتماد بشكل مستمر على هذه القوى التي هي خاضعة لإيران، وهذا يعني أن على روسيا أن تقاسم إيران في “الغنائم”، ومنها القبول الروسي بمدّ خط أنابيب الغاز الذي وقعته مع بشار الأسد سنة 2010، وضمان مشاريع اقتصادية لها، وسداد ديون النظام لها. وأيضاً أن تقبل سياسات إيران التي تستغلّ حزب الله من أجل التفاوض، حيث تريد السيطرة على سورية ولبنان (والعراق واليمن) كما يصرّح قادتها. ويتناقض هذا الأمر مع تحالف روسيا مع الدولة الصهيونية التي تريد إنهاء وجود حزب الله، وإبعاد إيران عن حدودها. ولا شك في أن ذلك كله يتناقض مع مصالحها هي، حيث تريد السيطرة الأحادية على سورية، ومدّ سيطرتها إلى “الشرق الأوسط”. والخيار الثاني أن تأتي بقواتها هي، لكي تصنع أرجلاً لنظامٍ تريد استمراره، وهذا يورّطها في حرب طويلة، وهي حربٌ ستحدث، حتى وإنْ اعتمدت على قوى إيران.

تحتاج إعادة بناء جيش سوري إلى زمن طويل، وربما لا يكون ممكناً ذلك نتيجة “غياب الشباب” الذي يقبل الخدمة العسكرية، بعد أن جرى تهجير أكثر من نصف السكان، وفرار شبابٍ كثيرين من مناطق النظام، وحتى من “داعميه”. بالضبط لأنهم لا يريدون المشاركة في هذه الحرب القذرة، بعد أن فقدت تلك المناطق عشرات آلاف الشباب في حرب النظام ضد الشعب، ومن أجل إجهاض الثورة. والعجز عن بناء جيشٍ جديد يعني أن على روسيا إما أن تقبل بتقاسم مع إيران، وهو تقاسم غير مضمون النتائج، أو تزيد من قواتها البرية، وهذا أمر يغرقها في أفغانستان جديدة. فهل تقبل أن تبقي المعادلة الحالية بعد أن تحسم الأمور؟

هذه هي معضلة روسيا في سورية، ذلك أن “انتصارها” لن يكون مكتملاً، وسوف يخضع

“الشعب الذي ثار لن يقبل الهزيمة التي تتمثل ببقاء بشار الأسد ومجموعته” لظروفٍ تقلل من قدرتها على السيطرة واحتكار سورية. وأشير إلى ذلك انطلاقاً من بديهية واضحة، هي أنه حتى وإنْ استطاعت روسيا السيطرة على كل سورية، فإن الحرب ضدها وضد النظام لن تتوقف، وإنْ اتخذت أشكالاً جديدة، فليس من انتصارٍ حاسم ممكن لها في كل الأحوال. ولا شك في أن تمسّكها ببشار الأسد، وببنية النظام كما هي، من دون أن تقدم “تنازلاً” واحداً، سوف يفرض عليها أحد الخيارين السابقين، أي الاعتماد على قوات إيران وملحقاتها أو إرسال قواتها. لا بد، في الحالة الأولى، من أن تقدّم تنازلاتٍ لإيران، وهو ما لا تستطيعه، أو إرسال قواتها، وهذا سيدخلها في أفغانستان جديدة، ربما أسوأ من السابقة، خصوصاً أن الوضع العالمي يعاني من سيولةٍ وتحوّلٍ في التحالفات، يمكن أن تقود إلى تصارع مصالح في سورية، يعزّز من الصراع ضدها. والأهم هنا هو أن الشعب الذي ثار لن يقبل الهزيمة التي تتمثل ببقاء بشار الأسد ومجموعته. وبالتالي، سوف يستمر العمل المسلح ضد النظام وحامليه من إيران إلى روسيا، ولسوف يتخذ أشكالاً أفضل مما جرت ممارسته منذ ثلاث سنوات. فحرب العصابات هي التي ستكون الرد المناسب على وضعيةٍ مفروضةٍ من بقايا نظام وسلطة احتلال وأدوات طائفية. ولكن، يمكنها تحويل وجهة الصراع من روسيا في حالةٍ واحدة فقط، هي إنهاء سلطة بشار الأسد ومجموعته، وإعادة بناء الدولة على أسس تشاركية. فهذا هو المدخل الوحيد لبناء قوى عسكرية تحمي الدولة، حيث إنها الخطوة التي تسمح بعودة عشرات آلاف الفارّين من الجيش، وتهدئة القوى التي تقاتل الآن ضد النظام، وتحقيق “قبول شعبي” بشكلٍ ما. على الرغم من أن الصراع سوف يستمر بأشكال أخرى، نتيجة الحاجة لتحقيق مصالح الشعب، الاقتصادية والسياسية، فالشعب يريد العيش الكريم والديمقراطية، هذا هو ملخص الحرية التي يريدها، وطرحها منذ البدء.

العربي الجديد

 

 

 

ما بعد حلب… أو النصر الأسوأ من هزيمة/ برهان غليون

يعتقد الأسد الذي لم يعرف السياسة، ولا تعامل بها في أي وقت، أن سقوط حلب يعني استعادة السيطرة على سورية، وفرض هيبته على الشعب، وتأكيد منطق القوة أو التفوق بالقوة الذي أقامت عليه جماعة الأسد حكمها منذ بداية تشكيل النظام. لا يهم مصدر القوة التي أسقط بها المدينة والشعب، ولا بأي ثمنٍ جاء. والحال أن إسقاط حلب، وهذا ما لن يتأخّر ظهوره، هو إعلانٌ عن نهايته المحتمة في الوقت ذاته. فبإصراره على تأكيد الغلبة العسكرية قطع على نفسه أي طريقٍ للتصالح مع الشعب الذي قوّض شروط وجوده، ونكل بأبنائه من دون حساب. وبمقدار ما حكم على نفسه بالبقاء في أسر القوى التي مكّنته من الانتصار، سيفقد بموازاة ترسيخ هذه القوى قواعد سيطرتها مبرّر بقائه، ويتحول إلى ورقة مساومةٍ سياسية. فلا يمكن لحاكمٍ أن يربح ضد شعبه الذي يفترض أن يستمد منه القوة والشرعية، وإذا حصل فسيكون ثمن ربحه أعلى من الخسارة، ونتيجته تسليم مفتاح ملكه لغيره. ولعل ما جعله ينسى ذلك، هو ومن كان وراءه ممن سيجلون عن السلطة بسرعة أكبر مما يتوقعونها، هو تخلفهم السياسي المذهل الذي جعلهم يتصوّرون أنفسهم ويتصرّفون كما لو كانوا ملاك عبيد، لهم على شعبهم حق الحياة والموت. وربما خدعتهم بعض مظاهر الاحتفاء التي تبديها قطاعاتٌ من الرأي العام التي تحاول، بالرقص على جثث الضحايا من أشقائها ومواطنيها، أن تكبح مشاعر القلق والخوف التي تجتاحها وتتقي بالتعبير الكاذب عن الفرح والانتصار المصير المشؤوم الذي تدرك بالحدس أنه ينتظرها.

ثمن الحسم العسكري ومضمونه

في ما وراء تعبيره عن الارتهان للاستراتيجيات الاجنبية التي وقع أسيرها، يعكس الإصرار على إسقاط حلب التمسك، حتى النهاية، بمبدأ الحل العسكري، أي إبادة الخصم، والاستسلام النهائي لسياسة الهرب إلى الأمام التي أوصلته إلى قبول سياسة الإبادة الجماعية والمقامرة بمصير البلد نفسه.

وهذه السياسة ذاتها التي مكّنت الأسد، ومن حوله، من تحقيق وعده بالانتقام من السوريين، وتكبيدهم خسائر غير مسبوقة، ثمن رفضهم التمديد له، كما كان ينتظر أو ينتظره المستفيدون من نظامه، هي نفسها الفخ الذي نصبه لنفسه، ونصبه له الإيرانيون الطامعون في السيطرة على بلده، مستغلين مشاعر الحقد والانتقام هذه. ولا يمكن إلا للجاهل والأحمق أن لا يدرك أن التهرب من الاستجابة لتطلعات السوريين السياسية والانسانية، والرد عليها بالعنف، أو الاعتقاد بإمكانية الإعدام السياسي المستمر للشعب السوري، لم يساهما في إيجاد الحل للأزمة المستمرة منذ عقود، وإنما بالعكس عملا على تفجيرها في سياق الثورات العربية، وعمّقا الشرخ بين الحكم والشعب، حتى لم يعد هناك خيار لأي طرف غير السلاح والعنف. كما أن هذه السياسة التي أوصلت البلاد إلى أكبر كارثة إنسانية هي نفسها التي دفعت إلى الارتماء على الأجنبي، وتعميق التدخلات الخارجية بطلب من الأطراف السورية، وقادت إلى تغيير طبيعة الدولة والمجتمع معاً، ودمرت عرى التواصل والتفاهم بين أبناء المجتمع الواحد، وهي تهدد اليوم بالتحول إلى حرب إبادةٍ متبادلةٍ على مستوى المنطقة بأكملها.

يخطئ من يعتقد أنه سيكون هناك حل بعد الآن بالانتصار العسكري. بالعكس، تستخدم بعض

“بإصرار الأسد على تأكيد الغلبة العسكرية قطع على نفسه أي طريقٍ للتصالح مع الشعب الذي قوّض شروط وجوده، ونكل بأبنائه من دون حساب” الدول وهم الانتصار العسكري هذا، خصوصاً إيران، من أجل إطالة أمد الحرب، حتى تستطيع أن تكسب الوقت، لتحقيق التغيير الديمغرافي المنشود، وإقامة منطقة حروبٍ ونزاعاتٍ وفوضى دائمة، تمتد من بغداد حتى بيروت، تمكّنها من الحفاظ على نفوذها، وتحقيق هلال السيطرة الإيرانية الدائم.. فبمقدار ما عنى الرفض المبدئي للحل السياسي إدانة الشعب المطالب بالحرية بانعدام أي خيار آخر، سوى الخنوع وإعلان الاستسلام وقبول العبودية، قطع كل جسور التواصل، ودان الجميع، بالتصعيد المستمر واللامتناهي في العنف، وحول الصراع السياسي إلى حرب دفاعٍ عن الوجود، حتى لم يعد من الممكن لأي طرفٍ، النظام والشعب الثائر، أن يقبل التراجع، من دون أن يعلن نهايته ويشهد هلاكه. هذا الطريق المسدود الذي وضع فيه النظام الأزمة هو تماما ما يعبّر عنه شعار حماية الشعب والدولة ضد الاٍرهاب والمؤامرة الأجنبية الذي رفعه النظام، وشعار “الموت ولا المذلة” الذي يعبر عن الاستعداد للموت وعدم التسليم ثانية بالعبودية أو التفاهم أو التصالح معها الذي رفعه الشعب. لذلك، ما كان من الممكن إلا أن نسير في الصراع السوري نحو تصعيدٍ من دون حدود في العنف، على مستوى الخطاب والممارسة والحرب، حتى انتهينا إلى حرب التدمير المتبادل، فالطغيان كالحرية لا يتجزّآن. ولا يمكن أن يكون هناك نصف طغيان، ولا أن تكون هناك نصف عبودية، فالسلطة إما أن تكون تمثيليةً أو أن تكون مفروضة بالقوة، والفرد إما أن يكون حرّا أو مسلوب الإرادة، ولا يمكن أن يكون هناك فرد نصف حر ونصف عبد.

في هذه الحرب الذي حوّلها النظام إلى حرب وجود له كنظام، ومن ثم حرب وجود للشعب الثائر عليه، ما كان من الممكن للعنف إلا أن يتجه نحو حدوده القصوى، وأن يتحوّل الدمار والقتل بالجملة، وأعمال الإبادة المادية والسياسية للجماعات والطوائف والقوميات إلى حالةٍ عاديةٍ، تكاد تكون اليوم مقبولةً من الجميع، وتتم تحت إشراف ونظر الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع الدولي الإنسانية والحقوقية وبرعايتها. وكان من المنطقي أيضاً أن نفقد الخيارات جميعاً، كما لم يكن هناك مجال أن لا تتحول إلى حروب بالوكالة، وأن يُسلَّم القرار فيها للدول والقوى الخارجية، على مستوى النظام الذي أصبح كالخاتم في يد الدول المنتدبة والوصية عليه. وعلى مستوى المعارضات التي تتنازع على الحمايات الخارجية، بينما تفتح الفوضى والخراب السياسي والقانوني الباب على مصراعيه، لنمو المنظمات الإرهابية، الخارجة على القانون والنظام والمجتمع الدوليين، حتى توهمت أنها قادرة على بناء دولتها الخاصة، بل لبس عباءة الخلافة الإسلامية كاملة أو استعادتها.

لن يمكن لأي حكم أو نظام أو سلطة أن تستقر وتنجح في امتصاص النتائج المدمرة لهذه الحرب الظالمة الطويلة ضد الشعب السوري، بالاستمرار في إنكار حقيقة الثورة التي قام بها الشعب، ومن دون الرد الواضح والمباشر على مطالبها السياسية والأخلاقية والقانونية المتعلقة بالعدالة. لذلك، بعكس ما يتصوّره مهندسوه الروس والإيرانيون، قد يساعد سقوط حلب أو إسقاطها على تعزيز سيطرتهما المشتركة في سورية، وتحكمهما بالنظام، لكنه لن يفضي إلى أي حل. بالعكس، يعلن هذا النصر الذي تحقق على يد المليشيات الطائفية العراقية، وفي مقدمها مليشيا النجباء التي تخوض في وعيها حرباً دينيةً وطائفيةً وإحلاليةً في الوقت نفسه، نهاية

“ما كان من الممكن للعنف إلا أن يتجه نحو حدوده القصوى، وأن يتحوّل الدمار والقتل بالجملة، وأعمال الإبادة المادية والسياسية للجماعات والطوائف والقوميات إلى حالةٍ عاديةٍ” الحلول السياسية وبدء مرحلةٍ جديدة من الحروب والصراعات والفوضى التي لن تقتصر على القوى المتنازعة اليوم وحدها، وتطرح أسئلةً كبيرةً على أسياد سورية الممزقة والمدمرة اليوم، لا يمكن لهم، ولن يستطيعوا الإجابة عنها، بتغييب السوريين واغتيالهم السياسي وتشريد الجزء الأكبر منهم. فلا يعرف أحد اليوم إلى من ستؤول ملكية حلب من بين المليشيات المذهبية، ومن سيرفع راياته، ويثأر فيها للحسين، ومن سيعلن دولة الخلافة ونصرتها، وأي صورةٍ ستعلق على جدران أوابدها، من بين صور قادة المسيرة الخلاصية والكارثية، الخميني وخامنئي أو بوتين أو الأسد أو البغدادي أم غيرهم من المرشحين الكثيرين. كما لن تطمئن السوريين أكثر على مصيرهم ومستقبل بلدهم وتمكنهم من معرفة ما إذا كانوا سيظفرون، في النهاية، بوطنٍ أم سيبقون مشرّدين، بمن فيهم من يعيشون داخل أسوار معازلهم وجدران الإمارات الحربية السورية والأجنبية المتوالدة في ارضهم.

باختصار. لا يمكن للسياسة التي قادت إلى تفجير أكبر كارثة إنسانية في العصر، وجعلت من احتجاجات شعبية عادية حرباً متعدّدة الأطراف والأبعاد والرهانات، داخلية وإقليمية ودولية، في الوقت نفسه، أن تكون هي ذاتها الأساس لإعادة بناء سورية الواحدة والآمنة والمتضامنة والحرة والمستقلة.

لماذا لا يمكن للأسد أن يربح الحرب؟

سقوط حلب هو الإعلان عن نهاية سورية القديمة، معارضةً وحكومةً ونظاما وشعبا ودولةً، بمقدار ما هو نهاية الحلول السياسية، فسورية اليوم ركام من الأنقاض تنتظر من يزيلها، سورية الأسد وما بعده، سورية الحرب وتدخلات الدول الأجنبية وإرهاب الدولة وإرهاب الدين. وَمِمَّا إنه لن يكون من الممكن إعادة بناء الدولة بتكريس منطق الانحراف والجريمة، ولا إعمارها بسحق شعبها وإخراجه منها، لا يمكن كذلك إعادة جمعها وبنائها على شذرات أفكار وتجمعات وروابط محلولة. وتستهزئ الطغمة السورية ورعاتها من الصحفيين والمثقفين والسياسيين بأنفسهم، عندما يعتقدون أنهم يستطيعون فرض الخنوع على الشعب، وإعادة احتوائه بتوزيع بعض المناصب السياسية على المعارضة. أولاً، لأن السوريين جميعا، معارضين وموالين، فقدوا في مخاض الثورة العنيف والقاسي روح العبودية التي شلتهم في الماضي. وثانياً، لأن أحداً من غير المتورطين في الجريمة لن يقبل أن يكون شريكاً في المسؤولية عنها، وهي جريمة اغتيال شعب وتدمير شروط وجوده ورهن وطنه للأجنبي، لا يمكن غفرانها أو تجاوزها. وثالثاً، لأن أي سوري يحترم نفسه لن يقبل أن يكون عميلاً لسلطة الوصاية الأجنبية الذي يفخر بالإعلان عنها كل يوم المسؤولون الإيرانيون.

بالعكس، سيكتشف النظام بشكل أكبر في المستقبل أن إسقاط حلب كان نصراً فارغاً ربما أسوأ بكثير في مآلاته من الهزيمة، وأنه جاء ليؤكد تهافت النظام، وعجزه الولادي عن ممارسة السياسة أو دخولها. وبالتالي، عن التطبع والتطبيع، والخروج من صفة الاستثناء وحالة الطوارئ والحرب الدائمة. وهو يعبر أكثر عن إصراره على الانتحار مما يشير إلى انبعاثه. وبدل أن يساعده كما يعتقد على الرد على تحدي وجوده، سوف يدفعه بشكل أكبر إلى الموت تحت ركام المشكلات والنزاعات والتناقضات العميقة التي تنخر وجوده، والرد على التحديات الهائلة التي تواجهه، وفي مقدمها تغوّل الدول الأجنبية التي أصبحت حاميته، وتعدّد المليشيات المذهبية والقومية المنظمة والمدربة والممولة من الخارج، واستباحة الدولة من مختلف القوى والشبكات. لن يسمح مثل هذا الوضع ببناء دولةٍ ولا جيش، وليس من مصلحة أحد فيه أن يعود إلى فكرة الجيش الوطني، ولا حتى إصلاح الإدارة المدنية. فمن دون تسويةٍ سياسيةٍ، لن يكون أمامه خيار آخر سوى الاستمرار في استباحة الدولة ومؤسساتها، والمراهنة على تعبئة المليشيات الطائفية الأجنبية والمحلية، للحفاظ على السيطرة، وبالتالي، خيار الحرب الدائمة، كما هو العراق اليوم.

وبالمثل، لن يكون من الممكن إعادة بناء الدولة، وتحقيق الحد الأدنى من الأمن والاستقرار من

“بمقدار ما يشكل سقوط حلب نكسةً للمعارضة، يمكن أن يكون فرصةً لإعادة تأسيسها” دون مصالحة وطنية، وإحياء روح العدالة التي يحتاج إليها تطمين الناس على حياتها وحقوقها، وتجنب ما حصل في العراق، ولا يزال يحصل منذ حرب عام 2003. ثم كيف يمكن، من دون تسوية سياسية وتفاهمات دولية وإقليمية، معالجة مسائل كبرى، مثل مسألة المليشيات الأجنبية التي يزيد عدد من يعمل منها مع النظام وحده عن 66 مليشيا، وتتنازع على اقتسام الغنائم في حلب وغيرها، إضافة إلى المليشيات الجهادية الدولية وفصائل المعارضة المسلحة؟ وكيف يمكن من دونها أيضا مواجهة مشكلة ملايين اللاجئين وإعادة توطينهم في بلدهم، بينما يعتقد بشار الأسد أن رحيلهم قد حسّن من النسيج الاجتماعي السوري؟

لن يكون هناك أي أملٍ في إعادة الإعمار، الذي تقدر تكاليفه بـ 300 مليار دولار، من دون تعبئة رجال الأعمال السوريين، وتعاون الدول الإقليمية والعالمية، وتغيير قواعد العمل السياسية وضمان الاستقرار والأمن والسلام وإمكانية استعادة رأس المال. وحتى أكثر الدول تساهلاً، لن تقبل المساهمة في استثمار مئات ملايين الدولارات خدمة للأسد وحلفائه، ودعماً لنظام يقوم على العنف وحكم المليشيات، ويفتقر لكل مقومات النظام السياسي والحكم القانوني والعدالة، عدا عن أنه متهم، وربما ملاحقٌ دوليا غداً، بقتل مئات الألوف من شعبه، وتشريد نصف سكان بلده، والتسبب في إعاقة دائمة أو شبه دائمة لأكثر من مليوني إنسان. ويحلم أنصار النظام ومشجعوه على القتل والاستمرار في الجريمة وإنكار وجود الشعب، عندما يعتقدون أنه من الممكن له أن يستعيد علاقاته الدولية، ويكسب ثقة الحكومات وتعاونها، لمجرد تلويحه، كما بدأ يفعل مجدّدا، بخطر المنظمات الإرهابية، بعد أن ثبتت عليه تهم ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.

