صفحات مميزة

عن مأساة حلب –مقالات مختارة لكتاب عرب وأجانب-

ثقافة” الانتصار في حلب وعليها/ حازم صاغية

لم يتقدّم القتل في حلب مجرّداً من «ثقافته». سبقته ورافقته «أفكار» سُلّحت بها جماهير القتل وروّجها موظّفوه وأعيان كلامه.

أبسط تعابير تلك «الثقافة» وأكثرها ابتذالاً عنوانان راجا: مكافحة الإرهاب وصدّ المؤامرة. هذان، كما نعلم جيّداً، من حواضر بيت الكلام الرخيص، تحفل بمثله سجلاّت أنظمة الزنازين والأقبية. ما هو أعقد، وإن كان أقلّ كتابةً وأشدّ تداولاً شفويّاً، أنّ الحلبيّين الذين قُتلوا ويُقتلون ليسوا حلبيّين: إنّهم غير أصليّين، وافدون من الأرياف، أميّون، فقراء، أجلاف وذوو أقدام مشقّقة كأنّها نِعال من لحم. المواصفات «الحضاريّة» التي نسبها النظام وحلفاؤه إلى «السوريّة» لا تنطبق عليهم. إنّهم عبء عليها وزائدة بلا لزوم.

هذا هو الشكل الأسديّ لنزع الأنسنة عن بشر ينبغي أن يختفوا، أو أن يُقتلعوا ويُعاد زرعهم بما يسهّل السيطرة على أنيابهم. بهذا فقط يُسدون خدمة للحضارة يكفّرون بها عن ذنب ولادتهم المستنكَرة.

ونعرف، من تجارب كثيرة سابقة، كيف يمهّد نزعُ الأنسنة لقتل البشر. فالأمور حين تُقدَّم على هذا النحو، مبنيّةً ضمناً على تشاوف طبقيّ وتمايز طائفيّ، تجفّف الحساسيّة المفترضة حيال طفل يُقصف من الجوّ وسيّدة تُغتصب في بيتها وعجوز يُداس بجنازير الدبّابات.

ذاك أنّ المشاعر الرفيعة التي يختصّ بها البشر ينبغي عدم تبديدها على مَن ليسوا بشراً. إنّها ممّا ينبغي الاحتفاظ به لمن هم مثلنا، للضالعين في الحضارة والموغلين في التقدّم.

لكنّ أولئك الذين لا أصول لهم، ليسوا فقط مطرودين من الواقع. إنّهم أيضاً مطرودون من التاريخ إلى زمن عبوديّ بائد يقفز من فوق الأرشيف إلى الأركيولوجيا. نقهرهم ونتفرّج عليهم ونتلذّذ بمرأى الآلات تقضم لحمهم، إذ الأمر لا يعدو كونه مصارعة مُسلّية ومحسومة النتيجة سلفاً بين وحوش جميلة وصامتة تنفّذ أوامرنا ووحوش كلّيّة التوحّش امتلأت أجسادها بدم متّسخ.

ونزع الأنسنة هذا ينسجم كلّ الانسجام مع تسليم النظام المستولي على دمشق بأن يتولّى روس وإيرانيّون ولبنانيّون وعراقيّون قتل سوريّين. فما دام الأخيرون منزوعي الإنسانيّة، حشراتٍ أو بهائم، فليقتلهم أيٌّ كان، لا سيّما وأنّ هذا الـ «أيّاً كان» شريك «حضاريّ» للنظام وقاعدته الوفيّة. هكذا، مثلاً، يُستضاف السيّد قاسم سليماني كي يُشرف بنفسه على سلخ جلودهم المتقرّحة والمجذومة.

ولأنّهم منزوعو الإنسانيّة، ولأنّهم جنس آخر خطير على الجنس البشريّ السويّ، صار غضّ النظر عن انتهاكات إسرائيل وإهاناتها لنظام دمشق أمراً طبيعيّاً أيضاً. ففي مواجهة الحشرات والبهائم، لا يعود مهمّاً ولا مُلحّاً أن يُهيننا مَن هم مثلنا. هذا عَرَض داخل الجنس الواحد، داخل العائلة الواحدة، بالقياس إلى الجوهريّ الذي يفصلنا عنهم.

وبالمعنى نفسه، وكمجرّد تفصيل عديم الأهميّة، لا يستوقفنا بتاتاً أن يكون فلاديمير بوتين، منقذُنا من الحشرات والبهائم، الحليفَ الكبير لبنيامين نتانياهو، أو أن يكون دونالد ترامب، «اليمينيّ» كما يقول جراميزنا «اليساريّون»، شريكاً طبيعيّاً في مكافحة الإرهاب. المهمّ تمتين التحالفات التي تضمن منع الوحشيّ والبهيميّ من أن ينتفض ويتمرّد.

وهم، في آخر المطاف، مجرّد موضوع لنا، ننقلهم إلى مناطق أخرى، ونجعلهم عرضة للتحويل الديموغرافيّ والهندسة الاجتماعيّة… وكم نستحقّ الشكر على معالجتهم بالجراحة بدل الإماتة الفوريّة التي عولج بها سابقون لهم؟

وهذا سلوك لا يقتصر بالطبع على النظام المستولي على دمشق… إلاّ أنّ الأخير صاحب طريقة في هذا السلوك. إنّه مثال وقدوة. إنّه أحد الآباء المؤسّسين. وهو، في الحساب الأخير، «دولة» يُفترض بأفعالها أن تتعالى قليلاً إلاّ أنّها، ومن غير انقطاع، تنحطّ كثيراً.

والحال أنّ مُوقّع هذه الأسطر ليس من المولعين بالهزيمة، ولا من الكارهين للانتصار. لكنّ الشيء الوحيد المؤكّد أنّ الهزيمة تبقى أرقى وأنبل من انتصار تحفّ به «ثقافة» كهذه ويجسّده سلوك كهذا.

الحياة

 

 

 

أخلاق الفرجة/ حسام عيتاني

لم تكن قليلة المشاهد الآتية من حلب. غصت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بمقاطع فيديو وصور وشهادات من أرض المذبحة – المعركة بما يكفي لتوثيق كل يوم بيومه وكل غارة أو برميل متفجر وكل قتيل أو جريح. لكن رد فعل المتلقين لم يزد عن تظاهرات استنكار قليلة وعبارات أسف او شماتة.

غيبت معركة حلب، بهذا المعنى، مقولة الأثر الذي تتركه التغطيات الإعلامية على الجمهور فينقله بدوره إلى السياسيين. تبدو الجدالات حول تغطية حرب فيتنام وردود الفعل الغاضبة في العالم وفي الولايات المتحدة والإجراءات التي اتخذتها القوات الأميركية اثناء غزو العراق للحيلولة دون تكرار ما جرى بسبب نقل وقائع حروب الهند الصينية الى المشاهدين، وكأنها تنتمي الى عالم آخر.

في حلب، لم يتحرك «المشاهد» المتخم بالصور الفظيعة. لم يعن بث الصور ورسائل الاستنجاد والحضّ على رفع الحصار ووقف قتل المدنيين اي شيء لا للسياسيين الذين تحركهم مصالح وجداول اعمال، ولا «للمواطن» – الكائن السياسي الحامل قيم حقوق الإنسان والديموقراطية والحرية المفترضة – في الغرب. أعلن ذلك، «الذوبان الكامل للإنسانية» وفق كلمات مراسل غربي في حلب. والأهم انه اعلن عن الأزمة الخانقة التي تمر بها الحداثة بصيغتها الليبرالية الديموقراطية في الغرب وفي العالم.

يضاف الى ذلك صعود نوع جديد من الأخلاق في التعامل مع الآخر. أخلاق الفرجة اذا جاز القول. تقوم هذه على فصل كامل بين ما تحمله الصور ومقاطع الفيديو وبين المتلقي الذي لا تعنيه الصورة في شيء. انتهى عصر التفاعل وبدأ زمن الفرجة السلبية.

ربما أدت المشهديات الضخمة في افلام الحركة وفي ألعاب الفيديو الإلكترونية الحافلة كلها بمناظر الموت والقتل والدمار والتي يقيم المشاهد بينه وبينها حاجزاً لعزل اثرها النفسي فيه وتحييد قوتها باعتبارها مجرد خيال وتمثيل وألعاب رقمية، الى انزياح هذا الفصل العميق بين الواقع وبين الخيال الى تبلد الشعور وغياب رد الفعل الإنساني بالتضامن مع من تقع عليه اعمال عنف وتوحش. وربما، بالعكس، ذهبنا بعيداً في دمج الواقع بالخيال الى الحد الذي اتحدت فيه استجابتنا او عدم استجابتنا بالأحرى، لما نراه فلم نعد نميز بين قتلى حلب وأطفالها وبين صور الجثث والدماء في ألعاب الفيديو وأفلام الحركة.

ثمة تجارب ميدانية عن اهمال الناس لطفل ضائع يطلب المساعدة من المارة في شارع مدينة كبيرة. يسير الكثر قربه من دون التفات او اهتمام، الى ان يظهر شرطي او فاعل خير (او شر في احيان كثيرة) وينجد الطفل. في عالمنا الواقعي، تقاعد الشرطي وانسحب ولم يبق غير المعتدين على الأطفال وشذاذ الآفاق يقتربون من اطفال حلب الضائعين. فيما يتذرع المارة غير المبالين بالانشغالات اليومية وهموم الحياة الثقيلة وعدم الرغبة في التورط في مسألة الطفل الضائع. انها، مرة جديدة، اخلاق الفرجة. اخلاق المنسحبين من اية مسؤولية عامة بحجة عبء المسؤوليات الخاصة بعدما غابت عن بصائرهم اي صلة بين الخاص وبين العام.

لم يترك العالم حلب تسقط في هذه المأساة الرهيبة بسبب نقص في الوسائل وحسابات المصالح السياسية المتناقضة والخشية من الخسائر المادية والبشرية فحسب، بل تركها ايضاً لانعدام المعنى في اي شيء يعرض عليه بعدما تعرضت القيم التأسيسية التي قامت عليها المؤسسات التي توحد البشر الى ضربات قاضية. وها هم وحوش من اشباه البشر يملون علينا ألا نهتم بغير شؤوننا الخاصة وترك العالم تحت رحمة أنيابهم ومخالبهم.

الحياة

 

 

 

أوهام ما قبل حلب وما بعدها/ ماجد كيالي

ما كان من المنتظر توقّع صمود فصائل المعارضة المسلّحة في حلب، بل إن هذه الفصائل، وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع خطاباتها وأشكال عملها، بقيت أكثر مما يجب، بغضّ النظر عن ادّعاءاتها المضرّة، التي تصدر عن عقلية قدرية أو رغبوية، سيما بخصوص ما سمته «ملحمة حلب»، أو وعدها بقرب «تحرير» المدينة من النظام، إذ لا يمكن لفصائل، محدودة العدد والعدة والتفكير، مواجهة ميلشيات «الحرس الثوري» الإيرانية والعراقية واللبنانية والأفغانية والباكستانية إضافة إلى قوات النظام على الأرض، مع هيمنة القوات الروسية على الجو، التي استخدمت ضد تلك الفصائل أساطيلها البحرية والجوية وقدراتها الصاروخية، وحتى قوات الوحدات الخاصة الروسية (وفق تقرير لـ «وول ستريت جورنال» الأميركية في 16 الشهر الجاري).

وفي الواقع فقد قاتلت هذه الفصائل أكثر من أربعة أعوام في ظل الحصار والقصف الجوي، في ظروف صعبة ومعقدة، بل صمدت أكثر من 13 شهراً على دخول القوات الروسية، وفي شكل وحشي ومدمر، على خط الصراع السوري، والذي احتلت فيه معركة حلب موقع الصدارة.

لعل هذه المحددات تبيّن هشاشة «الانتصار» المتحقّق على بضعة آلاف من المقاتلين، فأي نصر هذا الذي أحرزه طرف يعتبر نفسه بمثابة دولة عظمى (روسيا) على هؤلاء المقاتلين؟ وأي نصر هذا الذي تدعيه دولة تعتقد بأنها باتت تهيمن على المشرق العربي (إيران) في حين أنها لم تستطع إنجاز ذلك من دون مساعدة روسية؟ وأي نصر حققه النظام الذي لم ينتصر إلا على خراب مدينة حلب وتشريد معظم أهلها (كما حصل في مناطق سابقة) في حين لم يعد يملك من أمره ولا من أمر بلده وشعبه شيئاً، بعد أن أضحت الكلمة الأولى لروسيا، وبعدها لإيران؟

على الجانب الأخر فقد أثار سقوط هذه المدينة، العاصمة الثانية لسورية، والمعقل الأساسي لفصائلها المسلحة، في أوساط المعارضة السورية والمتعاطفين معها، نظرتين متناقضتين: الأولى، انطوت على غلبة مشاعر الإحباط والندب ولوم الذات والعالم، وكأن الثورة انتهت، أو كأن قدر الثورات الحتمي أن تنتصر، علماً أن التاريخ لا يشتغل على هذا النحو، إذ إن الثورات، وفق التجارب التاريخية، يمكن أن تنهزم أو أن تنحرف أو أن تدخل في مساومات على بعض أهدافها، هذا على رغم كلفتها الباهظة ولا سيما إذا غلب عليها طابع الصراع المسلح. أما الثانية فقد انطوت على غلبة مشاعر الإنكار والمكابرة، كأن ما جرى شيء عابر أو ثانوي، ويمكن المرور عليه، مثلما حدث سابقاً في مناطق أخرى طوال مسيرة الثورة السورية! وفي حين ترتكز الأولى على جلد الذات والانكفاء والاستسلام لليأس والقنوط، فإن الثانية ترتكز على التهرب من تحمل المسؤولية، ورفض المراجعة التي تنطوي على عمليات النقد والمساءلة والمحاسبة.

المعنى أن وجهتي النظر السابقتين خاطئتان ومضرتان، حيث الأجدى النظر إلى التطورات الحاصلة بطريقة مسؤولة، موضوعية ونقدية، لا سيما لجهة الاعتراف بأن ما حصل في حلب، وما قبلها، هو دلالة على انهيار التصورات أو الأوهام التي تحكّمت بمسيرة الثورة السورية، بخطاباتها، وبناها، وطرق عملها، ونمط علاقاتها مع شعبها أو مع العالم، من دون أن يعني ذلك الاستنتاج بانهيار ثورة السوريين تماماً، أو النيل من مشروعيتها.

أولى هذه الأوهام تتعلّق بسقوط وهم العسكرة، بالشكل الذي تمظهرت عليه في المشهد السوري، بواقع تشرذم الفصائل المسلحة وتعدد مرجعياتها، وتحكم الخلافات الضيقة فيها، وانشغال كل فصيل بتنمية نفوذه على حساب غيره، والحديث يجري عن عشرات الفصائل، وهو أمر لا يمكن النظر إليه بطريقة بريئة، إذ يأتي ذلك ضمن التلاعبات الخارجية بالثورة، لإضعافها، وللتحكم بها. كما يتمثل ذلك بمحاولة هذه الفصائل التغطّي بأيدلوجية معينة (دينية وطائفية) في حين أنها في الحقيقة تفتقر إلى أي عمق فكري أو سياسي، فضلاً عن أنها ليست منبثقة من أي مكون من التيارات الإسلامية المعروفة في سورية، وهذا الغطاء كان نتاجاً للتدخلات أو للاشتراطات الخارجية، لدعم هذا الفصيل أو ذاك، مع علمنا بعزوف هؤلاء الداعمين عن تقديم أي عون لـ «الجيش الحر»، الذي أزيح تماماً، وبإرادة مقصودة، عن المشهد. كما يشمل ذلك إخفاق الإستراتيجية التي بني عليها حصر الصراع السوري بالعمل المسلح، والتي تقوم أساساً على «تحرير» مناطق والسيطرة عليها، من دون إدراك أن هذه الإستراتيجية تحرّر النظام من عبء السيطرة على مناطق كثيفة السكان، وتجعله يقتصد بتوزيع قواته على المناطق الأكثر أهمية له، بدل نشرها هنا وهناك، ناهيك بأن هذا الأمر يجعل «المناطق المحرّرة» بمثابة حقل رماية للبراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية والقنابل الارتجاجية. وبديهي أن كل ذلك يؤدي إلى أخطر من ذلك وهو تشريد أهالي تلك المناطق، وتالياً إخراج الشعب من معادلات الصراع مع النظام، وهو ما حصل، أي أن هذه الإستراتيجية أضرّت بالثورة وأضرّت بمجتمع السوريين، من دون أن يكون بمقدور الفصائل العسكرية تأمين الحماية لتلك المناطق، ولا حتى فرض إدارتها عليها كنموذج لسلطة بديلة للنظام.

ثاني هذه الأوهام يتعلق بالارتهان إلى الخارج، إذ إن الذهاب نحو تصعيد العمل العسكري، وحصر الثورة فيه، تم بطريقة متسرعة وغير مدروسة وغير تدرجية، وقام على فكرة خاطئة ومتسرعة تقول بإمكان التدخل الخارجي، سواء بتوجيه ضربات للنظام أو عبر تقديم الدعم للمعارضة كما بإقامة مناطق حظر جوي أو مناطق آمنة، ولكن هذا الرهان فشل سيما منذ صفقة تصفية الكيماوي مع روسيا (أواخر 2013). والمشكلة هنا أن المعارضة، وعوض استنتاج العبر الصحيحة والمناسبة، لم تبال تماماً بهذا التطور وواصلت الطريق نفسه، بدلاً من التحسّب من التصعيد العسكري وحصر الصراع بالعمل المسلح، وسط تشجيعات من الخارج، وبحكم غياب مركز قيادي أو مؤسسة قيادية في الثورة. ولعل هذا يسمح بالقول إن الدفع نحو العمل المسلح ربما هو أكثر مجال جرى التلاعب به في الثورة السورية، بدليل أن معظم الدول «الصديقة» تركت حلب لمصيرها، كما تركت غيرها من قبل، من دون أن تدرك الفصائل ما يجري، إذا كانت تريد أن تدركه حقاً، بحكم ارتهانها لهذه الدولة أو تلك.

وكما بات معلوماً، فإن الولايات المتحدة لم تسمح بمد الفصائل العسكرية بالسلاح النوعي، لا سيما المضاد للطيران، في حين أنها سكتت عن تدخل إيران عسكرياً لمصلحة النظام، ومعها ميليشياتها العراقية واللبنانية والأفغانية، كما عن تدخل روسيا بأساطيلها البحرية والجوية ضد الثورة السورية. ولعل كل ذلك يطرح السؤال عن مدى صدقية التعامل الأميركي مع الثورة، إذ ثمة وجهات نظر تفيد بأن إستراتيجية الولايات المتحدة تقوم على انتهاج خطة تتأسس على ديمومة الصراع السوري، وجعل سورية ساحة صراع لاستنزاف روسيا وإيران وتركيا وغيرها من الدول العربية، وبما يؤدي إلى إضعاف المبنى الدولتي والمجتمعي في المشرق العربي، ما يخدم أمن إسرائيل لعقود. وكان المحلل الأميركي ريتشارد لوتواك (من المحسوبين على تيار المحافظين الجدد)، شرح هذه الفكرة باعتباره (في مقال نشره عام 2013 في صحيفة «نيويورك تايمز»)، أن الولايات المتحدة ستخسر في سورية «إذا كسب أي من الأطراف» وأن «الاستنزاف الطويل الأمد في هذه المرحلة من الصراع هو المسار الوحيد الذي لا يضر بالمصالح الأميركية»، وختم بنصيحة قال فيها: «سلّحوا المتمردين كلما ظهر أن قوات الأسد في صعود، وأوقفوا دعمهم كلما بدا أنهم سيكسبون المعركة»، وهي وجهة نظر تستند، أيضاً، إلى مقولة إسرائيلية تقول: «دع العرب يقتلون بعضهم».

ثالث هذه الأوهام يتعلّق بانهيار المبنى الإيديولوجي للثورة، الذي تغطى بـ «الإسلام»، بخاصة مع ملاحظتنا التنافس والتنازع والاقتتال بين الفصائل العسكرية الإسلاموية، إلى درجة أننا أصبحنا إزاء واقع يقتل فيه إسلاميون إسلاميين، هذا ناهيك بالقبضة المتشددة لهذه الفصائل على المجتمعات المحلية التي وقعت تحت سيطرتها. والفكرة هنا أن هذا النمط من الفصائل، القائم على الإيديولوجيا والعنف والسلطة، لم يضر بالثورة السورية فقط وإنما هو أضر بمجتمع السوريين، وقوّض اجماعاتهم، وعمّق اختلافاتهم، وقلّل ثقتهم ببعضهم، وأثار مخاوفهم من المستقبل، وهو ما أفاد النظام، وقدم له خدمة جلية. وما ينبغي توضيحه هنا أن هذا الأمر لا علاقة له بالطابع الإيديولوجي (الإسلاموي) للفصائل المذكورة، أي أن ما ينطبق عليها ينطبق على غيرها. أي أن الأمر ذاته يشمل أية سلطة مهيمنة سواء كانت دينية أو علمانية، يمينية أو يسارية، وطنية أو قومية، لأننا هنا نتحدث عن نمط إيديولوجي مغلق، وعن علاقات مع المجتمع تتأسس على القسر والهيمنة والإكراه والعنف. ولا يفوتنا هنا ملاحظة مدى التخبط في خطابات هذه الفصائل، فهي عدا عن تبنيها خطابات طائفية ودينية، هي مجرد غطاء أو ادعاء لا أكثر، فقد غلّبت في صراعها مع النظام البعد العاطفي والرغبوي والمزاجي والروح القدرية، وهو ما أوصلنا إلى هنا، أي إلى الكارثة في حلب.

والخلاصة فإن السوريين اليوم إزاء توهّمات يفترض القطع معها تماماً، وإزاء تجربة ينبغي استنتاج العبر الصحيحة منها بطريقة نقدية ومسؤولة، إذا ما أريد لمسيرة الشعب السوري أن تصوّب مسارها وتحقّق مرادها.

* كاتب فلسطيني

الحياة

 

 

 

 

 

لا شيء سيبقى كما كان عليه…/ حازم الامين

ثمة هزيمة ألحقت بقوى ودول وأحلاف وقيم في حلب، وهذه من السهل تحديدها وتوقع تبعات الهزيمة عليها. أما المنتصر في عاصمة الشمال السوري، فليس من البديهي تحديده، ذاك أن ما يجري من تهليل للنصر يبدو أقرب إلى ثقافة جماهير «الفوتبول»، على رغم البعد المأسوي الرهيب لهذا الانتصار.

نعم، قبل مأساة حلب ليس كما بعدها. ويبدو أن العالم المتخاذل حيال المدينة وأهلها، بدأ يُقر بهذه الحقيقة. ذاك أن بوتين وخامنئي وبشار الأسد انتصروا هناك على العالم وليس على أهل حلب فحسب. وصحيح أن تبعات الانتصار الأولى كانت آلاف القتلى من المدنيين ودمار مدينة بأكملها، لكن تبعات أخرى سريعاً ما بدأت تظهر، وهي لن توفر باباً تطرقه.

الهزيمة الجوهرية لحقت بقيم راح العالم يُراكمها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو تولى تكثيفها عقب انهيار الاتحاد السوفياتي. ليست القوة العارية هي ما يحكم العلاقات بين الجماعات والدول والأحلاف، هذا في الحد الأدنى ما سعت الحداثة إلى دفعه إلى السياسة، أما الشرعية فصار يعوزها جهد أكبر حتى تستقيم، ومن مظاهرها الانتخابات والشروط المفروضة على الدول لكي تنضم إلى ائتلافات وتكتلات وأسواق (إلغاء عقوبة الإعدام كشرط لقبول تركيا في الاتحاد الأوروبي، أو فرض شروط على الصين لها علاقة بالحقوق السياسية ومعتقلي الرأي لتكون جزءاً من السوق العالمي، وأخيراً ما وُوجهت به مصر لجهة ترحيلها المؤسسات الإنسانية والمدنية الدولية)، هذه كلها شكلت مساراً من المفترض أن مأساة حلب ستقطعه. فالنقاشات التي شهدها مجلس الأمن في جلسته عن المدينة السورية كاشفة لجهة حجم الانتكاسة التي أصابت كل شيء. فقد رد المندوب الروسي فيتالي تشوركين، والذي تقود بلاده التحالف الذي أسقط حلب، عن سؤال المندوبة الأميركية سامنتا باور عما إذا كانت بلاده تضمن خروجاً آمناً للمدنيين، فأجاب: «لا، لأننا غير مسيطرين على الوضع برياً»!

العالم الذي استقبل إجابة تشوركين هذه بصفتها واقعاً يجب التعامل معه، لن يتمكن من الآن وصاعداً أن يملي شروطاً على القاهرة لكي تقبل بعودة مؤسسات الإعانة والرقابة الدولية إليها. ودول البلقان التي تتعثر بمحاولاتها الاستجابة لشروط الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي عبر مكافحة الجريمة المنظمة والفساد، وإفساح المجال لمزيد من الحريات العامة والخاصة، ستكتشف أن الاتحاد لم يكن نفسه في حلب، فلماذا يكون في بلغراد أو في ساراييفو أو في مقدونيا. الاتحاد قَبِل ألاّ تلتزم موسكو حماية المدنيين، فكيف يفرض شروطاً لها علاقة بالحريات؟

لا شيء سيبقى كما كان عليه قبل سقوط حلب. جدار الفصل العنصري الذي تبنيه إسرائيل سيصبح برداً وسلاماً، ونتانياهو سيشهر صورة حلب في وجه كل من يعترض طريق الجدار، فالعالم الذي تعامل مع إفناء مدينة أكبر من القدس بأضعاف سيُشكل اعتراضه على الجدار ترفاً لا مكان له وسط انهيار كل شيء.