تحرّر الثورة من أوهامها وقيودها

لولا الخوف من سقوط المزيد من الضحايا، بسبب استمرار الحرب، لقلت إنه من حسن الحظ أن النظام رفض التسوية، وتبع نصائح طهران التي لا تهتم بمصيره، لا فرداً ولا نظاماً، إلا

“نشهد بداية حواراتٍ جادة بين السوريين، لم يكن من الممكن سماعها من قبل أبدا، وانبثاق روح محركةٍ لوطنية جامحة” بمقدار ما يمكّنها من الاستمرار في تحقيق مشروعها الإمبرطوري، فقد كان من شأن التسوية أن تريحه، وربما تمدّد في أجل بقائه أكثر، نظراً لضعف المعارضة التي نشأت في حضن نظام الموت والتعقيم الفكري والسياسي والأخلاقي، والتي لا تزال، منذ أربع سنوات متواصلة، في موقف الدفاع البسيط عن نفسها ووجودها، ولم يعد لديها أي قدرة على التقدم، لا على المستوى السياسي لتوحيد المزيد من السوريين وتنظيمهم، لاجتراح معجزة إسقاط النظام بالقوة وبناء نظام جديد مكانه، ولا على المستوى العسكري الذي أغلق أفقه تغوّل التيارات الجهادية الأصولية المتطرّفة عليه، ومصادرتها ثورة الشعب، ووضعها في طريق مسدود على الصعيدين، الوطني والدولي معا.

ولذلك، بمقدار ما يشكل سقوط حلب نكسةً للمعارضة، يمكن أن يكون فرصةً لإعادة تأسيسها. وهو يوجه، بهذا المعنى، تحدياتٍ لا تقل خطورة للمعارضة التي أضاعت هويتها، قبل أن تصادرها القوى الأجنبية والدولية. ولن تستطيع أن ترد عليها، وتخرج من عجزها وضعفها، من دون ثورة داخل الثورة، أي ثورة على نفسها. والواقع أن جزءاً كبيرا من أسباب تعقد الأزمة السورية هو أن إنهاك النظام وسقوطه الفعلي أواخر 2012 لم يجد جوابه في معارضةٍ قادرةٍ على تشكيل البديل المقنع للشعب، أو للقوى الدولية المعنية بالشأنين، السوري والإقليمي. ولذلك، قبل الإعمار العمراني والمادي، يحتاج الخروج من المأزق والحرب الدائمة التي فرضها النظام وحماته إلى ثورةٍ، محورها إعادة البناء السياسي والفكري والأخلاقي داخل صفوف المعارضة وقوى الثورة والشعب معا، وهو ما يستدعي تشكيل أو ولادة نخبةٍ جديدةٍ من قلب الشعب، لا في سوق السياسة الزائفة، أي من قلب المعاناة ومن خلالها، نخبة لم تتعوّد الكذب والغش والبحث عن المنافع الفردية والمصالح الخاصة، ولم تترعرع في حجر نظام المحسوبية والزبونية والمراءاة، نظام الأسد الأب والابن وإمارته الشخصية أو مزرعته التي أصبحت تسمى دولة الأسد.

ونحن نشهد اليوم بالفعل، في موازاة موت قوى الثورة والمعارضة القديمة التي أضاعت هويتها، واختلطت أوراقها بالإرهاب والتطرف الديني والمذهبي، من بين ثنايا القوى المتهاوية في “الائتلاف” والفصائل المتعبة، وغيرها، وعلى أنقاضها، ولادة معارضةٍ جديدةٍ مختلفةٍ تماما، تخرج من تحت الأنقاض، ومن شقوقها وفي فراغاتها. هكذا نشهد بداية حواراتٍ جادة بين السوريين، لم يكن من الممكن سماعها من قبل أبدا، وانبثاق روح محركةٍ لوطنية جامحة، تركز على محبة البلد والأرض والتمسك بوحدتها وتنوعها وتاريخها.

على الرغم من الكارثة الإنسانية التي رافقته، يمكن لسقوط حلب الذي يخشى أن يكون مقدمة لحسم مصير ثورة الحرية والكرامة أن يكون بالعكس مناسبةً وشرطاً للخروج من الحصار الذي ضربته الثورة على نفسها في حلب، وفي سورية كلها، حصار عسكري بالتأكيد، ولكن أهم من ذلك سياسي وفكري وأخلاقي. والفرصة الأخيرة لتحرير الثورة من الاختناق وإخراجها من الأنفاق والطرق المسدودة التي سيقت إليها، وتحريرها من القيود والأنشوطات التي وضعتها معارضاتٌ ضعيفةٌ وعاجزة في عنقها، وكبلت بها يديها وأقدامها، وجعلتها تراوح في مكانها.

العربي الجديد

 

 

 

 

 

المقتلة: الإنسانيّة والبربريّة على كوكب واحد/ عمر قدور

بينما كانت الاحتفـــالات تنشط في طهران والضـاحية الجنـــوبية واللاذقية وحلـــب نفسها، كانت التظاهرات تنطلــــق في العديد من المدن الأوروبية استنــــكاراً لمذابـــح حلب. نستطــيع القــــول إن من أشعلوا الشموع، ومن هتفوا أو رفعوا لافتـات التنديد، هم أكثر ممن غنى ورقص، وهم أكثر قيمة لأن غالبية منهم كانت مدفوعة بإخلاص إنساني، بخلاف بربرية المنتصرين هنا وهناك.

هل أوقفت التظاهرات، القليلة على أية حال، المذبحة؟ وهل ستوقف المذابح المقبلة؟ وهل نسبة الغربيين الذين تظاهروا معتبرة قياساً بنسبتهم في مناسبات أخرى «أقل أهمية»؟ ماذا عن الشعوب العربية التي لم تتحرك خلافاً لسياسات حكوماتها؟ وماذا عنا، نحن السوريين، وهل فعلنا أفضل ما يمكن فعله؟

قد تقفز هذه الأسئلة السهلة وما يشابهها إلى الأذهان فوراً، لا يقل عنها استسهالاً الجزم بانحدار العالم إلى حضيض غير مسبوق، أو القول تخفيفاً أن العالم كان دائماً على هذه الشاكلة من البربرية. لدعم تلك الأقوال، توجد مذابح كافيــة علــى مر العصور، وأهمها في القرن الماضي الذي يُصنّف بأنه الأكثر دموية من حيث عدد الضحايا، وأيضاً من حيث الاستحواذ الحثيث على أسلحة الدمار.

ونحن في خضم المذبحة، وهي مستمرة قبل حلب وبعدها، يحق لنا انتقاد العالم، يحق لنا رثاء الإنسانية. القول بأن الأخيرة تعبير عما لم يوجد أصلاً لا يمنح عزاء أفضل، هو مصمم لتعزيز اليأس تحت ادعاء الحكمة، ولتعزيز سلطة القوة تحت وهم امتلاكها يوماً، والانضمام إلى ناديها على حساب ضعفاء آخرين. لذا، ما يحمّل انتقاد العالم قيمة يفتقدها الآن هو عدم الوقوع في قدرية سوداء، لأنها تعني في ما تعنيه الهباء المطلق إنسانياً، وتقود في ما تقود إلى العدمية السياسية، يمثلها إرهاب لا يبتغي أكثر من التعبير عن مظلومية ما.

لا بأس في رؤية الواقع من زاوية أخرى، لقد خرجنا كسوريين إلى العالم فجأة، لم نكن طيلة خمسة عقود معروفين كمجموعة بشرية سوى من محيطنا الإقليمي، وحال غالبيته ليست أفضل من حالنا. تحت ستار التعتيم ذاك، كانت تنتعش مختلف أنواع التنميط بين السوريين أنفسهم، وبينهم وبين جيرانهم أيضاً. تنميطنا غربياً لم يكن خارج السياق، سياق عدم المعرفة، وسياق العداء الموروث بين ضفتي العالم القديم.

ثمة عتب محق على شعوب الغرب، إذا انطلق من واقع التلازم المفترض بين الحرية والإنسانية، وهو يقتضي مراجعة ما ادعيــــناه طويلاً من الإنسانية. الإنسانية تكتسب شرطها هنا من إطلاقها، لا من تلك الإنسانية العصبوية، دينياً أو قومياً أو مذهــــبياً. هذه الإنسانية عبّر عنها بعض الغـــرب في التظاهرات التي انطلقت في عديد من المدن الأوروبية من أجل حلب، في الحرب على غزة أيضاً حدث أمر مشابه. في الحرب على نظام صدام، كانت التظاهرات أكبر عدداً وأوسع انتشاراً، لأنها التبست بالسياسة وباستعداد حكومات الغرب للحرب، أي لأنها صارت شأناً داخلياً، وأيضاً لأن العالم كان قد ودع للتو حرباً عالمية باردة ويتوق إلى الاستراحة من الحروب كافة.

اليوم، بينما يتقدم اليمين في عموم الغرب، سيكون من الواجب الأخلاقي تثمين إنسانية الذين تظاهروا من أجل حلب في مدنه، على قلتهم. في وجه بربرية يُراد اعتبارها شأناً عادياً، هؤلاء في طليعة الحلفاء، لأنهم ببساطة أحرار في مجتمعات حرة. قد نقول كلاماً آخر في نقد الأنظمة الغربية نفسها، وقد نقول كلاماً أيضاً في فصلٍ تقيمه النخبة السياسية بين مكتسباتها الداخلية وما ترى الشرق جديراً به. لكن أولئك الغربيين الذين تظاهروا، وأعداداً أكبر من الذين احتضنوا اللاجئين، عبر عقود والآن، ليسوا ملائكة ولا قديسين، ببساطة هم الذين لولاهم لكان اليأس أعمّ، ولكانت العدمية تجد مبررات أقوى لتدمير الكوكب.

ما يُقال اليوم عن تراجع المستوى الأخلاقـــي فيه أحكام يجدر أن توضع تحت النقـــد، فالعالم لم يكن أفضل حالاً عنــــدما هُجّــر الفلسطينيون، القضية الفلسطينيـــة تقدمت عبر عقود في الغــرب، وصورة إسرائيل تراجعت، بل تدهورت في بعـــض الأوساط. القضية السورية نالـــت من الاهتمام ما لم تنله مذابــح روانـــدا وبوروندي، وصورة بشار ونظامه تفوق بشاعة تلك الصورة التي كانت لنظام الأبارتيد في جنوب أفريقيا.

بالتأكيد هناك هوة بين المعرفة والفاعلية، فضلاً عن نقص في الأولى، هذا ربـــما يحتاج إلى وقت وإلى تراكم في الخبرات، ففي ظل الانقسامات السياسية والثقافية، والتلويح بصراع الحضارات، لن يأتي التضامن سريعاً على قدر الآمال.

في السنوات الخمس المقبلة، على الأقل، هناك معارك ستُخاض في الغرب ضد اليمين العنصري الحاكم. كونها لن تُخاض لأجلنا، فذلك لا يعني أننا لن نتأثر بنتائجها، وكون بعض الذين سيخوضونها لا يكنّ مشاعر إيجابية تجاهنا، فهذا لا يعني النظر إليها بعدم اكتراث. بالأحرى، من أجل جميع معاركنا، نحن معنيون بما يحدث في منطقتنا وفي الغرب، ومن دون الأخير وتدخّله المنشود لن تُحل قضايا المنطقة، وسيُسحق فيها الجميع لمصلحة من يملكون القوة أو من يستقوون بقوى خارجية بديلة عن الغرب.

بخلاف ما يُشاع، العتب على العروبة أو على الإسلام، بسبب التخاذل عن نصرة قضايانا، هو عتب الضعفاء على الضعفاء ثانياً، وقبل ذلك، عتب مبني على عصبوية لم يحدث أن أدت إلى أفق إنساني مطلوب أكثر من أي وقت مضى. لا العتب ولا التبرؤ لهما محل من الواقع، طالما تقاسمت هذه الكتلة انعدام الفاعلية نفسه، وروح القبيلة نفسه، والانغلاق النفسي والثقافي ذاته. العتب على الغرب من هذا المنطلق هو النفاق، لا ما يُروّج حتى عن نفاق الغربيين وهم يتضامنون من أجل قضايانا.

بالتوازي مع مقتلتنا، كانت البربرية المشرقية هي الصاعدة، البربرية الروسية والإيرانية مدعومتين بالصين، مع تواطؤ أميركي على تهميش الغرب التقليدي، تواطؤ لا نعرف مدى تأثيره في إمكان انهيار الاتحاد الأوروبي ككل. نحن وأوروبا أكبر المتضررين من البربرية الصاعدة، ربما يكون هذا امتحان «العالم القديم» بشطريه، حيث لا تتوقف مسؤولية كل جهة عند حدودها كما يريد متطرفون على الجانبين.

الحياة

 

 

 

حلب و«المجتمع الدولي»: مطاحن الإجرام والتواطؤ والنفاق/ صبحي حديدي

خضعت حلب في الآونة الأخيرة إلى عدوان همجي منظّم ـ ضدّ البشر والحجر والزرع والضرع، سيان ـ وحرب تدمير شاملة، وتطهير وتهجير؛ اشتركت في إدارته وتنفيذه قوى عظمى دولية (روسيا)، وأخرى إقليمية (إيران)، وميليشيات مذهبية («حزب الله» وعشرات العصائب والألوية)، فضلاً عن بقايا ما تبقى من أجهزة النظام السوري وميليشياته. وهذا العدوان، في واحدة من سماته الكونية على الأقلّ، هو مثال جديد على عدد من الأمثولات العتيقة المتكررة، التي تصنع تاريخ النظام الدولي المعاصر، أو ذاك الحديث والحداثيّ بأسره لمن يشاء؛ وتنتج، وتعيد إنتاج، أخلاقياته ومعاييره وخطاباته وعلاماته.

ويكفي الآمل خيراً في هذا النظام أن يستعرض مظاهر الشدّ والجذب في أروقة الأمم المتحدة، واجهة ذلك النظام الرسمية؛ وفي عواصم عالمية ذات سلطة وقرار في تحريك النظام، مثل واشنطن وموسكو ولندن وباريس وبرلين. وفي المقابل، توفرت ردود أفعال مختلفة الطبيعة، في شوارع هذه العواصم وعلى مستوى تظاهرات الاحتجاج الشعبية ومنظمات المجتمع المدني؛ لا تذهب على نقيض حال الجمود والشلل التي عاشتها الحكومات، فحسب؛ بل تفضح، كما تكشف عورات، أكذوبة كبرى شاع استخدامها لدى القائلين بوجود، ثمّ إمكانية، إدامة هذا التكاذب المديد المفتوح، حول مسمى «المجتمع الدولي».

مصيبة هذا المسمى، الذي بدأ غائماً وغامضاً وهكذا يواصل البقاء، لا تقتصر على ارتداده إلى سلوك سابق مكرور أثبتت الوقائع إفلاسه وعواقبه الوخيمة فقط؛ بل، كذلك، في أنّ الارتداد ينطوي على الانحطاط أكثر فأكثر، نحو عواقب أشدّ أذى وأبعد أثراً. وفي الماضي كانت صيغة الـ»كليشيه» المعتادة، عند اندلاع حروب إقليمية، تبدأ من مطلب وقف إطلاق النار فوراً؛ إنْ لم يكن بدافع النفاق ورفع العتب، فعلى الأقلّ بغية إفساح المجال أمام القوى الكبرى المعنية ببعض أو جميع أطراف الاقتتال (وهي، دائماً وأبداً، معنية بالضرورة!) كي تتساوم وتتفاهم وتتفق.

وهذه المرّة، لأنها تشارك في الحرب ضد حلب وفي تدميرها، ترفض موسكو وقف إطلاق النار، وتساندها الصين في الرفض، وتستخدم العاصمتان حقّ النقض لتعطيل قرار، هزيل أصلاً؛ وفي المقابل، لا تُسمع من أمريكا، القوّة الكونية الأولى، سوى تلك الجعجعة الأثيرة، التي بلا طحن. وكان في وسع المندوب الروسي لدى مجلس الأمن أن يذكّر زميلته المندوبة الأمريكية بتاريخ واشنطن الطويل في استخدام الـ»فيتو» إياه، ضدّ وقف إطلاق النار خلال العدوان الإسرائيلي في جنوب لبنان، عام 2006، مثلاً. كان في وسعه، أيضاً، أن يذكّر زميله المندوب البريطاني بما فعلت بلاد الأخير في المثال إياه؛ حين جارى توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا يومذاك، رغبة واشنطن في إسقاط واجب الحدّ الأدنى في الحروب، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

من جانب آخر، أثبت الموقف من العدوان البربري على حلب أنّ أوروبا العملاقة الموحدة، القارّة العجوز العريقة وأمّ أنظمة الاستعمار وفلسفات الأنوار وأنظمة لديمقراطية في آن معاً؛ عاجزة تماماً عن اعتماد سياسة خارجية مستقلة قيد أنملة عن تلك السياسات التي تعتمدها الولايات المتحدة، مؤقتاً أو على المدى الستراتيجي، إزاء سلسلة طويلة من الملفات الدولية الشائكة، وعلى رأسها قضايا الشرق الأوسط بالطبع. الردّة، مع ذلك، أكثر فضائحية في مواقف القادة الأوروبيين، الذين أعادوا تذكيرنا بآخر مناسبة مماثلة لإعادة إنتاج المنتج القديم، في هيئة انحطاط أشدّ فضحاً لمسمّى «المجتمع الدولي».

وكيف تُطوى من الذاكرة المعاصرة، أو من أرشيف مسمّى «المجتمع المدني» ذاته، تلك الوقفة «الحربجية»، أي المناهضة لمفهوم وقف إطلاق النار، التي أتحفنا بها رهط من أبرز قيادات الديمقراطيات الأوروبية (سبعة بالتمام والكمال: الإسباني خوزيه ماريا أثنار، البرتغالي خوزيه مانويل باروسو، الإيطالي سيلفيو برلسكوني، البريطاني توني بلير، التشيكي فاكلاف هافل، الهنغاري بيتر ميجيساي، البولوني لاشيك ميللر، والدانمركي أندرس راسموسن)؛ حين اختاروا صحيفة «التايمز» البريطانية لتوقيع بيان مشترك يدعو إلى الحرب ضدّ العراق. وكيف يُنسى أنّ هؤلاء تجردوا، علانية، من الضمير، ومارسوا قلّة احترام الذات، واحتقار الشعوب، وغضّ البصر عن عذابات البشرية؟

ومن جانب ثالث، في وسع المندوب الروسي أن يردّ على الاتهام الموجه إلى بلاده ـ في أنها تستخدم مأساة حلب لإعادة تأكيد جبروتها العسكري وتصفية حساب ملفات أخرى مثل أوكرانيا وأسعار برميل النفط والعقوبات الاقتصادية… ـ عن طريق تنشيط الذاكرة العالمية، والتذكير بـ»فلسفة» الولايات المتحدة في غزو العراق. وكان وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، دونالد رمسفيلد، قد اعتبر الحرب على العراق فرصة «لاستئصال ازدواجية الموقف الأمريكي من استخدام القوّة، والتي خلّفتها فييتنام»؛ فضلاً عن تخليص البنتاغون من عقدة «الضربات الصاروخية» التي طبعت الحقبة الكلنتونية (والتي سخر منها الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن نفسه). من جانبه كان ديك شيني، نائب الرئيس الأمريكي يومذاك، قد رأى في الحرب على العراق فرصة أيضاً، ولكن لتخليص الوجدان الأمريكي من «أشباح الستينيات: فقدان السلطة الأخلاقية والإحساس بأنّ أمريكا تضمحلّ أو تسير في الطريق الخطأ».

ومن جانب رابع، يستطيع المندوب الروسي تذكير زميلته الأمريكية بالأرقام التي تقول إن أمريكا تنفق على السلاح والجيوش والقضايا الأخرى الدائرة حول فكرة «الأمن القومي» ما يزيد على مجموع ما ينفقه العالم بأسره. وفي المشهد ذاته، قبل نشر عشرات الآلاف من القوّات الأمريكية في مشروع غزو العراق أو بعده؛ كان أكثر من نصف مليون عسكري أمريكي يتمركزون في 395 قاعدة عسكرية كبيرة، ومئات القواعد الثانوية الأصغر، في 35 بلداً أجنبياً. ومنذ الحرب العالمية الثانية وحتى عشية اندلاع حرب الخليج الثانية، أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 200 مليار دولار لتدريب وإعداد وتسليح جيوش أجنبية في أكثر من 80 بلداً، أسفرت عن أكثر من 75 انقلاباً عسكرياً، وعشرات الحروب الأهلية التي تسببت في مئات الآلاف من الضحايا.

أخيراً، وفي غمرة ذلك كله، كانت تجري عمليات دائمة من «تصنيع» العدو وتأثيمه إلى المدى الأقصى الذي يبرّر التدخل العسكري، والغزو، والانقلاب، والحرب الأهلية. كانت هذه هي الحال مع سوريا المعاصرة، بعد بناما، مصر، البيرو، البرتغال، نيكاراغوا، التشيلي، جامايكا، اليونان، الدومينيكان، كوبا، فييتنام، كوريا الشمالية، لبنان، العراق وليبيا… وليس مهماً هنا أن يكون العدو إصلاحياً، أو ديمقراطياً، أو اشتراكياً، أو شيوعياً، أو إسلامياً. والولايات المتحدة، آنذاك كما اليوم أيضاً، تنفرد وحدها بموقع رائدة «العالم الحرّ» بامتياز، التي تفرض الثقة أو تحجبها، وتوافق أو لا توافق على هذه أو تلك من التعاقدات الدولية، بصرف النظر عمّن يبرمها.

لكن أجهزتها الأمنية ــ وتحت ستار «الأمن القومي» الأمريكي دائماً ــ شاركت في إسقاط أنظمة ديمقراطية أو إصلاحية منتخبة في غواتيمالا، غويانا، الدومينيكان، البرازيل، تشيلي، الأرجنتين، اليونان، أندونيسيا، بوليفيا، وهاييتي. كذلك شاركت الأجهزة ذاتها في مؤامرات خفية، أو عن طريق استخدام المرتزقة، ضدّ حكومات شرعية في كوبا، أنغولا، الموزامبيق، إثيوبيا، كمبوديا، تيمور الشرقية، الصحراء الغربية، سوريا، مصر، لبنان، البيرو، زائير، جنوب اليمن (سابقاً)، وجزر فيجي… وليس الحضور الأمريكي في سوريا، المتضارب بين خيارات وزارة الدفاع والمخابرات المركزية؛ وبين ثلاث مقاربات للمسألة الكردية، في سوريا والعراق وتركيا؛ سوى الوجهة الأحدث لتقلبات ومتغيرات ذلك الستار العتيق: «الأمن القومي».

وهكذا فإنّ حلب اليوم تعيد التذكير بالأمس القريب، مثل البعيد في الواقع، لأنّ سياسات الإجرام والتواطؤ والنفاق تُدار بلا توقف، في إيقاعات جهنمية، داخل مطاحن مسمّى «المجتمع الدولي»؛ حيث الجعجعة بلا طحن، دائماً.

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

 

 

 

حلب: عودة الرعب/ بكر صدقي

حتى الأمم المتحدة أكدت حصول إعدامات ميدانية في المناطق التي اجتاحتها ميليشيات النظام والميليشيات الحليفة التابعة لإيران. إعدامات شملت عائلات كاملة من المدنيين بأطفالها ونسائها ورجالها ومسنيها. حتى الأمم المتحدة التي سبق ومولت جمعية رامي مخلوف «الخيرية» المشرفة على تشكيلات الشبيحة الموغلة في الدم السوري، لم تتحمل ما يقوم به الغزاة من جرائم فظيعة كحرق الأحياء والدوس على رؤوس أسرى مقيّدين (ممن نزحوا حديثاً) وغيرها من الشناعات. هذا يذكرنا بفظاعات ارتكبتها الوحدات الخاصة في مدينة حماة 1982، وسرايا الدفاع في مهاجع سجن تدمر في 1980.

هو درس إذن، يريد النظام تلقينه لمن سيخرج حياً من المجزرة، وكذا لـ»حلب الغربية» التي استطاع بعض سكانها أن يحتفلوا بـ»النصر»، وغرق البقية في صمت الرعب. فهم يعرفون، في قرارة أنفسهم، ماذا يعني «انتصار النظام». يعرفونه من تجاربهم الشخصية منذ العام 1980 حين استباحت الفرقة الثالثة مدينة حلب ونكلت بسكانها، وسحلت الجثث في شوارعها، واعتقلت أجهزة الرعب الآلاف من شبابها، جلهم لم يعودوا أبداً. يسود الرعب الآن في كل مكان من حلب، ومن سوريا، بعدما تذوق ملايين السوريين طعم الحرية، وأهم وجوهها التحرر من الرعب، أو ما أطلق عليه «كسر حاجز الخوف». يتساوى في ذلك أولئك المحاصرون، إلى هذه اللحظة، في بضعة أحياء لم تجتحها الهمجية بعد، وسكان حلب الغربية المحتلة أصلاً من النظام.

تتحدث أرقام تقريبية عن نحو ثمانين ألف مدني فيما تبقى من حلب التي كانت محررة: من السكري جنوباً إلى الأنصاري والمشهد وصلاح الدين فسيف الدولة فالإذاعة. أي في بضعة كيلو مترات مربعة، حيث تزدحم الشقق القابلة للسكن بعشرات الأفراد لكل شقة، بلا طعام أو دواء، وفوقها رعب الانتظار. انتظار دخول البرابرة. عشتُ ما يشبه ذلك في زمن مضى، أعرف هذا الشعور جيداً.

في شهر آذار من العام 1986، في جناح الأمن السياسي والأمن العسكري في سجن حلب المركزي، قام اثنان من الشباب المتهمين بالانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين بقتل أحد السجانين المناوبين، واتخذا المعتقلين السياسيين رهائن يفاوضان عليهم للفرار من السجن.

أصل الحكاية أن هذين المعتقلين كانا ممن قدموا اعترافات وتسببوا بأذى كبير لتنظيمهم، مقابل وعود من جهاز المخابرات بإطلاق سراحهم.

مضت سنوات، والوعود تتكرر لكنها تبقى وعوداً. وفي غضون ذلك كان الرجلان «مدللين» بمعايير السجون وبالقياس إلى مصائر متهمي الإخوان المسلمين. ومن ذلك أن أحدهما، ومهنته الأصلية خيّاط، كان يملك أدوات الخياطة، وقيل إنه كان يفصِّل ملابس لضباط فرع الأمن العسكري الذي يحتجزهما. وكان عناصر المفرزة يُخرجونهما ليلاً ليسهروا معاً في غرفة إدارة الجناح. وكان بحوزتهما جهاز راديو ينقل إليهما أخبار منظمة الجهاد الإسلامي في لبنان التي ستلهمهما عملياتها تخطيط عملية الفرار. حين مضى يوم الثامن من آذار، ذكرى ثورة البعث، ولم يطلق سراحهما كما وعدهما الفرع على عادته، قررا التحرك. في ليلة العاشر من آذار استفردا بأحد عناصر المفرزة وطعناه بشفرة مقص الخياطة الذي كان بحوزتهما، ثم استوليا على مسدسه وقتلاه برصاصة منها. وهكذا سيطرا على الجناح الذي كانت مهاجع الأمن السياسي فيه تضم معتقلين غالبيتهم من الشيوعيين.

كان أحمد المقرش هو قائد العملية والناطق باسمها. بدأ جهاده بتوعد الشيوعيين بالقتل. فاختبأنا، شيوعيين وقوميين وإخواناً، في حمامات المهاجع، وهي معزولة عن سائر مساحة المهجع بجدار وباب حديدي. أمضينا الليلة حتى الصباح في تلك المساحة الضيقة، ونحن نسمع المقرش يهدد ويتوعد، ثم يفاوض قوات الفرع التي جاءت لـ»التعامل» مع الوضع، من الكوات المزودة بقضبان حديدية، المطلة على مدخل السجن. هدد بقتل الرهائن ـ أي نحن المعتقلين ـ ما لم يستجيبوا لطلباته: طائرة هليكوبتر تنقلهم إلى مكان آمن! وطلبات أخرى أقل أهمية. مع بزوغ الفجر اقتحمت قوات الأمن العسكري الجناح بالقوة وقتلت الرجلين، غير عابئة طبعاً بمصير الرهائن. هكذا، وفقط هكذا، استعدنا الشعور بالأمان داخل سجننا المديد!

هو الرعب، إذن، ما عشناه في تلك الليلة الطويلة. هو نفسه اليوم مع اختلاف بسيط: المدنيون في الأحياء القليلة المتبقية من حلب المحررة، ليسوا رهينة أحد. لم تهدد الفصائل المسلحة بقتلهم لتأمين خروجهم. ومن المحتمل أن الاتفاق الذي تم، بوساطة تركية، بين روسيا وتلك الفصائل، على خروج المدنيين والمسلحين، لن ينفذ، بسبب مقاومة النظام، وإيران، لحليفهما الروسي. فميليشيا حركة النجباء الشيعية العراقية التي يقال إنها المسؤولة عن الإعدامات الميدانية، لم تشبع من الدم. والنظام يريده نصراً «كاسحاً» ليس على الفصائل المسلحة فقط، بل أهم من ذلك على روح التمرد التي أطلقها المارد الشعبي قبل أكثر من خمس سنوات.. على فكرة الحرية التي تذوقها السوريون ولا يمكن إعادتهم إلى بيت الطاعة إلا بمزيد من الدم، بقتل العزّل بدم بارد، بحرقهم أحياء. هذه هي الدولة الأسدية التي تواطأ المجتمع الدولي على تثبيتها على رقاب السوريين، برغم كل هزالها وهوانها أمام الاحتلالين الروسي والإيراني. الفارق الآخر المهم بين رهائن الأمس ورهائن حلب اليوم، أن انتظار المقتلة يتم اليوم تحت أنظار العالم أجمع، مقابل عملية أحمد مقرش التي حدثت وأخمدت في الظل، ولم يسمع بها أحد تقريباً. يمتلئ موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» برسائل وداع، بالصوت والصورة، من المحاصرين في تلك الأحياء. تبدأ معظمها بعبارة «ربما تكون هذه آخر رسالة نستطيع توجيهها إليكم». كنا، في العام 2012، نتجه من الأحياء الغربية إلى أحياء هنانو وبستان القصر والشعار والصاخور لنشارك في المظاهرات، بلا خوف من أجهزة المخابرات والشبيحة الذين سبق وطردوا منها. كنا نشعر بالحرية حين ننتقل إلى هناك، ويسود جو احتفالي في المظاهرات. غناء ورقص وشعب يريد إسقاط النظام. حفظت تلك الأحياء كرامتنا وحريتنا.

ثم احتل الجهاديون الذين تصدروا المشهد الأرض، وطائرات النظام السماء. تقلصت مساحة الحرية في ظل سلطتهم بصورة مطردة. اليوم عاد الرعب إلى تلك الأحياء. الرعب الذي يراد تعميمه على كل سوريا. اليوم هناك جثث في الشوارع وأخرى تحت الأنقاض لا يستطيع أحد أن يفعل شيئاً بشأنها. نشعر، في منافينا، بالذنب. لأننا في أمان. نأكل ونشرب. مطمئنين على أطفالنا. عاجزين عن فعل شيء يمنع استكمال المجزرة الأسدية ـ الإيرانية ـ الروسية بحق أهلنا.

لنا عزاء واحد، ميتافيزيقي ربما. هو أن النظام الهزيل المحتمي باحتلالين ومرتزقة طائفيين من مختلف البلدان، سوف يغص بانتصاره. فهو غير قادر على هضم أي انتصار. ها هم بضع مئات من مجرمي داعش يطردون شبيحته من تدمر، ويستولون على كميات من الأسلحة والذخائر مما تركه شبيحة الأسد وراءهم.

اليوم رعبٌ، أما الغد فشأن آخر.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

 

 

اعتراف واعتذار إلى الشعب السوري/ سميرة المسالمة

أتقدّم بهذا الاعتراف إلى الشعب السوري العظيم الذي أفتخر بالانتماء إليه، والذي دفع أثماناً باهظةً من عمره وعمرانه، عذاباتٍ وتضحياتٍ وتشرّداً، لإسقاط نظام الفساد والاستبداد، وفي سبيل نيل حريته، واستعادة كرامته في دولة مدنية وديمقراطية، دولة مواطنين أحرار ومتساوين.

هذا مقال أعتذر فيه لهذا الشعب الأبيّ عدم استطاعتي القيام بما توجبه عليّ مسؤوليتي نائباً لرئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، أو بوصفي مشاركةً في هذا الكيان السياسي للمعارضة، وذلك لأسباب خارجة عن إرادتي وإرادة السوريين الأحرار الموجود بعضهم داخل هذا الكيان.

أودّ، هنا، أن أصارحكم بأوجه القصور التي تكتنف عملنا في المعارضة، لاعتقادي أن هذا حق لكم، ولإيماني بضرورة إخضاع كياناتنا وخطاباتنا وأشكال عملنا للمراقبة والنقد والمحاسبة. وأيضاً لإيماني بخطأ إحالة أوجه القصور إلى الظروف الموضوعية أو الخارجية وحدها، لأن ذلك ينطوي على التبرير والتلاعب والتخليّ عن المسؤولية السياسية والأخلاقية أمام شعبٍ يعيش المآسي، ويسطّر التضحيات، ويقدّم مدينة إثر أخرى، قرباناً لهذه الحرية التي خرج من أجلها. وإذا كنا اليوم أمام مشهد حلب الدامي، فقد سبقته مشاهد مدن وقرى، من درعا مدينتي مهد الثورة إلى حمص وإلى ريف دمشق وإدلب.

لا أتوخّى من إعلان هذا الإقرار على الرأي العام مكسباً ذاتياً، أو تحقيق مكانةٍ خاصة، إذ من واجبي السياسي والأخلاقي وضع شعبنا في صورة ما يجري، ووضع نفسي تحت طائلة المحاسبة، وأعتقد أن هذا يُلزم كل زملائي في المعارضة بأن نواجه أنفسنا بهذه الأسئلة: لماذا عجز “الائتلاف” عن تعزيز مكانته في مجتمعات السوريين في الداخل والخارج؟ لماذا لم يستطع استيعاب كل المكونات السياسية للسوريين؟ هل تعبّر تشكيلته حقاً عن واقع الثورة السورية؟ وهل يلبّي حاجةً ما لهذه الثورة في وضعه، أو تركيبته الراهنة؟ ثم ما الذي أضفناه أو فعلناه أو أثّرنا به أفراداً أو هيئةً فيه؟ لماذا بقي غير قادر على إيجاد موطئ قدم له في “المناطق المحرّرة”؟ ولماذا ظلت علاقاته مع الفصائل العسكرية محدودةً أو لا تعني شيئاً؟ وما الذي جنيناه من الارتهان لإرادة هذه الدولة أو تلك؟

أعرف أن هذه أسئلة صعبة ومعقدة، وأعرف أن الظروف الدولية والإقليمية والعربية ضاغطةٌ

“آن لهذه الطبقة السياسية في المعارضة السورية أن تعتذر لشعبها وأن تتنحّى”  علينا، ولكنني أعرف أنه كان في وسعنا لو توفرت الإرادة الصادقة، والعزيمة القوية، والرؤية الموضوعية والمخلصة، أن تكون أوضاعنا أحسن حالاً، وأن تكون إجابتنا على تلك الأسئلة والتحديات أفضل بكثيرٍ مما نحن عليه.

لأجل ذلك كله، لأجل الشهداء والجرحى والمصابين، ولأجل المحاصرين والمشردين، أعتقد أن واجبنا في “الائتلاف” أن نجري مراجعةً نقديةً شجاعةً ومسؤولةً لمسيرتنا، وأن نضع هذا الكيان تحت طائلة النقد والمساءلة والمحاسبة، فلا أحد معصومٌ من الخطأ، فالحركات السياسية الحيّة والمسؤولة، والواثقة من ذاتها، هي التي تحاسب نفسها أمام شعبها. أقصد مراجعةً صادقةً وجادةً ومجديةً، وليس كما جرى في اجتماع الهيئة العامة للائتلاف، في دورةٍ سميت باسم حلب، أهم حاضراتنا التاريخية والاقتصادية، ثم خرجنا بخفيْ حنين، حتى عجزنا عن استصدار بيانٍ نحدّد فيه موقعنا من جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً).

أبدأ حديثي، أولاً، عن واقع “الائتلاف” الذي هو نتاج ورهن المكونات التي وُجدت فيه، بمعزل عن تمثيله مجمل قوى المعارضة، أو حجمها في المجتمع، وهي مكوناتٌ ضعيفة الفاعلية، ومحدودة التمثيل، وتفتقر للتجربة، والسبب معروفٌ، وهو أن النظام حرّم الحياة الحزبية، ومنع السياسة. أيضاً، هذه المكونات شكّلت هيئةً ناخبة من حوالي مائة شخص، حصرت تمثيل الشعب فيها، محوّلة بذلك “الائتلاف” إلى كيان مغلق، ما يتنافى مع أبجديات السياسة، وضرورات تشكيل أوسع كيان تمثيلي معارض، وحيازة أوسع قاعدة شعبية. وقد شهدنا أن هذا الوضع أضرّ بالثورة، ولم يفد المعارضة، وجعل “الائتلاف” كياناً جامداً لا روح له، ويفتقد المبادرة والكفاءات والمصداقية أمام شعبه، وأمام الرأي العام العالمي، فضلا عن تحول بعضه إلى جهاز موظفين تابعين لهذه الدولة أو تلك، أو هذا المكون أو ذاك.

ثانياً، لم أشهد خلال عملي في “الائتلاف” أننا نشتغل كفريق، فنحن، في الحقيقة، بمثابة موظفين نفتقد للروح المؤسّسية. ولا تتناسب اللوائح الداخلية مع كوننا حركةً ثورية، كما أننا نفتقد أبجديات العمل السياسي، وفهم معنى أن “الائتلاف” بمثابة قيادة لثورة شعبٍ هدفها إسقاط نظام استبدادي. وهذا كله يفسر كيف أننا لم نستطع أن نبني كياناً بديلاً، ولا كياناً قابلاً للتطور، فنحن أيضاً نعاني التفرّد في القرارات، وبات عملنا في أغلبيته يقتصر على إصدار البيانات العقيمة، والإدانات الأخلاقية.

ثالثا، ما زالت خطاباتنا تقوم على ردود الفعل، بل إننا لم نسهم في تشكيل الخطاب السياسي

“ما تقدّم ليس اعتذاراً فحسب، بل هو دعوة جادة لنا جميعاً، لنتراجع حيث يجب أن يتقدّم الأفضل والأكثر قدرةً على العمل” للثورة، ونجامل في الخطابات التي تصدرها بعض الفصائل العسكرية، بدلاً من بذل الجهود لمحاورتها، وجذبها إلى خطابٍ يتأسس على إقامة دولة مواطنين ديمقراطية، تراعي التنوّع والتعدّدية في مجتمعنا السوري، بعيداً عن الرؤى الضيقة، والحسابات الفصائلية والطائفية. الأخطر من ذلك أن “الائتلاف” لم يقم بواجبه بكشف جبهة النصرة، أي كشف فكرها التكفيري، ونهجها الإرهابي، بما في ذلك تسلطها على مجتمعات السوريين التي تحرّرت من سيطرة النظام، واعتداءاتها على الجيش الحر وفصائل المعارضة الأخرى، وتنكيله بالنشطاء الأحرار، وهو، في ذلك كله، أضرّ نفسه، وأضرّ صدقية الثورية السورية.

رابعاً، لا بد من كلمةٍ عن الإجحاف الواقع في حق المرأة في هيئات المعارضة، وعن النظرة القاصرة لمكانتها ودورها، على الرغم مما قدمته من تضحيات وبطولات، تشهد لها مسارات الثورة، لاسيما أشهرها الأولى، وهذا أمر ينبغي تداركه.

خامساً، للأسف، لم نستطع في “الائتلاف” أن نقدّم مقاربةً مناسبةً للقضية الكردية، تستوعب حقوقهم، ليس الفردية فحسب، وإنما حقوقهم كجماعة قومية أيضا، هذا أضعف من قدرتنا على استقطاب الكرد جميعهم، من دون أن يعفي بعض الفصائل الكردية من مسؤوليتها على ذلك.

سادساً، لم ينجح “الائتلاف” في استقطاب المثقفين والفنانين والمبدعين السوريين الذين يشكلون رافعةً صلبةً للثورة، وتشكيل هويتها ورموزها ومفاهيمها، بحكم ضعف إدراكه أهمية هذه الفئات، وأهمية تأثيرها في المجتمع. بل ولأن بعض المشاركين به ينظرون بعين الريبة تجاه خطاب المثقفين، لأنه كاشفٌ جهلهم.