بعد هزيمة العالم في حلب ثمة عودة إلى الزمن السوفياتي وإلى القيم السوفياتية عندما كانت جزءاً من منظومة العلاقات التي تشطر العالم. حينها لم يكن في أوروبا اتحاد، ولم تكن واشنطن وحدها من يتولى دفة النزاع. وإذا كانت مؤشرات تصدع الاتحاد الأوروبي سابقة على الهزيمة في حلب، فإن الأخيرة حولت المؤشرات إلى وقائع صلبة، وإذا كان تراجع اليورو ونجاح البريكزيت صورتين عن تقهقر اقتصادات دول الاتحاد، فإن المجزرة في حلب صورة عن هزيمة قيم الاتحاد.

وهنا يكمن السؤال، أي هل كانت أميركا، ومن خلفها أوروبا، تعلم أن سقوط حلب يعني هذا الانقلاب الكبير؟ هل كان الانكفاء جزءاً من خطة انسحاب إلى الموقع الذي كان فيه الغرب خلال الحرب الباردة؟ الأرجح أن أحداً لم يُقدّر التبعات، وأن المسؤولية عن قيادة العالم كانت بيد من لم يُقدّر هذه المسؤولية، وها هو اليوم يتخبط في هزيمته.

لكن ليس الغرب، وأهل حلب طبعاً، من أصابهم الزلزال، فالإقليم بدوره لم يُدرك دلالات هزيمة المدينة على يد الإيرانيين. وما قاله يحيى صفوي، المستشار السياسي لخامنئي، بعد انتصاره في حلب، مؤشر آخر على ما جرى يجب أن يؤخذ على محمل الجد هذه المرة. فهو اعتبر أن «إيران هي القوة الأولى في المنطقة، وعلى واشنطن التعامل مع هذه الحقيقة». ولا تقتصر دلالات هذا القول على عنجهية منتصر، بل أيضاً تشير إلى نوع الطموح، وإلى طبيعة النزاع في الوعي الإيراني، وهذا يُرتب واقعاً مختلفاً في ضوء «الانتصار في حلب». هذا الواقع سيشمل الإقليم بأكمله، فالطموحات الإيرانية صارت جزءاً من الواقع، وهي تحثّ مزيداً من الخطى لتكريس وفرض جغرافيا وديموغرافيا كانتا حتى سقوط المدينة، أضغاث أحلام امبراطورية مستحيلة، وصارتا بعد السقوط ممكنتين.

ودرس حلب ليس من النوع الذي يُستفاد منه في الجولة المقبلة، ذاك أن ما بُني عليه لا يمكن العودة عنه.

لكن ثمة شيئاً ما زال غير متبلور في هذا الانتصار، وهو هوية المنتصر، ذاك أن الأطراف الثلاثة التي تُهلل له تتنازعه إلى حلبات شديدة التفاوت. فروسيا تريده علامة عودتها القطب الثاني للعالم، وإيران تريده جزءاً من هلالها، والنظام السوري يطمح عبره إلى استعادة شرعية واعتراف فقدهما منذ سنوات.

وهنا لا بد من العودة إلى التساؤل عن هوية المنتصر. ذاك أن الهويات الثلاث لا تشكل مجتمعة هوية مشتركة. نعم، خسر العالم في حلب حرباً تكاد تكون عالمية، وخسر معها قيم ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكن المنتصر الذي أعلن عن نفسه لا يبدو أنه في حجم الانتصار. روسيا أعجز من أن تكون قطباً بحجم الاتحاد السوفياتي، وإيران امبراطورية مذهبية هذه المرة، وهو ما سيجعل طموحاتها مخضبة بالكثير من الدماء، أما نظام الأسد فكيف له أن يعود سلطة في دولة أجهز على كل شيء فيها؟

ثمة هزيمة وثمة انتصار في حلب. وعلينا أن ننتظر تبلور هوية كل منهما، لكن هناك شيئاً أكيداً هو أن مدينة أُبيدت، وهذا ما لم يجر مثله منذ نهاية الحرب الكونية الثانية.

الحياة

 

 

 

بعد حلب… كيف سيدفع بوتين ثمن التسوية؟/ جورج سمعان

ماذا بعـــد حلب؟ ميدانــياً قد يتوجه النظام، أو بالأحـــرى حلفاؤه، إلى محيط دمشق. لم يبق سوى دومــا. ولن يجد هؤلاء مبـــرراً لبقائها بؤرة توتر. لن يكون مصيرها أفضل من مدن ريف العاصمة. ســـيأتيها الدور عاجلاً. وقد لا يجد المقاتلون فيها مفراً من اللحاق بتجمع «المــــادرين» إلى إدلــب وريفها. هذه المنطقة ستترك لمرحلة لاحقة، سواء كان ذلك في إطار تفــــاهم بين روسيا وتركيا، أو في إطار مخـــطط يكــــفل الزمن بموجبه تحويلها بــــؤرة من الصراعات والتطرف. عندها يكون حسابها مثيل حســـاب الرقة. فالعالم الذي تعامى عما حصل ويحصل في سورية ولم يرَ سوى الإرهاب و «داعش»، لن يقبل بأن يتحول الشمال الغربي للبلاد مقراً لجبهة «النصرة» ولفـــصائل أخرى وافدة سيدفعها اليأس إلى مزيد من التطرف… أللهم إلا إذا استطاعت تركيا تطــويع هذه المنطقة وإلحاق مجموعاتـها بتلك التي تقاتل تحت قيادتها، وفي إطار استراتيجيتها الجديدة.

كان هم تركيا ولا يزال ألا يعبر مقاتلو «الاتحاد الديموقراطي الكردي» إلى غرب الفرات. تخشى الربط بين إقليمي الجزيرة وعين العرب (كوباني) شرق النهر بعفرين غربه. لذلك، طوعت فصائل «الجيش الحر» وفصائل إسلامية أخرى في «درع الفرات». نحو خمسة آلاف انخرطوا في معركة تركية بحتة من أجل تحرير مدينة الباب، أحد معاقل «داعش». لم يكن الهدف طرد التنظيم أولاً، بمقدار ما كان أساساً الحؤول دون وصول «قوات سورية الديموقراطية» إلى هذه المدينة، وجلها من المقاتلين الكرد. كأن الفصائل المرابطة على الحدود الشمالية، والتي تحظى بدعم من أنقرة ملزمة اتباع مشروع الرئيس رجب طيب أردوغان أولاً. لذا، تعامت عن حصار حلب والحرب عليها. لم ترَ لزاماً عليها أن تفتح جبهة بمواجهة النظام لتخفيف الضغط عن شركائها في المواجهة. تبدل دورها مع تبدل دور أنقرة. كانت هذه شريكاً للمعارضة السياسية والعسكرية وأكثر المتشددين حيال النظام. لكن الأمر تبدل مع التحول الجذري الذي قاده أردوغان إثر المحاولة الانقلابية الفاشلة. باتت الآن وسيطاً. وهي تسعى مع موسكو إلى ترتيب محادثات سورية – سورية في آستانة! لم تعد معنية ببيانات جنيف وفيينا ولقاءات «أصدقاء سورية» والقرارات الدولية. باتت جزءاً من رؤية الكرملين للتسوية!

تتحمل تركيا وهذه الفصائل أيضاً جزءاً من المسؤولية عما حل بحلب. ومثلها تلك التي تنتشر في إدلب ويربو عديدها على 15 ألف مقاتل لم يجدوا لهم دوراً سوى استقبال مزيد من الوافدين ضحايا التفاهمات مع القوات الروسية أو الإيرانية في مناطق غرب العاصمة وجنوبها وشرقها. مثلما يتحمل جزءاً من المسؤولية مسلحو الفصائل في الجبهة الجنوبية. نحو 35 ألفاً منضوون برواتب منتظمة في «غرفة العمليات العسكرية» بإشراف الاستخبارات الأميركية ورعاية عدد من الدول المحاذية للحدود الجنوبية. هؤلاء كانت آخر مشاركتهم في الحرب الدائرة ربيع عام 2015، يوم أمسكوا بالمعابر الحدودية مع الأردن والمناطق المحاذية لإسرائيل. وكانت المعارضة السياسية تعول كثيراً على هذه الجبهة. كانت تأمل، بموجب تاريخ معروف، أن يأتي التغيير في دمشق من الجنوب. لكن التغيير طال انتظاره. والأسباب معروفة. تماماً كما هي الحال في الشمال. التزم الأردن منذ البداية سياسة النأي بالنفس على نحو مختلف تماماً عما نهجه لبنان أو بعض قواه السياسية. وحتى عندما تفرغت دول عربية عدة لدعم فصائل انتشرت جنوب سورية ظلت الإمرة لعمّان التي تفادت الانخراط المباشر في الأزمة. لم تطلق العنان لفصائل قد تعزز تطلعات قوى إسلامية في الداخل. خلاصة القول أن الفصائل العسكرية «المعتدلة» التي اعتمد عليها «الائتلاف الوطني» و «الهيئة العليا للمفاوضات» كانت قيادتها بيد أطراف خارجية، وستظل كذلك.

لا جدال في أن الرئيس فلاديمير بوتين هو المنتصر الأول. قطف ثمار سياسة دؤوب. أبرم جملة من التـــفاهمات. التقى الملك عبدالله الثاني في أكثر من قمة. مثلما التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو وفتحا خطوطاً عسكرية بين قواتهما أتاحت للجيش الإسرائيلي ضرب أهداف عدة في سورية من دون أي اعتراض. حتى أنه شارك أخيراً في ضـــرب مواقع لتنظيم «داعش». ولم يغفل الكرملين أهمـــية كسب القاهرة واستمالتها إلى جانبه أقله في المواجهة السياسية مع مجموعة «أصدقاء سورية» وخصوم النظام في دمشق. وكان آخر إنجازات موسكو استثمار الأزمة التي واجهتها أنقرة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، وانسداد الأفق في وجه استراتيجيتها الخاصة بالعراق وسورية، وانتـــقال العنف والإرهاب إلى مدنها وساحاتها بعدما كانـــت شرعت أبوابها لشتى أنواع المقاتلين من كل حــدب وصوب. بالطبع، سهلت «مناوشات» تركيا مع أوروبا والولايات المتحدة مهمة التقارب بين بوتين وأردوغان. حتى أن الأخير لم يتورع عن التلويح بالانضمام إلى «منظمة شنغهاي للتعاون»، والتهديد بفـــتح الحدود أمام اللاجئين إلى أوروبا! ويبدو أنه تناسى مبادرات التقارب التي أبدتها موسكو حيال الكرد الذين يقارعهم شرق الفرات والشمال السوري.

وبالطبع، كان للانكفاء الأميركي عن التدخل في سورية أكبر الأثر في تحول بلاد الشام قاعدة رئيسية لروسيا سيسعى الرئيس بوتين إلى تحويلها منطلقاً لمواصلة سياسته الطموح في مقارعة واشنطن واستعادة دور إمبراطوري لبلاده. والسؤال اليوم كيف سيستثمر سيد الكرملين «نصره المؤزر» على حلب؟ فما بعدها يختلف تماماً عما قبلها. كيف سيترجم بالسياسة ما كسب بالحرب؟ عناصر التسوية السياسية لأزمة سورية ستواجه متاعب أين منها مشقات الحرب. ليس كافياً أن يتفاهم بوتين مع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب. ثمة قوى إقليمية تريد حصتها الآن. لقد استنفدت الحرب الكثير من رصيد التفاهمات. هناك ثمن لسكوت الجميع تقريباً عن مذبحة حلب. ولن يكون سهلاً عليه التوفيق بين حسابات إيران وحسابات القوى الإقليمية التي تغاضت أو انتظرت هذه النهاية للمعارضة السورية. علماً أن حساباته هو اختلفت عن حسابات طهران في منعطفات رئيسية وليس آخرها ما حصل في حلب ويحصل. ولا شك في أن المواجهة التي تلوح في الأفق بين الإدارة الأميركية المقبلة والقيادة الإيرانية ستلقي بثقلها على أي تفاهم بين موسكو وواشنطن.

ليست هذه المعضلة الوحيدة. فالرئيس بوتين يدرك أن إسرائيل لا يمكن أن ترضى بتحول سورية قاعدة متقدمة لإيران وميليشياتها على حدودها كما هي الحال في لبنان. والتصريح الأخير لوزير دفاعها أفيغدور ليبرمان خير مؤشر إلى الموقف الجديد للدولة العبرية للمرحلة المقبلة. وحتى تركيا التي بدلت ثوبها ودورها واستراتيجيتها لن تقبل بحصة أقل من حصة الجمهورية الإسلامية. فهي رأت وترى إلى بلاد الشام بوابتها إلى المنطقة العربية برمتها. ومثلها الدول العربية التي يعول عليها العالم في مشاريع إعادة إعمار سورية، والتي لن تقدم مساهماتها هدية مجانية، لا إلى نظام الرئيس بشار الأسد ولا إلى طهران. هذا من دون الحديث عن المؤسسة العسكرية السورية التي لن ترضى بتقاسم السلطة مع الميليشيات «الإيرانية». لذا، إن المشهد الجديد بعد انتهاء معركة حلب سيطرح مجدداً مصير صيغة الشراكة أو بالأحرى التقاسم الروسي – الإيراني لبلاد الشام.

إلى كل هذه المعطيات التي ستثقل عناصـــر أي تسوية روسية لأزمة سورية، يبقـــى ملحـــاً أيــضاً بَتّ مستقبل الفصائل المعتدلة، خــصوصاً المنضـــوية في «الجيش الحر» في جبهتي الشمال والجنوب. لا يمكن تجـــاهل جيش بعشرات الآلاف خرج على المـــؤسسة العسكرية الرسمية ولــزم نوعاً من «الحياد» في معركة حلب. فهل يعود إلى حضن المؤسسة من دون أي تغييــــرات سيـــاسية وأمنية وهيكلية؟ أو هل يـــرضى رعاته الإقليميون، من تركيا إلى الأردن وغيـــرهما من قوى عربية وأجنبية، بالتخلي عنه من دون أي مقابل؟ كل هذه التحديات أمام موسكو في كفـــة، والتفاهم بينها وبين واشنطن الحاضرة في الشمال الشرقي لسورية، على الحرب لتحـــرير الرقة وغــيـــرها من «داعش» و «النصرة» في كفة أخرى… كســـب الرئيس بوتين الحرب على حلب، وخسرت المــــعارضة. وسيكون عليه أن يدفع الكثير من رصيد شركـــائه وحلفائه وفي مقدمهم رأس النظام قبل أن يكسب المعركة السياسية… والشعب السوري.

الحياة

 

 

 

 

في حلب دخلنا زمناً دولياً جديداً/ مرزوق الحلبي

لغة القانون الدولي ولغة الــديــبلومــاسية العـــالــمية ومؤسساتها تأسست في العقود الأخيرة على تجربة الحرب العالمية الثانية وما أنتجته من مآسٍ وكوارث وكسور في الحداثة والاجتماع. فكثيرة هي المؤسسات التي صوّبت نظامها الأساس وأرست آليات عملها بناء على هذه التجربة. ومنها آليات عمل مجلس الأمن ونظامه وعضويته وآليات التدخل في الصراعات والإغاثة الإنسانية والمحاكم الجنائية الدولية للتعامل مع جرائم الحرب وتلك ضد الإنسانية.

على العموم، تعلّم العالم من التجربة وأعدّ نفسه لمنع تكرار ما حصل بخاصة لجهة منع الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وغيرها من جرائم ضد الإنسانية. وقد سارت الديبلوماسية الدولية بهدي الأحكام والأعراف والقوانين التي أفرزتها حرب كانت بشعة بدرجة لم تستطع البشرية تحمّلها. ناورت بين مفهوم السيادة الوطنية والتدخّل في الشؤون الداخلية لبلد ما وبين مبدأ منع «محرقة» جديدة أو جرائم ضد الإنسانية كما عرّفتها محاكم نورنبرغ التي حاكمت المجرمين النازيين. وفي شكل عام ظلّ العالم أميناً لهذه المبادئ وإن بتفاوت من مكان إلى آخر. إلى أن جاءت الأزمة السورية وصولاً إلى نكبة حلب. يبدو لي أن حلب هي المفصل الذي انكسرت فيه الأعراف التي تبلورت بعد الحرب العالمية الثانية. وحلب هنا هي الأزمة السورية الممتدة منذ 2011 والتي مهّدت لها الأزمة العراقية الممتدة منذ حرب الخليج الأولى واحتدمت منذ 2003. بمعنى، أن ما حصل في حلب كمثال وفي الشام عموماً هو ضلوع ثلاث دول على الأقلّ بجرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية من دون أن يستطيع العالم تقديم العون أو التدخّل لإنقاذ الضحايا. فكيف وصلنا إلى وضع نجد أكثر من نصف الشعب السوري (12 مليوناً) يعيش وضعية تهجير وإبعاد ناهيك بالفتك به بأسلحة محظورة، حتى أن العالم الذي نقصده على مؤسساته ومنظماته الدولية وغير الحكومية عجز، إلا في ما ندر، عن إغاثة الشعب السوري المنكوب لأن النظام في دمشق وحلفاءه رفضوا ذلك ومنعوه؟ فلا استطاع العالم توفير ممر آمن للمدنيين ولا إغاثتهم ولا استطاع فرض مناطق حظر لطيران النظام وحلفائه!

إن الثورة المدنية الشعبية في سورية شكّلت فرصة لثلاث منظومات خارجية للتدخّل على نحو أجهض طموحات الثورة وغيّر من طابعها وجوهرها. أما المنظومات الثلاث التي نقصدها فهي المنظومات الكونية والإقليمية والدينية التاريخية. قد يكون بينها نقاط التقاء وتطابق لكن كل واحدة منها على انفراد ومجتمعة شكّلت قوة طاغية في حسم وجهة الأمور في النكبة السورية وأساساً لجهة المزيد من التعقيد والتدمير كما رأينا.

تدخّلت المنظومة الكونية بقوة في سورية ضمن ما نراه من إعادة بناء لها وفق خرائط مصالح استراتيجية جديدة بين قوى لم تعد مقتنعة بجدوى النظام العالمي المؤسس على تجربة الحرب العالمية الثانية ودروسها، لا في مستوى اصطفاف القوى العالمية ولا مصالحها ولا في مستوى القوانين الدولية والأعراف والقِيَم. فروسيا التي بدت الخاسرة من سباق العولمة الذي تقوده الولايات المتحدة وشركاتها الكُبرى واتضح قصورها الاقتصادي والسياسي في أوكرانيا ودول البلطيق وجمهوريات آسيا الوسطى وشرق أوروبا كله، أرادتها فرصة لإعلان وجودها وتثبيت مصالحها هي أو مصالحها المشتركة مع الجارة من الجنوب، إيران. التقت التحولات الكُبرى في المنظومة العالمية بتحولات إقليمية وصراع إقليمي مكشوف أو مستتر غذّى الصراع في سورية وأثّر فيه نحو الاحتدام ودورة عُنف قصوى في رأسها النظام وحلفاؤه. فإذا تتبعنا الأداء الإيراني في الأزمة مثلاً، لرأينا عُمق تدخّلها في سورية. وهو تدخّل لم يسبق له مثيل ينسجم مع تطلّعها المُعلن إلى وضع قدمها على الشاطئ الشرقي للمتوسط عبر الشام وضمان تواصل جغرافي لنفوذها عبر العراق والشام قُبالة أوروبا. ويمكننا أيضاً أن نُشير إلى الدور التُركي المخاتل في الأزمة الذي تعمّق كلما رأت تركيا إمكانية لتشكّل نواة لوطن كردي في شمال سورية.

أما المنظومة الأخيرة التي تدخّلت بقوة في الأزمة السورية فهي المنظومة الدنية التاريخية وتصفية الحساب بين المذهب الشيعي والسني. لقد استطاعت إيران بنظامها وسياساتها أن تجيّش نحو 150 ألف مقاتل شيعي ضمن أكثر من ستين ميليشيا من المرتزقة أو المعبئين شيعياً وزجّتهم في المعارك الصعبة بوصفهم ضحايا لا أحد سيسأل عنهم إذا قضوا. هؤلاء شكّلوا، من دون شك، ورقة لعب مهمة في إنهاك المعارضة المسلّحة على تياراتها وصراعاتها.

هذه المنظومات المتدخّلة شكّلت في منتهاها عدواً وحشياً للشعب السوري وثورته الشعبية واحتمالات أن يؤثّر في النظام ويُلزمه بالجنوح إلى التفاوض. بمعنى أننا إذا أخذنا روسيا وإيران مثلاً لرأينا كيف كان ضغطهما قوياً في ظهر النظام كي يواصل تشغيل آلاته التدميرية في كل اتجاه. زوّده الإيرانيون بالعدّة وبالرجال عندما تخلّفت غالبية المكلّفين السوريين عن الالتحاق بالجيش واستقدم الروس إلى سورية تجربتهم في الشيشان وسياسة التدمير الشامل والأرض المحروقة من دون مراعاة لأي قانون أو عُرف. إن العالم الذي نشأ من أتون الحرب العالمية الثانية تداعى نهائياً في سورية وفي حلب تحديداً التي يتمّ تهجير أهلها من السُنة وتدمير حاضرتهم وأحيائهم كي لا يعودوا إليها في المدى المنظور. إن نشاط النظام وإيران وروسيا يُشكّل مجتمعاً ومنفرداً تنكّراً سافراً لكل ما أنتجه الاجتماع البشري في ضوء التجربة النازية وانتهاك حقوق الشعوب وإبادتها. في حلب بدأ العالم يعدّ أيامه من جديد على وقع براميل بارود وتطهير عرقي وتدمير المدن وقصف المدنيين وتهجيرهم. وقد شهدنا في الشام أبشع الجرائم ضد الإنسانية وأكثرها هولاً وترويعاً منذ الحرب العالمية الثانية ـ في حلب وُلدت تجربة كارثية جديدة تركت وراءها المحكمة الجنائية الدولية وقرار هيئة الأمم المتحدة الأخير من أيام قليلة الذي يقرّ بالإجماع ـ حق الشعوب والأفراد بالسلام! يبدو أنه قرار لا ينسحب على سورية ولا على شعبها الذي هُجّر أكثر من نصفه في الفراغ كأن العالم بمؤسساته ودوله العُظمى غير قائم! في حلب رأينا تفكّك المنظومة الدولية التي عرفناها ودخلنا زمناً جديداً!

الحياة

 

 

سقوط حلب كتب شهادة وفاة “المجتمع الدولي”/ ريتشارد هاس

لا يعد سقوط حلب في يد القوات الموالية للرئيس السوري «بشار الأسد» بداية نهاية الحرب الأهلية المستمرة منذ خمس سنوات ونصف في سوريا،والتي هي حرب إقليمية بالوكالة، وتعبر إلى حد ما عن الصراع العالمي الشامل. وبالتأكيد بعد حلب سيتم خوض المعركة الكبرى القادمة في محافظة إدلب ويبقى السؤال الوحيد هو متى ستكون هذه المعركة. وحتى بعد ذلك، فإن الحرب سوف تستمر في التفاقم في أجزاء مختلفة مما سيتبقى من بلد منقسم.

ويعتبر الوقت الحالي هو الوقت المناسب لإجراء التقييم والتركيز على ما تم تعلمه من مأساة حلب، وعلى أي حال فإن النتيجة في سوريا هي حصيلة ما تختار الحكومات والجماعات والأفراد القيام به أو عدم القيام به. وفي الواقع، فإن عملية عدم التصرف أو الامتناع عن القيام بالفعل في سوريا ثبت أنها مثل عملية التصرف أو القيام بالفعل.

وقد كان هذا واضحا جدا عندما لم تف الولايات المتحدة بتهديدها لحكومة «الأسد» عند استخدامها الأسلحة الكيميائية. لقد ثبت أنها كانت فرصة ضائعة ليس فقط من أجل تغيير زخم الصراع، ولكن أيضا في موضوع التأكيد على مبدأ أن أي حكومة ستستخدم أسلحة الدمار الشامل سوف تندم. إن إنفاذ التهديدات هو أمر أساسي لفعالية الردع في المستقبل.

ولعل استنباط دروس إضافية يتطلب العودة إلى عام 2011، عندما استقبل «الأسد» المحتجين السلميين بالقوة المميتة، مما أدي حينها إلى أن يطالب الرئيس الأمريكي «باراك أوباما» وآخرون بتنحي «الأسد». وهذا أيضا جاء دون أي إجراء يؤيد الخطاب القوي. ويبدو أن ظهور مثل هذه الفجوة الواسعة بين الخطاب و الوسائل ينتهي دائما بالفشل.

هذا هو الحال خصوصا عندما يكون الهدف هو تغيير النظام، وعندما يمثل النظام الحالي أقلية من السكان المقسمين فإن هذه الظروف تجعل المنتصر يحرص على أن يأخذ كل شيء والخاسر يفقد كل شيء. وليس من المستغرب أن يتجه أولئك الذين لديهم الكثير ليخسروه مثل النظام لخوص المعركة بكل قدراتهم وبمثابرة كبيرة.

لقد كتب علماء العلاقات الدولية في كثير من الأحيان عن حدود النظر إلى جدوى القوة العسكرية. لكن سوريا تدل على أن القوة العسكرية يمكن أن تكون حاسمة خاصة عندما يتم تطبيقها بجرعات كبيرة، في هذا فإننا نرى بعض الدول وبدون اهتمام يذكر لعدد المدنيين الذين قتلوا أو شردوا قد طبقت القوة. مثلما أظهرت روسيا وإيران و«الأسد» ذلك على نطاق واسع وأثبتت أن استخدامها العشوائي في كثير من الأحيان للقوة العسكرية يمكن أن يحقق إنجازات.

يوجد ضحية أخرى من ضحايا نزاع سوريا وهو مصطلح «المجتمع الدولي». وفي الواقع، ليس هناك سوى القليل من المجتمع العالمي كما يرجى أن يكون. ومع أكثر من 500 ألف قتيل وعشرة ملايين من النازحين في سوريا، فقد كثر الكلام عن قرار الأمم المتحدة بخصوص «مسؤولية الحماية».

لقد اتخذ القرار بالإجماع من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2005 (وذلك ردا على الإبادة الجماعية في رواندا قبل عشر سنوات)، وقد استند قانون مسؤولية الحماية على فكرة أن الحكومات ملزمة بحماية مواطنيها من الأذى الجسدي. وعندما تكون غير قادرة أو غير راغبة في القيام بذلك، فإن الحكومات الأخرى وفقا لقانون الحماية ملزمة بالتدخل لحماية المواطنين من التعرض للإيذاء.

وقد فشلت أي حكومة في تلبية معايير الحماية في سوريا. بل إن التدخل الدولي الذي جاء لم يكن مصمما لحماية أرواح الأبرياء أو لإضعاف قبضة الحكومة على السلطة بل تم تصميمه لضمان سيادة الحكومة السورية، وقد نجح.

لقد كان رد فعل المجتمع الدولي جيدا فقط نوعا ما عندما استجاب لأزمة اللاجئين الهائلة الناجمة عن الحرب. مع وجود حقيقة هي أن كثيرا من البلدان لم تكن راغبة في فتح حدودها لأعداد كبيرة من طالبي اللجوء فإن ذلك يسلط الضوء على حقيقة أخرى وهي أن أفضل سياسة للتعامل مع اللاجئين هو أن يجنب الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال من أن يصبحوا لاجئين في المقام الأول.

لقد فشلت الجهود الدبلوماسية في تحقيق الكثير في سبيل إنقاذ حلب أو سكانها، ومع ذلك، قد يكون من الدبلوماسيين الملتزمين، من يميل للتفكير أن الدبلوماسية لن تخلق حقائق على الأرض كما أن الجهود الدبلوماسية في المستقبل لوضع حد للقتال أو للتوصل لنتيجة سياسية معينة لن تنجح إلا بالقدر الذي تتوازن فيه مع الاتجاهات العسكرية.

واستشرافا للمستقبل، سوف تظل حكومة «الأسد» تسيطر على جزء كبير من سوريا ولكن ليس كل البلاد. فهناك العديد من القوى من مختلف المجموعات السنية المتشددة والثوار السنة الأقل تشددا، وقوات بالوكالة مثل حزب الله والجيش التركي، القوات الكردية السورية، وغيرهم يتنافسون على السيطرة على مناطق معينة. الغرباء، مثل الولايات المتحدة، يستحسن أن يتقبلوا هذا الواقع في المستقبل القريب ولابد أن يعملوا على تركيز طاقاتهم على تحقيق الاستقرار في المناطق المحررة من الدولة الإسلامية، وحماية السكان المدنيين، وتطوير العلاقات السياسية والعسكرية مع الجماعات السنية «غير الإرهابية»، وتحقيق وقف إطلاق النار محلي لمنع تكرر مأساة حلب.

ينبغي الحفاظ على هدف تحقيق التحول إلى حكومة متعددة واسعة ولكن هذا مشروع طويل الأجل. وعلى كل حال يجب أن تؤخذ العبرة من الخمس سنوات ونصف الماضية ومن ذلك: أن أولئك الذين يشاركون في سوريا بإرادة محدودة ووسائل محدودة يجب أن يضعوا أهدافا محدودة إذا أرادوا حتى أن يحققوا كمية محدودة من الخير.

مركز العلاقات الخارجية

 

 

 

 

توازن الضعف في الحرب السورية.. لماذا لن تكون حلب هي النهاية؟

تعدّ استعادة حلب إنجازًا كبيرًا للنظام السوري، ويمكن لهذا الانتصار مساعدته على تعزيز مكانه في النصف الغربي من البلاد في المستقبل. وفي الوقت الحاضر، لا يزال النظام ضعيف للغاية لاستعادة السيطرة على الأجزاء الشرقية. علاوة على ذلك، يظهر عجز قوات الثوار (قوى منفصلة غير موحدة) بوضوح بخسارة حلب. وبعد النظام السوري، فـإن «الدولة الإسلامية» والأكراد هما القوى الكبيرة الوحيدة التي تسيطر على مساحات كبيرة من الأراضي في سوريا. ويمكن لتركيا تغيير هذا التوازن، ولكن سيتعين عليها زيادة تدخّلها في البلاد وإصلاح مشهد الثوار من أجل ذلك.

تمثّل استعادة حلب عودة هامّة، لكن على الرغم من ذلك، لا يزال نظام الرئيس «بشار الأسد» ضعيفًا.

أظهرت خسارة حلب أنّ قوّة الثوار مبالغ فيها وأنّهم غير متماسكين، في حين ستبقى «الدولة الإسلامية» هي معركة البلاد الرئيسية.

مقدمة

استعاد نظام الرئيس «بشار الأسد» أكبر مدينة سورية وذكر أنّه قد حقّق سيطرةً كاملةً على حلب. وقام بالعملية الجيش السوري في قوّة مكونة من 10 آلاف مقاتل بدعم من روسيا وإيران. ووفقًا لجريدة «وول ستريت جورنال»، تكوّنت نصف هذه القوّة من قوات شبه عسكرية وميليشيات محلية وأجنبية. ونجح النظام في طرد الثوار من الجانب الشرقي للمدينة، وخرجوا في حالةٍ من الفوضى. ويحظى النظام الآن بفرصة كبيرة لتعزيز موقفه في حلب، حيث أنّ الأمر سيستغرق بعض الوقت قبل أن يستطيع الثوار تنظيم صفوفهم من جديد ليشكّلوا تهديدًا.

الشكل الحالي لساحة المعركة

لا يزال الثوّار يملكون السيطرة على غالبية أحياء محافظة إدلب بالإضافة إلى جيوب قرب دمشق ومناطق أخرى في الجنوب بطول الحدود مع الأردن و(إسرائيل). وحتّى مع ذلك،سيستفيد النظام من ظاهرة تشرذم الثوار المتزايدة. ورغم ذلك لن تستطيع دمشق إدراك حقيقة أنّ «الدولة الإسلامية» تمثّل خصمًا خطيرًا والذي يأتي ثانيًا في السيطرة على جزء كبير من شرق سوريا. وفي حين يحتفل النظام بالإنجاز الكبير، فإنّه يواجه حرجًا في نفس الوقت مع استيلاء قوّات «الدولة الإسلامية» على مدينة تدمر التاريخية من جديد.

وتظهر خسارة تدمر أنّ النظام وإن كان قد حقّق نصرًا حاسمًا في حلب، فإن هناك حدودا لاستعراضه للقوة خارج الأراضي التي يسيطر عليها حاليًا. وبحسب آخر التقارير، تحركت «الدولة الإسلامية» لما هو أبعد من تدمر وحاصرت قاعدة تياس الجوية على الرغم من الضغط الشديد الذي مارسه التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة على النظام الجهادي والضربات الجوية القوية في سوريا والهجوم البري في الموصل. ويبرز استيلاء تنظيم الدولة على تدمر صعوبة اقتلاعها من معاقلها الرئيسية.

وعلى الرغم أنّ «الدولة الإسلامية» هي التحدّي الرئيسي للنظام، إلّا أنّ الحركة الجهادية ليست هي المشكلة الوحيدة التي تواجهها دمشق. فالجماعة الكردية السورية الرئيسية، حزب الاتحاد الديمقراطي، بجانب ذراعه المسلح، وحدات حماية الشعب يمثّلون قوة كبيرة أيضًا. وبعد قمعهم من قبل «نظام الأسد» لعقود، ثار الأكراد الآن وتولوْا السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي في الشمال، بموازاة حدود تركيا. وخلال سنوات اندلعت المواجهات بين النظام وقوات الأكراد، لكنّ التعاون بينهما في ساحة المعركة قد ذكر أيضًا في التقارير. وعمومًا، كان الأكراد كيانًا مفيدًا للنظام حيث أبقوْا «الدولة الإسلامية» منشغلة، في حين تولّى النظام أمر الثوار. كما واجه الأكراد أيضًا جهود تركيا للإطاحة بـ«نظام الأسد».

ومنذ أغسطس/ آب، سعت تركيا للعب دور أكبر في سوريا مما كان عليه الأمر حين اندلعت الحرب الأهلية في الجارة الجنوبية منذ 5 سنوات مضت. وفيما أطلقت عليها أنقرة «درع الفرات»، تدعم تركيا الآن فصائل معينة من الثوار بهدف خلق ممر يمنع الأكراد من ربط أراضيهم الرئيسية في الجنوب بالأراضي الأصغر في الشمال، ويكون كمنصّة لشن هجوم كبير على «الدولة الإسلامية». وفي حين لا يبدو ذلك جليًا في هذه المرحلة، يبدو أنّ هذا الممر الذي تخطّط له تركيا سيتوسع ليسمح لأنقرة بدور أكبر في الحرب ضد «الدولة الإسلامية». والأمر الملح للنظام هنا هو التأكد من ألّا يعكس الأتراك وحلفاؤهم المكاسب التي حقّقتها دمشق ضد الثوار.

وفي مقال تحقيق واقعي نشر فبراير/ شباط الماضي، أظهرت جيوبوليتيكال فيوتشرز أنّ الدولة السورية قد تغيرت إلى درجة أصبح من الصعب التعرف عليها ولن تعود إلى ما كانت عليه. ويوجد على أرضها توازن مائع في القوة بين 3 أطراف فاعلين رئيسيين: «نظام الأسد» والدولة الإسلامية والأكراد. وقوات الثوار العرب السنّة المدعومين من تركيا هم قوّة رابعة. ومع ذلك، فهذه القوّة الرابعة أصغر من باقي القوى، ليس فقط بسبب المشاكل الداخلية التي تقيّد أنقرة، ولكن أيضًا للانقسام الكبير بين فصائل الثوّار.

والعالم مستمر في معاملة سوريا كدولة ذات سيادة. وفي الحقيقة، تحتوي الأراضي السورية على الأقل 3 أنظمة سياسية مختلفة. وفي حين أنّ هذا التقسيم المعقّد لسوريا يمثّل معركة مائعة، فهناك حدود لما يمكن أن تتحول له البلاد في المستقبل القريب. ولفهم كيف يمكن أن تتغير تلك الخريطة، يجب علينا النظر في متطلبات وقدرات والقيود المفروضة على كل جهة فاعلة من الجهات الأربعة، بدءًا بالنظام.

النظام السوري: ماذا بعد حلب؟

على العكس من الحكمة التقليدية، لم ينجُ النظام فقط، بلّ إنّه يعدّ نفسه للعودة. ومن بين 3 دول عربية خاضت نفس تجربة القتال الداخلي المسلح، سوريا وحدها استعادت الأراضي. وقد ساهمت الكثير من العوامل في ذلك.

أولًا وقبل كل شيء، لم ينكسر جيش النظام رغم الانشقاقات الكبيرة، بسبب بقاء هيكل الضباط والقادة سليمًا إلى حدٍّ ما. ثانيًا، عوّضَ النظام ضعف القوات النظامية بتعبئة قوّات الدفاع الوطني، وهي منظمة شبه عسكرية استطاعت تحمّل مسؤولية المهام الثقيلة في الحرب الأهلية. وتمّ تكوين هذه الجبهة على أساس محلّي، لذا كانت أكثر دافعًا للقتال ضدّ الثوّار. وثالثًا، تلقّى النظام الدعم والمساعدة من الميليشيات الأجنبية، والجزء الأكبر منها المقاتلين الشيعة من إيران والعراق ولبنان وأفغانستان وباكستان، وتمّ تعبئة تلك الميليشيات بإشراف من فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني.

وفي حين ساعدت هذه القوى الثلاث بشكل كبير في تقويض التمرّد، فهي تشكّل نقطة ضعف واضحة. فهي بالرغم من مساعدته في طرد الثوّار من الكثير من الأراضي، إلّا أنّها لا يمكنها المساعدة في إدارتها، لأنّ تلك الميليشيات غير مدرّبة على إدارة الأرض وخاصةً الكبيرة منها مثل حلب. ولا يمكن للجيش النظامي الاعتماد دائمًا وأبدًا على الميليشيات الأجنبية، وهنا يظهر ضعفه. وعلى الجانب الآخر، فإن قوّات الثوّار قوّات ثابتة، يمكنها إعادة تنظيم نفسها في ريف حلب مثلًا وإعادة تهديد النظام من جديد. ولا تزال إدلب تحت سيطرة جبهة فتح الشام، الوجه الجديد للقاعدة في سوريا، وهو ما يمثّل خطرًا شديدًا على استمرار الأراضي في يد النظام.

المعارضة السنّية العربية

كان فقدان حلب ضربةً كبيرة للثوار السوريين. لكنّ النتيجة غير مفاجئة. فقد طغى على مشهد المعارضة السنّية العربية الانقسام والظهور الهش منذ البداية.

مهّدت المشاكل الداخلية بين فصائل الثوّار والدعم السخي الذي تلقاه النظام السوري من إيران وروسيا لمشهد الهزيمة الذي رأيناه للثوّار في حلب. ولم تتلقّ المعارضة الدعم المماثل من الولايات المتّحدة وحلفائها في أوروبا، لكنّها تلقّت دعمًا معقولًا من اللاعبين الإقليميين، السعودية وتركيا وقطر والإمارات والأردن. لكن في حين استطاع النظام وحلفاؤه تشكيل قوّة متماسكة، لم ينجح أي من الأطراف الإقليمية في نفس الأمر داخل المعارضة، ورغم وحدة الهدف بالإطاحة بـ«نظام الأسد»، كانت الاختلافات كبيرة حول ما بعد «الأسد».

وتحوّل الوضع الداخلي للثوّار من سيء إلى أسوأ في الأيام الأخيرة. حتّى أنّ بعض التقارير تتحدّث عن مشاكل داخل جبهة فتح الشام نفسها، والمكونة من 20 ألف مقاتل، في حين أنّ الجيش السوري الحرّ المكون من 40 ألف مقاتل، لا يمثّل القوّة ولا الأهمية الكافية، حيث يمثّل مظلة للعديد من الفصائل المستقلّة.

وفي حين تحوّلت الحرب في سوريا إلى حربٍ إقليمية بين القوى السنّية والكتلة الشيعية بقيادة إيران، فإنّ النظام السوري العلوي الذي كان يحكم بلدًا يحوي 65% أغلبية سنّية، استطاع كسب العديد من السنّة في صفّه والذين يرون أنّ الحرب خطرة، ويرون النظام ضامنًا للاستقرار.

وعلى الرغم من صعوبة تكوين كتلة واحدة متماسكة من فصائل الثوّار نظرًا لكثرة الاختلافات الداخلية، تشترك تركيا والولايات المتّحدة في حتمية الوصول إلى ذلك. وتسعى تركيا لتكون الراعي الرئيسي للثوّار، في نفس الوقت الذي تواجه فيها الحركات ذات النزعة الانفصالية مثل الأكراد و(داعش). وتدرك الولايات المتّحدة، التي تتخذ من القوات الديمقراطية الكردية السورية حليفًا ضد «الدولة الإسلامية»، حاجتها إلى حليف سنّي عربي لإنجاح جهودها في استعادة الرقة من بين يدي التنظيم.

الأكراد

إذا كان هناك فريق اقترب من تحقيق أهدافه في سوريا، فهم الأكراد. فهم يسيطرون حاليًا على كثير من كردستان السورية، ويمارسون حكمًا ذاتيًا. يتمتّعون ببعض الدعم من الولايات المتّحدة، كونهم يقاتلون ضد «الدولة الإسلامية». ويسعى الأكراد لاستغلال المعركة ضد تنظيم الدولة لتعزيز منطقة حكمهم الذاتي بغض النظر عن الوضع القادم لسوريا.

ولكن تركيا تقف أمام هذه الطموحات، حيث ترغب تركيا في وضع قيود على هذا الحكم الذاتي، والحدّ من الأراضي التي يسيطر عليها الأكراد، خشية العلاقات القوية بين أكراد سوريا، والعدو الرئيسي الداخلي لتركيا، حزب العمّال الكردستاني. ولكي تنجح تركيا في هدفها، عليها التورّط بشكل أكبر، وأخذ زمام المعركة ضد «الدولة الإسلامية».

وترغب تركيا في نفس الوقت الحدّ من تعريض جيشها للأزمة في سوريا، وهذا لن يتأتّى إلّا مع تكوين كتلة قتالية سنّية هائلة. وحاليًا، تعمل تركيا مع فصائل الجيش الحر وإسلاميين آخرين للاستيلاء على بلدة الباب شمال سوريا من يد «الدولة الإسلامية». وهدف تركيا هنا هو الحدّ من الطموحات الكردية بتكوين ممر في المنطقة المعزولة بين عزاز والباب ومنبج وجرابلس والراعي.

إضافةً إلى ذلك، فإنّ النجاح في الاستيلاء على هذه المنطقة يخلق منصّة تصلح لإطلاق الهجمات التي تشنّها تركيا على معقل «الدولة الإسلامية» في الرقة. وفي حين يرغب الأتراك في نهاية المطاف الإطاحة بـ«الأسد»، فهم يعلمون أنّ ذلك بعيد المنال هذا الوقت مع خروج الثوّار من حلب. وبذلك، في حين يعيد الثوّار ترتيب أنفسهم لإنشاء ضغط جديد حول حلب، تحتاج أنقرة إلى توجيه بعض الثوّار باتجاه «الدولة الإسلامية» ودحر الأكراد. وحتّى حدوث ذلك، لن يكون هناك تغيير كبير على مستوى الأراضي التي يسيطر عليها الأكراد.

«الدولة الإسلامية» ليست بهذا الضعف

في حين تواجه «الدولة الإسلامية» ضغطًا شديدًا في العراق، وتفقد الآن الموصل تدريجيًا، يبدو وضعها في سوريا آمنًا. ولا توجد قوّة يمكنها تهديد عاصمتها الرقّة. ويساعد في ذلك الاختلاف بين خصومها، وهو ما يجعل خيار توجيه ضربة مشتركة لها مستبعدًا. كما أنّها قد أثبتت قدرتها على القيام بعمليات هجومية مؤخرًا، باستعادتها لتدمر ومحاولتها السيطرة على قاعدة تي فور الجوية.

وما بين فقدان تدمر والوضع المائع في حلب، فإنّ النظام ليس في وضعٍ يسمح له بتهديد «الدولة الإسلامية». والأكراد غير مهتمّون بإنفاق الكثير على قتال هامشي لا يخدم أهدافهم كثيرًا، ويفضّلون التركيز على مواجهة التهديد التركي. ويترك هذا تركيا وحلفاءها كتهديد وحيد يواجه «الدولة الإسلامية»، لكنّا قد أظهرنا بالفعل أنّهم يحتاجون لوقت طويل قبل أن يكونوا في وضعٍ يسمح لهم بالاستيلاء على معقل التنظيم. وخلاصة القول هنا، في حين تضعف «الدولة الإسلامية» في العراق، فهي لا تواجه أي تهديد خطير على معقلها في سوريا.

خاتمة

هناك ثلاث جهات فاعلة تتحكم بالأراضي في سوريا: نظام «الأسد» والأكراد والدولة الإسلامية. وعلى الرغم من أنّ كلًا منهم يخسر أو يكسب أراضي بمساحات صغيرة، يبقى الثلاثة في وضع ضعيف. ومن غير المرجّح أن يحدث أي تغيير في جغرافيا الأراضي التي يسيطرون عليها في المستقبل القريب.

ترجمة وتحرير شادي خليفة – الخليج الجديد

جيوبوليتيكال فيوتشرز

 

 

 

 

النظام العام يسود في حلب: روزا لوكسمبورغ ونسانيس الأسد/ وسام سعادة

بعد هزيمة انتفاضة السبارتاكيين في برلين، وسحقها على يد حكومة فردريش ايبرت الإشتراكية – الديمقراطية المستعينة بميليشيات «الفرايكوربس» اليمينية المتطرفة، كتبت القيادية الثورية روزا لوكسمبورغ مقالتها الأخيرة قبل اختطافها واعدامها، وهزأت من «حراس النظام العام» (الأوردر) الذين يسعدون كل نصف قرن لأن «النظام العام» عاد يسود في مدينة خرجت عن طوعه. اعتبرت روزا في مقالتها «النظام العام يسود في برلين» أن هؤلاء «الظفراويين» الزاهين بانتصارات الطغاة السفّاحين على المنتفضين والمتمرّدين، من فرصوفيا إلى باريس إلى برلين، لا يدركونّ أنّ «النظام العام» الذي يحتاج دورياً لهذا الكمّ من الذبائح الدموية ذاهب لا محالة نحو خرابه.

في كلمات روزا لوكسمبورغ الأخيرة الكثير من المحفوظ سرّه لحلب، ما دام «النظام العام» أو «الإخماد العام» يتجّه لأن يسود في عاصمة الشمال السوري، هي أيضاً. وعنوان مقالة روزا «النظام العام يسود في برلين» يستعيد في الأساس كلمات وزير الخارجية الفرنسية هوراس سيباستياني أمام البرلمان عام 1831، حيث جاء الرجل، بكل صفاقة، يسخر من المطالبين بدعم الإنتفاضة البولندية بوجه الروس، بأنّه قضي الأمر و»عاد الهدوء»، أي «النظام العام»، أي «الجيش الروسي»، يسود في فرصوفيا المستباحة. بعد 115 عاماً على إخماد الروس لإنتفاضة فرصوفيا، تعود كلمات سيباستياني، بما يعادلها، لتلخّص ما يردّده، ليس فقط النظام البعثيّ وأبواقه وأعوانه، بل أيضاً شبكة واسعة من السياسيين والصحافيين والأكاديميين في الغرب، فتجدهم يرقصون كالنسانيس لأنّ «النظام العام عاد إلى حلب». الإرتياح في الغرب، لمناظر تركيع وإخماد المدن العاصية، من زمن نقولا الأول إلى زمن فلاديمير بوتين، عمره من عمر الحداثة السياسية.

بيدَ أنّ «سيباستيانيي» اليوم سيحتجون، بأنّ السلسلة مقطوعة بين إنتفاضة فرصوفيا وكومونة باريس وروزا لكسمبورغ وبين الفصائل المسلّحة السوريّة التي تنقل بالباصات إلى خارج حلب. فالأرستوقراطية البولندية الثائرة عام 1831، كما الطبقة العاملة البرلينية عام 1919، تشتركان في الإنتماء إلى تركة عصر التنوير الأوروبي، وإنتقال السيادة من الغيب إلى الإنسان، في حين تصعب المكابرة على العداء الدفين الذي تكنّه الفصائل الجهادية في سوريا ضد مشاريع التنوير لتهبيط السيادة من فوق إلى تحت، أي من الإله إلى الإنسان.

والسلسلة هي بلا شك مبتورة. هناك أمل أن تجد ضابط مخابرات سوريّ سمع بالرفيقة روزا لوكسمبورغ، وليس هناك أمل أن تجد من سمع بها بين أمراء الفصائل المسلّحة، بما فيها التي تحيل على مسمّى «الجيش الحرّ» بشكل أو بآخر. الخيارات الأيديولوجية لهذه الفصائل ليست فقط مجرّد «قشرة» عارضة يمكن تنحيتها جانباً، والنفاذ بعد ذلك إلى الوجدان التحرّري المُخزّن أو المورّى، بلا مشاكل. أن تكون الثورة تحرّرية ورجعية في وقت واحد فهذه معضلة لا يمكن حلّها بثنائية «الظاهر الرجعي» و»اللب التحرّري»، أو العكس. وأن تكون الثورة تحرّرية ورجعية في وقت واحد، فهذا تاريخ ممتد، للمفارقة، من إيران حتى سوريا، ايران التي يتحرّك نظامها «الثوريّ الرجعيّ» بشهوانية عطشى لمحاربة «الثورة الرجعية» في سوريا.