باختصار، عجزنا عن ترسيخ “الائتلاف” كياناً للثورة السورية، وكياناً جامعاً للسوريين. فشلنا على مختلف الأصعدة، على صعيد التمثيل، والدور الثوري، وعلى صعيد تقديم النموذج. لذا، آن لهذه الطبقة السياسية في المعارضة أن تعتذر لشعبها، وأن تتنحّى، وأن تتيح المجال لغيرها، ليقوم بما يفترض أن يقوم به.

ما تقدّم ليس اعتذاراً فحسب، بل هو دعوة جادة لنا جميعاً، لنتراجع حيث يجب أن يتقدّم الأفضل والأكثر قدرةً على العمل، حسب معايير الشعب السوري، وليس حسب معايير لجان داخل هذه الكيانات، ومنهم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، الذي عجز حتى عن تمثيل اسمه.

العربي الجديد

 

 

6 ليالٍ فائضة في حلب/ عزيز تبسي 

لا بدّ من تخفيف الضوء، لإنصات فذ على دبيب الناس المكتوم. تخفيف الضوء لرؤية ما تُحجبه المصابيح والقناديل. الإحساس باليقظة المذعورة على وقع سنابك الكوابيس، ومن ثم العودة إلى نوم مضطرب على سرير أوجاع المفاصل. معاتبات الأبوين الموزعة على حشد الأمراض التي وفدت إلى أبدانهم بالجملة، والأدوية التي بلا مواد طبية فعالة، تذكير للأغراض التي سيحملونها في رحلة اليوم التالي على ظهر “السوزوكي”، لتفقد الأبناء الموزعين بين الأحياء.

الهمس المخنوق بضرورة التدرب على تقبل العيش في بلاد لها رائحة “درنات البطاطا”، تجاهل بعض الوصايا العائلية المتوارثة كإضافة الملح إلى الطحين، لأنه لم يعد مجدياً. تقديم الخبز والملح والتذكير به كل حين، كعربون كريم للتآخي، وعدم استعجال تقطيع الرغيف قبل رشه بزيت الزيتون ونثر أوراق النعناع على قلبه المفتوح…الاعتياد على حيوات الأهل القصيرة التي تضيء، ولا تلبث أن تنطفئ كمصابيح الزينة.. واعتياد رؤية آخرين يعبرون كأكياس الطحين، أي الناس الذين كانوا يلبسون بزات مكوية على مقاسهم، تظهر من نهايات أكمامها أطراف قمصانهم البيضاء، وتنسدل على صدورهم ربطات عنق نحيلة، توثق بحبسة مذهّبة بين أزرار قمصانهم، ويصبغون شعورهم وحواجبهم وشواربهم بلون أشد سواداً من الليل.. ليؤكدوا لمن يراهم يتقدمون بخطواتهم الثقيلة وقاماتهم المستقيمة، أنه بإمكان الأناقة

في الصباحات المثقلة بالضباب، لا أحد يخرج يديه من جيبه ويمدهما لمصافحة من هو مقبل نحوه، ولا أحد ينطق بكلمة. يسيرون بصمت ثقّله الرعب والارتياب والتأمل الأبكم في خلود الحجر. يكتفون بهز رؤوسهم للأسفل والأعلى، ملتزمين بهذا النمط المستحدث من التحيات الواقعية.. ما عاد أحد قادراً على تكرار الكلام ذاته، والشكاوى ذاتها، ولا الوقوف لساعات لأجل الحصول على الخبز اليومي، والانتقال بعدها إلى طابور انتظار الشاحنة التي تحمل عبوات الغاز المنزلي، وتعقّب صهاريج المياه، واستئناف مسيرة الغضب التي بدأها أجدادهم من أواخر القرن التاسع عشر بعد ذلك كله.

تختلط الصور في غبش الصباحات الشتوية، أترى سقط الرجل في أحضان رايته، أم سقطت رايته في أحضانه، أمهاجرة أم وافدة أسراب العصافير التي ترتاح على أسلاك الكهرباء، وبماذا تبدأ وليمتها الغربان المنقضة على الجثث المشوية فوق نيران الحرب، من العيون التي انسدلت أجفانها كتروس حديدية، أم من الأفواه، التي حالت الكلمات المتيبسة بين شفتيها دون انطباقها. يجري بصمت تخمين كل ذلك، إذ ليس هيناً الوصول إلى مناهج الغربان في أكل الجثث.

تتباطأ الحركة، يربكها الطين الذي بات أثقل من الأحذية، ومن رؤية وجوه غير مألوفة تعبر الشوارع بصلف.. ومن أحابيل الباعة الجوالين لاستدراج المشترين للحديث عن السلام في بلاد أمست فيها البنادق أكثر عدداً من أشجار الزيتون.

لا شيء واضح في كل هذا، إلا عصير الكرز الحلو الآتي من عهد حيرة الفراشات بزهورها، والبيوت التي تحولت إلى أنقاض. وإن كان لا بد من الدموع، بعد كل ذلك، فلماذا يدفن الموتى بمواكب أشبه بالأعراس.

عرف الأعداء، أي الطامعون بهذه الأرض وخيراتها وتسخير شعبها، أن حماية التخوم تحتاج إلى ما هو أشد فاعلية من غراس الصبّار. لم تحتج البلاد إلى حيل عسكرية حاذقة. تمكنوا من الوصول إلى أنهارها ومزارعها ومدنها وقلاعها، واقتنع شعبها بالعبودية، واعتبرها من الامتحانات الإلهية في هذه الحياة الفانية، وسيجري تعويضها في الحياة الأخرى المنتظَرة. لم نأخذ بالكيفيات التي تحمي بلادنا، أي أرضنا وشعبنا، إذاً يجب التدرب على جرهما خلفنا، كعربات في قوافل القرباط (اسم الغجر في سوريا).

***

لم تك أكلاف الزعامة باهظة، دبابة لا ترى بكاملها، كاف بروز برجها أو سبطانتها، بزّة مكوية وحذاء لامع، وكلمات نارية تسوق الناس لمواجهة الاستعمار في النهار، في حين يتكفل الزعيم وزمرته طلب معونته في الليل، وهي طريقة معلومة ومتقنة، وهناك إجماع على مساراتها الأساسية. يجري التحريض في الخفاء، وتسهيل نزول الناس إلى الشوارع، لا بغاية مواجهة الاستعمار ودحره وتقويض مرتكزاته، وإنما لتذكيره بجنرالاته الأيتام، وبعض من قدراتهم على إيقاظ الشعوب من نومها، ودفعها إلى الساحات العامة، وقذف الحجارة على بيوت القناصل ومراكزهم، وحرق بضع مؤسسات وشركات تعود إلى ما يذكِّر به، وهذا في عهد النهوض القومي، أما في عهد نكوصه، أي عهد المتاجرة بالأديان، والمزايدة بها، فغدت “المواجهة” أسهل بكثير.

“ضاعت الطاسة”! لسنا في حمام عمومي، لكن الطاسة متاحة في الحمام وخارجه، ويمكن ضياعها في كليهما. وهي الوسيلة المتبقية لغرف الماء النظيف، وإزالة رغوة الصابون المنسدلة على العيون، التي تحجب الرؤية وتكوي باطن الأجفان.. “ضاعت الطاسة” من حين بات رقباء الشرطة السرية يحصلون على شهادات الدكتوراه في الفلسفة والنقد الأدبي والتنمية المستدامة.. ويتحدثون على شاشات التلفزيون عن عصر الأنوار.

لا تزال هناك إمكانية للوقوع في الأوهام التي وُقِع بها قبل قرن، كتحميل الهواء رسائل الإغاثة، والتربيت على كتفه كحال التربيت على كتف فتى انتزع مرتبة متقدمة في نجاحه المدرسي، استفتاء الموتى لاستبيان أرائهم في الأحياء.. واستدراج هطول الأمطار بقرع الدفوف، عدم التيقن من أن كلام الشتاء يجففه الصيف، وعدم الانتباه إلى أن النضال ضد الاستعمار يبدأ عند من ينادون بمقارعته بعد إيداع أموالهم المنهوبة في مصارفه.

عبثاً البحث عن أدوار متميزة في التاريخ، لقوم خارج التاريخ، ولن يعوضهم ذلك بقراءات للأشعار والمقامات التي تبرز الشجاعة والمروءة وإغاثة الملهوف.. واعتبارهم ميزات فريدة لا تحوز عليها الشعوب الأخرى الجبانة، الجاحدة، البخيلة. استسهال طرح الأسئلة، لا بغاية تطويق المشكلات، بل لاستقبال كسول للأجوبة، وتكرار بلا طائل للعبارات الانهزامية، كـ “الذي يتزوج أمي اسميه عمي”، من دون إصغاء لتبدلات الزمن وقسوة الخيارات. ترى ما الاسم الذي سنطلقه على من يطمع بأمنا من دون إظهار أي نية للزواج منها؟ وكأن هذا الكلام لا يصل أهله الذين ناموا كما أطفالهم، قبل الانتهاء من سرد الحكاية.

* كاتب من سوريا

السفير

 

 

 

 

 

الأخبار الكاذبة من حلب/ علا عباس

أياً كانت الأخبار التي تأتينا من حلب فهي كاذبة، ولا يمكن لها، مهما اقتربت من الواقع، أن تكون صحيحة أو حقيقية، إذ لا يمكن لنشرة أخبار أو تقرير لوكالة أنباء، ولا لأي كلماتٍ في العالم، أن تصف ما يجري هناك بشكل حقيقي.

كيف لعدسة كاميرا أو كلمات مصفوفة بجانب بعضها أن توصل إلينا مشاعر طفل يعيش الآن في ريف حلب الشرقي؟ وأي أفكارٍ تمر في رأسه، فيما يملأ الكون صوت الطائرة ثم صوت ما تلقيه من براميل أو صواريخ أو قنابل؟ وكيف لتقريرٍ يصف كمية التدمير أن يجعلنا نعرف كم تعب صاحب البيت المتهدّم حين بنى بيته، وكم تشارك وعائلته الأحلام والآمال، وهم يضيفون حجراً بعد حجر؟

ما يجري في حلب اليوم ليس مجرّد حملة عسكرية شرسة وقاسية، تشترك فيها قوى عديدة ومتشعبة، بعضها بخوض العمليات بشكل مباشر، ويزجّون فيها بكل إمكاناتهم التدميرية، وبعضها بالتجاهل والإهمال، والتنصل من الوعود والمسؤوليات، بل هو فصل من فصول التاريخ ستدرسه الأجيال القادمة.

الأمم المتحدة التي تستخدم في العادة عبارات ثابتة وجافة ومكرّرة، صارت نكتة في كل أنحاء العالم، مثل التعبير عن القلق، والتحذير من خطورة الوضع، والتأكيد على ضرورة الوصول إلى حلّ سياسي، حتى تلك المنظمة المقيدة بكليشاتها الثابتة غيّرت لغتها، وهي تصف الوضع في حلب بأنه “المخيف”.

والقصة ليست معركة من معارك عديدة، يتحقق فيها انتصارٌ لهذا الطرف أو ذاك، بل هي معركة كاشفة، ستنبه من لم ينتبه بعد إلى أن كل ما سمعه السوريون من العالم في ست سنوات مجرد كلام، وليس أبعد من ذلك.

وأن الحقيقة هي ما يجري على الأرض الآن، أي قصص الناس اليومية الذين يعانون معاناةً غير مسبوقة، وهم يرون مدينتهم تتدمر، وأحلامهم تتحطم، وأبناءهم ينزفون. أو يتركون كل شيء خلفهم، ويغادرون تاركين كل شيء وراءهم.

تقول التقديرات الأممية إن 80 ألف مواطن غادروا مناطقهم في أحياء حلب الشرقية، منذ بدء الحملة الحالية على هذه المناطق، والعدد مرشح للازدياد، سيما وأن هؤلاء الفارّين قد غادروا تحت ظروف خطرة للغاية، حيث لا يوجد معابر آمنة، بالمعنى المتعارف عليه، في حالات كهذه، ولم يستطيعوا المغاردة سابقاً في الأيام التي تم فيه توافق روسي أميركي (وإن كان اتفاقاً هشّاً لم يرتق إلى مستوى الاتفاق التام) بسبب منع جبهة النصرة لهم من المغادرة. وهم، بالتالي، واقعون بين فكي كماشة، والآن في ظروف المعركة غامروا بكل شيء وخرجوا.

وتشير التصريحات الصادرة عن الأطراف الدولية، أخيراً، إلى أن هناك استئنافاً للتفاوض السياسي قد يفضي إلى السماح بممرّات مؤقتة، تسمح بخروج من تبقوا من السكان المدنيين، ما يعني إفراغ منطقة أخرى من سكانها، ستنضم إلى قائمة المدن والمناطق السرية التي أفرعت من السكان في سنوات الحرب، والفارق هذه المرة هو العدد الكبير من السكان الذين يسكنون مناطق حلب الشرقية، والأهم أن لا خيار أمامهم، وأن الأبواب موصدة في وجوههم، فلا تركيا قادرة أو راغبة باستقبالهم، ولا مناطق حلب الأخرى مؤهلة لاستيعابهم، وهي غير مناسبة وغير كافية لعيش من هم فيها، وهي خاليةٌ من أي عاملٍ من عوامل الحياة البشرية، لا سيما الأمان.

يمكن للمتابع أن يشاهد ما يشاء من نشرات الأخبار، ويقرأ ما يشاء من التقارير الصحافية، ويستمع قدر ما يريد للمحللين السياسيين، لكنه لن يستطيع بالتأكيد ملامسة الواقع الحقيقي، ولا تخيّل الظروف والمشاعر التي يعيشها أولئك الرازحون تحت النيران، ولا الاستماع لآلامهم، ولا تخيل المستقبل الذي ينتظر أبناءهم.

كل الحكاية فيما يجري في حلب اليوم هو طفلٌ فتح عينيه على الدنيا، ليرى أنها قذائف وصواريخ وبراميل متفجرة وأشلاء بشرية متناثرة، وليرى الموت والظلم والقسوة، ومصير هذا الطفل وخياراته في الحياة هو ما يهم العالم، لأنه لا شك ستكون لديه كل الأسباب التي ستحوّله إلى قنبلة موقوتة غاضبة من هذا العالم ونظامه بالكامل، وجاهزة للانفجار في وجه هذا العالم بالمعنى العميق للكلمة، وكذلك بالمعنى الحرفي للكلمة، فهو جاهز للانفجار في أي مكانٍ، لا يشبه المكان الذي عاش فيه هذه الطفولة المعذّبة.

العربي الجديد

 

 

 

 

مأساة حلب.. و«إسلامية» تركيا/ د. وائل مـرزا

هل يحكم تركيا اليوم “إسلاميون”؟ إذا كان الأمر كذلك، كما هو شائع، هل هناك علاقة، في رؤيتهم السياسية، بين السياسة الخارجية و”الإسلام”؟

إذا كانت العلاقة موجودة، كما يعتقد كثيرون، ماهي القيم والمحددات “الإسلامية” التي صدرت وتصدر عنها السياسة الخارجية التركية، فيما يتعلق بسوريا وثورتها؟ وهل كان هناك ثمة تقديم وتأخير لأولويات تلك القيم والمحددات، أو تغيير فيها، خلال خمس سنوات ونصف من عمر الثورة السورية، من أيام اجتياح النظام لحماة، مرورا بإعادة العلاقات مع كل من روسيا وإيران وإسرائيل، وصولا إلى “سقوط” حلب في يد نظام الأسد؟

تتكاثر هذه الأيام الدعوات إلى استخلاص الدروس والعبر من المشهد الأليم في حلب، خاصة في صفوف الإسلاميين، والسوريين منهم تحديدا. لكن الأسئلة الكبرى المذكورة أعلاه تبدو غائبة عن الصورة، الظاهرة على الأقل. يحصل هذا رغم أن لدى هؤلاء أسئلة أخرى، تبقى مدفونة في الصدور، لأسباب معروفة. والحقيقة أن الوضع الراهن لايصيبهم هم فقط بحرج كبير جدا، وإنما هو حرج يتجاوزهم إلى دوائر واسعة من العرب والمسلمين.

لنا أن نتخيل، مثلا، ماكان يمكن أن يقال لو أن أي دولة عربية أو إسلامية أخرى بادرت إلى إقامة علاقات سياسية واقتصادية مع روسيا وإيران وإسرائيل، بنصف درجة علاقات تركيا بتلك الدول اليوم. لنا أن نتخيل مايمكن أن توصف به تلك الدولة، وكيف سيتعامل معها الفكر السائد وأهله، نفسيا وإعلاميا على الأقل.

لهذا، قد ينتج عن الحديث في هذا الموضوع، بوضوح وصراحة، درس استراتيجي، هو في النهاية أحد أهم الدروس المستخلصة من الحال الراهن.

فعلى مدى السنوات الماضية، تصاعد الحشد النفسي والفكري في تلك الدوائر، عربيا تحديدا، ليس فقط لتأكيد حقيقة “إسلامية” الحكومة التركية، وإنما أيضا لحتمية قيادتها عالما إسلاميا سنيا، بغض النظر عن كل دوائر الانتماء الأخرى، وعن المعادلات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تحكم الإقليم والعالم.

بل إن جوهر “الإسلامية” المذكورة، لدى الغالبية العظمى ممن حمل الفكرة ودعا لها، كان لايتمحور، فقط أيضا، على التجاهل الكلي لتلك الانتماءات والمعادلات، بل وعلى مواجهتها ومحاربتها ومعاندة كل مقتضياتها، وماتفرضه من وقائع عملية على أرض الواقع وفي حياة الناس.

كان هذا ينبثق مما سميناه في مقال سابق بـتلبيس تركيا “طربوش” الخلافة التي ستحل، بالنيابة، كل المشاكل، وتعالج، بالوكالة، كل الأزمات. كان جوهر “إسلامية” حكام تركيا، في نظر كثير من السوريين والعرب والمسلمين، ناتجا عن “تفكير رغائبي” ينبع، جزئيا، من مشاعر القهر والعجز الذاتي، لكنه كان، من ناحية أخرى، ولايزال، تجليا لأزمة مستمرة في فهم الإسلام ذاته، وفي كيفية التعامل مع الواقع البشري من خلاله.

ربما انساق أتراك “العدالة والتنمية” أنفسهم، لوهلة، في إطار التفكير الرغائبي المذكور، ومايفرضه على أصحابه نفسيا وفكريا وعمليا من مقولات وممارسات. نترك هذا للتاريخ وللأتراك. لكن المؤكد أنهم تجاوزوا الموضوع مع تتالي الأحداث والوقائع خلال سنوات الثورة السورية، وتحديدا في الأشهر الستة الماضية.

حسب صحيفة المونيتور التركية، ونقلا عن موقع “ترك برس” المتخصص في الشؤون التركية: “بحجم تجارة ثنائية يصل إلى 8 مليارات دولار تعد إيران الآن أكبر شريك إقليمي لتركيا. وبسبب انخفاض أسعار الطاقة العالمية فإن تركيا التي تشتري النفط والغاز من إيران وفرت 600 مليون دولار من جارتها الشرقية”، والعراق “يشتري منتجات تركية بقيمة 6.5 مليار دولار”، أما إسرائيل فقد استوردت “بضائع تركية بقيمة 2.5 مليار دولار في الأشهر العشرة الأولى من هذا العام”.

إذا قرأ الساسة الأتراك الواقع من هذا المدخل، مع الأخذ بعين الاعتبار انقلاب تموز وأعمال الإرهاب في تركيا وانخفاض الليرة، فإن الحسابات “الإسلامية” للترجيح بين المصالح الآجلة والعاجلة، والعامة والخاصة، ستكون مختلفة لديهم عنها لدى آخرين. هل هذا صواب أم خطأ؟ قد يكون البحث في ملابسات هذا السؤال مدخلا أكثر واقعية للبحث في سؤال “الإسلامية” من عدمها، نهاية المطاف.

* – كاتب وأكاديمي سوري

الشرق القطرية

 

 

 

حلب.. خروج للكفار وانتصار للمسلمين؟!/ طيب تيزيني

نشطت وسائط الإعلام ذات التعددية المصدرية في الأسبوعين المنصرمين، بالتزامن مع عملية التهجير الوحشية للحلبيين من مدينتهم «حلب». ووجدنا التبشير الإيراني في أحد المساجد بأن «حلب تحررت من الكفر، حيث انتصار المسلمون عليهم»، أي على الكفار، حيث ظهرت في الوقت ذاته أقوال إيرانية تعلن أن روسيا لن تلجأ إلى الحل السلمي في ذلك.