بيد أنّ السلسلة المبتورة بين ثورات تنتمي إلى مرجعيات عصر التنوير، وبين ثورات مناوئة للتنوير، لا يعني أنّ السلسلة الموازية، السيباستيانية، من أحباء تركيع المدن العاصية، مبتورة. بالعكس تماماً، هنا يطغى التواصل والتكرار وامتداح «النظام العام» إيّاه، وترنيم الأهازيج المغتبطة بمشاهد «الإخماد»، وفقاً للمعادلة التي نسبها كارل ماركس للفرسائيين الغزاة وهم يهمّون بسحق كومونة باريس، بأنّ «نهاية من رعب خير من رعب بلا نهاية». وأكثر ما يجعل سلسلة السيباستيانيين، موصولة ببعضها البعض، هي فكرة إعادة «النظام العام» (الأوردر): امتداح فضائل ومحاسن «الهدوء» في مدينة مستباحة أو مدمّرة، ونشدان السكينة فوق الركام والجثث. علماً أنّ سيباستيانيي الأمس ما كانوا يعترفون للمتمرّدين والمنتفضين بنسبهم التنويري العقلاني الذي يبرّر سيباستيانيو اليوم نصرتهم لنظام آل الأسد بعدم التزام ثوار سوريا به. بالعكس تماماً. كانوا يعتبرونهم مجرمين ومجانين، و»داعش ونصرة» بالسليقة أو بالدم. فبعد خمس سنوات على سحق كومونة باريس، نشر الطبيب وعالم النفس سيزار لومبروزو كتابه «الإنسان المجرم» عام 1876، كحصيلة لأبحاثه العينية على جثث الضحايا وعلى السجناء من «الكومونار»، «ليخلص» أنّهم مجرمون بالولادة، وهذا باد من تكوينة الفك والأنف والحاجبين، ومن استظرافهم للأوشام. وبالتوازي، طوّرت اللغة المواكبة للإدارة الإستعمارية في القرن التاسع عشر، وفي الهند والجزائر خصوصاً، تفرقة بين «قبائل لصوصية مجرمة» وبين «أقوام محلية محاربة». القبائل المجرمة أعتبرت كذلك بحكم تكوينها الوراثي، وينبغي قمعها أو عزلها وعدم التغافل عن طبيعتها المتأصلة فيها تلك، و»الأقوام المحلية المحاربة» ينبغي الإستفادة من نخوتها وشجاعتها في القتال (ويمكن حتى – بحدود معينة – المحافظة على التقدير المعطى لها حتى لو تمّردت هي الأخرى)، وإستخدامها لتأمين النظام العام، ولو اقتضى الأمر بنقلها إلى مستعمرة أخرى عبر البحار. خلف كل الرطانة حول كون النظام السوريّ «أهون الشرّين»، وحول كون أهون الشرّين هو الشرّ القادر على إخماد الشر الآخر، تجري استعادة هذه الثنائية الكولونيالية التقليدية بين «القبائل المجرمة» وبين «الأقوام المحلّية المحاربة».

يتعاطى النظام البعثي في سوريا مع نفسه على أنّه «النظام الهيكلي» (السستام، أو النسق)، وعلى أنّه «نظام الحكم» (الريجيم)، لكنّ الفرقة «السيباستيانية» الموالية له بين ساسة اليمين واليسار («النابغة» ميلانشون، مثلا!) وفي الأكاديميا والإعلام الغربيين تمتدحه لطبيعة ثالثة، وهي أنّه «النظام العام» (الأوردر)، وأنّ نجاحه في إخماد تمرّد في نقطة بعينها، هو نجاح لكلّ «حرّاس النظام العام» للبشرية «المفيدة» عبر العالم. ينتقل هؤلاء من تجريم متمرّدين بعينهم على نظام الأسد إلى تجريم فعل التمرّد نفسه على آل الأسد. في البدء، يساجلون ضدّ التناول الأخلاقوي للأوضاع السوريّة، فيكون بديلهم عن هذا التناول تجريم المنتفضين والمتمرّدين، وإن لزم يجرّمون الأسد نفسه، لا مشكلة، ما دام المجرم المناط به تحقيق النظام العام وإخماد المجرمين الآخرين! عندما تدعو الناس لأخذ مسافة عن التناول الأخلاقوي للأوضاع يصير غير علمي وغير أخلاقي في آن أن تتناول الأوضاع بشكل «كريمينولوجي» فظ، حتى اذا نحيت عن المشهد الجريمة الكبرى، المتمثلة بواقعة استخدام النظام للسلاح الكيماوي ضد المنتفضين عليه (وتسليمه على أثرها، ترسانته منها في مقابل غض الطرف عنه، بعد قرع طبول الحرب ضده ثم الإستعاضة عنها بعرض المبادلة)، زادت الفاتورة، الأخلاقية والسياسية والعلمية.

بين روزا لوكسمبورغ والفصائل المقاتلة في حلب مسافة من الصعب اجتيازها. لكنّ «الهدوء يسود حلب» كما ساد قبلها كل المدن العاصية على «النظام العام» في القرنين الماضيين. لا يعني هذا أنّ الحرب السورية آيلة للإنحسار، مثلما أنّ الأسلوب «النبوي» لمقالة روزا الأخيرة، عشية اعتقالها وقتلها، مفيد لتشخيص الآلية القربانية لـ»النظام العام»، والمحتفلين بـ»سكينة» المدن المستباحة والمدمّرة، أكثر من فائدته لصالح توقعها أن ينقلب السحر على الساحر في خاتمة الأمر، ولو أنّ روزا أجادت فهم مسألة أساسية، كلية الراهنية حيال سوريا أيضاً، وهي مسألة التناقض بين «النظام العام الذي يسود» في مدينة بعد مدينة، وبين مفهوم «السلام». النسانيس السعيدون بمنظر المدن المحطّمة، والصمت الصاعد من أكوام الجثث، هم أعداء موصوفون لفكرة السلام.

٭ كاتب لبناني

القدس العربي

 

 

 

 

حلب: بين طهران وموسكو وتل أبيب

انتصار بشار الأسد وحلفائه في المدينة سيجعلهم يسعون إلى تحقيق المزيد من الانجازات

صحف عبرية

إن انتصار بشار الأسد في معركة حلب، هو أولا وقبل كل شيء انتصار لبوتين وحرس الثورة الإيراني والمقاتلين من قبل طهران في سوريا وحسن نصر الله زعيم حزب الله. التقى الثلاثة معا في تحالف واحد استطاعت موسكو من خلاله العودة كمنتصرة إلى الشرق الاوسط، أما إيران فقد ضمنت مكانتها كقوة عظمى اقليمية لها تأثير. بين موسكو وطهران توجد خلافات جوهرية حول المستقبل البعيد – من الذي يجب أن يسيطر في سوريا ويفرض على بشار خطواته. ولكن حتى الآن، وفي السنوات القريبة، فإن شراكة المصالح بينهم ستستمر، بل وستزداد.

توجد للأسد كل الأسباب كي يكون راضيا عن نجاحه في البقاء على مدى ست سنوات من الحرب الأهلية الدموية في بلاده. انتصاره في حلب يمنحه دفعة معنوية ويحرم المتمردون من الأمل في الانتصار في الحرب على سوريا. بدون أمل وبدون مساعدة حقيقية من الخارج، فإن فرصة معسكر المتمردين في تغيير الوضع في ميدان المعركة، آخذة في الزوال.  رغم أن التمرد لا زال بعيدا عن نهايته، ولا زال يحظى بتأييد أجزاء واسعة من المجتمع في سوريا.

إن من دفع ثمن انتصار بشار هم سكان حلب، التي دمرها الزعيم السوري بمساعدة حلفائه كي تتحول إلى نموذج ورمز لسكان المدن الاخرى في الدولة، وعلى رأسها العاصمة دمشق، كي لا يخطر ببال هؤلاء السكان الخروج ضده. ولكن يجب الاعتراف بأن التراجيديا في حلب، التي ينشغل العالم بها، هي نقطة في بحر واستمرار مباشر للحرب التي قتل فيها حتى الآن حوالي نصف مليون مواطن سوري، اضافة إلى 10 ملايين فقدوا منازلهم، وثلث السكان اصبحوا لاجئين خارج بلادهم. إن مصير حلب هو برهان واضح على أن المجتمع الدولي غير موجود، ويبدو أنه لن يكون موجودا أبدا، لا سيما بالنسبة للسكان المدنيين الذين وقعوا بين المطرقة والسندان وأصبحوا هدفا للنظام الديكتاتوري وحلفائه. حلب تُدمر وسكانها يُقتلون بالمئات والآلاف ويُطردون من منازلهم، لكن العالم يصمت، باستثناء بعض التنديد أو الأسف من قبل القادة في اوروبا والولايات المتحدة.

بالنسبة لإسرائيل، دروس معركة حلب واضحة. أولا، من يعلق آماله ومستقبله على مساعدة المجتمع الدولي سيخيب أمله. العالم مع الاقوياء والمنتصرين، ويفضل أن تسعى إسرائيل إلى تقوية نفسها كضمانة ضرورية، لو لم تكن وحيدة، لبقاء وجودها ونموها في المنطقة. ثانيا، الحرب في سوريا لن تستمر إلى الأبد. وانتهاءها بانتصار محتمل للنظام السوري وحلفائه قد يكون أسرع مما توقعته إسرائيل. الأسد عاد إلى حلب، ويحتمل أن يكون إلى هضبة الجولان التي خسرها لصالح المتمردين قبل عامين. ايضا نافذة الفرص التي فتحت أمام إسرائيل قبل بضع سنوات، بأن تعمل بشكل حر في سوريا ضد ارساليات السلاح إلى حزب الله، قد يتم اغلاقها.

ثالثا، حتى الآن لا زال بشار الأسد يخضع لتأثير موسكو، إيران وحزب الله. وللوهلة الاولى، موسكو هي صاحبة الموقف الاساسي. ولكن خلافا لروسيا التي توجد جوا وبحرا، وتعتبر ما يحدث في سوريا جزءا من لعبة دولية، فإن لإيران وحزب الله موطيء قدم على الارض على شكل الكثير من المقاتلين النظاميين أو المتطوعين في مليشيات شيعية جندتها إيران من اجل القتال في سوريا.

رابعا، الانتضار في المعركة على سوريا سيحرر القوى والطاقات لدى إيران وحزب الله من اجل التوجه إلى الهدف التالي. فهما لا يبحثان عن مواجهة مع إسرائيل، ويرتدعان عن دفع الثمن، لكن الجرأة والتحريض سيتغلبان بلا شك في اليوم التالي. وأخيرا، الإرهاب والراديكالية الاسلامية لن يختفيا، بل سيتعززان، حيث ستتحول الاحداث في سوريا إلى ادوات لتجنيد الدعم ومحرك لعمليات اخرى. إسرائيل بعيدة عن حلب مئات الكيلومترات، لكن يحتمل أن تدفع هي ايضا ثمن التراجيديا التي حدثت هناك. كل ذلك يجب أخذه في الحسبان والاستعداد لمواجهته.

ايال زيسر

إسرائيل اليوم 18/12/2016

القدس العربي

 

 

 

 

 

راجعين يا هوا/ أمجد ناصر

كأنها النكبة. الخروج. الحلم بالعودة والوعد بها. ولكن، من دون مفاتيح على الأغلب. فلا معنى لحمل مفاتيح بيوتٍ لم تعد موجودة على وجه الأرض. لا معنى لترك طبخةٍ على النار، إذ لم تكن هناك طبخة. ولكن، كانت هناك نيران التهمت كل شيء. مع ذلك يكتبون على الجدران، والقلوب، راجعين يا هوا. هذا ما يفعله واحدٌ نيابة عن مدينة. لا ضرورة لكثيرٍ من الكتابة. واحدٌ يختصر الكل. حائطٌ واحدٌ لا يزال في الوسع الكتابة عليه، ينوب عن جدرانٍ سقطت وعادت إلى مادتها الأولى. قلت كأنها النكبة. مجرّد تسطير هذه الكلمة يحضر العدو. فماذا نسمّي من يجرّدون حلب مما يجعلها مدينةً، ويجعلها قابلةً للسكنى، ويجعلها مجالاً للاجتماع البشري، على النحو الذي تلحظه كلمة مدينة في تاريخ العمران. ماذا نسميهم؟

كنا قادرين على التسمية. كان العدو واضحاً، والتسمية ممكنةً ولائقةً بالمسمّى. كان القاموس محدوداً: ثلاثة أو أربعة ألفاظ. وكان ذلك كافياً لوصف كل شيء. لا حاجة للمزيد. من يستطيع أن يزيد على كلمة عدو؟ لا أحد. لا مجال لاستزادة. غير أن ما يجري اليوم في حلب القتيلة، وسورية المثخنة بالجراح، يستعصي على التسمية، إن أردنا تجاوز قاموس التنابز السائد. أي مأساة أن يتقزَّم العدو، وتتضاءل أفعاله، ويرتد إلى الوراء، عندما تحضر حلب المكللة، مثل المسيح، بالشوك والدم والخذلان؟ أليس هذا أقسى ما تُمتحن به اللغة؟ وأقسى ما تُمتحن به المعاني؟ بل، وقبل كل شيء، أقسى ما تُمتحن به المشاعر؟ لن أدير وجهي إلى الجهة الأخرى، حيث يتحول الموت إلى حياة والهزيمة الإنسانية المريعة إلى انتصار، والخيانة الوطنية إلى مقاومة. لن أفعل. فعلى ذلك الجانب من الجرح ينقلب كل شيء إلى ضدّه، بل يصبح كاريكاتوراً مسخاً للوحشية، وانتهاكاً لدستورها. إذ حتى الوحشية لها حدّ تقف عنده.

لا كلمة “الثورة” كافية ليحلّ بحلب ما حلّ بها ولا “التحرير”. هاتان كلمتان مزوّرتان في واقع حلب، بل في الواقع السوري كله. فلم تعد هناك ثورةٌ مذ تم دحر هبوب الشباب وخروجهم الجماعي إلى الساحات العامة، وطردهم إلى الخارج، إلقاؤهم في السجون، إعدامهم جماعياً، وإحلال قوى نظيرة للنظام الوحشي، ومماثلة له، في “الساحة”، أما التحرير فلا شبيه له إلا الاحتلال. ولم يكن صعباً على شرائح سورية واسعة أن تصف ما يجري بالاحتلال، أياً كانت وجوه الذين يتقدمون من المدن والبلدات المحاصرة. أياً كانت الرايات التي يرفعونها، فقد تساوت راية الدولة براية المليشيا. هذا هو رأيي. ولا انحياز لي في هذه الحرب إلا للسوريين، من بقي منهم، ومن ملأ طرقات العالم. هؤلاء هم الضحايا. وهم الذين يملكون كلمة الحق. لا طرف غيرهم. هم الذين دارت عليهم المحن، وباسمهم، من جانبي الخندق. وهم الذين كتبوا: راجعين يا هوا، بما تخزَّن في أسماعهم من أغنيات الصباح الفيروزية، السورية بامتياز. قلت من قبل كأنها النكبة. وهذا ما طُرح على صادق جلال العظم، في آخر حواراته المنشورة عندنا (ضفة ثالثة). على الرغم من كل هذا التهجير القسري الهائل، لم يقبل العظم، الدمشقي ابن الدمشقي، هذا الوصف. قال إنه ليس لدى السوريين، الذين هُجّروا، شعورٌ بأنهم فقدوا وطنهم، مثلما كان عليه الحال عند الفلسطينيين. تنبأ المفكر السوري الكبير الراحل بأن قسماً كبيراً من هؤلاء سيعودون. وكاد يقول إنه، هو نفسه، سيعود.. لكنه استدرك: لا أظن أنني سأعيش حتى تلك اللحظة بسبب وضعي الصحي. صدقت يا صادق جلال العظم. على الأقل في الشق الأخير، للأسف.

العربي الجديد

 

 

 

بهجة اليسار الدامية/ بسمة النسور

لعلها سبع سنواتٍ مرّت على اللقاء الذي بدا عابراً يومها. مشهد عادي بسيط يتكرّر كل يوم في أسواق المدن القديمة التي يؤمها سياح فضوليون، إذ يهرع الصغار، في العادة، للحركشة بشقاوةٍ وخفة ظلٍ بزوار مدينتهم، غير أن الفتى حسن الحلبي كان مختلفاً عن بقية الصغار بمدى جديته ورصانته وحرصه على احترام خصوصية الآخرين، وقد اعتبر أمر مساعدتي مهمته الجليلة، التي تصدّى لها بمسؤوليةٍ كبرى، وبمنتهى التهذيب. كنت قد تجولت في الأزقة والحارات، متأملةً بإعجاب كبير إيقاع المدينة الضاجّة بالحياة والتنوع والبهجة، في امتدادٍ طبيعيٍّ لتاريخها المجيد، واحدة من حواضر الدنيا الشاهقة. قلت له بعد أن تعرّفت على اسمه: ” أرشدني، يا حسن، إلى سوق الصابون، أريد شراء شيء من صابون الغار الحلبي، الشهير بجودته. فقط دلني إلى الاتجاه، وسوف أتدبر أمري. لست في عجلة”. .. غير أنه أصرّ على مرافقتي، قائلا بلهجته الحلبية الثقيلة المميزة: “لأ، خالة، هالحكي ما بيجوز، لن تتمكني من الوصول بسهولة. الشوارع تشبه بعضها، سآخذك هناك بنفسي”. مشى الصغير محاذياً لي، وقد ترك مسافةً معقولةً بيننا، طفلاً شهماً، عزيز النفس، كريمها. يساعد، بدون أي مقابل، امرأة غريبةً استعانت به بمحض المصادفة، ليقول لها بعد دقيقة: “خالة، تفضلي عنا على البيت، ستفرح أمي بزيارتك”… في تلك اللحظة، لم تعد حلب وجهةً سياحيةً، بل تأنسنت على التو، وصارت مكاناً حميماً يخصّني. لي فيها صديق صغير، وبيت عائلة مستعدٌّ لاستقبالي. قال إنه يذهب إلى المدرسة صباحاً، ويقضي بقية النهار في متجر والده في سوق الهال، يتعلم أصول التجارة، ويتسلى بمشاهدة العابرين.

أحببت تلك المدينة ذات الماضي العريق، واضحة ملامحه في القلعة والأسواق التقليدية المسكونة بوقع الموسيقى والقدود والأصوات الشجية، تنبعث من البيوت القديمة تفاصيل كثيرة متعلقة بالحياة. شدّتني إليها الحِرف اليدوية، أبراج الحمام، الأسوار العالية، بوابات المدينة القديمة، حارة الأكراد، المساجد، والكنائس، سوق العرائس وأثواب الفرح البيضاء منصوبة في الأرجاء، وكذلك المطاعم الشعبية، حيث الكباب الحلبي، والكبة بكل أصنافها الغريبة العجيبة، وماء الورد والحلويات بأشكالها الأنيقة، ومذاقها الأسطوري والألفة التي يلاقيها الزائر في جنبات تلك المدينة الغامضة العتيقة. هذه الأسواق الضاجّة بالحياة شاهدة على حلب الحضارة والجمال والاكتفاء، إذ يجد المرء كل حاجاته “من حصيرة القشّ حتى اللآلئ”، كما وصفها أحد الرحالة، والأهم من ذلك كله، ناسها الطيبون الكرماء. لم يغب حسن الصبي الطيب الذي صار شاباً الآن لحظةً عن بالي، منذ بداية العدوان الآثم المجرم والمجازر الطائفية العرقية المروّعة القذرة المرتكبة بحق أبناء حلب الأبرياء، وهم المسالمون عشاق الحياة وصناعها على مدى التاريخ.

يجري كل ذلك القبح الدائر أمام ناظر البشرية، التي نزعت عنها رداء الإنسانية، واصطفت تتفرج وتندّد بحربٍ جائرة، قامت بذريعة إرهاب مفتعلة، إرهاب هو في الواقع الحليف والذراع والمبرّر والبعبع المبتكر والضروري لبقاء الديكتاتور على عرش من جماجم وعويلٍ ودماء. طاغية دمّر بكل حقد الدنيا بلداً كان قبلة العرب جميعاً قبل خطيئة والده التصحيحية الخائبة، قتل وهجّر وشرّد في أقاصي الأرض أكثر من نصف شعبه، واستباح واغتصب وسجن وأباد وأحرق وطغى في الأرض واستكبر، مدعوماً بقوى الشر السوداء، يعزّزه خطابٌ طائفيٌّ تعبوي مقيت، وكذبة مقاومة مفضوحة، ويسار متواطئ، لا يريد أن يرى أبعد من أنفه، وقد تنكّر لكل قيم الرأفة والرحمة، حتى صار كل ذلك الهول من مشاهد الجثث المحروقة المقطّعة أوصالها، المرمية في الشوارع، لأطفال حلب البؤساء، مصدراً كبيراً لبهجة اليسار الدامية، وصمة عار إضافية تجلل تاريخهم الملتبس.

حماك الله وعائلتك، يا صغيري حسن الحلبي. أصلّي كي لا تكون في عداد الضحايا. المجد والخلود للشهداء. عاشت حلب، وليسقط الطاغية والمصفّقون له من معدومي الذمة والضمير.

العربي الجديد

 

 

 

 

أوهام القوة والنصر بعد حلب/ سامح راشد

تلوح في الأفق بوادر اتفاقٍ حول وقف إطلاق النار في سورية، وهو أمر مؤسف حد الخزي، أن يتم التوصل إلى وقف النار، مباشرةً بعد الانتهاء من تدمير مدينة حلب وتهجير أهلها. كأن العالم كان ينتظر الوصول إلى هذا الوضع اللاإنساني، قبل أن يتحرّك، ليس لإنقاذ أرواح السوريين، ولا لمنع تدمير المدينة التاريخية، وإنما لوقف قصفٍ لم يعد مطلوباً. الوضع الجديد في حلب، لا حاجة فيه ولا ضرورة لأية عملياتٍ عسكرية، بعد أن دمّرت قوات (وطائرات) الأسد وحلفائه كل ما كان يمكن تدميره. لذا، ليس مفاجئاً أن تقبل كل الأطراف وقف النار، بما فيها روسيا وإيران. إضافة بالطبع إلى الدول التي تسعى، أصلاً، إلى وقف تلك المأساة، وفي مقدمتها تركيا وقطر.

وبينما يستعد بشار وحلفاؤه لخوض معارك أخرى، على الدول الداعمة للشعب السوري الاستعداد، هي الأخرى، لمرحلة ما بعد حلب. فمأساتها تقدّم دروساً بليغة على المستويات كافة، دروساً ليست إنسانية وحسب، بل سياسيةً بالأساس. فلولا الحسابات السياسية وتوازنات المصالح، لما تركت حلب لتواجه مصيرها الأسود الذي آلت إليه. ويشير الواقع والتجارب السابقة إلى أن حسابات المدعو “المجتمع الدولي” ومصالحه لا تهتزّان أمام المشاهد الإنسانية المؤلمة. وما جرى في حلب وقع من قبل، لكن على نطاق أضيق، في القصير وريف دمشق ومناطق أخرى، وتغافل عنها العالم. وإن كان المدنيون السوريون مغلوبين على أمرهم، فإن العالم مطالبٌ بألا يقف متفرجاً، مرة أخرى، بينما يجري بدم بارد إعدام الإنسانية وذبح القيم والمبادئ الأخلاقية للبشر.

لكن، قبل الدول المعنية والأطراف المنخرطة في الأزمة السورية، هناك مسؤولية كبرى تقع على عاتق فصائل المعارضة السورية، بمختلف توجهاتها وأذرعها، من دون استثناء. فقد اضطر المقاتلون في حلب إلى الانسحاب والخروج بعد ممانعةٍ طويلة، تعرّضوا خلالها لخسائر فادحة، فضلاً عن الدمار الشامل الذي لحق بالمدينة والمدنيين. وعلى الأذرع العسكرية للمعارضة والمقاتلين الذين سيخوضون المعارك التالية بعد حلب الاستفادة من دروس حلب العسكرية والسياسية، وقبلهما الإنسانية. سواء بتطوير التكتيكات العسكرية المتبعة، في حدود الإمكانات المتاحة المحدودة، أو بإعلاء الأبعاد الإنسانية على المواقف السياسية والحسابات العسكرية.

ربما لا تكون المعركة القادمة بصعوبة حلب، وعلى الأرجح، لن تكون غير آدمية بالدرجة التي شهدتها حلب. لا يعني هذا أن الحرب غير الأخلاقية التي تجري في سورية ستتحول فجأة إلى أخلاقية، لكنها كانت بالفعل قد تدنّت إلى أسفل مستوىً، يمكن أن يصل إليه بشر. فضلا عن ذلك، لن يحتاج بشار وحلفاؤه إلى ذلك التوغل في البشاعة والترويع، فما جرى في حلب كان مقصوداً ومتعمداً، ليس فقط لإخراج المقاتلين من حلب، أو الاستيلاء عليها، فتحقيق ذلك كان ممكناً من دون حاجةٍ إلى كل ذلك العنف. بينما كان إحداث أكبر قدر من الصدمة والرعب لمقاتلي المعارضة وللمدنيين وللعالم أجمع، لكي تكون حلب نموذجاً يحاول الجميع تجنبه لاحقاً. إنها فكرة “الردع المؤلم” الذي لا يعتمد التهديد، وإنما الاستخدام الفعلي لكل ما يُتاح من قوةٍ، وبأقصى درجات القسوة والدموية.

سبق استخدام هذا المنهج الوحشي في حالات مختلفة، طبقه الأميركيون في العراق، والإسرائيليون في غزة مراتٍ. وفي كل الحالات، كانت النتيجة الفورية خسائر فادحة بين المدنيين، وتراجع قدرة المسلحين على مواجهة العدو الأقوى. أما النتائج الأخطر، فهي تلك التي لا تظهر في المعركة التالية مباشرة، والتي تثبت فشل “الصدمة والرعب” في تحقيق نصر عسكري، أو فرض حل سياسي. فما يبدو فوزاً قريباً يغري بمزيدٍ من العنف والدمار، ليس سوى نصر متوَهَّم. وهو أكثر خطورةً وكارثيةً على أصحابه، من الخسائر الحقيقية المؤلمة لأصحاب الحق والمغلوبين على أمرهم.