ما يلفت الانتباه هو القول الوارد بأن حلب أخيراً، بدأت تتحرر من «الكفر» يداً بيد مع «انتصار المسلمين على الكفار»، مما يوجب التوقف أمام ما سينتج عن ذلك. إذ ماذا بعد؟ هذه نقطة حاسمة في «الصراع» السوري العربي، بحيث يتعين على عملية «إنهاء الكفر» أن تكون بداية لتحرر السوريين مما «أصيبوا به» من هرطقات تتصل بالتاريخ الإسلامي، خصوصاً منه ما يتصل بالدعوات المذهبية الطائفية الإيرانية. وعودة إلى الحلبيين وخصومهم من الطائفيين الشيعيين الفارسيين، فنحن هنا لا نفضل إنساناً على إنسان آخر، ولا شيعياً على سنياً، ولا هذا على ذلك، الدين الإسلامي يمتلك سمة خاصة قد تمتلكها الأديان الأخرى، نعني تعددية القراءات الدينية، ما يُميز هذه بين بعضها، وما يوحد بينها على أساس البنية، على كل حال، نحن هنا في موضع التمييز النسبي في «أفهام» البشر لدى تناولهم النص المقدس.

وفي كل الأحوال، فإن نشأة التعددية في قراءة النص المذكور، إنما تأتي من تعددية مواقعهم وأفهامهم في المجتمعات البشرية، مع بقاء النص الأصل تامّ البنية الأولية.

من هنا، نجد أمامنا مكاناً واسعاً للتعبير عن الاستغراب الذي يثير القول بواحدية النص إياه وتعددية أو احتمال تعددية الفهم والدلالة والرمزية، والعودة إلى هذه المنظومة من المفاهيم، والمصطلحات الدينية الإسلامية تشكل حقلاً منفتحاً ومفتوحاً، على نحو يستطيع الباحث فيه أن يجد في النص الأصلي حقلاً فسيحاً من القراءات والتأويلات، وذلك على نحو ينبغي على الباحث الحصيف فيه ألا يستكين بمقتضاه، بمثل تلك الاعتقادات المذكورة التي أتينا فيها على صيغة تكفيرية لها مؤوّلة بالدلالة الشيعية.

ومع ذلك كله، فالباحث المدقق لا يتوقف عند نقطة أو أخرى يجد فيها قصده النهائي ورغبته. ونود هنا أن نضع الصيغة الدينية، التي أتينا عليها بغاية استخدام في سبيل تكفير المهجّرين الحلبيين، من قبل أيديولوجيي الشيعة المعاصرين الذين يرون ذلك الرأي في الحلبيين العنيين في الدراسات التاريخية المقارنة عربياً وربما بأفق آخر، لا نجد مجال مقارنة بين أنماط القتل، التي واجهناها أو عايشناها في حلب، وبين تلك التي ظهرت في البلدان المقابلة، أن ترى نساء وأطفالاً تُضرم النار في أجسادهم، وهم موجودون على أنقاض بيت مدمر أو مدرسة محطمة، أن ترى أطفالاً تشتعل النار بأجسادهم الصغيرة. أما النساء والشابات منهن خصوصاً، فلا يدرين ما مصائرهن، حين يرغمن على الدخول إلى مكان مغلق يغتصبن فيه وتقصص جلودهم بسكاكين. وشابة في عمر الورود تؤخذ من مكان لتغتصب وتقتل ويمثل بها، ليموت معها الأب العاجز والأم المرمية في الزريبة. الآن آن الأوان كي يكتشف البشر كيف يختارون طرق موتهم!

الاتحاد

 

 

 

 

حلب.. جريمة ضد الإنسانية بث مباشر/ بشير البكر

في نهاية اليوم الأول من جريمة تهجير سكان شرقي حلب، خرج وزير الخارجية الأميركي جون كيري ليقول، إن الولايات المتحدة حاولت إنقاذ حلب من خلال مفاوضات قادتها مع روسيا، ولكن الطرف الروسي تمسك برأيه، وأصر على إخراج الأمر بهذه الصورة. والطريف أن كيري لم يأخذ في عين الاعتبار أن نظيره الروسي سيرغي لافروف، كان قد أعلن صباحاً أن محادثات موسكو، بشأن سورية، مع واشنطن توقفت نهائياً، وهذا يعني أن روسيا لم تعد بحاجة للولايات المتحدة في هذا الملف، الذي بات من اختصاص موسكو وطهران وأنقرة.

كان موقف كيري سيكون مفهوماً أكثر، لو أنه دفن الرأس في الرمال، وتصرف على طريقة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون ومندوبه إلى سورية ستيفان دي ميستورا، فهذان المسؤولان الأمميان الرفيعان اختفيا عن الأنظار، واكتفيا بإرسال موظف أقل رتبة (يان إيغلاند) ليقدم عروضاً عن استعداد الأمم المتحدة لمساعدة أهالي حلب المطرودين من ديارهم، في الوقت الذي بات العالم كله يعرف أن الصليب الأحمر الدولي رفض الإشراف على عملية تهجير أهل حلب قسريا، وهذا يطرح سؤالاً كبيراً. هل رفض تغطية جريمة ضد الإنسانية؟

لم يكن أحد يصدق أن قضية إخلاء حلب سوف تتعدى مسألة إجلاء بضعة آلاف من المقاتلين إلى التهجير الإجباري بقوة القتل لقرابة 300 ألف من سكان المدينة كما هو حاصل اليوم، وكانت كافة الشروط التي طرحها الروس تركز على إجلاء مقاتلي جبهة النصرة الذين حددهم دي ميستورا في 6 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بـ 900 مقاتل، وأبدى استعداده في حينها لمرافقة هؤلاء إلى خارج حلب، ومن ثم تطورت الشروط إلى خروج كافة المقاتلين الذين لا يتجاوز عددهم 10 آلاف.

ما بدأ صباح أمس هو عملية تهجير لسكان شرقي حلب في عملية بث مباشر تقوم بها القناة الفضائية السورية الرسمية، تحت عنوان “حلب تنتصر”، ونقلت هذه القناة مشاهد تظهر بعض مناطق الدمار في حلب، وهي الصور التي يراها العالم للمرة الأولى.

إن البث المباشر للصور يحمل عدة رسائل، أولها، أن ما تعرضت له منطقة شرقي حلب لا تكفي الصور وحدها للتعبير عنه، لأنه يتجاوز ذلك إلى مستويات من الجريمة، يتعذر حتى نقل آثارها المباشرة. والرسالة الثانية هي أنه يستحيل إجراء ترميم لأي حي في المنطقة، وبالتالي سيكون الحل تدميرها كليا، الأمر الذي يصب في صالح اقتصاد الخراب والجريمة، الذي بشر به بشار الأسد، في أحاديثه الأخيرة التي روّج فيها لشركات إعادة الإعمار.

أما الرسالة الثالثة، وهي الأخطر، فتتمثل في أن من يرحل عن شرقي حلب، لن يجد فرصة للعودة إلى هذا المكان، ومن كان يملك بيتا هنا لن يقبض حتى على كمشة من التراب.

الرسالة الأخيرة لا تحتاج إلى براهين كثيرة، طالما أن المجرم أفلت من العقاب بحماية روسيا وإيران وصمت وتواطؤ القوة الكونية الأولى، الولايات المتحدة الأميركية، وعجز الأمم المتحدة حتى عن لعب دور صليب أحمر يتكفل بإخراج المرضى والجرحى.

حاولت بعض وسائل الإعلام العربية أمس تبرير العجز العربي عن نجدة حلب من خلال رمي اللوم على تركيا، ومحاولة تحميلها مسؤولية مأساة حلب وعملية التهجير. وفي الوقت الذي كانت الأجهزة التركية الإغاثية والاستخبارية والسياسية مستنفرة لتأمين خروج المدنيين من حلب، لم تصل الحدود السورية التركية حتى منظمة إغاثة عربية واحدة. قد تكون تركيا لم تتمكن من إنقاذ حلب، وهذا بات فوق طاقتها بسبب التواطؤ الأميركي الأطلسي، ولكنها على الأقل تكفلت بالجانب الإنساني وحدها، أمام عالم عربي لا يزال يكتفي بالفرجة والعنتريات.

ما يحصل في حلب منذ صباح أمس هو جريمة ضد الإنسانية، تشمل التهجير القسري لسكان شرقي حلب من قبل روسيا وإيران ونظام دمشق، وبتواطؤ أميركي وعجز أممي وعربي وإسلامي.

جريمة يقوم المجرم بتصويرها وبثها مباشرة على الهواء.

العربي الجديد

 

 

 

إخلاء حلب والدور على إدلب/ بشير البكر

يتضمن الاتفاق الروسي مع فصائل المعارضة السورية على إخلاء حلب بنداً على غايةٍ في الأهمية، يتعلق بانتقال مقاتلي جبهة النصرة إلى محافظة إدلب حصرا، وخروج مقاتلي بقية الفصائل إلى ريف حلب الغربي، للالتحاق بالجيش الحر الذي يشارك في عملية درع الفرات.

تأتي هذه الخطوة من باب فرز ما تسمى المعارضة المعتدلة عن جبهة النصرة، وهو شرط أصرّت عليه روسيا منذ أشهر، وجرى تضمينه في كل الاتفاقات الروسية الأميركية منذ سنة ونصف السنة، في سياق الحرب على الإرهاب التي حددت “داعش” وجبهة النصرة بالاسم منظمتين على لائحة الإرهاب.

وقد تدرّج هذا الشرط، في الأشهر الأخيرة، من الطلب بإخراج مقاتلي “النصرة” من حلب، إلى انسحاب كل مقاتلي المعارضة من المدينة، كما جاء في اتفاق يوم الثلاثاء الذي تم بين ضباط روس ومسؤولين في فصائل المعارضة في حلب، برعايةٍ تركية.

شغلت هذه المسألة فصائل المعارضة كافة، والرأي العام السوري، وأحدثت حالةً من الضغط قادت جبهة النصرة إلى تغيير اسمها في يوليو/تموز الماضي إلى “جبهة فتح الشام”، في محاولةٍ للنأي بنفسها عن تنظيم القاعدة. لكن هذا التحول لم يحقق المطلوب منه، وظلت روسيا والولايات المتحدة وقطاع واسع في الشارع السوري يعتبرون “فتح الشام” رديفاً لـ”القاعدة”، لا سيما وأنها بقيت على النهج الفكري نفسه، ولم تغيّر علمها وشعاراتها، وواصلت فرض قوانين مشدّدة في المناطق التي تسيطر عليها، واستمرت ممارساتها الإقصائية تجاه بعض فصائل المعارضة.

وعلى الرغم من أن قطاعاً واسعاً من الرأي العام السوري المؤيد للمعارضة يعتبر أن جبهة النصرة ألحقت ضرراً فادحاً بالثورة، فإن فصائل المعارضة لم تتخذ موقفاً معلناً من “النصرة” لدفعها إلى إجراء عملية تغيير كبيرة، من نمط حل نفسها، والالتحاق بالفصائل الأخرى، وهو الأمر الذي جرى الحديث عنه أكثر من مرة في السنة الماضية، وحتى قبل الاتفاق الروسي الأميركي على تصنيف فصائل المعارضة بين معتدلة وإرهابية، الذي تم الاتفاق عليه في فيينا، في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2015. وقد جرت، أخيراً، محاولة التفافٍ على الأمر من طرف “الائتلاف” المعارض الذي دعا، بعد دورة اجتماعاته الأسبوع الماضي، إلى إنشاء جيش معارض موحد، وإخلاء المدن من المسلحين. وحسب أوساطٍ شاركت في الاجتماع الذي استمر يومين، تحت مسمى “دورة حلب”، فإن أصواتاً طالبت بضرورة التوقف عن مجاملة “النصرة”، والحديث بصراحةٍ عن الضرر الكبير الذي ألحقته بالثورة السورية.

إصرار الروس على رحيل مقاتلي “النصرة” إلى إدلب ليس من أجل منحهم إجازة مفتوحة في هذه المدينة، بل هو يخفي خلفه خطةً كبيرة تتجاوز “النصرة” إلى استهداف إدلب بعد الانتهاء من حلب، وهذا ما يفسر أن كل عمليات الإجلاء التي شملت مقاتلين من كل الجبهات اشترطت ترحيلهم إلى إدلب، الأمر الذي يتطلب تغيير حسابات فصائل المعارضة، وتفادي الفخ الذي وقعت فيه المدن السابقة التي دمرها النظام، بذريعة طرد مقاتلي المعارضة، كحمص وحلب ودير الزور. ولابد من ملاحظة أن المسألة باتت على قدرٍ كبير من الخطورة في ظل تحكّم روسيا في القضية السورية، واستقالة الولايات المتحدة والأمم المتحدة. وهذا يتطلب التعامل بمسؤوليةٍ مع الحفاظ على أرواح المدنيين، وإجراء عملية مراجعة واسعة، من أجل إعادة توجيه بوصلة الثورة السورية في الاتجاه الصحيح، ما يحتم قبل كل شيء إعادة هيكلة القوات الموجودة تحت راية سورية، وعدم رفع الرايات السود، ونبذ أصحاب الأجندات والارتهانات الخارجية، خصوصا أنه تبيّن، في الأيام القليلة الماضية، تهافت الرهان على القوى الخارجية لمساعدة الشعب السوري من الولايات المتحدة، وحتى الأطراف الإقليمية.

العربي الجديد

 

 

 

 

 

حلب … نهاية “الثورة السوريّة”/ لؤي حسين

بلى، انتهت الحرب في سورية. هذا إن كان المقصود بالحرب ذاك الصراع المسلّح بين النظام ومعارضيه. لا حاجة بنا الى إفاضة في التحليل لإثبات ذلك. حلب نهاية هذه الحرب التي اتُّخذ قرار إنهائها قبل سنة في اجتماع فيينا الثاني للمجموعة الدولية لدعم سورية، بُعيد التدخل العسكري الروسي فيها، الذي أدى إلى قلب جميع الموازين الميدانية والاصطفافات الدولية رأساً على عقب. منذ ذلك الاجتماع، تمكّن الروس من إلغاء شرعية رفع السلاح في مواجهة النظام. تعثر تحقيق هذا القرار سنة كاملة، لكن روسيا تمكّنت خلالها من الهيمنة على قرار النظام أكثر وأكثر.

حلب ليست مجرد مساحة جغرافية حتى نعايرها بمقاييس المعارك. إنها الآن، بعد تساقط غالبية بلدات محيط دمشق تحت سيطرة النظام، «الثورة» في حد ذاتها، وما بقي من المناطق خارج سيطرة النظام و»داعش»، كإدلب والغوطة، هو الذي يمكننا اعتباره مجرد جغرافيا ساقطة عسكرياً وسياسياً من دون أدنى جدل.

ليست الحرب في سورية فقط ما انتهى، بل «الثورة السورية» أيضاً. أي تلك المسمى الزائف للحركات الجهادية السنية (هذه المفردات ليست توصيفات بل تسميات تعتمدها الغالبية شبه المطلقة للفصائل المسلحة). لقد انتهت هذه «الثورة» مهزومة الآن، ومع نهايتها يجب أن نكون صريحي القول والتعابير مهما كانت المصارحة جارحة لكبريائنا أو حتى لضمائرنا ووجداننا.

لم نعد نحتاج بعد حلب الى بذل أي جهد لإثبات أن الجلباب الجهادي السني، الذي أُلبس للحراك الشعبي السلمي، لن تكون له أي فرصة للانتصار والفوز في سورية. فما نراه من تخلّي الدول عمّن أسمتهم سابقاً «الثوار المعتدلين»، وانفضاض جميع شرائح المجتمع السوري عن أن تكون حاضنة اجتماعية لهم، برهان يفقأ العين. كما لم نعد في حاجة الى استدعاء الحجج والبراهين لتأكيد أن السلاح الجهادي الذي رُفع في مواجهة النظام كان دوره الأساسي تثبيت النظام وإطالة أمده وتمتين طغيانه. هذا فضلاً عن الخراب والقتل والدمار الذي تسبّب أو قام به.

مع انتهاء هذه الحقبة من الصراع، يتوجّب علينا التوقف للتفكّر والتمعّن بكل ما جرى، وما هو واقع الحال الآن، وما هي الممكنات المتاحة لنقل البلاد إلى حال أفضل مما هي عليه الآن من ناحية عيش الناس بحرية وكرامة. يمكننا أن نرى الآن، إضافة الى مئات آلاف القتلى والعاجزين، وملايين المشردين والمهجّرين، والمساحات المهولة من الخراب والدمار، والاقتصاد المنهار، نظاماً يتربع بجبروت المنتصر على قمة خراب حلب ودمارها، مُنذِراً بأنه سيحكم البلاد بقوة الغلبة العسكرية، أي سيزداد بطشاً وتسلطاً على جميع السوريين، موالين ومعارضين وصامتين من دون تمييز، وستزداد مؤسسات الدولة وأجهزة النظام التسلطية فساداً ومحسوبيات وطائفية. وستنعدم جميع هوامش الحرية التي كانت متاحة، ولو في شكل ضيّق، قبل انطلاق التظاهرات الاحتجاجية، وطبعاً تلك الهوامش البسيطة التي اكتُسبت نتيجة تلك التظاهرات.

وفضلاً عن هذا كله، ستحكم شوارع البلاد قاطبة وحاراتها الميليشيات المتنوعة التي شُرعن لها حمل السلاح لمواجهة «الإرهاب»، وستتحكم هذه الميليشيات بحياة جميع السكان من دون استثناء على الطريقة التشبيحية التي خَبِــرها المجتمع العــلوي لعشرات السنــيــن على يد عصابات التشبيح التي شكلها أقرباء الرئيس السوري لأبـــيــه وأمه. وستستقوي هذه الميليشيات بالميليشيات الشيعية الأجنبية التي تأصلت وتجذرت في بيئة تعاونية مع مؤسسة الجيش والمخابرات، الى درجة يكون من الصعب استئصالها وإخراجها من البلاد لسنوات طويلة. هذا فضلاً عن سيطرة الميليشيات غير المحسوبة على النظام والمدعومة من أطراف دولية في مناطق وجودها، مكتسبة شرعية سلطاتها من توزيع النفوذ الدولي المتعدّد في شمال البلاد وجنوبها.

تنوَّع النفوذ الدولي على مساحات من الأراضي السورية بين شكل مباشر وآخر غير مباشر لقوى دولية وإقليمية كثيرة. لكن يبقى النفوذ الأجنبي الأهم والأقوى هو لروسيا التي أحكمت سيطرتها شبه التامة على قيادة أركان الجيش السوري وعلى الرئاسة السورية. وبالتالي، باتت في مثابة الجهة الوصيّة المطلقة على دمشق أمام المجتمع الدولي الذي بات يتفاوض معها سياسياً وعسكرياً في شكل مباشر نيابة عن النظام السوري. هذا النفوذ المتعدد أطاح كل أثر للسيادة الوطنية.

هُزِمت «الثورة»، لكن النظام لم ينتصر، فمن انتصر هو السلاح الأقوى. ومن خسر هو الشعب السوري بجميع أطيافه. عدم الإقرار بانتصار النظام سياسياً وأخلاقياً ليس قولاً تأملياً، بل حقيقة صارخة. فكل ما جرى هو انتصار القوة العسكرية للنظام الطغياني على القوة العسكرية لحركات طغيانية مناوئة له. فقد كان نزالهما في ميدان الفجور وليس في ميدان الحق أو الأخلاق أو السياسة. لذلك، لا نفع للسوريين من نصر هذا الطرف أو ذاك، فأي منتصر منهما سيحكمهم بقوة السلاح والقمع.

إمعان النظر في التجربة المريرة التي مر بها السوريون، يرينا أن ما اصطُلح على تسميته «ثورة» سورية كان قد تأسس بداية على إطاحة الحراك السلمي لنساء ورجال سوريين يريدون المشاركة في الحياة العامة، وتأكيد أنهم معنيون بشؤون وطنهم ويريدون استعادة حقوق جميع السوريين وحرياتهم التي ينتهكها النظام الاستبدادي الطغياني ويصادرها لعشرات السنين، وذلك بإقامة دولة ديموقراطية تُطلق الحريات الفردية ويتشارك فيها جميع السوريين في شكل متساو من دون استثناء، فباغتتهم حركات جهادية قام بها ذكور (فحول) أعلنوا أنهم يريدون تحقيق إرادة الله في الأرض والتحكم بما عليها من أرزاق ونساء. فبادرت هذه الحركات الى مصادرة اسم «الثورة السورية» واحتكرته لنفسها، وآزرتها في ذلك هيئات المعارضة الرسمية وشخصياتها (أي المعترف بها رسمياً من جانب الدول).