العربي الجديد

 

 

 

صفقة روسية – أميركية في مرحلة ما بعد حلب/ خيرالله خيرالله

ما الذي ستفعله روسيا بـ“الانتصار” الذي حققته على حلب وأهل حلب؟ هذا السؤال مطروح بحدّة نظرا إلى أن روسيا – فلاديمير بوتين في أساس كلّ ما يجري في المدينة وحولها، بما في ذلك المجازر التي ترتكبها العناصر التابعة للنظام السوري، وهي مجازر سمحت لبشّار الأسد بالقول إنّه “يكتب التاريخ”. إزالة حلب وأهلها من الوجود، صارت بمثابة كتابة للتاريخ. إنه تاريخ تكتبه أيضا المجازر التي تشارك فيها العناصر المسلّحة التي أتت بها إيران إلى الأراضي السورية وتضمّ مقاتلين من “الحرس الثوري” ومن ميليشيات مذهبية لبنانية وعراقية وأفغانية وباكستانية…

يُستبعد أن تهدي روسيا “الانتصار”، الذي أدّى إلى تغيير طبيعة المدينة وإزالة قسم منها من الوجود وتهجير عشرات الآلاف من أهلها، إلى إيران. يُستبعد أن تستسلم لإيران كما فعلت الولايات المتحدة في العراق، لا لشيء سوى لأنّ لروسيا حساباتها السورية التي تقوم على البناء على ما بقي من مؤسسات الدولة السورية، علما أنّه لم تكن في هذه الدولة أيّ مؤسسات حقيقية باستثناء المؤسسات الأمنية التي تحوّلت مع الوقت، خصوصا منذ انقلاب الثالث والعشرين من شباط ـ فبراير 1966، إلى مؤسسات يسيطر عليها فعليا العلويون الذين يشكلون أقلية قد تصل إلى نسبة اثني عشر في المئة من السكّان في أحسن الأحوال.

لن تكشف روسيا الأفكار العريضة لمشروعها السوري قبل خروج باراك أوباما من البيت الأبيض. الرئيس فلاديمير بوتين رجل عملي وهو يعرف أن في الإمكان عقد صفقات مع دونالد ترامب ومساعديه، على رأسهم وزير الخارجية المعيّن ركس تيلرسون الذي حقق نجاحات كبيرة في مجال الأعمال بصفة كونه رئيس “اكزون – موبيل” وهي من أكبر شركات النفط في العالم.

استطاع تيلرسون التعاطي مع بوتين وأفراد الحلقة المحيطة به. شكا من العقوبات التي فرضتها بلاده على روسيا بسبب أوكرانيا. اتبع في كلّ وقت نهجا براغماتيا في تعامله مع القيادة الروسية وذلك حرصا على مصالح الشركة التي يمثّلها. قلّده الرئيس الروسي “وسام الصداقة” في العام 2013. تكمن أهمّية وزير الخارجية الأميركي الجديد، الذي لا يزال في حاجة إلى موافقة الكونغرس على تعيينه في هذا الموقع، في أنّه يعرف روسيا عن ظهر قلب. إنّه يختلف تماما عن باراك أوباما ورجاله المعجبين بإيران وليس بطرف آخر غير إيران من جهة، والذين يجهلون كلّ شيء عن روسيا من جهة أخرى. كان ذلك كافيا كي يُقدم أوباما على أكبر جريمة ارتكبتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط عندما قبل نصائح بوتين ولم يردّ على استخدام بشّار الأسد السلاح الكيميائي لإبادة الآلاف من السوريين صيف العام 2013.

الأهمّ من ذلك، أن تيلرسون يختلف كلّيا عن جون كيري. يعرف الشرق الأوسط والخليج، بما في ذلك اليمن، إضافة إلى معرفته العميقة بروسيا. لن يستطيع وزير الخارجية الروسي سرجي لافروف الضحك عليه كما يفعل مع كيري. “البيزنس” هو “البيزنس”. لماذا لا تكون هناك إذا صفقة روسية – أميركية في شأن سوريا؟ سيترتب في هذه الحال أن تقدّم موسكو الخطوط العريضة لمثل هذه الصفقة التي لا يمكن أن تؤدي إلى سيطرة إيران على البلد، على غرار ما هو حاصل في العراق. صحيح أن النظام الإيراني أرسل قوات إلى حلب، صحيح أنّه يمسك ببعض القوى التي تبقي بشّار الأسد في دمشق، لكنّ الصحيح أيضا أن روسيا على علاقة تاريخية بالنظام السوري ومؤسساته. عندما وُضع العماد علي حبيب، وزير الدفاع، في الإقامة الجبرية بعد اندلاع الثورة السورية في آذار – مارس من العام 2011 لرفضه قمع أبناء الشعب السوري، فإن روسيا هي التي أخرجت هذا الضابط العلوي الكبير من دمشق بحجة أنّ عليه أن يتابع علاجا في موسكو!

ما يمكن أن تعرضه روسيا على الولايات المتحدة، بعد تولي دونالد ترامب مهماته رسميا في العشرين من الشهر المقبل ( كانون الثاني ـ يناير 2017) هو خطوط عريضة لتسوية في سوريا تضمن المحافظة على ما بقي من جيش والاستعانة بكبار الضباط فيه. معظم هؤلاء الضباط من خريجي الأكاديميات العسكرية السوفيتية ثمّ الروسية. هناك كثيرون متزوجون من روسيات. الأهمّ من ذلك كلّه، أن التسوية يمكن أن تشمل كيفية توزيع المناصب الرئيسية على الطوائف كي يبقى رئيس الجمهورية علويا، فيما يكون رئيس الوزراء سنّيا ويمتلك صلاحيات محددة وواضحة في آن، وذلك حسب نصّ دستوري. الهدف من ذلك، طمأنة العلويين إلى مصيرهم. كذلك الأقليات، بمن في ذلك الدروز والمسيحيون والإسماعيليون. سيطرح في ضوء الصفقة مصير بشّار الأسد. ليس معروفا هل تشمل إبقاءه في موقعه سنة أو سنتين، علما أنّ ولايته الرئاسية تنتهي في السنة 2021. هذا يعني أنّ روسيا تعرف قبل غيرها أن الرجل لم يعد رئيسا للجمهورية، وأن لا بدّ من الاستغناء عنه في مرحلة معيّنة في مقابل اعتراف الولايات المتحدة بأنّ سوريا منطقة نفوذ روسية.

الأكيد، أن لا بدّ من الآن فصاعدا الكلام عن مرحلة ما بعد حلب، وهي مرحلة صنعتها روسيا التي لعبت الدور الأساسي في تدمير منازل الحلبيين على رؤوسهم. قصفت المدارس والمستشفيات. عملت كلّ شيء، مستغلة أن باراك أوباما ووزير خارجيته لا يحسنان سوى الكلام، من أجل الوصول إلى مرحلة تستطيع فيها عرض صفقة على إدارة دونالد ترامب.

من سيكتب تاريخ سوريا في مرحلة ما بعد حلب؟ الأكيد أنّ ليس بشّار الأسد من سيكتب تاريخ هذه المرحلة. تريد روسيا مكافأة على الجرائم التي ارتكبتها. وهذا يقود بالطبع إلى التساؤل ما الذي ستفعله إيران في حال حصول الصفقة الروسية – الأميركية؟ من سيعطي إيران حصّة، علما أنها هي التي استنجدت في خريف العام 2015 بفلاديمير بوتين من أجل الحؤول دون سقوط النظام السوري. ستسعى إيران إلى البقاء في سوريا. تعتبر أنّها استطاعت تغيير طبيعة دمشق ووضعها الديموغرافي، كما استطاعت تغيير وضع كل منطقة الشريط الحدودي اللبناني – السوري وذلك من أجل إقامة ممرّ يربط الأراضي السورية بـ”دولة حزب الله” في البقاع اللبناني.

يظلّ البقاء في سوريا مسألة في غاية الأهمّية بالنسبة إلى إيران التي تعتبر “حزب الله” أهمّ إنجاز حققته خارج أراضيها منذ انتصار “الثورة الإسلامية” في العام 1979. كيف ستواجه إيران احتمال الصفقة الروسية – الأميركية في شأن سوريا، والتي لا يستطيع فلاديمير بوتين سوى الدخول فيها إذا كان يريد إقامة علاقات أكثر من طبيعية مع إدارة ترامب والتفاهم معها في ما يخص ملفات كثيرة؟ تأتي في مقدّم هذه الملفات مناطق النفوذ الروسية وأوكرانيا والغاز والنفط واستمرار العقوبات الأميركية والأوروبية على الكرملين…

إعلامي لبناني

العرب

 

 

 

أخطاء حلب/ عبد الرحمن الراشد 

ما يجري في سوريا حرب، وفي الحروب نعرف كيف تبدأ، لكن لا أحد يجزم كيف ستنتهي.

حلب، كبرى المدن، بدأت بانتفاضة من أهلها، وانتهت بسقوطها في الأيام الماضية في قبضة تحالف نظام دمشق مع الإيراني والروسي. لكن الحرب لم تنته؛ حيث بقيت نحو نصف أراضي البلاد خارج سيطرتهم، فلا يستعجلن أحد النهايات مهما بالغوا في الدعاية والاحتفالات.

وحلب بالفعل كانت معركة مهمة تستوجب المراجعة، وسقوطها لا يعبر عن انتصار حلف الأسد بل عن فشل حلف الثوار وحلفائه في إدارة الأحداث؛ فقد انتفضت المدينة مبكرًا، منذ يوليو (تموز) عام 2012، واستمرت جبهة مشتعلة، ورمزًا للثورة السورية، ونجح الثوار في ربطها برًا بمدينة حماه، مما أعطى تأكيدًا على جدية الانتفاضة.

وخلال أربع سنوات لم تعش هذه المدينة ليلة هادئة مع محاولات النظام استعادتها، مدركًا أن حلب قد تصبح مركزًا لحكومة المعارضة وقيام بداية دولة بديلة. النظام لجأ إلى حيلة تخويف العالم من الإرهاب فأفرج عن معتقلي الجماعات المتطرفة، زاعمًا أن المعارضة ليست إلا «القاعدة»، وبالفعل تأسست جماعات متطرفة مسلحة موازية للمعارضة. «داعش» بكل تأكيد هو امتداد لتنظيم الزرقاوي (القاعدة)، وقد كرر النظام السوري خبرته وتجربته؛ حيث إنه كان الراعي للمعارضة العراقية، خاصة المتطرفة المحسوبة على «القاعدة». «داعش» ظهر بقوة، وبدعاية صاخبة، بإعداماته الاستعراضية البشعة التي روعت ونفرت العالم مما يحدث في سوريا.

لكن تنظيمات أخرى متطرفة ولدت لاحقًا، أبرزها «جبهة النصرة»، أيضًا هي امتداد لتنظيم «القاعدة»، لم تكن محسوبة على النظام السوري. وبكل أسف وجدت تأييدًا من أطراف إقليمية، وسمح لمقاتليها بالعبور، ووجدت الرعاية الإعلامية. كان من المؤكد أن دخول تنظيمات دينية متطرفة مسلحة سيخدم النظام وسيخيف الحكومات الإقليمية والدولية. فالأردن الذي كان ممرًا ومقرًا تراجع وقلص دوره. السعودية شنت حملة كبيرة تطارد كل من تثبت له علاقة بدعم هذه الجماعات أو يحاول السفر للالتحاق بها. انشق معسكر حلفاء المعارضة السورية إلى فريقين؛ فريق مع الجيش الحر، وهو يمثل المعارضة الوطنية، وفريق مع التنظيمات المتطرفة، اعتقادًا أنها أسرع وأقوى، وهي رد على تحالف قوات النظام الوحشي. بدت سوريا كما لو أنها ساحة تنافس على القيادة الإقليمية، فتكررت أخطاء لبنان، عندما انقسمت القوى الإقليمية بين مؤيد لـ«حزب الله» ومناصر لفريق «المستقبل»، في معركة عززت وضع إيران ومكنت الأسد وحلفاءه من اغتيال العديد من القيادات المعتدلة والهيمنة على لبنان.

الذين دعموا «جبهة النصرة»، وبقية التشكيلات المتطرفة، عمليًا ساندوا النظام السوري وسهلوا على إيران وروسيا وميليشياتهم الوجود بحجة مقاتلة الإرهابيين.

حرب السنوات الخمس في سوريا دارت وتدور بين فريقين رئيسيين؛ بين قوى تمثل غالبية الشعب السوري، والنظام الأمني العسكري، وفيها أيضا الجيوب الإرهابية التي تمثل خطأ استراتيجيا خطيرا. ولا يبرر تحالف النظام مع «داعش»، خاصة في الرقة، وشراء البترول منه، اللجوء إلى «جبهة النصرة»، لأن مشروع الثورة ومشروعيتها يتناقضان مع الاعتماد على جماعات متطرفة. وإلى عام 2015 كان الجيش السوري الحر الذي يهيمن على معظم سوريا، وكانت مظلته السياسية (الائتلاف الوطني)، قد برهن على التنوع والتعددية وتمثيل مكونات المجتمع السوري.

بكل أسف، وبسبب التنافس، تم التضييق إقليميًا على الجيش الحر من الحلفاء أنفسهم. ومع ظهور الجماعات الإرهابية على جانبي المعركة وجدت الدول الغربية حجة تبرر لنفسها منع المعارضة من الحصول على الأسلحة النوعية مما سهل على النظام تنفيذ عمليات القصف الوحشية والإبادة والتهجير للتجمعات البشرية في المدن.

هذه الأخطاء ليست وحدها وراء سقوط حلب، وتقلص المناطق المحررة، حيث إن دخول إيران وروسيا الحرب، وتساهل الإدارة الأميركية مع قيام هذا التكتل الضخم، تسببا في الوضع المأساوي الذي نراه اليوم.

مع هذا فإن المعادلة القائمة على الأراضي السورية التي مكنت النظام وحلفاءه من التفوق لا يمكن أن تدوم لأسباب سورية داخلية، حيث لا تزال الأغلبية معادية للنظام رغم نجاحه في تهجير خمسة ملايين سوري إلى خارج البلاد، وكذلك بسبب ضرورات التوازن الإقليمي الذي لا يحتمل التمدد الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن.

الشرق الأوسط

 

 

 

مثقفون عرب يؤكدون وقوفهم إلى جانب حلب والثورة السورية

أصدرت مجموعة من المثقفين العرب بياناً أكدوا فيه وقوفهم إلى جانب ثورة الشعب السوري، ودعمهم لأبناء حلب الذين يتعرضون لمذبحة معلنة يقوم بها النظام السوري ومليشيات طائفية مستجلبة من خارج سورية.

وأكد الموقعون على البيان “وقوفهم المبدئي وغير المشروط مع ثورة الشعب السوري المشروعة ضد الاستبداد والظلم والطغيان والفساد، المتمثل في نظام فاشي توريثي وطائفي، وقف منذ أربعين عاماً، ضد أحلام شعبه في الحرية والديمقراطية، وبناء دولة المواطنة التي تتسع لجميع مكونات الشعب السوري العظيم، دون تمييز بين عرق ودين وطائفة، بعيداً عن المظاهر المشوهة التي شجعها واستفاد منها هذا النظام وحده، مثل “داعش” والمنظمات المتطرفة التي ابتعدت كثيراً عن طموحات السوريين الأصيلة بالحرية”.

واعتبر البيان أن هذه المنظمات “لم تكن يوماً جزءاً من الثورة السورية، بل حرباً عليها وعلى فصائلها الساعية إلى مستقبل أفضل للشعب السوري”.

كما أكد الموقعون أنهم “يقفون وبلا تردد مع أبناء حلب الذين يتعرضون الآن لمذبحة دنيئة ومعلنة، لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، يقوم بها النظام السوري بمعونة مليشيات طائفية مستجلبة من الخارج بصيحات الثأر التاريخي وبمشاركة وقحة ومستنكرة من قبل إيران وروسيا بما أصبح يشكل احتلالاً أجنبياً يرمي قواعده فوق أرض سورية العربية وبتواطؤ دولي تقوده أميركا ودول الغرب والأمم المتحدة في ظل تخاذل عربي صارخ ومريب”.

وناشد الموقعون على البيان “كل الأحرار في العالم العربي والعالم عموماً الوقوف في وجه هذا النظام المجرم وحلفائه، والدفاع عن حق الشعب السوري في الحياة الحرة والكريمة، التي ذهب من أجلها مئات الآلاف من الشهداء والجرحى والمعتقلين، والملايين من المهجرين والمنفيين في بقاع الأرض، ولتوقف هذه المذبحة الشريرة والمستمرة منذ ست سنوات طويلة والتي باتت ترهق الضمير العالمي، وترهق أرواح الشرفاء على هذا الكوكب”.

 

ووقع على البيان كل من:

 

الياس خوري (كاتب/ لبنان)، أمجد ناصر (شاعر وصحافي/لندن)، أحمد نسيم البرقاوي (كاتب ومفكر)، أسماء الغول (كاتبة/فلسطين)، أمير داود (كاتب/ فلسطين)، انشراح عاشور (باحثة)، سلامة كيلة (كاتب)، أحمد علي الزين (كاتب وإعلامي/ لبنان)، هدى جعفر (كاتبة/ اليمن)، محمود خزام (ناشط/ اليونان)، فايز سارة (كاتب وسياسي سوري)، عاصم الباشا (نحات وكاتب سوري/إسبانيا)، ثائر موسى (مخرج سوري/ السويد)،

ميساء شقير، عزة البحرا (ممثلة/ السويد)، أنيس منصوري (أخصائي نفسي/ تونس)، سماح أبو بكر (صحافية/سورية)، فارس الحلو (فنان)، علاء الدين حسو، علاء حليحل (كاتب/فلسطين)،

مبارك العامري (شاعر/مسقط)، وريع لحسن (صحافي/المغرب)، مهيب البرغوثي (شاعر/ فلسطين)، غازي الذيبة (شاعر/ الأردن)، منصور سلطي (ممثل ومخرج مسرحي)، نبيل سايس (كاتب ومخرج)، اسماعيل الأشقر (مهندس)، عبد الحكيم قطيفان (فنان)، شهيرة شرف (باحثة/ هولندا)، رحاب حسون (ناشطة سياسية/ألمانيا)، ماري تيريز كيرياكي (ناشطة اجتماعية / النمسا)، محمد كفينة (صحافي/ هولندا)، ضي رحمة (مترجمة/ مصر)، صدام العبدالله (شاعر)، يونس العطاري (شاعر/كندا)، عمر شبانة ( شاعر/ الأردن)، عصام السعدي (شاعر/الأردن)، باسمة الشيخ (ناشطة سياسية/ألمانيا)، لمى أبو عودة (أميركا)، منهل السراج (كاتبة)، ناديا عيلبوني (كاتبة/النمسا)، نجاح سفر (صحافي)، منصور أتاسي (ناشط سياسي)،

عزام أمين (أستاذ جامعي)، ضحى عاشور (ناشطة)، سميرة مبيض (باحثة/ألمانيا)،

ديب قات (فنان/روسيا)، فارس الذهب، فايز العباس (شاعر)، ناهد بدوية، محمد المطرود (شاعر/ألمانيا)، نوار بلبل (ممثل سوري)، ريما فليحان (كاتبة)، هناء جابر(جامعية/باريس)،

نبيل الخطيب (عمان)، مازن ربيع، ميشال شماس (محامٍ)، خلدون النبواني (أستاذ جامعي/ باريس)، محمد زاده (شاعر/ ألمانيا)، عيسى الشيخ حسن، موسى سلامة(أستاذ جامعي/فلسطين)، كميل داغر (محام وكاتب/لبنان)، نصري حجاج (مخرج سينمائي/ النمسا)،

دلال البرزي (كاتبة/لبنان)، سناء حويجة (ناشطة)، عساف العساف (كاتب/ سورية)،

غطفان غنوم (مخرج سينمائي)، عبير حيدر (باحثة/النمسا)،

وديع حمدان (ناشط/ لبنان)، بسام يوسف، سليم البيك (كاتب)، مبروك بوطقوقة(استاذ جامعي/الجزائر)، معين الطاهر(باحث سياسي/ فلسطين)، أكرم الصفدي، سعود المولى(استاذ جامعي/لبنان)، عاصم حمشو، شادية العارف، نوال الحاج خليل(مهندسة/كندا)،

وائل سعد الدين (شاعر/تركيا)، مي سكاف (ممثلة)، علاء الدين نقشبندي، كريم العفنان (صحافي/لندن)، معن البياري (صحافي/ فلسطين)، سامي داوود (السويد)، مبروكة علي (كاتبة/ تونس)، جمانة مرعي (حقوقية)، حسام الدين درويش (باحث)، زياد بركات (كاتب فلسطيني)،

محمد كريشان (إعلامي وكاتب تونسي)، محمود مراد (إعلامي مصري)، تحسين الخطيب (كاتب ومترجم أردني)، حسن ابراهيم الحسن، هيا محمد (فنانة)، عمر عبد اللطيف(صحافي سوري)، إياد حياتلة (شاعر/ فلسطين)، أحمد عقل (لبنان)، نائل بلعاوي (كاتب/ النمسا)،

صلاح فائق (شاعر)، ثائر الخطيب، أكرم عزاوي (لبنان)، العربي رمضاني (الجزائر)، صادق أبو حامد(صحافي/ فرنسا)، خليل حنون (منتج/ لبنان)، خالد حمادة (ناشط/إسبانيا)، عدنان ابو شقرة(صحافي/ السويد)، بيان ترتوري (فلسطين)، محمد بن الأمين (فنان تشكيلي /ليبيا)، فدوى العلواني (مخرجة/ المغرب)، زينة علوش (لبنان)، بشار عمر الحسن(السويد) ، حسام ميرو (ناشط)، الياس ديب (لبنان)، مايا محي الدين (لبنان)، ماجدة القاضي (مذيعة مصرية)، عماد فرارجة، عربية العباسي (مخرجة تونسية)، سناء البرزي (لبنان)، دعاء علي (طبيبة مصرية)، غياث المدهون (شاعر/السويد)، خالد عيسى (السويد)، د.منى فياض (كاتبة وأكاديمية/ لبنان)، فادي طفيلي (شاعر/ لبنان)، زينا الحلاق، ديانا مقلد (إعلامية/لبنان)،

شهيرة شرف (باحثة)، دنيا أبو الحسن، رولا صالح (لبنان)، باسل صالح (أكاديمي/ لبنان)،

محمد أحمد شومان، زياد خلة (ناشط/ ألمانيا)، ميساء العزة (مرشدة نفسية/ فلسطين)، روان السعدي (الجزائر)، وسيم أبو حسان (ألمانيا)، مصطفى أبوهنود (مخرج/ باريس)، بسام قطيفان (مخرج/ سورية)، ريم عبد الحميد (صحافية/ فرنسا)، طلال طعمة (صحافي/ لبنان)، حسن مرزوقي (إعلامي/ تونس)، غازي دحمان (صحافي/ سورية)، صبحي دسوقي (كاتب سوري)،

ميخائيل سعد، حمدي البكاري (صحافي/ اليمن)، نديم الملاح (صحافي/ الأردن)، أحمد جرار (صحافي/ الأردن)، حمزة الراضي(صحافي/ المغرب)، فدوى روحانا (مصورة فوتوغرافية / فلسطين)، مطيعة الحلاق (صحافية/ لبنان)، محمود الزيبق (صحافي/ سورية)، مصطفى الوسناني (صحافي/ المغرب)، هيام الشيروط (اعلامية/ النرويج)، سمعان خوام (فنان تشكيلي /لبنان)، دينا أبو السعود، جمال باكير(مخرج/ الأردن)، فاطمة جبيلي (لبنان)، عدنان جابر (كاتب/ فرنسا)، ياسر خنجر (شاعر/الجولان السوري المحتل)، وئام عماشة، نور الملاح (كاتب/ مصر)، كاملة القيسي (لبنان)، أحمد حريري (لبنان)، محمود رمضان (فلسطين)، حسين الراعي (استاذ جامعي/ السويد)، عبد الرزاق قيراط (كاتب/ تونس)، ابراهيم هواش(السويد)، بضرى الموغلي (استاذة/ المغرب)، فاطمة كليين (رسامة/ المغرب)، تيسير محمد (ناشط سياسي)، فيصل حميدي (محام)، خليل نصيرات (مخرج، الأردن)، مصطفى الولي (كاتب/ ألمانيا)، محمد كتيلة (كاتب/ كندا)، لارا الرز (طبيبة/ لبنان)، بسام درويش(صحافي/ غزة)، محمود زغموط (كاتب/ فلسطين)، عارف منصور (ناشط سياسي/ لبنان)، أحمد مراد (صحافي/ لبنان)، عبد الكريم مزعل (أكاديمي/ فلسطين)، سالم خلة/ ناشط حقوقي/ فلسطين، مراد أبو رومي/ الأردن، مصطفى بنعزوز / شاعر/ المغرب، بلال يدك / صحافي/ فرنسا، محمود الكنب/ صحافي/ سورية، فاطمة التريكي/صحافية/ لبنان، أحمد عاشور/ صحافي، حبيب الراعي / أستاذ جامعي / السويد، محمد الشهابي / السويد، تمارا كيلة / طبيبة / الأردن، نزار السهلي، بشرى الموعلي / أستاذة/ المغرب، تيسير محمد / مرشد اجتماعي/ فلسطين، فيصل حميدي / محام/ فلسطين، صالح حديب/ معلم/ فلسطين، غادة نور الدين/ شاعرة/ لبنان.

العربي الجديد

 

 

 

حلب ورقة تمهيدية في “الصفقة الكبرى”/ راغدة درغام

ماذا بعد معركة حلب وما فعلته بموازين القوى الإقليمية والدولية على وقع انهيار المعايير والأعراف والقوانين الإنسانية؟ روسيا أوضحت منذ البداية أن لا خيار سوى الانتصار في حلب مهما كلّف الأمر حتى ولو تمّ ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. إنما ماذا ستفعل روسيا بانتصارها الملوّث؟ هل جهّزها هذا الإنجاز، وفق ما تراه، للبدء في التفاوض مع الولايات المتحدة على الصفقة الكبرى؟ أم إن هذا مجرد فوز بمعركة وليس كسب حرب، ما يجعل الصفقة بعيدة المنال ويوحي بأن النزيف مستمر في سورية المفككة؟

ما يُعرف بالفترة الضائعة بين الفوز في الانتخابات الأميركية وتسلّم الرئيس المنتخب مفاتيح البيت الأبيض شكّل فرصة للمحور الذي يضم روسيا وإيران وميليشياتها إلى جانب النظام في دمشق، وتدعمه الصين أيضاً – فرصة، الفرز الدموي ميدانياً لتثبيت موازين عسكرية وفرضها بثقة في أن الولايات المتحدة غائبة عن القرار أثناء الوقت الضائع – حتى إزاء ارتكاب المجازر – ولن تتحرك. هكذا، هيّأ المحور أرضية جاهزة للرئيس المنتخب دونالد ترامب تتلاءم مع رغبته في التخلص والتملص من ملف سورية بعدما كان المحور قد استفاد كثيراً من تردد الرئيس باراك أوباما وتلكؤه في المسألة السورية.

فكلا الرئيسين انعزالي في هذا المجال، وهذا ما قوّى عزم أقطاب المحور على حسم معركة حلب بأي كلفة ومهما كان الثمن. إيران تعتبر حلب فوزاً لها وانتكاسة للدول العربية الخليجية المعارضة لها، بالذات للسعودية. مواقف دول مجلس التعاون الخليجي متباينة، شعوبها منشغلة بمستقبلها وطموحاتها ولا تريد الانجرار إلى الحروب في البقع العربية من سورية إلى ليبيا – وحتى اليمن. لذلك، هناك ذلك المقدار من الضبابية في المواقف الخليجية الرسمية والشعبية وهناك انفصام وانفصال عن المنطقة العربية غير الخليجية. سواء كان بعض الأدوار الخليجية في الدول الملتهبة خطأ أم لا، فما يريده الخليجيون الآن هو الحفاظ على تلك الواحة الباردة في خضمّ اللهيب. أما شعوب الدول التي تلقّت الوقود وسكب الزيوت عليها، فإنها تشعر بأنها ضحية الاستخدام الخاطئ والمسيء الذي أدّى إلى أفغنتها وتمزيق نسيجها البنيوي. فما هو المشهد أمامنا؟

دول مهمة مثل الصين التي تلعب في الساحة العربية من وراء الكواليس، التحقت علناً أخيراً بالحرب الشاملة على الإرهاب، وفق ما بدأ مبعوثوها التعبير عنه صراحة وعلناً. إنها تنظر إلى معارك الموصل في العراق وحلب في سورية على أنها جزء واحد من الحرب العالمية على الإرهاب الإسلامي، وهي شريك استراتيجي لروسيا في هذا الموقف. الصين الصامتة تقليدياً باتت في الفترة الأخيرة تجاهر بمواقفها السياسية لا بالأفعال اللوجيستية العسكرية التي تقدمها على أرض المعركة في سورية بالذات.

أول أربع مرات، استخدمت فيها الصين الفيتو سوية مع روسيا في مجلس الأمن لمنع الحلول المطروحة دولياً يبررها المسؤولون الصينيون بأنها كانت رفضاً لمحاولات إزالة بشار الأسد عن الرئاسة «لأنه مُنتخب» كما يقولون. أما الفيتو الخامس فإنه الفيتو ضد الإرهاب، كما يبررون، تأكيداً للخطاب الروسي – الإيراني – السوري الحكومي الذي حوّل المسألة السورية التي بدأت بالمطالبة بالإصلاح إلى حرب على الإرهاب. إذاً، هناك اليوم شراكة روسية – صينية في تحديد مستقبل سورية عنوانها مكافحة الإرهاب، حقيقتها في صلبها تقوم على ضمان المصالح الاستراتيجية للحليفين في المنطقة العربية، بالذات في مواجهة مصالح الغرب والولايات المتحدة ونفوذهما.

ماذا تريد روسيا في سورية؟ كل شيء. تريد روسيا كل شيء، من القواعد العسكرية، إلى الاستفادة الاقتصادية لمرور النفط والغاز إلى أوروبا، إلى الاستثمار وربما إعادة البناء، إلى استخدام النفوذ في سورية للمقايضة في أماكن أخرى مع الولايات المتحدة وأوروبا في الصفقة الكبيرة إن لم يكن في الصفقة الكبرى.

روسيا هادنت تركيا والصفقة بين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان لها أكثر من عنوان. أردوغان دخل ساحة الحرب في سورية لتنظيفها من الخطر الآتي إليه من الأكراد فاستخدمها لسحق المنظمات الكردية التي يصنّفها إرهابية بمعونة الأمر الواقع من روسيا. في المقابل، أتى الصمت الرهيب من تركيا ومصر والدول الخليجية على المعركة الروسية في حلب بكل تجاوزاتها في إحدى أكبر المدن السنيّة. هكذا، عاونت تركيا روسيا كأمر واقع كما تلقت منها المعونة في مسألة الأكراد.

ستضمن إيران لنفسها الجغرافيا التي تريدها في سورية وتوصلها مع «حزب الله» في لبنان. إنه جزء من ذلك «الهلال الفارسي الشيعي» الذي أراده المحافظون الجدد في الولايات المتحدة ليربط إيران بإسرائيل في علاقة تهادنية بحيث يكون أحد القواسم المشتركة بينهما ذلك العدو العربي. لذلك، فإن إسرئيل لا تحتج على الإنجازات الجغرافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية وهي لا ترى في ذلك تهديداً لها، وإلا لسمعنا دوي احتجاجها في كل مكان.

الدول الخليجية أيضاً لا تبدو مذعورة أبداً إزاء الامتداد الإيراني عبر العراق وسورية ولبنان إلى البحر المتوسط. فهي واثقة في أن ذلك الشق المتعلق بالمنطقة الشرقية السعودية في الهلال الفارسي لن يرى النور تحت أي ظرف كان. أما ما يحدث في الجغرافيا غير الخليجية، فإنه ليس أولوية خليجية. هكذا كان جليّاً في جولة خليجية شملت قمة مجلس التعاون في البحرين ومؤتمر مؤسسة «فكر» في أبو ظبي التي عقدت تحت عنوان «التكامل… هدفاً»، والمقصود التكامل العربي.

واقعياً، إن التكامل الوحيد هو الذي بين دول مجلس التعاون الخليجي وليس مع باقي الدول العربية التي تتسم العلاقة معها اليوم بالانفصام وانعدام الثقة المتبادلة. أحد المشاركين في المؤتمر وهو من المخضرمين السعوديين أسرع إلى القول: «يجب علينا أن ننكمش في موضوع سورية» لأن تدخلنا في المسألة السورية كان «خطأ» و «سياسة خرقاء»، ويجب أن يكون الآن «لا دخل لنا في سورية لأنها مسألة بين الغرب وروسيا ولا شأن لنا فيها بعد الآن».

رأي هذا الخليجي المخضرم هو أنه «لسنا مسؤولين عن العرب في كل مكان. نحن مسؤولون عن شعبنا وتطويره وتعليمه وتأمين أمنه وسلامته وصحته. علينا التركيز على أوطاننا في الخليج لنواجه انخفاض أسعار البترول والعجز في الموازنة وابتداء تراكم الديون… فلقد آن الأوان لنكون مجتمعاً متحضراً». أما رأيه في ما يسمى بفوز إيران بسورية هو أنه «استنزاف آتٍ لإيران فيما هي في وضع اقتصادي هش… ففي النهاية، هي التي ستعاني وليس نحن، لا سيما أنها في بحر من العرب غير الراضين». يضيف أنه ليس صحيحاً القول أن الدول الخليجية انهزمت في سورية «فنحن لم نرسل الجيوش ولم ندخل طرفاً في الحرب وإنما استجبنا للنداء فقط وساعدنا السوريين. إيران هي التي تملك أجندة. لا أجندة لنا. فهذه ليست هزيمتنا. إنها هزيمة للمواطن السوري».

مزاج الخليجيين هو الانكماش، لا سيما بعد خيبة الأمل بالتدخلات الخليجية في سورية والعراق وبالمحاولة الخليجية بالذات السعودية والإماراتية لصقل علاقة تحالف مع مصر لتشكل وزناً عربياً في موازين القوى الإقليمية. مصر اختارت التوجه نحو روسيا وإيران في المسألة السورية بعدما استنتجت أن هناك تحوّلاً سعودياً نحو القبول بـ «الإخوان المسلمين» وصوغ علاقة تحالفية مع تركيا. هكذا، انهارت العلاقة المنشودة والمهمة لموازين القوى الإقليمية. والنتيجة، المزيد من الانكماش الخليجي في البقعة العربية.

هناك رأيان في شأن ردود الفعل السعودية – القطرية – التركية نحو التطورات في سورية: رأي يصر على أن هذا الثلاثي ماضٍ بمواقفه ضد بشار الأسد ولن يقبل بما أفرزته معركة حلب ولذلك سيستمر بدعم ما تبقى من المعارضة السورية المسلحة. ورأي آخر يقول أن هذه الدول الثلاث واقعية وبراغماتية وهي تقرأ الرسائل الدولية بوعي وتدرك أن إدارة دونالد ترامب لن تسمح بدعم المعارضة السورية وتريد، بدلاً من ذلك، طي الصفحة في سورية ببشار الأسد الآن. ثم لكل حادث حديث.

هناك من يشير إلى ما حدث لصدام بعدما تهيّأ له أنه انتصر في حروبه، بالذات عندما قررت الولايات المتحدة التوقف بعيداً من بغداد في حرب الخليج الأولى بدلاً من المضي إليها وإنهاء الحرب بإنهاء صدام. يقول هذا البعض أن الدول الكبرى تحسن اختيار الزمان والمكان والأهداف وأنه من الجهل الإسراع إلى إعلان منتصر ومنهزم في حرب سورية الآن.

بغض النظر عن التأويلات والتوقعات، فإن ما حدث في معركة حلب يبقى مصيرياً بامتياز، وأن الردود الدولية على ما حدث في حلب إنما مزّقت الادعاءات بالمحاسبة على الجرائم ضد الإنسانية وعرّت خمول الرأي العام العربي والعالمي على السواء. وانحطاط القيم وقواعد الانضباط الأخلاقي أتى عبر حلب ولم يعد يحق لأحد التظاهر بالتمسك بأدنى متطلبات الأسس الإنسانية.

هل تأتي الصفقة الكبرى على أنقاض الإنسانية في حلب، أم إن هذه مجرد محطة في تموضع فلاديمير بوتين وهو يتخذ الاستعدادات لعملية التفاوض على صفقة مع دونالد ترامب؟ الواضح أن الرجلين راغبان في الجلوس إلى طاولة إبرام الصفقات ليتمكن كل منهما من الزهو بقدراته على ضمان الصفقة التي يريدها. قد يُعجَب بعضهما ببعض ويختالا بزهو أمام العالم، لكن المصالح الكبرى للولايات المتحدة ولروسيا قد تفرض على كل منهما الاستمرار في الشك في الآخر فيما يجمع كل منهما أوراقه التفاوضية.

معركة حلب وصمة على جبين الأسرة الدولية سيسرع الجميع إلى مسحها بذريعة الحرب على الإرهاب. وإلى حين وضوح التموضع إلى طاولة الصفقات، فإن معركة حلب ليست بالضرورة خريطة طريق انتهاء الحرب السورية. فالفوز بمعركة شيء، والانتصار في حرب شيء آخر.

الحياة

 

 

 

بيع سورية بعد تدميرها/ وليد شقير

منذ عام 2012 والمجتمع الدولي يطلق على الحرب السورية وصف «مأساة القرن»، ولا يجد لها أي حل، بل يمعن في التغاضي عن تمادي الإجرام الذي يلحق ببلاد الشام إلى درجة لم يعد أمامه سوى تكرار الوصف عند كل محطة من محطات الفظائع الشنيعة التي تتوالى، من ريف دمشق ودرعا وحمص والقلمون وحماة… وصولاً إلى حلب الآن، وقريباً غيرها، سواء في إدلب أو في دوما.

لم يعد القاموس يحوي أوصافاً تعادل فائض المجازر والإبادة وجرائم الحرب بأبشع صورها التي تصيب الشعب السوري، بموازاة القضاء على بلد كان له دور محوري على مر التاريخ، إلى أن تحكم بمصيره العقل الإلغائي لكل شيء. فأين ما يتعرض له السوريون من أساطير بشاعة الحروب الدينية في أوروبا في القرون الوسطى، ومن مجازر البوسنة وغروزني…؟

لم تعد البكائية العربية والعالمية تنفع إزاء اعتقاد حكام دمشق بعقل بارد، ومعهم حلفاؤهم الروس والإيرانيون وسائر الميليشيات المتعددة الجنسيات، أن من يموتون هذا قدرهم ومصيرهم… سواء كانوا من الموالين للمعارضة أو حتى من الموالين للنظام، من الفقراء الذين أخذتهم العصبية الطائفية نحو القتال المجنون وارتكاب المجازر والفظاعات.

مع المسؤولية الأخلاقية على المستويين العالمي والعربي عن نكبة العصر، ومن دون الترداد الممل لوحشية النظام الحاكم في سورية وشركائه، يكشف الفصل الأخير في حلب جملة مسؤوليات أخرى أبرزها لرجب طيب أردوغان، فالأخير عقد اتفاقاً مع روسيا فلاديمير بوتين قبل أكثر من شهرين على أن تكون المنطقة الممتدة من جرابلس السورية على الحدود مع تركيا، والتي أتاح الروس له التمدد فيها حتى حدود مدينة الباب، هي ملجأ النازحين السوريين من حلب وبعض المقاتلين ممن تقرر موسكو أنهم من المعتدلين، بما يعني أنه كان متواطئاً مع خطة احتلال المدينة في شكل مسبق. وهذا ما يفسر إعلان أنقرة عن تجهيزها خيماً من أجل إيواء زهاء 80 ألف نازح في تلك المنطقة، فالزعيم الذي ادعى منذ سنوات أنه لن يسمح بسقوط حلب، وافق على ذلك مقابل اتفاقه مع موسكو على إبعاد المقاتلين الأكراد عن ذلك الجيب الذي تبلغ مساحته أقل من 10 آلاف كيلومتر مربع. «باع» أردوغان سقوط حلب بإجباره جزءاً من فصائل المعارضة الذين دربهم وسلحهم جيشه لضمهم إلى عملية «درع الفرات» الهادفة إلى احتلال ما ادعى أنها «المنطقة الآمنة»، ثم حجب الأسلحة التي كانت معدّة لإرسالها إلى مقاتلي حلب لاستخدامها في الدفاع عنها، فمنذ استعادة أردوغان علاقته مع روسيا، والمصالحة بينه وبين إسرائيل، باتت خطواته السورية محكومة بالانضمام إلى نقاط التقاطع بين هذين اللاعبين: الإبقاء على نظام الأسد وإنهاء قدرة سورية على أن تعود دولة فاعلة، لعقود آتية.

قد تأخذ فصول مأساة القرن بعد حلب أشكالاً أخرى لإلهاء السوريين وسائر العالم عن الفصل المنقضي. فإفساح الطريق لـ «داعش» لأن ينتقل مقاتلوه من الرقة ودير الزور إلى تدمر لاحتلالها مرة أخرى، بعد سحب وحدات من الجيش النظامي منها، يرمي إلى التغطية على المجزرة في عاصمة سورية الاقتصادية، وإلى جعل تحريرها مجدداً هدفاً بدلاً من التوجه نحو الرقة، فإذا استعادها النظام يصبح الهدف إنهاء وجود المعارضة في إدلب. وقد يتقدم هذا الهدف على استعادة تدمر، من أجل الإبقاء على «داعش» فيها وفي الرقة، عنواناً لـ «التعاون» مع إدارة دونالد ترامب ضد الإرهاب، تحت طائلة إبقاء التنظيم المتوحش تهديداً لأمن الغرب والولايات المتحدة. فالقضاء على «داعش» تحول شرطاً يعادل الموافقة الدولية على شرعنة الأسد والنظام، في العملية السياسية الموهومة التي تنوي موسكو اقتراح استئنافها بعد فترة.

في الانتظار، تتواصل عملية «بيع» سورية ومقدراتها جائزة ترضية، بعد تدمير بناها التحتية والإنسانية، إلى الدول مقابل الجهود التي بذلتها للحفاظ على حكامها الحاليين، عبر باب إعادة الإعمار، ومن أجل تثبيت التغييرات الديموغرافية المقصودة على امتداد جغرافيتها. هكذا تنشأ شركات عقارية ضخمة يتولى الإيرانيون إدارتها، بغطاء من تجار الحروب من رجال الأعمال السوريين الذين اغتنوا خلال الفوضى التي حلت بالبلد، تتملك أصولاً عقارية مقابل الخدمات الحربية، فتسيطر على مساحات إضافية. والتحضير جار لتلزيم سورية إلى دول حالت العقوبات الدولية على إيران والنظام دون تسديد ثمن نفط اشترته، خصوصًا من طهران، ومن هذه الدول الصين، التي دخلت سوق الملعب السوري في الأشهر الأخيرة.

ليس صدفة أن الأسد قال في حديثه الأخير إن «إعادة الإعمار الضخمة مفيدة للدول»، فمن سلم سورية لإيران وروسيا عسكرياً وسياسياً، ليس صعباً عليه أن يسلمها اقتصادياً.

الحياة

 

 

 

طبعة جديدة ومنقّحة: «الأسد و… نحرق البلد”/ محمد مشموشي

لم يفعل رئيس النظام السوري بشار الأسد في حلب، وقبلها في حمص وحماه وريف دمشق وغيرها، سوى ما ردّده أتباعه دائماً وبصوت عال منذ انطلاق الثورة السورية قبل ست سنوات: «الأسد أو نحرق البلد». إلا أن جديده، بعد هذه الأعوام من التدمير اليومي للبشر والحجر، أنه وضع اللافتة التي لم يكن يقبلها عقل بشري أو منطق سياسي، في صيغة «الأسد… ونحرق البلد» معاً وفي الوقت ذاته.

والأيام الأخيرة في حلب من جهة، واحتفالات الأسد وأتباعه ومؤيديه بـ»الانتصار» من جهة ثانية، تقول ذلك بما لا يدع مجالاً لأي شك. فالهدف، كما لم يعد خافـيـاً من وقـائع الأيـام الأخيـرة لإحـدى أهم المدن في سورية وأعرقها، ليس «بقاء الأسد» في السلطة وفي «محور الممانعة» الروسي – الإيراني المشترك فقط، إنما أيضا، وربما قبل ذلك، «إحراق البلد» وإبادة شعبه. وإلا، فما طبيعة «الانتصار» الذي يحتفل به الأسد مع أتباعه في دمشق (وبيروت وبغداد وصنعاء!)، كما حليفاه في موسكو وطهران؟ وإلا كذلك، لماذا هذه الهمجية غير المسبوقة في التاريخ، والتي وصفها أحد أبناء حلب بـ«يوم القيامة»، بعد أن شاهد بأم عينيه «شبيحة» الأسد يدخلون أحد أحياء المدينة ويعدمون كل من وجدوه في طريقهم… مسلحاً كان، أو حتى من دون سلاح؟

أكثر من ذلك، فالواقع أن الأسد لم يهدد بإحراق سورية بعد انطلاق الثورة الشعبية على نظامه فحسب، بل إنه قال قبلها وعلى الدوام، كما عمل بكل قواه منذ ذلك الحين، على أن يبقى الحاكم الفرد (آخر مواعيده حتى عام 2021) من دون أي حد من التغيير، أو الإصلاح، في بنية النظام الذي ورثه عن والده قبل ست عشرة سنة، وبعد ثلاثين سنة كاملة من حكم الوالد الفردي والقمعي والاستبدادي، كما بيّنت جولات الحوار ومبادرات الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية وغيرهما للتوصل الى حل سلمي للحرب على امتداد الفترة السابقة. قبل الثـورة عـلى النـظام، كان الشعـار «الأسـد الى الأبد»، وبعدها بات «الأسد أو نحرق البلد»، ليتحول بعد ذلك الى «الأسد… ونحرق البلد»، بما يعني أن الحريق السوري قائم، سواء بقي الأسد الابن في السلطة أو أزيح عنها.

هل تشي هذه الحال بغير إبقاء البلد على شاكلة النظام الذي أقامه الأسد الأب والابن: أحكمكم أو أقتلكم، أو أحكم سورية أو أدمرها؟ وألا يتحدث عشرات بل مئات الآلاف من السوريين المطرودين من وطنهم، والخائفين من الاعتقال أو القتل في حال العودة إليه (آخرهم الكاتب والمفكر والمصلح صادق جلال العظم الذي توفي الأسبوع الماضي في المنفى)، عن غير هذه الحقيقة بأجلى صورها وأقبحها.

ليس ذلك وحده، فلم يكتشف العالم الخارجي كما يبدو إلا أخيراً، ما قاله السوريون على الدوام، من أن الإرهاب في سورية هو صنيعة الأسد نفسه، وحجته في الوقت عينه لتبرير ما قام به ضد الشعب السوري منذ مطلع آذار (مارس) 2011. هو الذي أفرج من سجونه ومعتقلاته عن العديد ممن وصفوا لاحقاً بـ «قادة المحاور الإسلاميين»، وحتى أنه زوّدهم بالأسلحة اللازمة ليفعلوا ما فعلوه، وليسيئوا عملياً الى الثورة وقادتها الميدانيين سواء في دمشق وريفها أو حمص أو حلب أو الرقة وإدلب. وهو الذي نسّق مع مقاتلي «داعش» على الأرض، فلم يدخل معهم في معركة واحدة، كما لم يدخلوا هم بدورهم في معركة معه. وكثيرة هي الأنباء والتقارير التي تحدثت عن شرائه النفط من المنابع التي احتلها «داعش» ولا يزال يحتل بعضها حتى الآن.

الجديد الآن جاء من تدمر، التي كان الأسد (بخاصة حليفه بوتين المولع بالموسيقى الكلاسيكية، والذي استقدم فرقة من موسكو للعزف على أطلالها) احتفل قبل نحو عام بتحريرها من «داعش»، والتي أعاد التنظيم احتلالها مجدداً في الفترة ذاتها التي كانت تجري فيها مأساة حلب. في التقارير الدولية، ومعلومات البنتاغون بالذات، أن قوات الأسد التي كانت في المدينة لم تتصدّ لمقاتلي «داعش» عندما شنوا هجومهم عليها، بل انسحبت منها بهدوء يدعو الى التساؤل والريبة من ناحية، لكنها إضافة الى ذلك تركت أسلحتها في أماكنها ليأخذها التنظيم من ناحية ثانية.

ماذا يعني ذلك غير المزيد من الشيء ذاته: إبقاء الحرب على حالها، ومواصلة إحراق سورية وقتل شعبها… أو حتى، كما أصبح بادياً للعيان، تهجير الغالبية منها وإحداث تغيير ديموغرافي يلائم سلطة الأسد على ما يسميه «سورية المفيدة»، ومعها مخططات حليفه الإيراني لها ولغيرها من دول المنطقة؟

ما يبقى أن تدمير حلب، بهذا الأسلوب والى هذا المستوى من الإبادة الجماعية، هو خطوة على الطريق الذي رسمه الأسد وخامنئي منذ البداية. وقد يكون الأمر مفهوماً، في ظل ما بات مؤكداً عن استراتيجيتهما (عفواً، استراتيجية خامنئي وحده)، لكن ما ليس مفهوماً البتة هو موقف حليفهما الثالث، فلاديمير بوتين، الذي يشارك في إيقاد النار، وطبعاً مصلحته الآنية، أو حتى الاستراتيجية، في الحريق الذي يجتاح سورية من أقصاها الى أقصاها.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

 

 

 

ماذا بعد سقوط حلب؟/ رندة حيدر

يرى خبراء إسرائيليون في سقوط حلب دليلاً ساطعاً على فشل مثلث الاطراف: فشل سياسة إدارة أوباما في التعامل مع الحرب السورية؛ وفشل الدول السنية الكبرى وعلى رأسها تركيا والسعودية في وقف الهجمة الشرسة للائتلاف الروسي – الإيراني – الشيعي الداعم للأسد على مسلحي المعارضة السنية والمدنيين على حد سواء في حلب؛ والأهم من هذا كله الفشل الذريع للمعارضة المسلحة السورية التي منيت في حلب بهزيمة عسكرية ساحقة نتيجة تخلي الدول الداعمة لها عنها وتشرذمها وفشلها في تشكيل قيادة عسكرية موحدة.

لكن ما يعني إسرائيل أكثر من أي شيء آخر على هذا الصعيد هو كيف سيوظف بشار الأسد وحلفاؤه الإيرانيون و”حزب الله” هذا الانتصار العسكري على رغم أن خضوع حلب لا يعني نهاية الحرب الأهلية السورية أو اقتراب الحل السياسي. اذ تنحو التقديرات الإسرائيلية الى توقع استمرار الحرب الأهلية زمناً طويلاً، وبينما يتوقع بعض المحللين العسكريين الإسرائيليين ان تكون إدلب هي ساحة المواجهة المقبلة بعد انسحاب مقاتلي حلب إليها، يتوقع البعض الآخر ان تكون المعارضة المسلحة في سوريا في صدد درس احتمالات تحركها من جديد ولا يستبعد هؤلاء أن تتبنى النموذج الأفغاني.

والسؤال الذي يطرحه الإسرائيليون على أنفسهم: هل يحاول نظام بشار الأسد والتحالف المؤيد له في المرحلة المقبلة استعادة السيطرة على المناطق الواقعة جنوب سوريا والتي لا تزال في قبضة تنظيمات المعارضة؟ وفي حال حصول ذلك، كيف يمكن أن ينعكس هذا على الحدود السورية – الإسرائيلية وعلى هضبة الجولان اذا انزلقت المعارك الى داخل أراضي إسرائيل؟

لقد كانت التطورات الأخيرة في حلب سبباً لمطالبة أكثر من معلق سياسي في إسرائيل بمراجعة سياسة عدم التدخل في النزاع السوري. ففي رأي هؤلاء ان تبدل موازين القوى لمصلحة الأسد والتحالف الروسي – الإيراني – الشيعي يحتم على إسرائيل وضع خطوط حمراء واضحة وفرضها بالقوة. وفي طليعة هذه الخطوط رفض أي وجود عسكري إيراني أو لـ”حزب الله” في منطقة هضبة الجولان المحاذية لإسرائيل. وفي هذا المجال، على إسرائيل الاعتماد على نفسها بحيث تعمل على منع هذا الوجود بالقوة، وفي الوقت عينه عليها أن تبقي قنوات الاتصال مفتوحة مع القوى المحلية في الجولان السوري وتتابع سياسة تقديم المساعدات الانسانية للسكان المدنيين.

انتصار الأسد في حلب هو انتصار للمحور الشيعي المتشدد المعادي لها مما يشكل خطراً مباشراً على إسرائيل بدأت تستعد لمواجهته.

 

 

 

 

الجيوبوليتيك وإنسانية الإعلام في حلب/ عبد الفتاح نعوم

لا يمكن إنكار حجم المأساة الإنسانية التي خلّفتها معركة حلب، والتي هي امتداد لمسلسل الأزمة السورية منذ بدايتها. لكن تعاطي المحطات التلفزيونية ووكالات الإعلام العالمية مع تلك المأساة، والتقاط أكثر الصور احترافية لأطفال تحت الأنقاض، أو لرجال ونساء بين الركام، أو للسوريين الخائفين من القصف الذي يمكنه في أي لحظة أن يودي بحياتهم وحياة أطفالهم، لا يمكنهما بأي حال أن يكونا مجرد تعاط مؤسس على «الشعور الإنساني النبيل».

صحيح أن الصحافيين الناقلين للمأساة من الميدان، بكل خلفياتهم المعرفية والسياسية والمهنية هم بشر يتفاعل مع ما يوثقه، وكثيرا ما تطغى العواطف عليهم، وتوجه عملهم التقني. لكن بالقدر نفسه، صحيح أن تعليب المأساة الإنسانية، واختزالها، وضخها الناعم والمنظم على نحو يؤطر اتجاهات الرأي العام العالمي، والتحكم في دفق شحنة عواطف المودة لمشاعر عبر العالم، كل ذلك هو من صميم عمل مؤسسات الإعلام العالمية العملاقة، ورديفاتها المحلية، وهو عمل يروم تسليط الأضواء في النهاية تارة على مآسي حرب حلب، وتارة على مآسي اللاجئين السوريين.

إن النغمة الإنسانية المشبعة بالجيوبوليتيك، والمنسجمة مع طموحات طرف معين من أطراف النزاع الدولي والإقليمي والمحلي في سوريا، هي في الحقيقة نغمة تنطلق من مقولة أساسية مفادها أن النظام السوري وحلفاءه يقتلون الشعب السوري، وأن المعارضة المسلحة (في جزء منها على الأقل) تمثل طيفا من أبناء الشعب السوري الذي حصلوا «بطريقة ما» على الأسلحة، والتدريب والمعلومات اللازمة للنهوض الثوري العسكري ضد هذا النظام، وبالتالي فسواء قضى المدنيون نتيجة حصار «المعارضة» لهم، واتخاذهم دروعا بشرية، أو نتيجة قصف النظام وحلفائه لمعاقل المسلحين، فإن النغمة الإنسانية تستهدف فقط النظام وحلفاءه.

في الحقيقة ليس الأمر جديدا، إذ منذ بداية الأزمة، والعنوان الإنساني يقفز إلى واجهة الأحداث في حيز التداول الإعلامي، فقط كلما كانت المعارضة في موقف حرج، أو أدى تشرذمها وضعف أدائها، إلى عدم تمكنها من توفير بيئة حاضنة لمشروعها «الإسلامي» بين السوريين. كما يقفز العنوان إياه إلى الواجهة نفسها كلما كانت ثمة حاجة إلى توظيف سياسي للأزمة السورية في السياقين الأوروبي والأميركي، خصوصا في ما يتعلق بأزمات قضية اللاجئين السوريين وما يرتبط بها من مشاكل ولوجهم وتحملهم من طرف بلدان الاستقبال. وهو ما يعني أن البكائيات التي ترافق المسألة الإنسانية ليست «إنسانية» في جوهرها.

معركة حلب برغم أهميتها، إلا أن إنهاء الوجود المسلح فيها وفي أحيائها الشرقية، ليس إيذانا بنهاية الأزمة السورية، لا سيما على الصعيد العسكري، حيث ما يزال الوجود المسلح جاثما متمركزا في ريف حلب وإدلب وريفها، وأرياف حمص وحماة واللاذقية والقنيطرة ودرعا ودمشق وفي الجنوب السوري. فضلا عن حصار «داعش» لدير الزور ووجوده في الحسكة والرقة وريفيهما. وعلاوة على استيلاء «داعش» على تدمر للمرة الثانية، بعدما توقفت العمليات العسكرية الأميركية، تزامنا مع ارتفاع إيقاع الحسم العسكري الجوي والبري في حلب، وتحقيق الطفرة الكبرى في المعركة، لم يكن في يد المعسكر المتعارك مع النظام السوري وحلفائه سوى أن يهرع إلى الخطاب الإنساني، والالتفات إلى «مأساة السوريين».

وكما أن المواقع العسكرية تكون مهمة «إعلاميا» فقط حينما تكون بأيدي المعارضة، وتفقد أهميتها تلك، حينما تعود إلى أيدي النظام، فإن المأساة الإنسانية بدورها تسلط عليها الأضواء فقط حينما يكون النظام واقعا بين مطرقة ترك المدنيين يموتون تحت الحصار، أو الركون إلى العسكرة بقصف المسلحين ليقضي معهم المدنيون ولو على مضض، لأن العسكريين السوريين في النهاية هم الآخرون شعب سوري. وبالتالي فاستخدام العنوان ذاته في معركة حلب، يجد أسبابه الجوهرية في التناسب العكسي بين تراجع أهمية حلب في الإعلام «الخصم»، بعدما أوشكت المعارضة على خسارتها، وبين تزايد أهمية «الإنسان السوري الحلبي» الذي أصبح فجأة «كائنا يتألم أكثر من غيره»، سواء في باقي المناطق السورية المذكورة الرازحة تحت نير الجماعات الطامحة لبناء مشروع أسطوري سوريالي في سوريا، أو الإنسان المتألم المعذب في باقي أرجاء العالم العربي.

لقد كان سياق المعركة، وضمنه المأساة الإنسانية مشمولا بما أبانت عنه الشهور السابقة، حيث تبلور المقترح الروسي السوري لحلب، الذي عبّد الطريق أمام ولادة التفاهم الروسي الأميركي، القائم على فصل «المعارضة المعتدلة» عن «جبهة النصرة»، وانضمامها إلى المسار السياسي، الذي يشمل ضمنيا أحكام الهدنة القاضية بضرورة تهدئة الجبهات، وتسهيل مرور قوافل الإمداد وغوث المدنيين. لكن فشل هذا المسعى أعاد تفعيل الحل العسكري السوري الروسي، وتدحرجت الانجازات من استرداد معبر الكاستيلو والراموسة وإفشال الهجوم على ضاحية الأسد، ليبدأ الحصار، ثم المعركة الحلبية الكبرى.

من المعلوم أن الرهان العسكري الاستراتيجي للمعارضة على حلب، كان منطلقا من اعتبار رمزيتها كعاصمة ثانية ذات خلفية تاريخية واقتصادية، والسعي إلى جعلها بمثابة «بنغازي سوريا». لكن من الناحية العسكرية الصرفة، فإن حلب كانت توفر بيئة جغرافية وديموغرافية ملائمة للقتال، خصوصا في أحيائها الشرقية، حيث الأزقة الضيقة والاكتظاظ العمراني، الأمر الذي من شأنه أن يمكن من فرملة فرص الطيران والآليات العسكرية. فيما الكثافة السكانية في الأحياء المذكورة تمكن من تسهيل الرسملة العسكرية والإعلامية على الشأن الإنساني، خصوصا حينما يجد الجيش السوري وحلفاؤه إمكانيات للعمل العسكري في البيئة المذكورة، ولا يبقى أمامهم سوى إكراه حل معادلة «المأساة الإنسانية» مقابل الانجاز العسكري.

إن علاقة وجهة النظر الإنسانية لمعركة حلب في التناول الإعلامي بالسياسة، ليست سوى تلك العلاقة التي تجعلها داخلة في حيز التوظيف الجيوبوليتيكي، لا لمأساة سوريي حلب فقط، بل أيضا للأزمة السورية، باعتبارها واحدة من أهم حروب العصر الحديث، التي اصطف على ضفتيها العالم إلى فريقين متبايني المناهج والأساليب والمصالح، ولم يرَ تناول بعض النخب للمسألة الإنسانية فيها سوى «تطبيعا مع المجازر»، التي لا يعني وجودها الفعلي وبشاعتها ولا إنسانيتها أن البديل مثلا يمكن أن يكون هو تبادل أطراف الصراع العسكري الورود والتحايا، لا لكي لا يقضي المدنيون، ولكن كي لا يجد «الإنسانيون جدا» ما يبكون عليه، هذا إن لم يكن المتحيزون ضد نظام الأسد يتمنون وقوع «المجازر» لإدانة النظام إياه.

السفير

 

 

 

 

 

حلب… من ينبغي أن يشعر بالعار؟/ أسامة أبو ارشيد

إنها فعلاً كوميديا هزلية، لكنها غير مضحكة، بل ودموية، وذلك عندما يتجادل سفيرا الولايات المتحدة وروسيا في مجلس الأمن الدولي بشأن حقيقة هوية المُلامِ في الجرائم الوحشية التي تُرتكب في حلب في سورية. أعطت السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة، سامنثا باور، شارة البدء للملهاة التراجيدية، في جلسة يوم الثلاثاء الماضي، في مجلس الأمن حول الوضع في حلب، متهمةً روسيا وإيران ونظام بشار الأسد بارتكاب فظائع لا تغتفر ضد المدنيين العزّل المحاصرين في الأحياء الشرقية من المدينة. لم تجانب باور الحقيقة في إيرادها حقائق فاجعة يعلمها الجميع، ولا يتنكّر لها إلا بليد حِسٍ مؤيد للجرائم التي ترتكب بحق الشعب السوري على يد نظام بشار وراعييه، الروسي والإيراني. فكان أن اتهمت روسيا وإيران ونظام بشار بإفشال اتفاق الهدنة الأول، قبل أيام، والذي كان ينصّ على أن تشرف الأمم المتحدة والصليب الأحمر على إجلاء المدنيين والمقاتلين، بسلاحهم الشخصي فقط، المحاصرين في أحياء حلب الشرقية. كما عَرَّجَتْ على بعض من جرائم روسيا وإيران ونظام بشار، مثل تفويضهم مهمة ارتكاب المذابح إلى مليشيات، وقصفهم المدنيين بالبراميل المتفجرة والطائرات الحربية، وحصار عشرات الآلاف من المدنيين العزّل. ولم تنس أن تنبههم إلى أن محاولاتهم تزييف الحقائق وطمسها لن تعفيهم من مسؤولية هذه الجرائم، الآن وفي المستقبل، مضيفة أن “حلب ستنضم إلى تلك الأحداث في تاريخ العالم التي تُعَرِّفُ مفهوم الشر المعاصر، تلك التي تلطخ ضمائرنا عقوداً مقبلة. حلبجة، رواندا، سربرنيتشا، حلب”. وختمت باور مداخلتها المشحونة عاطفياً باتهامٍ من نوع آخر لروسيا وإيران ونظام بشار، قائلة: “هل أنتم فعلاً غير قادرين على الشعور بالعار؟ هل فعلاً لا يوجد شيء يمكن أن يجلب لكم الشعور بالعار؟ هل لا يوجد أي فعل همجي ضد المدنيين، أو في إعدام طفل، يمكن أن يجعلكم تخجلون؟”.

قبل إيراد رَدَّ السفير الروسي إلى الأمم المتحدة، فيتالي تشوركين، هنا، أؤكد أنني أتجاهل،

“جُلُّنا يتعامل مع جراحاتنا الكثيرة في سورية والعراق وفلسطين وماينمار وكشمير وكأنها أمور لا تعنينا” متعمداً، التعليق على موضوعة اللغة التنديدية الاستنكارية، أو “الجعجعة” التي نعرفها نحن العرب جيداً، وتمارسها الولايات المتحدة اليوم في السياق السوري. هذه “الجعجعة” هي منطق إدارة أوباما منذ اليوم الأول للثورة السورية، وهي ليست نتيجة ضعف وقلة حيلة، بقدر ما هي مرتبطة بمقاربة التوحش الأميركية في السياسة الخارجية، وهو أمر كتبت فيه من قبل في “العربي الجديد”.

جاء ردّ السفير الروسي متسقاً مع همجية دولته التي رأيناها مرات عدة في التاريخ المعاصر، في القرم (زمن جوزيف ستالين)، وأفغانستان، والشيشان، وجورجيا، ومرة أخرى في القرم وشرق أوكرانيا، واليوم سورية، وبينهم جرائم أخرى كثيرة تدل على وحشية هذه الدولة وبربريتها. المفارقة أن رَدَّهُ الهمجي لم يخلُ من حقائق كثيرة. بدأ تشوركين بتذكير الدول الغربية الثلاث الداعية إلى جلسة مجلس الأمن الدولي، الولايات المتحدة، بريطانيا، وفرنسا، “وقاموا بالصراخ فيها” بدورهم “في إيجاد داعش، جرّاء الغزو الأميركي-البريطاني للعراق”. واستطرد بتوجيه تهمة للدول الثلاث بأنها ساهمت في تسعير الأزمة السورية، والتي قادت إلى التداعيات الخطيرة التي نراها اليوم، و”سمحت للإرهابيين بالتمدّد في سورية والعراق”. ثمَّ وصل إلى أهم ما في رده، حيث خاطب باور مباشرة: “أغرب خطاب بالنسبة لي هو خطاب المندوبة الأميركية والتي تحدثت وكأنها الأم تيريزا. رجاء، تذكّري أي دولة تمثلين. رجاءً، تذكّري سجل بلدك الحافل” في الشرق الأوسط.

قصْد تشوركين واضح، هو يريد تذكير الولايات المتحدة بأنها آخر من يحقّ لها أن تتحدّث عن

“قصْد تشوركين واضح، هو يريد تذكير الولايات المتحدة بأنها آخر من يحقّ لها أن تتحدّث عن الهمجية وإعطاء دورس في الإنسانية” الهمجية وإعطاء دورس في الإنسانية، فتاريخها، في هذا السياق، لا يمكن إخفاؤه خلف غربال، وشواهده كثيرة، من السكان الأصليين للولايات المتحدة، إلى فيتنام، وشبه الجزيرة الكورية، وباناما، و”الحرب على الإرهاب”، والعراق.. إلخ. هنا، تبرز المفارقة الثانية، فباور لا تُخْضِعُ الجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة للمعايير نفسها التي تُقارِبُ بها الجرائم الروسية والإيرانية والسورية، وتشوركين يمارس منطقاً دنيئاً بالإيحاء بأنه يمكن لروسيا أن ترتكب جرائم ضد الإنسانية، ما دام أن الولايات المتحدة تفعل الأمر نفسه. منطق حقير وهمجي من الطرفين بكل ما يحتمله ذلك من معانٍ. كلا الدولتين ينبغي أن تشعرا بالعار مما تفعلانه في بقاعٍ كثيرة، وكلاهما مُجَلَّلتان بالعار في سورية، روسيا لأنها تقتل وتدمر بهمجية، وأميركا لأنها تسمح بذلك، والجميع يعلم أنها قادرة على إيقاف القتل والإبادة هناك، لو أرادت ذلك حقاً. ينسحب العار نفسه على إيران ونظام الأسد ووكلائهما، هذا لا شك فيه.

السؤال الحقيقي هنا: هل هؤلاء هم فقط من يُجَلِّلُهم العار؟ ماذا عن أنظمة العرب والمسلمين؟ إنهم شركاء كذلك، من أعان هؤلاء على ذبح الشعب السوري، ومن تقاعس عن نصرة السوريين وخذلهم. ولكن، حتى هذه القائمة للمُجَلَّلينَ بالعار لا تكفي، إذ إنها تشملنا، نحن أيضا، الشعوب العربية والإسلامية. نعم، تشملنا، ذلك أننا سكتنا على الظلم الذي نرزح تحته منذ عقود طويلة، حتى استفحل وَتَعَقَّدَتْ عملية استئصاله. وتشملنا كذلك، لأن جُلَّنا ما زال يتعامل مع جراحاتنا الكثيرة في سورية والعراق وفلسطين وماينمار وكشمير وكأنها أمور لا تعنينا. من أسفٍ، ما لا ندركه نحن جميعا أنه إن بقي الحال على ما هو عليه، فإنها ليست أكثر من مسألة وقتٍ قبل أن تصل السكين إلى رقابنا أيضا، ليشاهد آخرون فصلاً جديداً من فصولٍ تخاصم المجرمين عن أيهم أكثر إجراماً بحقنا!

العربي الجديد

 

 

 

 

حلب بين موسكو وطهران

كشفت كارثة مدينة حلب السورية التي سقطت لتوّها في أيدي مليشيات بشار الأسد وحلفائه من الروس والإيرانيين حجم الصراع على سورية التي تحوّلت إلى رقعة شطرنج، تحاول الأطراف الإقليمية والدولية الفوز بأي قطعةٍ فيها. فقد تعطلت عمليات إجلاء المدنيين ومقاتلي المعارضة السورية من المدينة، نتيجة خلاف بين طهران وموسكو بشأن بنود الاتفاق الذي وقعته الأخيرة مع تركيا حول الهدنة المؤقتة التي قد تسمح بخروج الجرحى والمدنيين من المدينة التي تدكّها القنابل والمدافع والطائرات من كل مكان. ولم توافق طهران على اتفاق الهدنة المؤقتة، إلا بعد أن ضمنت تخفيف الحصار الذي تفرضه المعارضة على بلدتي كفريا والفوعة القريبة من مدينة إدلب، شمال غرب سورية.

تحاول طهران تكرار السيناريو العراقي في سورية، من خلال تعزيز حضورها في المشهد السوري، بعد سقوط المدن التي تسيطر عليها المعارضة السورية، وهي هنا لا تريد حضوراً عسكرياً فحسب، وإنما طائفياً أيضاً. فإذا صحّت الروايات التي يتداولها نشطاء سوريون عن عمليات استيطانٍ لعائلات إيرانية وأفغانية في البلدات والمدن السورية التي يتم استردادها من المعارضة، سيبدو الأمر كأننا إزاء احتلال استيطاني طائفي جديد في سورية. وليس غريباً أن طهران تعمل بجد منذ سنوات على إحداث تغيير ديموغرافي في بعض المناطق السنّية، لتعزيز الحضور الشيعي بها. كما تسعى طهران إلى تثبيت وضعها داخل سورية، وتعزيز أوراقها السياسية، تحسباً لأية مفاوضات مستقبلية، سواء بشأن وضع النظام السوري، في تكرارٍ لما تفعله في العراق الذي تحوّل إلى ورقة سياسية واستراتيجية في أيدي طهران في علاقتها بالغرب. لذا، فإن أية مفاوضات بشأن مستقبل بشار الأسد ونظامه يجب أن تمر عبر طهران. وهي تريد حصد ثمار عقدين من التحالف الاستراتيجي مع دمشق، فضلاً عن انخراطها الكامل في الحرب منذ بداياتها من خلال أذرعها ومليشياتها العسكرية التي لولاها لسقط نظام الأسد منذ ثلاث سنوات على الأقل.

لذا، فمنذ دخول موسكو بقوة للمعركة في سورية قبل عامٍ ونيف، حاولت طهران تعزيز نفوذها على الأرض، من خلال إرسال مزيد من القوات والمليشيات للقتال مع قوات النظام. وركزّت على عمليات التغيير الطائفي والسكاني في المدن التي يتم إخراج المعارضة منها. وهي تستفيد من عدم اهتمام موسكو بالصراع الطائفي، وتركيزها على بناء قواعد عسكرية في غرب سورية على البحر المتوسط. بيد أن ذلك لن يمنعها من أن تكون لاعباً داخلياً، يضمن لها أوراقاً ضاغطة على طهران، لتطويعها في ملفات أخرى. وتدرك طهران أن موسكو لا تريد أكثر من مكاسب استراتيجية وعسكرية في سورية، تضمن لها ورقةً للضغط والتفاوض مع الغرب على قضايا أخرى، للصراع بينهما، سواء في أوكرانيا أو في شرق أوروبا والمتوسط. لذا، تريد تثبيت وضعٍ جديد علي الأرض من خلال حضورها في أي اتفاقٍ قد تعقده موسكو مع أنقرة، على غرار ما حدث في مسألة حلب.

ليس جديداً القول إن بشار الأسد لم يعد يملك أو يحكم في سورية، وأن مصيره ومصير نظامه لم يعودا بين يديه، وإنما بين أيدي من يدعمونه من الروس والإيرانيين وحزب الله. لذا، هو لا يلقي بالاً لتدمير سورية وتخريبها، بل يحرّض الروس والإيرانيين على مزيد من القتل والتدمير والتخريب. وهو هنا لا يعبأ مطلقاً بمصير ملايين السوريين، سواء الذين قتلوا أو تم تهجيرهم داخلياً وخارجياً. فما يعنيه، كأي ديكتاتور، هو البقاء في السلطة، ولو على كومةٍ من حطام البشر والحجر.

العربي الجديد

 

 

 

 

حلب-حماة:ما بعد مذبحتين/ ساطع نور الدين

العبء الانساني والاخلاقي ثقيل، وهو لا يجيز القفز الى السياسة او حتى الامن: كبرى مدن سوريا تدخل التاريخ، مرة أخرى. ها هي تشهد الآن واحدة من اكبر المذابح وأضخم عمليات التهجير في الحرب السورية المستمرة منذ ما يقرب من ستة اعوام. عمليات رفع الجثث من المباني والشوارع ما زالت مستمرة. الاعدامات والاعتقالات متواصلة. معظم الجرحى والمصابين لم يصلوا الى المشافي المقصودة. ولم يبلغ جميع المهجرين وجهتهم النهائية. أما المفقودون والمخطوفون فان مصيرهم متروك للمجهول.

لا أحد يملك أعداداً نهائية دقيقة حتى الان. الأرقام الاولية تشير الى ما يزيد على 1800 قتيل ونحو 7 آلاف جريح وما يزيد على 18 الف مفقود او مخطوف، واكثر من 120 الف مهجر أغلبهم من النساء والاطفال والكهول. هي حصيلة بشرية فادحة، وفي فترة زمنية قياسية لم تتعد الاسبوع الواحد، ما يضع حلب على رأس قائمة المدن السورية المنكوبة، ويحيلها الى رمز حقيقي يستخدم من جميع المتحاربين للدلالة على الحرب ودروسها.

الاستنتاجات متعددة، ومتسرعة. هي لا تقرأ ذلك البعد الانساني ولا تتوقف عنده طويلاً، ولا تعنى بتحويله الى قضية قائمة بذاتها. الجميع يفترض سلفاً ان الكارثة التي حلت بما يقرب من ربع مليون إنسان هي من طبائع الحرب وأقدارها، التي لا ترد، ولا تفتح على الاقل النقاش حول كيفية إغاثة تلك الكتلة البشرية، ودرء المزيد من الاخطار عنها.

حلب اليوم، هي بمرتبة حماة العام 1982. المقارنة جائزة. مع ان ما خفي من المذبحة الاولى، كان علنياً ومباحاً ومباشراً في المذبحة الراهنة. الكلفة البشرية الاجمالية في المدينتين يمكن ان تصبح متساوية. لكن الظرف السياسي يحول دون الاعلان ان النتيجة ستكون واحدة. ليست نهاية ثورة، ولا إستعادة شرعية نظام. الامر أكثر تعقيداً.. وإن كانت التفاصيل متشابهة الى حد بعيد. في الحالتين، في المدينتين، ثمة ما يؤكد بان النظام حصل على تفويض عربي ودولي واسع النطاق لتصفية معارضيه الاسلاميين من دون النظر بالخسائر الانسانية الفادحة ومن دون التوقف عند الاضرار المادية الهائلة.

الثمن السياسي محدود جداً بالمقارنة بين هول المذبحتين. نسبة المطلوبين من جانب النظام هي نفسها تقريباً. 300 مقاتل من النصرة، كانوا ذريعة تدمير حلب، مثلما كان نحو 200 مقاتل لا أكثر من طليعة الاخوان المسلمين حجة تدمير حماة. الاصوات المعارضة لمذبحة الثمانينات كانت أخف بكثير من الاصوات التي تسمع اليوم إحتجاجاً على مذبحة حلب..التي لم تصل الى حد نزع المزيد من الشرعية او فرض المزيد من العقوبات على النظام، بل ان بعضها ينزع سلفا الغطاء عن مدينة إدلب، عنوان المذبحة التالية.