لم تستطع هذه «الثورة» تخفيف أي صنف من صنوف معاناة السوريين. فالاعتقال التعسفي الذي تقوم به مخابرات النظام منذ عشرات السنين، والذي كان أهم مشكلة عند السوريين، ازداد عما كان عليه أضعافاً وأضعافاً. بل ازدادت حدته، إذ صار المعتقلون مهددين بالموت تحت التعذيب أو نتيجة الأمراض أو سوء التغذية، بعدما كان مثل هذا الموت حالات نادرة جداً خلال حكم بشار الأسد قبل رفع السلاح لإسقاط نظامه. بل عانى السوريون فوق ذلك، من اعتقالات قامت بها مجموعات «الثورة» فاقت اعتقالات النظام من حيث أسباب الاعتقال، إذ صار يُعتقل الأشخاص بناء على عقيدتهم أو طائفتهم، وفاقتها من ناحية الممارسات أيضاً.

كذلك، لم تنجح «الثورة» إطلاقاً في ما ادّعته من حماية المدنيين، بل تسبّبت بزيادة قتلهم بنسبة كبيرة نتيجة مواجهة قوات النظام في مناطق سكنية، فضلاً عن القتل الذي مارسته المجموعات «الثورية» بحق المدنيين. بل ساهمت أيضاً، إضافة الى النظام، في مفاقمة الانقسام المجتمعي على أساس طائفي وقومي وديني وجهوي. حتى أنها لم تستطع استقطاب أبناء الأقليات الطائفية والدينية والقومية، ولا أبناء دمشق وحلب، المدينتين الرئيستين، فغالبية من تظاهر في قلب هاتين المدينتين كانوا من الوافدين وليس من أبنائهما، ذلك قبل أن يأتي مسلحون من غير أبناء حلب ويسيطروا على أحياء فيها. علماً أن هاتين المدينتين وهذه المكونات لا يمكن تجاوزها في أي أمر سياسي إطلاقاً.

عموماً، لم تحاول «الثورة» منافسة النظام، فلم تجد لذلك داعياً كونها احتكمت إلى القوة والسلاح، لذلك لم تجد ما يفيدها في منافسة النظام. كما لم تسعَ الى أن يخفف النظام قمعه ووحشيته وغطرسته، فهي تعتاش في وجودها على تفاقم طغيانه واستبداده. حتى أنها وجدت أن تحسُّن أوضاعها الدولية والمالية يتناسب طرداً مع ازدياد شناعة النظام، فكلما قتل واعتقل وشرّد الناس أكثر تحسنت أوضاعها. فهي لم تعمل ولا للحظة واحدة لأن يحسّن النظام ممارسته تجاه المواطنين.

استناداً إلى هذا، وإذا أردنا أن نكون أوفياء لشعبنا وبلدنا، ومخلصين لحقوق الإنسان الســوري في الحريـــة، وكنا ما زلنا نريد الانتقال ببلادنا من التخلف والاستبداد والطغيان إلى الحداثة والديموقراطية، يتوجب علينا القطع نهائياً مع هذه الثورة. القطع مع رؤاها وقياداتها وممارساتها ومرتكزاتها. القطع مع ذهنيتها وثقافتها.

لا بد من القول الصريح إن هذه «الثورة» كانت ضد الحرية وضد النساء وضد التفرد، ولم تكن للحظة، منذ امتشق الجهاديون السلاح وصاروا قادة الميدان، ثورة حرية للسوريين. وأنه لا بد من استمرار النضال في مواجهة هذا النظام لاستعادة الحريات الفردية وتحصينها وحمايتها من انتهاكات أجهزة المخابرات، فهذه الحريات هي الأمر الوحيد الذي كنا نحتاجه قبل انطلاق التظاهرات.

كاتب سوري ورئيس «تيّار بناء الدولة»

الحياة

 

 

 

 

مأساة حلب/ فوّاز حداد

في انتظار الباصات، حشود من الرجال والنساء والأطفال والشبان وكبار السن، ومنهم معوقون ومرضى، يحملون متاعهم القليل. ما ارتدوه من ملابس، لا يحميهم من البرد الصقيعي، الوجوه يخيّم عليها القهر، بعضهم يذرفون الدموع، ويلقون النظرات الأخيرة إلى معالم الأبنية المدمَّرة، سيغادرونها إلى مصير يجهلونه.

كل ما في هذا المشهد يُشعرك بقسوة الاستبداد وجبروت الاحتلال، هؤلاء يرحلون عن مدينتهم مرغمين، بعد معاناة سنوات من حرب طاحنة، شهدوا الموت يومياً، وتحملوا شظف العيش وفقدان أساسيات الحياة، وكابدوا الجوع والأمراض من أجل البقاء على أرضهم.

في “بروباغندا” الأكاذيب، ما وصلت إليه المأساة الحلبية، كان نهاية لا بد منها، فالنظام حمل على عاتقه القضاء على الإرهاب الذي يعاني منه العالم بأسره، وهؤلاء المدنيون العزّل إرهابيون. هذا ما أثبته النظام، وأفتت به إيران، وساعدت روسيا على تحويل المدن إلى خراب. بينما على الأرض، أُسند القتل إلى الجنود والشبيحة، وصناديد الحزب الإلهي ومليشيات مرتزقة من جنسيات متنوعة.

على الرغم من الاتفاق على تسهيل خروج الأهالي برعاية الصليب الأحمر، بضمانة روسية، جرى اعتراض الباصات، أنزلوا منها الشبان، مدّدوهم على الأرض، وتشفّوا بإهانتهم، بالدعس عليهم بالأقدام، أعقبها إعدامات ميدانية… بإشراف إيراني.

هذا المشهد جزء من مشهد أكبر وأوسع، قد يبدو مقتطَعاً من فيلم سينمائي عن اجتياح الجيش النازي بلدان شرق أوروبا واستباحته للأهالي. المشهد أيضاً سوريالي على نحو ما، ودراما غير قابلة للتصديق، إذ كيف لهؤلاء النسوة والأطفال أن يكونوا إرهابيين؟ ولماذا يُرحّلون من بيوتهم جناية عمرهم؟ ولماذا إجلاؤهم عن أحيائهم، التي شهدت أفراحهم وأتراحهم، وتحت ترابها قبور أعزّائهم؟

المؤلم أنه حقيقي، يجري تحت أنظار العالم، وتنقله وسائل الإعلام، والأكثر إيلاما ومفارقة، مسارعة أطراف في حلب الأخرى إلى الاحتفال بهزيمة حلب المحاصرة برفع شارات النصر، رافقها احتفالات في قلب إيران. أما في الضاحية الجنوبية ببيروت، فجرى توزيع الحلوى ابتهاجاً بسقوط حلب. في الوقت نفسه، سارع أوفياء للنظام إلى الدفاع عن الاحتفالات بأنها احتفاء بنهاية الحرب، ألا يحق لهم الشعور بالفرح؟

الحرب لم تنته، وحلب سواء هُزمت أو لم تهزم، فـ”النصر” كان مصطنعاً، وإن تحقق حسب المنطق الدموي الجائر للنظام: على المدنيين أن يدفعوا الثمن، لأنهم طالبوا بالحرية والكرامة، وطُردوا شرّ طردة، إذ لم يعد يحق لهم العيش في سورية الشعب المتجانس، سورية الأسد.

في حلب، الحقيقة صارخة، لا عيش إلا لمن يرضى بالعيش حسب مقاييس سياسات نظام غاشم. سياسة العقاب ممنهجة، الحصار والتجويع والطرد، إن لم يكن الموت. إذا لم تصفع هذه الحقيقة الطرف الآخر في سورية فلأنهم اختاروا العمى والرضوخ معاً. إذ لا أكذوبة قادرة على نفي الظلم، أو جائحة القتل المستمرة، أو تهجير الملايين. الجرائم لن تتوقف، وسورية لن تغفر.

العربي الجديد

 

 

 

 

ابنتي اسمها حلب/ أحمد عمر

سميتُ ابنتي الكبرى على اسم حلب في العهود السلوقية والإغريقية والرومانية والبيزنطية..

كان الاسم حيلة من الأب المغلوب، الغلبان، في عصر “الهويات القاتلة” والحيلة العظمى، حيلة الكيانات القومية، فالاسم هوية، الاسم مشكلة. كان معارفي وصحبي يسمّون مواليدهم بأسماء سريعة جاهزة، في عائلة أختي أربعة مواليد أسماؤهم إسماعيل، في عائلة خالتي أربعة مواليد أسماؤهم علي، تكريماً لاسم الجد الفقيد.

الحال متشابه في الأسر السورية، يحتار الأبوان غالبا أمام امتحان اسم الوليد الجديد، ثم يسمّونه على اسم جارٍ ناجح، أو موظف كبير، أو اسم ممثل، ربما مما حُمّد وعُبّد، لم يعد أحد يَعبد ويَحمد كما في السابق، “بيريا” اسم نادر، لم يكن له مثيلٌ سوى في بعض القبائل الأفريقية، بمعان لا أعرفها، المعارف يسألون عن الاسم الغريب، وكأنهم مخدوعون، أو يخوضون في حقل ألغام ستنفجر بهم: ما معناه ياهوو؟

كان الاسم خدعة سياسة وتقية، أقول للسائل إذا كان كردي العرق: اسم ابنتي كردي معناه اشتاق.

الكردي يخدع بسرعة، العيش معه صعب، خداعه سهل.

يقول السائل الكردي: بيرفان هو الشوق، أما بيريا فهو فعل. لا يسمّي الكرد أسماء على وزن الفعل مثل العربية التي تجدُ فيها: يرفأ حاجب عمر بن الخطاب، ويزيد بن معاوية الذي أثار كل أحقاد الغزاة على حلب، ويعلى بن أمية… ويشكر وتغلب وأحمد وأوفى ابن أُمِّ أَوفى دِمنَةٌ.. لمَ لا تقبلون التجديد؟ اغتربوا تتجددوا. لقد أوجبت على ابنتي غربةً طويلة، إنها تعيش في منفى اسمها.

أما إذا كان السائل عن معنى الاسم عربياً: فأجيبه: اسمها هو اسم حلب القديم، وأخرج له القواميس مبينا ًبالبرهان، إذا ارتاب المبطلون.

كنت أحبُّ الأسماء بصيغ الأفعال، وتمنيت لو سميتُ أولادي إناثاً أو ذكرانا بأسماء جريئة مثل: تبارك، وأوحى، وحاميم.. لكن أمهم لا تحب المغامرات في الأسماء والأفعال.

ابنتي حيّيّة، خفرة، سريعة الدمع، أسيفة، لم أرَ أسرع منها دمعاً بين الإناث اللاتي عرفت، أظنُّ أني أشاققها بملاعبتها أحيانا بلعبة تحدي اسمها “مكاسرة الدموع”، يزورنا أقارب أو أصدقاء، فيثيرون الأشجان، ويطرون عليها، فأقول لهم: انظروا أنا ساحر، أستطيع أن أجعلها تبكي في أقل من دقيقة: انظري إليَّ يا ابنتي، تنظر ثم تبكي بكاء فيه نشيج يشبه بكاء الثاكل ولوعتها، وتهرب إلى أقرب غرفة، تداري دموعها التي لا تستطيع لها منعاً، دمعها كأنما َانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، كأنما ضربت بعصا موسى المباركة. تلومني أمها، وتلومني بيريا، كلاهما يتهماني بأني سبب رقتها الغريبة، فأدافع عن نفسي، وأقول: إني أحاول تدريبها على الصمود والتصدي، والمصابرة ورباطة الدمع. لا يمكن للمرء التدرب على السباحة من غير ماء، وأنا أدرّب ابنتي على بعض القسوة ببعض الشدّة، إني أدربها على العيش في منفى اسمها.

اخشوشنوا، فإن البسمة لا تدوم. أمس زارنا صديقانا الألمانيان ريشار ونيكول، فلعبت اللعبة نفسها، وهمت بالبكاء فلما ابتسمت لها، أسبلت عيناها دمعاً، وهربت إلى الغرفة المجاورة خوفا من الغرق، أفسدت عليها الطعام، وهي ضعيفة الشهية. استغرب ريشار، واستغربت نيكول، بعد أيام زارانا، فلم ترضَ بالخروج من غرفتها، كانت خجلة بسبب دموعها التي لا تعرف لها تفسيراً، إنها لا تقدر على مواجهة الضيفين العزيزين، قرعنا عليها الباب لتخرج وتترجم لي حديثاً مع ريشار، فأبت. أختها الوسطى قوية الشكيمة، عنيدة، كردية حقيقية، تأكل رأس الحيّة، هي على النقيض منها، كل واحدة منهما تريانا نجوم الظهر، الكبرى بالرقة والدمعة، والوسطى بالصلابة والعناد.

أقول لها: سمّيتك على اسم حلب أيتها الشهباء، وحلب مدينة قُدّت من الصخر الأبيض الصلب، فكوني مثلها يا قرّة عيني، وفلذة كبدي. هي تحب مثل بنات جيلها الأغاني، والأفلام الأجنبية، وتنسى الأشياء بما لا يناسب عمر صبية، هذه البنت تشتاق إلى أمر ما لا أعرفه.

الدمع ليس ماء مالحاً، والحزن ليس بسماً منثورا.

لها زميل حلبي اسمه عبدو، يصاحبها إلى البيت من مدرسة اللغة الألمانية، إنه يتودد إليها، أراقبه من بعيد، أراه يطيل معها الحديث، يجادلها، وهي تدافع، وتتجالد وتحاول الهرب والصدّ، علمت من أمها أنه قد عرض عليها قلبه، فامتنعت بشدة، قالت: إنه خشن، سريع الانفعال، يكاد ينطلق منه سهم، كأنه قوس مشدود، دعيّ، ليس فيه من صفات الفروسية، وقح … سررت من بيريا، ومن قدرتها على الحكم والتقدير وميزان الرجال، فهي في نظري الطفلة الصغيرة التي كنت أحملها على عاتقي.

قلت لها: لو بقي في الديار لانتسب إلى كتائب أبي دجانة

لله درّك يا بيريا.

بالأمس تعرف إليّ حلبي عجوز في السبعين، فسألني عن أهلي، دعاني إلى داره، وأصرَّ بشدة، فصحبته، ما إن عرف أنَّ لي بنتاً في برعم العشرين حتى خطبها لابن أخته: محمد، ألماني الجنسية، مولود في ألمانيا، قلت مصعوقا: أنت لم ترَ ابنتي، فكيف تخطبها؟

قال باللهجة الحلبية القوية: يا خيو حبيتك، شو ما كانت بنتك أنا رضيان. نحن بدنا بنت حلال سورية وبس.

هتفت في نفسي: الله أكبر.

قلت: أولا ابنتي مثل بنات هذا الزمان، ليس للآباء عليهن سلطان، وهي نصف ألمانية الآن، ولا كلمة لي عليها ولا على أمها، وهي تنوي الدراسة، وسكّة العلم طويلة، اذهب واخطبها من عمتها ميركل.

قال: نحن نرضى بأي شرط، المهم أن نصاهر الكرماء، وأنا حبيتك.. وهاي بوسة من جنق وجك.

زوجته الملتحفة بالسواد كانت ساكتة، تكلمت أول مرة، وقالت: المهم تكون بنت أصل.

قلت له: أنا كردي…

قال: مبيّن لسانك أعوج خاي، بس أنا حبيتك.

قلت لهما أني سأوصل الرسالة لحلب مع أقرب حمامة.

نسيت أن أبلغ الرسالة، رميتها وراء ظهري، وجدته بعد أيام قليلة قد استدل إلى عنواننا، وجاء وزوجته أم محمد يريد خطبة بيريا لابن أخته، فهو يريد له السترة، الألمانيات لسن خرج زواج يا خيو.

خرجت ابنتي، وأحبتها أم محمد، وسرَّ الحاج بكري، لكن بيريا بكت وهربت إلى غرفتها، خشية أن ألعب معها لعبة الأحزان الموقوتة، وأبلغتنا جوابها النهائي: إنها لا تفكر في الزواج. إنها مشغولة مذ خلقت بأمر ما.

أخشى عليها من الجنون، بين الكرد والجنون جدار أرق من ورق السيجارة.

زعل الحاج بكري مني، لكنه لا يزال يسلّم علي. كنت أريد بيريا صلبة مثل حجارة حلب البيضاء، كنت قد ادّخرت مديةً منشارية أثرية، لها غمد، اشتريتها من سوق “الفلو ماركت” ذهبتُ وأحضرتها، وقلت لها وقد صارت صبيّة تخطب: انظري أيتها الشهباء، أقسم ورب الكعبة المبنية حجراً حجراً بيدي نبيين كريمين، هما الخليل أبو الأنبياء إبراهيم، وابنه سيد العرب والعجم الصديق إسماعيل، ورب الحجر الأسود، إن أساء لك يوما رجل بكلمة: إما دمي وإما دمه فبكت وهربت إلى المنفى، وهي تكاد تقول: لم يسيء لي أحد سواك، كنت قد عدت لتوي غاضباً من مقابلة زوج ابنة عمي، الذي قَدِم من دبي، زوجته قاطعته وتأبّت عليه بعد أن وصلت إلى المانيا، أجبرها على النزوح طمعاً في الجنسية الألمانية، والآن يريدها أن تعود إليه، بعد أن فقدها. قلت له: كيف تضرب زوجتك، ألا تتذكر كيف قبّلتَ يدي حتى أتشفع لك بالزواج منها؟

قال: صحيح وأنا نادم، وأنا مستعدٌ لتقبيلِ قدميها..

قلت أذكّره بعاره: ضربتها بالزنار..

قال: أنا نادم.. أرجوك تشفّع لي مرة ثانية

قلت: ضربتها من أجل حجر أركيلة، وهي ترضع ابنك؟

كنت أروي لبيريا الكثير من الحكايات وهي صغيرة، وأحكي لها حكايات عن الذئب الغدار، والذئب وليلى، والذئب وسورية، وربما ستروي هي يوما لابنتها حكاية، عن ذئب غدر بليلى، عن ذئب دمر بلداً، كما لو أنه طفل يلعب لعبة على البلاي ستيشن، واستعان على ذلك بكل ذئاب الأرض. ربما ستروي قصة إعلامي إيراني، استطاع الوقوف في وجه إحدى وعشرين دولة عربية، بينهن دول عظمى، وأعاد ثمانمائة راكب نازح ناقصين ثلاثين راكبا قتلوا غدراً. أعادهم إلى الحصار منهوبين من الحلي والهواتف، وحرمهم من العبور.

إنها لا تكفُّ عن البكاء.. إنها تبكي شيئا لا أدركه، بكاؤها غريزة أساسية.

تتعب من متابعة أخبار آلام سَميّتها حلب، أقول لها: كنت سأسميك “برينا” لكن عماتك أبين، ومعنى الاسم هو الجرح. وكانت أمك ستسميك سوناتا، فأبيت، تدمع عينا بيريا، وكأنها تعرضت إلى خيانة، أو إلى غدر، وتقول، وهي تجهش بالدموع، هاربةً إلى غرفتها: دمّرت حياتي…   تخلفني وحيداً مع أنقاض حلب، أتابع حياتها المدمرة حجراً حجراً، فؤاداً فؤاداً، كبداً كبداً على نشرات الأخبار العالمية.

المدن

 

 

 

 

ترسيم الجغرافيا العسكرية في حلب/ حسين عبد العزيز

مع دخول فصائل من «الجيش السوري الحر» مدعومة بقوات تركية مدينة الباب، بدأت تتضح معالم الجغرافية العسكرية لمجمل محافظة حلب التي ظلت طوال الأعوام الثلاثة الماضية عنواناً للفوضى العسكرية وعنواناً آخر لفوضى المصالح الإقليمية والدولية المتضاربة فيها. وإذا كان السماح لتركيا بدخول الشمال السوري تحت عنوان عملية «درع الفرات» كشف الملامح الأولية لهذه الجغرافية العسكرية الجديدة في المحافظة، فإن إطلاق معركة الباب بعد أسابيع من الصمت حدد الملامح النهائية للواقع العسكري الجديد.

تطلب الأمر بين سيطرة «درع الفرات» على بلدتي دابق وتل رفعت، وإطلاق معركة الباب نحو شهرين، تخللتهما مفاوضات علنية وسرية بين الثلاثي التركي-الروسي- الأميركي لحسم الحصص الإقليمية والدولية، ليس في حلب فحسب، بل أيضا في الشمال الغربي والشمال الأوسط لسوريا (الرقة). وجاء إعلان «قوات سوريا الديموقراطية» المدعومة أميركياً بدء معركة الرقة في الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ليقضي على التكهنات حول مصير محافظة الرقة ومن هي الجهة التي ستتولى المعركة وبالتالي ستؤول إليها السيطرة على المحافظة معقل التنظيم في سوريا، في وقت بقيت حلب مدار التفاهمات الروسية- الأميركية.

غير أن توقيت بدء معركة الباب من قبل «درع الفرات» يحمل الكثير من الدلالات:

1- جاءت العملية العسكرية بعد ثلاثة أيام من إعلان «قوات سوريا الديموقراطية» عدم مشاركتها في تحرير الباب من تنظيم الدولة، على الرغم من إعلانها أن مجلس الباب العسكري المشكل من قبلها سيشارك في العملية العسكرية.

2- كما جاء توقيت إطلاق معركة الباب بالتزامن مع محادثات تركية- أميركية عقدت في قاعدة أنجرليك التركية على مستوى رؤساء أركان الدولتين لبحث آفاق «درع الفرات» في محافظة حلب، وبعد أيام من محادثات أكثر أهمية عقدت في موسكو بين رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

3- جاء إطلاق المعركة بعد سيطرة قوات النظام على معظم الأحياء الشرقية لحلب، وحسم مصير المدينة لصالح النظام وتجاوز الأخير منعطف حلب.

فمسألة تشكيل كيان كردي موحد يمتد من غرب حلب إلى جرابلس قد حسمت لصالح تركيا، مقابل إعطاء الأخيرة حصتها بما يضمن أمنها القومي شرط خفضها السقف السياسي والعسكري في سورية، الأمر الذي بدا وضحاً من خلال انسحاب بعض القوى المؤيدة لتركيا من مدينة حلب من جهة، ومن خلال التصريحات المتعلقة بمصير النظام والأسد من جهة ثانية.

وهكذا سيكون المثلث الجغرافي الممتد من جرابلس إلى تل رفعت إلى الباب بيد الأتراك، على أن يخضع الريف الغربي لحلب للأكراد، وتترك مدينة حلب وريفيها الشرقي والجنوبي للنظام مع بعض المناطق في الريف الشمالي الغربي.

من الواضح أن المقاربة الأميركية- الروسية غير المعلن عنها تقوم على تقويض القوى الإسلامية المتطرفة (تنظيم الدولة، جبهة فتح الشام، جند الأقصى… إلخ)، في مرحلة أولى مع تعزيز القوى العلمانية السورية، بحث ينحصر المشهد العسكري في الشمال بين ثلاث قوى (النظام، قوات سوريا الديموقراطية بمكوناتها العربية والكردية، فصائل الجيش الحر)، على أن يترك مصير القوى الإسلامية الأخرى (أحرار الشام، جيش الإسلام) إلى مرحلة أخرى من التفاهمات الأميركية – الروسية.

وحتى ذلك الحين، لا بد من تحييد حلب عن الصراع الإقليمي الدولي ضمن رؤية أميركية لتغيير المعادلة الميدانية في عموم سوريا، لا يكون فيها للقوى الإسلامية الراديكالية مساحات وخيارات واسعة للتحرك، ولذلك سُمح لمحافظة إدلب أن تكون مستقراً لهذه القوى إلى حين استجلاء حقيقة الموقف الدولي مع وصول الإدارة الأميركية الجديدة إلى سدة الحكم.

* إعلامي وكاتب سوري

الحياة

 

 

 

 

حلب والسقوط المستمر/ نارت عبدالكريم

إنْ كان هنالك شخص نائم هل نتحدث إليه ونتواصل معه قبل إيقاظه أم بعد إيقاظه؟ وإذا كان حال المثقف، في عصرنا، مع المتلقي يشبه حال المتحدث مع شخص نائم، كما في مثالنا السابق، فمن الطبيعي ألاَّ نرى أثراً إيجابياً للثقافة والعلم في الإنسان لأنه في حالة سبات مديد، فلماذا لا نعمل على إيقاظه أولاً بدلاً من زقِّهِ بالمنومات؟.

لقد أشار مصطفى حجازي من خلال عمله المعنون «سيكولوجيا التخلف» إلى الحال المزري الذي وصــل إليه الإنسان في مجتمعاتنا العربية لأنه ما زال يــعيــش، من الناحية الفكرية، في عمر الرضاع. فالقــارئ، على سبيل المثال، يحب أن يأخذ دور المتلقي دومــاً من خلال حصوله على الوجبات السهلة والبسيطة، والكاتــب يحلو له أن يلعب دور الأم الحنون والمعطاء من خلال تقديمه الأجوبة والآراء والأفـكار الجاهــزة، فما الذي بمقدور الرضيع والمرضعة فــعله في زمن الأزمات والكوارث سواء البكاء والندب والنحيــب؟ أمْ أن لكَ رأيــاً آخر في حالنا المستمر منذ سقوط عروس عروبتنا، مروراً ببيروت وبغداد، وصولاً إلى سقوط حلب؟.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

 

بعد حلب … هل حان لجم إيران؟/ مروان قبلان

على الرغم من الصدمة التي أحدثها في موسكو وأنقرة، لا يبدو أن اغتيال السفير الروسي، أندريه كارلوف، سيؤثر على العلاقات التركية -الروسية، مما يدل على أن البلدين لم يتجاوزا فقط تداعيات حادثة إسقاط الطائرة الروسية على تخوم المجال الجوي التركي مع سورية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، بل توصلا إلى تفاهماتٍ عميقةٍ في الموضوع السوري، تبدت آثارها في تحول تركيا من داعم إقليمي كبير للمعارضة السورية إلى وسيط بينها وبين روسيا. في المقابل، تم إطلاق يد تركيا لتنفيذ عملية “درع الفرات” التي تستهدف منع وحدات حماية الشعب الكردية المدعومة أميركياً من السيطرة على مناطق تنظيم الدولة الإسلامية غرب نهر الفرات، والوصول من ثم إلى مناطق الإدارة الكردية الثلاث على امتداد الحدود السورية-التركية.

مثّل التناغم التركي-الروسي، الذي بلغ مداه في اتفاق إجلاء المقاتلين والمدنيين عن الجزء الشرقي من مدينة حلب، صدمة بالنسبة إلى إيران التي لم تخف امتعاضها من تجاهل روسيا لها وذهابها إلى عقد اتفاق مع منافستها التقليدية على الساحة السورية، فقرّرت التعطيل. وبمقدار ما مثّل الاتفاق نقطة تلاقي مصالح روسية – تركية، لتلافي مذبحة كبرى في حلب، لن تستطيع موسكو تحمل نتائجها في علاقتها مع الغرب والعالم الإسلامي، ومواطنيها المسلمين، وتعفي، في المقابل، تركيا من حرج الوقوف متفرجة، مثّل الاتفاق نقطة خلاف روسية- إيرانية، فطهران كانت تريد الإجهاز على مقاتلي المعارضة المحاصرين شرقي حلب، بدلاً من تركهم يخرجون ليقاتلوها في يوم آخر. الاتفاق فوّت عليها هذه الفرصة، لكنها تمكّنت، في المقابل، من فرض نفسها على التفاهم الثنائي الروسي-التركي، الذي غدا بحضورها ثلاثياً، وجرى التعبير عنه باجتماع وزراء دفاع وخارجية الدول الثلاث في موسكو لمناقشة الأزمة السورية. كما تمكّنت من تضمين الاتفاق شرط إطلاق الموالين لها في بلداتٍ محاصرةٍ في ريف إدلب، مما جعلها تبدو كأنها ممثلة لشيعة العالم وحامية لهم.

على الرغم من ذلك، بدا واضحاً لإيران أن موسكو لا تحاول فقط تحجيم دورها في الشمال السوري، وإنما تسعى، فوق ذلك، إلى إعطاء دور أكبر لتركيا التي أخذت تبدو أكثر توافقاً من إيران مع الأهداف الروسية في سورية، وقد بدا ذلك واضحاً في موقفين اثنين، أولهما تفاهم موسكو مع تركيا، على نشر قوات روسية من جمهوريات الشيشان وبشكيريا وداغستان (مسلمين سنة) على أطراف حلب، لضمان خروج المدنيين من المدينة، بموجب الاتفاق الروسي-التركي ولمنع أي تجاوزاتٍ من المليشيات الشيعية الموالية لإيران ضدهم. وتمثل الثاني بموافقة روسيا على مشروع القرار الفرنسي المعدل في مجلس الأمن، والذي سمح بنشر مراقبين دوليين في حلب، وهو أمر تعارضه إيران التي لا تريد تدخلاً أممياً، يراقب تجاوزات مليشياتها، ويحد من حرية حركتها.

ويُتوقع، في الفترة المقبلة، أن يستمر تقارب المصالح التركي-الروسي، في مقابل اتساع الفجوة بين روسيا وإيران على الساحة السورية، فروسيا تريد، على الأرجح، بعد أن أثبتت قدرتها على قلب المعادلات الميدانية في سورية، التوصل إلى حل سياسي، يساعدها على الخروج من المستنقع السوري، ويحفظ لها مصالحها، ويحول دون تكرار الخطأ الأميركي في العراق، بتسليم سورية إلى إيران. تريد تركيا، هي الأخرى، وضع حد للصراع في سورية، باعتبارها المتضرّر الأكبر منه، بعد السوريين أنفسهم، وهي تريد أن يكون اتفاق حلب خطوةً أولى نحو وقف إطلاق نار شامل، واستئناف مفاوضات الحل السلمي. من هذا الباب، أيدت أنقرة مقترحاً روسياً لعقد جولة مفاوضات في أستانا (عاصمة كازاخستان) بين وفدي النظام والمعارضة، تمهيداً لإحياء مسار جنيف.

على النقيض من ذلك، تسعى إيران، على ما تشي به تصريحات زعمائها وبيادقها، إلى استمرار القتال حتى آخر قطرة دم سورية. لكن ترويض إيران ودفعها إلى السير في طريق الحل لن يكون صعباً على الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي يستعد، على ما يبدو، للاستثمار في عودة الضغط الأميركي على طهران، لترويضها وكبح جماح أدواتها في سورية، فالغطاء الروسي شديد الأهمية بالنسبة إلى إيران، وسوف تزداد أهميته بعد رحيل “الصديق” باراك أوباما عن البيت الأبيض، ومجيء دونالد ترامب إليه، ولطالما كان ترويض الجموح الإيراني لعبة بوتين الدولية المفضلة في التعاطي مع الغرب، وإيران تدرك ذلك وتخشاه.

العربي الجديد

 

 

 

 

التباسات في قراءة المشهد بعد حلب/ أكرم البني

أربعة التباسات عمت أوساط السوريين والمعارضة، في تفسير مسار الصراع السوري وآفاقه، بعد الانتصار العسكري للنظام وحلفائه في مدينة حلب.

أولاً، وضع إشارة مساواة بين الهزيمة العسكرية لجماعات المعارضة المسلحة في حلب وبين هزيمة مشروع التغيير السياسي، وكأن ما حصل يؤبد الاستبداد ويرسخ مناخ القمع والعنف، بينما الحال، أن إرادة «المنتصر» وأساليبه القهرية ستبقى عاجزة عن رسم المستقبل السوري، ليس استقواءً بما ارتكب، أو بالحتمية التاريخية وبديهية انتصار الحق والعدل على الظلم والتمييز حتى لو تأخر الزمن، أو بحقيقة دوام الصراع بوجوهه المختلفة في مناطق واسعة لا تزال خارجة عن سيطرة نظام، أضعفته سنوات الصراع الدامي وما استجره من قوى خارجية، وليس لأن من انهزم وفشل هي جماعات مسلحة تحمل أجندة إسلاموية ليس لها علاقة بالثورة السورية وحلمها الديموقراطي، وإنما لأن الأسباب التي دفعت الناس لرفض واقع القهر والفساد لا تزال قائمة بل ازدادت حدة ووضوحاً وعمقاً، فأنّى لمجتمع ظلم وفكك وشرد أن يسترد عافيته وتماسكه من دون إحداث تغيير سياسي يفتح الباب أمام سلطة عادلة، لا تفرضها لغة العنف والإرهاب بل سعيها إلى إنصاف الناس ونيل ثقتهم ورضاهم، كشرط لنيل ثقة المجتمع الدولي ومن دونها يصعب معالجة مخلفات الصراع وملفاته الإنسانية.

ثانياً، قيل إن «الهزيمة يتيمة وللنصر مئة أب»… يحضر هذا المثل الشعبي اليوم للدلالة على تنصل بعض رموز المعارضة، الذين صدمتهم نتائج معركة حلب، مما جرى وتحميل المسؤولية لبقية المعارضين وكيل الاتهامات جزافاً بحقهم.

هو أمر مفهوم ومبرر أن يمارس النقد بشدة بعد أي هزيمة أو انكسار لكشف مواطن الخلل والضعف، لكن ما ليس مفهوماً هو استسهال تحميل المعارضة المسؤولية الكاملة وتوجيه كلمات إدانة وتحقير بحقها، وما ليس مبرراً اعتبار ما تعانيه من تباينات تنظيمية واختلافات في المواقف والرؤى، هو السبب الوحيد لما وصلنا إليه، ما يعني، وبغض النظر عن النيات، إغفال الشروط الموضوعية التي حكمت مسار الصراع، ما يضع علامة استفهام حول دوافع هؤلاء المتهجمين، حين يدينون الضحية وليس الجاني، ويتجاهلون المسؤولية الأساس التي تقع على عاتق السلطة وحلفائها بإصرارهم على عنف مفرط طلباً لحسم عسكري، ربطاً بعجز المجتمع الدولي عن حماية المدنيين وفرض خطة للمعالجة السياسية.

ومع إشهار الشروط الموضوعية التي أحاقت ولا تزال بالثورة السورية وقوى التغيير، يصح التوقف عند مسؤولية المعارضة، إن لجهة استمرار تشرذمها وتشتت خطابها وخلافاتها البينية وإن لجهة تراجع أدائها عند تصاعد الحاجة إليه في قيادة الحراك الشعبي ومحاصرة تنامي التيارات الأصولية! ليصح أن نغمز من هذه القناة إلى انحسار مساهمتها في الحفاظ على الوجه السلمي للثورة، وفي التواصل مع الحراك الشعبي ومده بالخبرة، وإلى مبالغتها في الرهان على دعم الخارج والخضوع لإملاءاته، وإلى ضعف دورها السياسي والإعلامي في إثارة أوجاع السوريين لزيادة تعاطف الرأي العام العالمي مع محنتهم، بغرض إحراج المجتمع الدولي وإكراهه على البحث عن مخارج وحلول لوقف الفتك والتنكيل، والأهم عدم مجادلتها لإظهار نفسها كبديل موثوق، يحترم التنوع والتعددية وأمين لثقافة الديموقراطية وقواعدها.

ثالثاً، التمييز بين المجتمع السوري الحي وبين التنظيمات الجهادية وما خلفته من أضرار على الثورة حين سارعت إلى استثمار النهوض الشعبي لفرض أجندتها الخاصة، فأقامت الإمارات، وألزمت بشراً منهكين، بنمط حياتها تحت طائلة أشد العقوبات.

«سورية حرة والنصرة تطلع برة» هو هتاف رفعه متظاهرون في حلب وإدلب وحماة وتكرر في مدن أخرى رداً على محاولات جبهة فتح الشام مصادرة شعاراتهم واعتقال الناشطين المدنيين واغتيال بعضهم، ما يدل على أن الشعب السوري لم يكن راضياً عن الجماعات الجهادية ودورها، وإن غض النظر عنها، فتحت وطأة العنف والاستفزازات الطائفية، فكيف الحال وقد اكتشف أن بعضها لم يقاتل إلا تلبية لما تمليه مصادر تمويله، أو من أجل تحسين مواقعه ومغانمه، بينما بادر بعضها الآخر لعقد صفقات للنجاة عندما استشعر بالخسارة، تاركاً الناس لمصيرهم.

ما سبق يطرح أسئلة تشغل بال الجميع عن احتمال تكرار ما حصل في حلب؟ كيف سيتم الدفاع عن المناطق الخارجة عن سيطرة النظام؟ هل يفضي الإصرار على منطق السلاح وتغطية الجماعات المتطرفة إلى تمكين المسار الثوري أم العكس؟ وهل لا يزال بالإمكان الرهان على معارضة سياسية ونخب ثقافية مستعدة لتحمل مسؤولية نبذ العنف وإعادة بناء ثقة الناس بوحدتهم وبقدرتهم على دفع نضالاتهم بصورة رئيسة، نحو أطوار مدنية، طلباً لحريتهم وحقوقهم؟!.

رابعاً، الخلط بين الثورة التي نهضت كحاجة موضوعية لتغيير الواقع السوري جذرياً ونقضاً للاستبداد والوصاية والفساد ومسوغاتهم الإيديولوجية وبين ما آلت إليه الأمور، بما هو خلط بين ثورة السوريين لنيل حقوقهم وقد تعرضت طلائعها لمختلف وسائل الفتك والتنكيل، قتلاً وسجناً وتهجيراً، وبين ظواهر تغذت من المظالم الشعبية وساقت الصراع نحو أفق إسلاموي لا علاقة له بشعارات الحرية والكرامة، وتالياً التحسب من الانجراف نحو إدانة الثورة كفعل تاريخي مشروع لأن نتائجها لم تأتِ كما نرغب ونشتهي، بما هو تبرئة العنف السلطوي مما أحدثه قاصداً، وإعفاء الذات من مسؤوليتها كما الأدوار الإقليمية والعالمية التي حاصرت الثورة وشجعت على تشويهها.

«راجعين يا حلب» عبارة ملأت ما تبقى من جدران المدينة المنكوبة في مواجهة ما تروجه القوى المضادة بأن انتصارها العسكري نهائي وثابت وعنوان لتعزيز سلطانها… عبارة، تظهر عمق ما أحدثته سنوات الثورة من تحولات، وأن ما رسخ في النفوس والعقول كفيل بتجديد العزم وبلورة قوى للتغيير تسترد روح الثورة وتنفض ما يشوب دورها وآليات عملها من مثالب لتقارع تحديات الراهن السوري مهما اشتدت مصاعبه.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

 

بعد حلب.. هل من حل روسي؟/ سلامة كيلة

ظهر أن روسيا تنتقل بعد “تحرير” حلب (من سكانها) إلى طرح صيغةٍ للحل السياسي، ولقد توافقت عليها مع كل من إيران وتركيا. وهي صيغةٌ تقوم على الحوار بين النظام والمعارضة، بعيداً عن جنيف 1، وقرار مجلس الأمن رقم 2254. بالتالي، تفرض صيغتها التي تقوم على بقاء بشار الأسد، وتشكيل “حكومة وحدة وطنية”. وتعتبر أن الحرب على الإرهاب هي ما يفرض التحالف بين تلك الدول، على الرغم من أن كلاً منها يعرف أن الإرهاب المشار إليه هو من صنعها، حيث عملت الدول الثلاث على دعم “داعش” وجبهة النصرة بأشكال مختلفة، وعززت من دورها لإضعاف الثورة من جهة، ومن جهةٍ أخرى لاستغلال وجودها مبرراً لقصف الكتائب المسلحة والهجوم عليها. هذا ما فعلته روسيا بالضبط، حيث أنها لم تقصف لا “داعش” ولا “النصرة” (إلا بشكل استعراضي)، وركّزت قصفها وقتلها على الكتائب التي تتصف بطابع شعبي، والتي تمثّل القوى الشعبية التي ثارت ضد النظام من خلال التظاهرات السلمية، ثم اضطرت إلى حمل السلاح. وكان واضحاً أن ما تريده روسيا، مثل النظام، هو بالتحديد سحق قوى الثورة، وليس لا “داعش” ولا جبهة النصرة، ولا حتى المجموعات الأصولية الأخرى.

ما يخيف روسيا، بالتالي، هو روح الثورة التي كانت تتحسّس من وصولها إليها، مثلها هنا مثل كل الدول الإمبريالية، والنظم التابعة. وباتت تريد، كما يبدو، فرض الحل السياسي الذي يناسبها، بالضبط كما فعلت السعودية في اليمن، حينما أبقت علي عبدالله صالح في السلطة، وراوغت طويلاً قبل تنحيته من دون أن تسمح في تغيير في بنية الدولة. لكن ذلك كله لم يمنع انفجار الوضع من جديد. ولا شك في أن الحل الروسي كما يُطرح لن يمنع انفجار الوضع من جديد، على الرغم من وجود قواتها العسكرية (الجوية والبرية) في سورية.

ربما تستطيع روسيا الآن أن تقرّر حلاً، بعد أن ضمنت كل من إيران وتركيا، وهو ما يسمح بإخضاع القوى التابعة لكل منها، وبحصار القوى الرافضة، لكنها لا تستطيع تحقيق قبول الشعب، وبالتالي، القدرة على بناء جيشٍ يحمل الدولة التي باتت تُحمل على أرجلٍ من إيران وروسيا وأشتات العالم.

لكن، سيقود هذا التوافق بين هذه الدول إلى انكشاف المعارضة والكتائب المسلحة التي اعتمدت على الدول الأخرى، لأن التوافق بين هذه الدول الثلاث سوف يفرض قبول الدول الأخرى. فقد عملت روسيا على “تبليغ” أميركا بنتيجة الاتفاق، وسوف تفعل ذلك مع السعودية وقطر وأوروبا، وأظن أن كل هذه الدول سوف تدعم الصيغة التي جرى التوافق عليها. وسوف تعلن كلها “الحرب على الإرهاب”، على جثة الشعب السوري.