اللحظة التاريخية التي سجلها الرئيس بشار الاسد في أعقاب سيطرته على شرق حلب، تتصل بهذا السياق تحديداً. حماة في الذاكرة، وإدلب في مرمى النظر، ومعها الجيوب المحيطة بدمشق، وربما أيضاً بقية المواقع المعارضة المنتشرة ما بين العاصمة وخط الحدود الجنوبي. لكنها لحظة تاريخية ايضا بالنسبة الى المعارضة المسلحة التي كانت ولا تزال تكمل معركة ممتدة من السبعينات وحتى اليوم، تهدأ حيناً وتعنف أحياناً.. برغم ان أحداً من المعارضين وأنصارهم لم يكن يتوقع ان تدخل روسيا الحرب بما يزيد على مئتي طائرة حربية وعشرات السفن الحربية وقواعد صواريخ عابرة للقارات، وان تنزل إيران على الارض بما يزيد على 40 الف مقاتل إيراني ولبناني وعراقي، دفاعاً عن النظام.

الفارق الجوهري الوحيد هو ان مستقبل الحرب لم يعد يتحدد في دمشق كما في ثمانينات القرن الماضي. معركة حلب هي التي أملت الدعوة العاجلة الى الاجتماع الثلاثي الحاسم المقرر في موسكو في 27 كانون الاول ديسمبر الحالي بين وزراء خارجية روسيا وتركيا وإيران، لدراسة النتائج وإستخلاص العبر وتحديد الخطوات التالية. لم يكن هناك من داعٍ لاشراك النظام السوري في ذلك الاجتماع، ولم يكن هناك من مبرر لدعوة أميركا او أوروبا، او أي دولة عربية، ولو بصفة مراقبين!

هذه الخطوة وحدها، تزيد العبء الانساني، وتعمق الهوة بين معركة حلب وبين قراءاتها المختلفة الصادرة عن النظام وعن المعارضة على حد سواء، والتي تغفل الحاجة الاخلاقية لإحصاء القتلى والجرحى والمفقودين والمهجرين.

 

 

 

 

حلب بداية.. وليست نهاية/ خيرالله خيرالله

من سقط في حلب؟ حلب لم تسقط. من سقط كان الدب الروسي والنظام الإيراني وميليشياته المذهبية اللبنانية والعراقية والأفغانية… وتركيا – رجب طيب أردوغان. الساقط الأكبر، إلى جانب أوروبا طبعا، يبقى باراك أوباما الذي لم يستطع أن يكون رئيسا للقوة العظمى الوحيدة، بل فضّل بيع الأوهام للسوريين والتخلي عن كل المبادئ التي آمنت بها الولايات المتحدة منذ عهد جورج واشنطن.

ستعود حلب إلى أهلها في يوم من الأيّام، لا لشيء سوى لأنّ احتلال المدينة أمر غير طبيعي يرفضه العقل ومنطق التاريخ والجغرافيا. ستعود حلب، مثلما عادت كلّ المدن التي اجتاحتها في يوم من الأيّام الدبابات السوفيتية. ستعود إلى الحرّية، مثلما عادت بودابست ووارسو وبراغ وبرلين…

 

سبق لحلب، المدينة العريقة أن تعرّضت، على مرّ الزمن، لنكبات كثيرة، لكنّها استطاعت في كلّ مرة، حتّى عندما غزاها المغول، استعادة عافيتها ووضعها الطبيعي كإحدى أهمّ المدن العربية التي تتمتع بمزايا خاصة، في مقدّمها التنوع الديني والثقافي والإثني.

حسنا، سيطرت القوات التابعة للنظام السوري على حلب بدعم واضح من ميليشيات شيعية مدعومة من إيران، وذلك بعدما لعب فلاديمير بوتين الدور الرئيسي في تدمير المدينة على أهلها مستخدما سلاح الجوّ الروسي من جهة، والعلاقة القائمة مع تركيا من جهة أخرى.

كان التخلي التركي عن حلب نقطة التحوّل التي أعادت المدينة المدمّرة إلى سيطرة “شبيحة” النظام والميليشيات المذهبية الداعمة له. كان ذلك في الصيف الماضي عندما تعرّض رجب طيب أردوغان لمحاولة انقلابية جعلته يعيد حساباته الداخلية والإقليمية والدولية. حدث ذلك في وقت لم يجد رجب طيب أردوغان غير فلاديمير بوتين يطمئنه إلى مستقبله، في حين لم تترك إدارة باراك أوباما فرصة إلا وأظهرت رغبتها في أن تتنكر لصداقتها القديمة لتركيا التي كانت رأس الحربة لحلف شمال الأطلسي إبّان الحرب الباردة.

كلّ ما في الأمر أن تركيا وجدت نفسها مهدّدة بالورقة الكردية، إضافة إلى خشيتها من سياسة أميركية معادية. خلال فترة قصيرة ارتبطت تركيا بشبكة من المصالح مع روسيا، كما حسّنت علاقتها بإيران.

كان الرئيس التركي يقول، إلى ما قبل فترة قصيرة، إنّ حلب “خط أحمر”. أكثر من ذلك لم تتردد تركيا في يوم من الأيّام في النظر إلى تلك المدينة من زاوية أنّها منطقة نفوذ تابعة لها. ما الذي حصل عمليا، وجعل تركيا تستسلم أمام الرغبة الروسية في تدمير حلب والسماح للقوات التابعة للنظام بارتكاب مجازر فيها واستكمال عملية تهجير قسم كبير من أهلها؟

الجواب، بكلّ بساطة، أن الظروف الإقليمية والدولية جعلت رجب طيّب أردوغان يعتمد أولويات جديدة مختلفة تماما أوصلته إلى إعادة العلاقات مع إسرائيل واستعادة التنسيق معها في وقت هناك غرفة عمليات مشتركة روسية – إسرائيلية مخصصة للوضع السوري والتعاون العسكري بين الجانبين… مع ميليشيات مذهبية تابعة لإيران على الأرض.

من الملفت أن عملية إخلاء المسلحين التابعين للمعارضة تتمّ بموجب اتفاق روسي – تركي، ولكن من دون أن يمنع ذلك ارتكاب مجازر في حق مدنيين من أهل المدينة، وسوق الشبان إلى الخدمة العسكرية الإجبارية. وهذا يعني في طبيعة الحال إجبار هؤلاء الشبان السنّة من أبناء حلب على أن يكونوا في الخطوط الأولى لدى اندلاع أي معارك. مصيرهم الموت الحتمي إذا قاتلوا، والإعدام رميا بالرصاص إذا رفضوا ذلك!

أدار العالم ظهره لحلب التي صمد أهلها أربع سنوات في وجه النظام وحلفائه. ذهبوا ضحيّة سياسة باراك أوباما والوحشية الروسية والأطماع الإيرانية ورغبة النظام في التخلّص من المدن السورية الكبيرة أو تدجينها. أصبحت دمشق مدجّنة، هي واللاذقية، فيما قُضي على حمص وحماة وحلب.

كشفت حلب حقيقة فلاديمير بوتين الذي عرف كيف يستغلّ باراك أوباما. أدرك في اليوم الذي تراجع فيه الرئيس الأميركي عن استخدام القوّة ردّا على لجوء بشّار الأسد إلى السلاح الكيميائي أنّه قادر على القيام بما يشاء. كان ذلك صيف العام 2013. في ذلك الصيف ظهر باراك أوباما كرئيس ضعيف لا همّ له سوى استرضاء إيران. خاف أوباما من فشل المفاوضات في شأن الملف النووي الإيراني ولم يخف على السوريين الذين كانوا يتعرّضون لكلّ أنواع القصف لمجرّد أنّهم طالبوا ببعض من حرّية وكرامة ورفضوا البقاء تحت نير نظام أقلّوي يصرّ على استعبادهم وسلب خيرات بلدهم. لم يحصل في تاريخ الولايات المتحدة أن كان هناك رئيس بهذه النفسية المريضة. يتحدث أوباما عن المبادئ الإنسانية ويعمل كلّ ما يمكن أن يقضي على هذه المبادئ ويسيء إليها. يعمل ببساطة على العكس تماما مما يقوله.

نجح فلاديمير بوتين في وضع الإدارة الأميركية الجديدة أمام أمر واقع في سوريا. دمّر حلب وأعادها إلى كنف النظام والميليشيات التابعة لإيران. حيّد تركيا في الوقت ذاته. ما هذا الانتصار الذي يُرفع فيه علم النظام على أشلاء مدينة سورية؟

إذا كانت كلّ انتصارات النظام السوري من هذا النوع، فما هي الهزائم؟ لا وجود لهزيمة أكبر من أن ينتصر نظام على شعبه. الانتصار على حلب هو الهزيمة بعينها. لو كان الشعب السوري مع النظام، لما كانت حلب قاومت طوال أربع سنوات الحصار والتجويع في ظلّ قصف مستمرّ طاول المدارس والمستشفيات وبيوت الناس العاديين بحجة أنّ كلّ سوري إرهابي.

من لديه أدنى شكّ في أنّ حلب ستنتصر، مهما طال الزمن، يستطيع العودة سنوات قليلة إلى خلف. قاومت حلب النظام العلوي منذ أواخر سبعينات القرن الماضي. كذلك قاومت حماة التي أُزيل قسم منها في العام 1982 ومازالت تقاوم. هل تغيّر شيء بعد ما يزيد عن ثلاثة عقود على مجزرة حماة؟

يزرع الانتصار على حلب ونقل قسم من أهلها إلى مناطق قريبة من الحدود التركية البذور للمزيد من الحروب السورية في مرحلة لا مكان فيها سوى للأسئلة. الثابت الوحيد هو أن النظام السوري انتهى إلى غير رجعة. إنّه نظام يأتي بالروس والإيرانيين وتوابعهم للدفاع عنه. أي مستقبل لنظام من هذا النوع في منطقة تشهد تحولات في العمق، ولا تزال تعيش في ظلّ ترددات الزلزال العراقي الذي نتج عن الاجتياح الأميركي للبلد في ربيع العام 2003 والذي كان من نتائجه تقديمه على صحن من فضّة إلى إيران…

تبدو حلب بداية وليست نهاية في الصراع على سوريا، الذي كشف أيضا مدى الجبن والعجز الأوروبيين، ومدى الغياب العربي لمصلحة اللاعبين الأربعة: الروسي والإيراني والتركي والإسرائيلي.

إعلامي لبناني

 

 

 

درس حلب.. بعيدا عن البكاء والرثاء/ محمد بن المختار الشنقيطي

لم يكن سقوط حلب مفاجئا، إلا لمن لا يتابعون الوضع الإستراتيجي للصراع في سوريا. إنما المفاجئ أن يتأخر سقوط حلب كل هذه السنين، بفضل تصميم ثلة من المجاهدين الصامدين، ومصابرة شعب أبيٍّ آمَنَ بأن ثورته حرب وجودية، لا خيار فيها غير الانتصار.

لكن المتأمل للمنطق الإستراتيجي الذي سارت بمقتضاه الثورة السورية حتى الآن يدرك أن مساوئ عظيمة شابت مسيرتها، في الرؤية والخطة والبِنية، كما شابت رؤية وخطة القوى الإقليمية الداعمة لهذا الشعب في ثورته. ثم كان الخذلان الفظيع من عموم الأمة للشعب السوري في هذه الحرب التي سرعان ما تحولت حربا إقليمية ودولية شاملة، ليس لها من سوريا سوى المكان، ولا من الثورة السورية سوى العنوان. ولم يكن بدٌّ من أن تثمر هذه المعضلات المتراكمة ثمارها المريرة في النهاية.

ويمكن إجمال الأسباب الداخلية والخارجية التي قادت إلى تراجع الثورة السورية، وجعلت كلفتها الإنسانية باهظة، في أمور سبعة:

أولا: لم تفلح الثورة منذ فرض النظام عليها المواجهة العسكرية بهمجيته أن تفرز قيادة عسكرية جامعة، تلملم شملها، وتسدد رمْيها، وتُخضع جهدها لخطة مركزية توزع المال والرجال والعتاد ضمن منطق عسكري احترافي.

ويرجع هذا الأمر إلى أسباب كثيرة، منها الأنانية السياسية لدى قادة الفصائل، والشطط الأيديولوجي لدى بعضها، خصوصا جماعات السلفية الجهادية. لكن التقصير الأكبر في هذا الأمر يرجع إلى الدول الإقليمية الداعمة للثورة السورية، فقد بذلت تلك الدول جهدا مشكورا في دعم الثوار السوريين بالمال والعتاد، ووفرت لهم الغطاء السياسي والدبلوماسي، لكنها لم تبذل -بالتوازي مع ذلك- الاهتمام والجهد المناسب لتوحيد القوى المقاتلة، ضمن قيادة واحدة وخطة واحدة. ولم تستخدم دعمها وسيلة ضغط لفرض الوحدة على الثوار، حتى لا تضيع دماء المقاتلين هدرا، ويضيع دعم الداعمين سُدى.

والغريب أن هذا الإهمال يتناقض مع تاريخ العلاقة بين الثورات وداعميها خلال القرن العشرين، سواء كانت ثورات حرية سياسية ضد الاستبداد، أو ثورات تحرر وطني ضد الاستعمار. فلم توجد ثورة سياسية أو حركة تحرير وطني في القرن العشرين إلا كان لها داعموها، ولم يفرط الداعمون قط في تزويد الثورات وحركات التحرير بالخبرة التنظيمية والتخطيطية، وفي فرض النظام والانسجام عليها، ضمانا لانتصارها، وعدم تحولها إلى فوضى عسكرية وحرب عدمية بلا أفق.

ثانيا: لا تستغني أي ثورة عن واجهة سياسية. لكن قوى الثورة السورية لم تفلح قط في بناء قيادة سياسية متماسكة، تُضفي الشرعية السياسية عليها، وتفرض على الآخرين التعامل معها باعتبارها كتلة واحدة، معبِّرة عن صوت شعب واحد. ويرجع هذا الأمر جزئيا إلى ضعف الخبرة لدى عدد من قوى الثورة، بسبب الخوض المفاجئ في السياسة، والخروج إلى النور بعد عقود من الحكم المطلَق المغلَق الذي لم يسمح للنخبة بتعلُّم أي شيء عن التحالف السياسي، وبناء المساحات المشتركة مع الموافقين في المبادئ، المخالفين في البرامج.

ولا يمكن إعفاء القوى الإقليمية الداعمة للثورة السورية من العتاب هنا أيضا، فقد أدمنت تلك القوى الإقليمية على التعامل مع القوى المقاتلة مباشرة من وراء القيادات السياسية، مما همش القيادات السياسية، وعمَّق الفجوة بين “ثوار الخنادق” من المقاتلين في الميدان، و”ثوار الفنادق” العاملين في مجال الدبلوماسية والإعلامية. بل تبين خلال السنين الخمس الماضية، أن بعض الداعمين الإقليميين للثورة السورية كانوا يسعون إلى إجهاض الثورة أكثر مما يسعون إلى إنجاحها، وأنهم كانوا أحرص على اختراق القيادة السياسية للثورة، منهم على إنجاح تلك القيادة في أداء رسالتها الصعبة. فصداقة هؤلاء يصْدُق عليها الشطر الثاني من بيت المتنبي:

ومن العداوة ما ينالك نفعُه.. ومن الصداقة ما يضرُّ ويؤلمُ

ثالثا: دخلت جماعات السلفية الجهادية العالمية على خط الثورة السورية، فخلطت الأوراق، وأفقدت الثورة السورية طابعها الوطني، وجردتها من رسالتها السياسية، تلك الرسالة الناصعة، الداعية إلى بناء سوريا حرة ديمقراطية تحقق العدل والحرية لجميع أبنائها، دون ازدواجية ولا مثنوية. واستعاضت جماعات السلفية الجهادية عن تلك الرسالة السياسية الواضحة المعالم برؤيتها الضبابية، التي تقاوم الاستبداد عمليا وتسوِّغه نظريا، وتعلن الحرب على العالم أجمع، وتحلُم بخلافة إمبراطورية لا حدود فيها ولا وطنية، بعد أن طلَّق العالَم ظاهرة الإمبراطوريات إلى غير رجعة منذ أكثر من مائة عام!

ولم يسع الجهاديون الوافدون على سوريا إلى أن يكونوا مددا للشعب السوري في حربه العادلة، بل سعوا إلى التحكم فيه وفي خياراته، وحملوا معهم إلى الأرض السورية عداواتٍ لا تُحصى، وحمَّلوا الشعب السوري ثمن تلك العداوات وهو أغنى الناس عنها، في لحظة يواجه فيها تحالف الشر الشيعي الروسي، ويحتاج صداقة بقية العالم لا عداوته. ولو كانت جماعات السلفية الجهادية العالمية تملك الحد الأدنى من الحس الإستراتيجي، لكان الأولى بها أن تخذِّل عن الشعب السوري، وتُشاغل أعداءه عنه من بعيد، بنقل المعركة إلى أرضهم، بدل النفير إلى الأرض السورية، والتحول إلى وقود يزيد الاشتعال عليها. وليت شعري ما الذي يفعله مجاهدون شيشان وداغستانيون على الأرض السورية، ورأس الأفعى عندهم في موسكو؟!

رابعا: لم تستوعب بعض دول الخليج العربية المهدَّدة بالتمدد الإيراني الأهمية الإستراتيجية للثورة السورية، وأن هذه الثورة وفَّرت لها فرصة تاريخية -لن تتكرر في المستقبل المنظور- لقطع يد إيران في بلاد الشام، وتحجيم نفوذها في المنطقة العربية بشكل عام. وأن هذه الفرصة -لو كان أُحسن استغلالها- فستوفر على تلك الدول حروبا طاحنة مع إيران في المستقبل، وتدرأ عنها مخاطر إيرانية عظيمة توشك أن تدْهمها.

ويبدو أن تلك الدول لم تستوعب حتى الآن ظاهرتيْ “الذاكرة الانتقامية” العميقة التي تحرك إيران وامتداداتها الطائفية، ولا ظاهرة “المنطق الإحلالي” الذي تعتمده إيران وامتداداتها في المنطقة الفاصلة بين الخليج والبحر المتوسط، وهو منطق عريق في الثقافة الشيعية، تتمدد بمقتضاه الدول الشيعية القوية على حساب بقية الأمة، وتسير إيران فيه اليوم على منوال الدولة الفاطمية والدولة الصفوية من قبل.

ولم تستوعب تلك الدول الخليجية التحول العميق في إستراتيجية أميركا بعد تجربتها المريرة في العراق، وتحالف أميركا مع القوى الشيعية على الأرض بديلا عن التدخل المباشر في المنطقة.وليس من ريب أن سقوط حلب سيُغري إيران بالتمدد أكثر، وفي اتجاه تلك الدول الخليجية بالذات التي تحمل تجاهها ثأرا لا يمَّحي. وحينما تبدأ الميلشيات التابعة لإيران تجوس خلال الديار داخل دول الخليج، فستدرك تلك الدول مبلغ الانكشاف الإستراتيجي الذي جلبته على نفسها، بتفريطها في حلب وفي الثورة السورية.

خامسا: التزم داعمو الثورة السورية الإقليميون -عربا وأتراكا- بالسقف الأميركي، فحرَموا أنفسهم حرية المناورة والفاعلية في مواجهة المحور الإيراني. والسقف الأميركي قد تحدَّد منذ البداية في تحويل هذه الثورة العظيمة إلى مَصهرة دموية طويلة الأمد لاستنزاف كل الأطراف، حتى يكتمل تهشيم هذه الدولة العربية المحادَّة لإسرائيل -بعد تهشيم العراق- ومنع بلاد الشام من التحول إلى جسر بين العالم العربي وتركيا في المستقبل.

وقد عبَّر الإستراتيجي الأميركي الصهيوني ريتشارد لوتواك عن إستراتيجية التهشيم الأميركية، في مقال له صدر يوم 25 أغسطس/آب 2013 بصحيفة نيويورك تايمز بعنوان: “في سوريا ستخسر أميركا إذا فاز أي طرف”. فقد كتب لوتواك في المقال: “إن فوز أي من الأطراف سيكون غير مرغوب فيه بالنسبة للولايات المتحدة.. لذا يجب أن تكون حرب الاستنزاف هي هدف أميركا. والطريقة الوحيدة لإنجاز هذا هي تسليح المتمردين كلما بدا أن قوات السيد الأسد في صعود، ووقف إمدادهم إذا ظهر أنهم سيفوزون في الواقع”. ثم بيَّن لوتواك -دون مواربة- أن ما يقترحه ليس أكثر من وصف لواقع عملي، هو سياسة باراك أوباما تجاه الثورة السورية.

ثم جاء التدخل الروسي، فمنح الأميركيين ذريعة كافية للتسليم بسقوط الثورة بعد أن تحقق لهم غرض التهشيم. وليس بمستغرَب أن تقف أميركا هذا الموقف، إنما الغريب أن تلتزم الدول الداعمة للثورة السورية بالسقف الأميركي المتبني لهذا الموقف، فتحْرِم الثوار السوريين من السلاح النوعي الذي يحقق النصر، تقيُّدا بالرؤية الجهنمية التي صاغها صهاينة أميركا لمآلات الثورة السورية.

سادسا: لم تقرأ تركيا حتى الآن المشهد السوري قراءة مستوعبة لتداعياته الإقليمية المستقبلية، فتعاملت مع الملف السوري في البداية بمنطق إنساني تُشكر عليه وتُذكر، لكنها لم تتعامل معه بمنطق إستراتيجي شامل مدرك لما يجري في الإقليم بشكل عام. ولا يزال منطق المصلحة الوطنية الضيقة هو السائد في التعامل التركي مع الثورة السورية؛ فتركيا كانت -ولا تزال- هي الدولة الوحيدة في المنطقة المؤهلة لنصرة الشعب السوري عسكريا، لكنها أضاعت فرصا كثيرة حتى تراكمت التحديات وخرجت من يدها.

ويبقى من الإنصاف الاعتراف بأن وضع تركيا الداخلي والخارجي معقد للغاية، فهي دولة وفَّر لها موقعها الجغرافي فرصا عظيمة، لكنه قيدها بقيود كثيرة.. وتتسم السياسة الخارجية التركية -على عكس الإيرانية- بالحذر الشديد، والبعد عن المخاطرة والمغامرة، فهي سياسة تراعي القيود أكثر مما تستثمر الفرص.

وربما يشبه حال تركيا اليوم حال أميركا في بدايات الحرب العالمية الثانية، حين كان الجدل محتدما بين الداعين إلى التدخل الأميركي لإنقاذ أوروبا من النازية والفاشية، والمتمسكين بالمنطق الوطني الضيق الذي يرى أن تنأى أميركا بنفسها عن الوحَل الأوروبي، لكن أصوات التدخل انتصرت في النهاية، وأنقذت أميركا أوربا، ثم كانت ثمرة ذلك التدخل الجريء هيمنة أميركية على النصف الغربي من الكرة الأرضية، وتحولها إلى القوة العالمية الأولى.

وستدرك تركيا -كما أدركت أميركا من قبل- أن مستقبلها ومكانتها رهينان بما تفعله اليوم في الشام والعراق والجزيرة العربية، وأن الحذر والتردد لن يحميَها من الحريق، خصوصا بعد اقتراب إيران وميليشياتها من الحدود التركية. فالخطر الكردي الذي ركزت عليه تركيا خلال الأعوام الخمسة الماضية ليس بشيء مقارنة مع الخطر الشيعي الذي أصبح يطرق أبواب تركيا، بسبب التردد والحذر التركي. ومن قال إن علويِّي تركيا أقوى مناعة أمام النفوذ الإيراني من علويي سوريا؟ لقد آثرت تركيا إنقاذ نفسها على إنقاذ حلب والشعب السوري، لكن التعامل مع الصراع الإقليمي الحالي بالتقسيط لن ينقذ أحدا في نهاية المطاف.

سابعا: دفع الشعب السوري ثمن الترهل، والانكشاف الإستراتيجي، وضعف الإرادة الجمعية، الذي تعيشه الكتلة المسلمة السُّنِّية في كل مكان. لقد سقطت حلب وهي تلامس حدود تركيا، حيث السلاح الوافر والجيش العرمرم، وتلامس تخوم الجزيرة العربية حيث المال الوفير والخير العميم.. لكن قلب العالم الإسلامي الذي تمثله تركيا والعالم العربي يعاني تمزقا وانكشافا إستراتيجيا خطيرا. فمع كل المساوئ العملية والإستراتيجية التي وصفناها، فإن الخلل الإستراتيجي الأكبر هو تمزق المسلمين السنَّة، خصوصا العرب منهم. ويكفي الناظرَ فيما وراء الأحداث السياسية اليومية أن يتأمل ظاهرة بسيطة لكنها معبرة، وهي أنه لا يوجد على وجه الأرض اليوم يهودٌ يقتلون يهودا، ولا شيعةٌ يقتلون شيعة، لكن يوجد عرب يقتلون عربا، وسنَّة يقتلون سنَّة. لقد أصبح أهل السنة والجماعة سنة من غير جماعة، وهذا أمرٌ لا قوام معه ولا قيام.

والخلاصة أن حلب لم تسقط.. بل قاتلت بشجاعة حتى النهاية، وآخر من يجوز عتابهم هم أهل حلب الذين حفظوا للأمة حدودها من الانهيار على مدى أربعة أعوام ونصف العام، وبذلوا النفس والنفيس في حرب أكبر منهم، حرب تستهدف قلب العالم الإسلامي، وحرية الشعوب العربية ومكانتها بين الأمم. إن حلب لم تسقط، بل سقطت أمة فقدت الوجهة والإرادة الجمعية، وأضاعت الشجاعة والعزيمة والرجولة.. وهذا حالٌ يحتاج بحثا في الجذور، لا ملامسة للقشور، ويستلزم مراجعة الخيارات والإستراتيجيات، بعيدا عن مجالس العزاء وقصائد الرثاء. فهل نستوعب جميعا درس حلب، أم تستمر حواضرنا العريقة بالتساقط كأوراق الخريف حتى النهاية؟!

جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة

2016

 

 

ماذا سيجري بعد حلب؟/ نديم قطيش

الأسد باق لفترة