ما سيكمل “الصورة” هو الدور الذي ستلعبه جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً) في جرّ مجموعاتٍ سلفيةٍ، لكي تخضع لسيطرتها، وتأسيس إمارة سلفية في إدلب، تكون مدخلاً لتبرير “الحرب على الإرهاب”، على الرغم من أن “النصرة” هي أول من يُسمح لها بالخروج والحركة، كما حدث في حلب، حيث خرجت أولاً بهدوء على الرغم من أن كل الحرب على حلب جرت بذريعة تصفيتها. إنها المبرّر للحرب، لكنها لا تُحارب، لأنها “الطُعم” فقط، الطُعم الذي أوجده النظام، ويُستخدم للقتل والتدمير “من دون أن يُصاب بأذى”. ولهذا، سوف ينتهي دورها حال الوصول إلى حل، بعد أن تكون قد عاثت بالثورة، وخدمت كل سياسات النظام وروسيا، وإيران.

اللافت بعد الانسحاب من حلب أن جبهة النصرة تريد “توحيد” المجموعات السلفية تحت سيطرتها تحت مسمى توحيد “قوى الثورة”، على ضوء “الضغط الشعبي”، ما يعني تبرير قصف تلك القوى تحت حجة الاندماج بهذا التنظيم الذي يُصنّف إرهابياً. لكن ما يظهر واضحاً بالفعل أن المجموعات السلفية لا تستطيع سوى التقارب، لأن منطقها واحد، وهدفها واحد: “دولة إسلامية”. ولا شك في أن ذلك كان جزءاً من “خراب” الثورة. الثورة التي لن تنتهي، على الرغم من كل ما حدث. كيف؟ سنجيب على ذلك.

العربي الجديد

 

 

 

حلب/ إبراهيم حاج عبدي

لا تتوقف الصور الآتية من حلب عن الشاشات، ولا تغيب «الأخبار العاجلة» التي تروي محنة مدينة، ولا تهدأ التصريحات الصادرة عن عواصم القرار.

مشاهد، لا تحصى، تستحضر مآسيَ كثيرة حصلت في التاريخ. لكن، هذه المرة، وفي حلب، هي «قصة موت معلن»، بتعبير ماركيز، فالجثث ملقاة في الشوارع، والذعر يسيطر على الفارين من حصار حلب الشرقية، وأزيز الرصاص يكمل المشهد الصادم عن بشر يخرجون من عمق الأحياء الفقيرة نحو مجهول أكثر هولاً.

الحافلات الخضراء، التي فرح بها السوريون عند وصول أولى دفعاتها إلى البلاد، قبل سنوات، للخدمة في النقل الداخلي العام، باتت رمزاً لتوابيت متنقلة في عرف قسم من السوريين، بينما غدت، هي ذاتها، مَعْلَماً للانتصار. على هذا النحو المؤلم والحاد، انقسم السوريون على جانبي الحافلة الخضراء، فثمة من يرى فيها نهاية لـ «حقبة سوداء»، وآخرون يرون فيها مؤشراً إلى استمرار «الاستبداد».

في الطرق التي تسير فيها تلك الحافلات، نرى مشاهد من حلب: بيوت مدمرة بفعل القصف، مآذن محطمة، مدارس مهجورة، شوارع غارقة في السواد، جدران كتبت عليها عبارات الحرب والحب، وقلوب محطمة تغادر وطأة الحصار وهي تنشد مع بدر شاكر السياب المقطع الاستهلالي من قصيدته «المومس العمياء»: الليل يطبق مرة أخرى، فتشربه المدينة/ والعابرون، إلى القرارة… مثل أغنية حزينه./ وتفتحت كأزاهر الدفلى، مصابيح الطريق،/ كعيون «ميدوزا»، تحجر كل قلب بالضغينه…».

لا شيء يعكر صفو هذا «الألم الصريح» الذي يسيل دماً في الأزقة والشوارع المهجورة، سوى صيحات «المعارضين الأشاوس» الذين يظهرون على الشاشات بكامل الأناقة، فيما تتلألأ من خلفهم أنوار برج إيفل، أو تلمع قبة الكونغرس، أو نهر التايمز وهو يتهادى مرحاً وسط لندن… إنه ذلك «المونتاج الرديء» الذي يجريه المشاهد، في شكل عفوي، بين طفلة، دامعة العينين، تسير «مكسورة الجناح» خلف الحشود، وعلى كتفها حسابها المكشوف المتمثل في «بقجة» مهترئة، وبين أولئك «الأباطرة المعارضون» الذين يظهرون على الشاشات، مدافعين عن حلب، بينما تتراكم حساباتهم المصرفية في أرصدة سرية.

بين هذين المشهدين، الفاقعين في التناقض، تخرج صورة الجنرال الإيراني قاسم سليماني وهو يتجول، مزهواً، في حلب، فيحق للمرء، حينئذ، أن يسأل بنوع من الشعبوية: ماذا يفعل هذا الفارسي على أطلال مدينة هجر سكانها؟ ولماذا ظهر في هذا «التوقيت القاتل» الذي لا يمكن تفسيره إلا بوصفه «شماتة» بآلام الراحلين!

مهما أمعن المشاهد في الصور الآتية من حلب، لن يعثر على ما يمكن أن يترجم بيت المتنبي: «كُلّمَا رَحّبَتْ بنا الرّوْضُ قُلْنَا/ حَلَب قَصْدُنَا وَأنْتِ السّبيلُ»، فها هم أهل حلب يفرون من «الجحيم»، وهم سيرحبون بأول موطئ قدم يؤمن لهم الأمان، فما بالك إذا كان المكان هو «الروض» الذي لم يأبه بها المتنبي، في زمن مضى، طالما كان قصده «حلب الشهباء».

الحياة

 

 

 

خسارة المعارضة في حلب بين النكسة والهزيمة/ سميرة المسالمة

هل تحوّل المعارضة السورية بكياناتها السائدة، على الساحتين السياسية والعسكرية، هزيمة حلب إلى نكسة أخرى، على غرار ما فعل نظام الأسد بتصويره هزيمة حزيران (يونيو) ١٩٦٧ على أنها مجرد نكسة؟ وهل تتنصّل المعارضة من مسؤوليتها عن هذه الهزيمة بتخفيف وقعها، أو بتجاهل تداعياتها الخطيرة، باعتبارها مجرد أمر عابر، من دون الإقدام على أية مراجعة نقدية لإدارتها للصراع مع النظام؟ ثم هل تستعيد المعارضة دورها ذاته، بتكييف أحوالها مع ما جرى، على أساس أن المعركة كانت تستهدف وجودها كمعارضة، معتقدة أن النظام وحلفاءه فشلوا في إلغاء هذا الوجود، وأنها قادرة على الاستمرار، بالأدوات والخطابات وأشكال العمل ذاتها، تماماً كما فعل النظام بعد تلك الهزيمة الحزيرانية القاسية التي ما زالت تداعياتها الخطيرة ماثلة حتى اليوم؟

‎من البديهي أن أسئلة كثيرة، صعبة ومؤلمة، تطرح نفسها وتنتظر من المعارضة الإجابة عنها، بصدق ونزاهة، بدلاً من إمعانها في المكابرة وانكار الوقائع والتهرب من المسؤولية، التي تأخذها نحو التوغل أكثر وأكثر في أخطائها، معركة إثر معركة، وهنا لا أقصد فقط المعارك في الميادين العسكرية بل حتى في الميادين السياسية.

‎لعل من المفيد بداية التوضيح ما المقصود بالهزيمة، حتى لا يتسرع بعضهم عن نية طيبة أو غير ذلك ليلقي التهم جزافاً، باتهامنا بالترويج للإحباط، والفتّ من عضد الأمة، وحتى لا يتبرع البعض بالمزايدة، إذ لا يمكن إنكار أن ما حدث هو هزيمة، لكن هذا لا يعني أن روح الثورة هزمت، أو أن إرادة الحرية كسرت، أو أن مشروعية الثورة تلاشت، إذ إن الهزيمة حصلت للخطابات الفئوية والطائفية والأيديولوجية التي سادت، ولأشكال العمل المزاجية والدكاكينية والفوضوية، وللارتهان لأجندات وإملاءات هذه الدولة او تلك. وهذا الاعتراف ليس من شأنه أن يقلل من جريمة النظام بحق الشعب السوري، والمقتلة الكبرى التي جرت في حلب، بسلاح مشترك للأنظمة الاستبدادية المجرمة في سورية وروسيا وإيران، لكنه في الآن نفسه يضعنا والعالم أمام مسؤولية ما حدث، على صعد مختلفة. وبديهي أن هذا يشمل النظام العالمي الذي استكان لإرادة روسيا الوحشية تجاه القضية السورية، ويشمل تخلي الولايات المتحدة عن دورها كدولة عظمى، لا سيما مع تراجعها عن مساندة الثورة السورية التي منحتها مراراً وتكراراً صفة الشرعية، وكما يشمل ذلك تمظهر مساحة واسعة من تقاطع المصالح والأولويات بين روسيا وتركيا وبين روسيا وإيران.

مقابل هذا التشخيص للأسباب الدولية التي أدت إلى الانهيار، ثمة اعتراف آخر يخصنا كمعارضة لا بد من مواجهة أنفسنا به، وهو أن هذه الهزيمة ليست يتيمة حيث هناك مسؤولون عنها، في الكيانات السياسية والعسكرية والمدنية، وأن متطلبات الوطنية والنزاهة والوفاء لتضحيات شعبنا تقتضي من المعنيين الاعتراف بالمسؤولية عما حصل، والخضوع للمساءلة والنقد والمحاسبة. وهو أقل ما يمكن القيام به ككيانات ثورية تدرك مآلات هذه الخسارة، وتعمل بمنطق المصلحة العامة ومن ضمنها سلامة مسار الثورة، والحفاظ على ما أنطلقت من أجله أي تحقيق الحرية والكرامة والديموقراطية والمواطنة للسوريين جميعاً.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الاعتراف بالهزيمة ليس مطلوباً في ذاته فقط، وإنما هو مطلوب من أجل تصحيح المسار، من أجل المستقبل، من أجل الوفاء لتضحيات وعذابات السوريين.

‎وعليه يفترض الاعتراف، أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا، بأن الثورة السورية بالشكل الذي سارت عليه خلال السنوات الماضية، بما لها وما عليها، وبالقوى التي تصدرتها، سياسياً وعسكرياً، بنمط تفكيرها وطريقة عملها وبحكم هشاشة وتشرذم كياناتها، آلت الى حدود الفشل، وأوصلتنا كسوريين الى طريق شبه مسدود، وفاقمت من عزلة الثورة عن شعبها، ولم تمكنّا من تعزيز صدقية وأحقية ثورتنا في العالم، وربما كان خطابنا الذي انتهجناه خلال السنوات الماضية والذي تماهى مع خطابات طائفية حيناً، وقومية حيناً آخر، وايديولوجية اقصائية في أحيان أخرى، مبتعداً عن خطاب الثورة الأساسي الذي نادى بالحرية والمساواة والكرامة والمواطنة، ولعب دوراً كبيراً في ذلك. بل إن هذه الخطابات المتخلفة، التي تتغطى بالدين، او تستغله بطريقة غير سليمة، ساهمت في تمرير مشاريع لا تنتمي الى «الوطنية» السورية، وهو ما تجلت معالمه في مناطق أطلق عليها «محررة» لتكون عيّنة لا يمكن القبول بها دولياً وشعبياً (مظاهرات إدلب ودرعا ضد «النصرة» مثالاً) كي تحل بديلاً من نظام قدم نفسه الى العالم بثوب «علماني» مزيف نفّذ من تحت ثناياه كل أنواع الاضطهاد والإقصاء والإرهاب. وكان يمكن لخطاب سياسي يثبت على الثوابت، أن يوجه بوصلة العمل الوطني سياسياً أو عسكرياً، لكن هذا الخطاب تلاشى بفعل فاعل، لا يمكن أن يبقى كل الوقت مجهولاً، وغير معرف به، إلا إذا كانت النخبة السياسية ما زالت تراهن على مزيد من الخسائر التي يدفع ثمنها شعب عظيم بإصراره على الحرية من نظام توغل بالقتل ومن بديل لم يقدم له إلا النموذج الفاشل ادارة وتشريعاً وممارسة.

على ذلك لا يمكن التعامل مع معركة حلب على أنها مجرد نكسة، والأخطر اعتبار أن معارضتنا، بالشكل الذي سارت عليه، انتصرت ببقائها. على المعارضة أن تجري مكاشفة في شكل علني وجماهيري، تتحمل بها وزر ما حدث، وتعلن قطيعة مع تلك المسيرة السابقة، برموزها وكياناتها وطرق عملها، والبحث عن طريق جديد، يتأسس على الاستفادة من التجربة الماضية، والبناء على نقطة ارتكاز أساسية هي حق الشعب السوري باستمرار ثورته حتى تحقيق هدفه الذي خرج إليه ألا وهو إقامة الدولة المدنية الديموقراطية أي دولة المواطنين الأحرار والمتساوين.

هزيمتنا في معركة حلب لا تعني انتصار قاتل السوريين بل على العكس تماماً هي فقط تمثل زيادة في جرائمه وفي عدد ضحاياه، وتجعل من خسارته على ما هو قادم ربما، من تفاهمات دولية قد تودي به إلى نهاية، لم يكن يتوقعها، وهو يوزع شكره هنا وهناك على من سانده في قتلنا وتدميرنا بشراً وحجارة.

هزمنا ولم ينتصر، وستبقى ثورة الحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، تلك هي المعادلة السورية التي ستبقى مع الشعب السوري وفي كل الحسابات السياسية الدولية.

* كاتبة وإعلامية سورية

الحياة

 

 

 

 

حلب: ذكريات الماضي وافتراضات للمستقبل/ عبدالباسط سيدا

كنت في الثامنة حين زرت حلب للمرة الأولى بصحبة المرحوم والدي، وذلك في النصف الأول من الستينات. وما أذكره من تلك الزيارة أمران اثنان: الأول، «الحرس القومي» الذي أرعب الطفل الذي كنتُه عند حاجزه في مدخل المدينة، وذلك حين هاجم سيارة لم تأتمر بأوامره، وتعامل بفظاظة وحشية مع ركّابها. أما الثاني، فهو التلفاز الذي شاهدته للمرة الأولى.

وتطورت العلاقة مع حلب في المرحلة الجامعية. هذا على رغم أن دراساتي الجامعية كلها كانت في دمشق، لكنني كنت أمارس إلى جانب الدراسة العمل السياسي السري ضمن حزب كردي. وكان موقعي الحزبي يلزمني بالسفر المستمر إلى كوباني/عين العرب، وكان عليّ أن أسافر إلى حلب أولاً، ومن هناك إلى كوباني، بعد أن كنا نقطع الفرات على متن عبّارة، وفي ما بعد كنا نجتاز الفرات عبر الجسر الحربي في جرابلس، وذلك قبل فتح الخط الدولي عبر قره قوزاق.

وفي ما بعد أصبحتُ مسوؤلاً للمنظمة الخاصة بأعضاء حزبنا في جامعة حلب، الأمر الذي مكّنني من رؤية المدينة بعيون أخرى، وكانت لي لقاءات وصداقات مع بعض مثقفي المدينة.

ومع بداية دراستي الماجستير بإشراف استاذي الراحل الدكتور صادق جلال العظم، في ربيع 1979، التحقت بالجيش لأداء الخدمة الإلزامية، وتم فرزي كطالب ضابط مجند إلى مدرسة المشاة في المسلمية التابعة لحلب.

وخلال الدورة بنيت الصداقات مع الكثيرين من أبناء المحافظات الأخرى، بخاصة أبناء محافظة حلب، ممن كانوا يتدربون معنا. كما أن الزيارات التي كنا نقوم بها إلى حلب وكوباني وريف إدلب في الإجازات، كانت تساعدنا على اللقاء بالمواطنين، والتعرف إلى مجتمع المنطقة وواقعها من مختلف النواحي.

وأثناء وجودنا في مدرسة المشاة كانت مجزرة كلية المدفعية التي دبّرها النقيب ابراهيم اليوسف، وراح ضحيتها العشرات من طلاب الضباط المتطوعين. وقد سمعنا في ذلك الحين أن غالبيتهم كانوا من الطائفة العلوية، ما وضع البلاد أمام نقطة تحوّل غير مسبوقة.

ووجّه النظام التهمة بصورة مباشرة إلى جماعة الإخوان المسلمين التي تحوّل اسمها في إعلامه إلى «خوّان المسلمين». وما سمعناه في ذلك الحين أن تهديدات على أعلى المستويات وُجهت إلى أعيان حلب تجاراً ورجال دين، تنذرهم بأن أية مناهضة للنظام ستكون عاقبتها تدمير المدينة نهائياً. وما تناقله بعض الإخوة من زملائنا الحلبيين في ذلك الحين، كان ملخصه أن أبشع التهديدات جاء على لسان زهير مشارقة، ابن حلب، الذي قال وفق رواية الناقل: «سنقطع أية يد تمتد إلى الحزب (حزب البعث) حتى لو كانت يد الله». ويبدو أن مفتي السلطان، أحمد حسون، ابن حلب هو الآخر، يؤدي راهناً الدور ذاته، وإن بعبارات أخرى.

وتطوّرت الأحداث، وكانت مجزرة حماة في 1982، وكانت تفجيرات الباصات المتوجهة إلى المنطقة الساحلية، وكذلك تفجير قطار حلب- اللاذقية، وواجهت البلاد شبح الاقتتال الطائفي المقيت. ونجح النظام في إلصاق تهمة الإرهاب بجماعة الإخوان المسلمين، وتمكّن من شيطنتها بعد أن كان قد اصدر القانون 49، القاضي بإعدام كل منتسب إلى الجماعة.

وتجددت علاقتي بحلب في مرحلة الدكتوراه. فقد كان موضوع أطروحتي «من الوعي الأسطوري إلى بدايات التفكير الفلسفي النظري: بلاد ما بين النهرين تحديداً»، بإشراف استاذي الدكتور طيب تيزيني، يلزمني بالبحث عن المصادر والمراجع الخاصة بالموضوع في أي مكان، في دمشق وبيروت وحلب وغيرها. ووجدت في مكتبة المتحف الوطني في حلب، وكذلك في مكتبتها الوطنية، مصادر قيّمة استفدت منها، كما استفدت من معارف العديد من مثقفي المدينة، وشاركت في غير مؤتمر من مؤتمرات تاريخ العلوم عند العرب السنوية، تحت إشراف معهد التراث العربي العلمي في حلب.

وفي مرحلة ما بعد حماة، همّش حافظ الأسد حلب، وركّز على دمشق بهدف إحداث شرخ في المجتمع المديني السوري الذي يقوم أصلاً على المدينتين الرئيستين، وكانت أداته في ذلك المصالح الاقتصادية ونسج العلاقات بين أهل السلطة ورجال الأعمال الدمشقيين، بخاصة منهم حديثي النعمة، وكذلك قسم من رجال الدين الذين تجسّدت وظيفتهم في إبعاد شبهة الطائفية عن النظام، شأنهم في ذلك شأن أحزاب الجبهة «الوطنية التقدمية»، بما في ذلك الحزب الشيوعي بجناحيه البكداشي والفيصلي.

وظلّت حلب مهملة إلى حين توريث بشار. فكان الانفتاح اللافت على تجارها وصناعييها، بالتوازي مع تطوير العلاقات مع تركيا في عهد «حزب العدالة والتنمية»، وكل ذلك شكل بداية لافتة، كان من شأنها، وبالتكامل مع خطوات أخرى، إعادة قسط من التوازن إلى المجتمع السوري، بعيداً من الضبط الأمني القمعي الذي لم يكن سوى مجرد استقرار خادع طالما تغنّى به النظام.

لكن الأمور سرعان ما عادت إلى مداراتها المرسومة وفق حسابات مصالح الزمرة الحاكمة – المالكة. واصطدمت كل محاولات الإصلاح بحائط مسدود.

ومع الثورة، أصبحت حلب، بحكم ثقلها السكاني، ومكانتها الحضارية – الاقتصادية، ودورها الفاعل، ركيزة أساسية في الجهد العسكري المناهض للثورة، وكان ما كان.

لكن المرحلة تستوجب اليوم المراجعة النقدية المتأنية والموضوعية، البعيدة من الانفعال والتهرّب من المسؤولية. فنحن أمام مرحلة جديدة تستوجب نمطاً جديداً من التفكير، وقواعد أخرى للعمل.

* كاتب وسياسي سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى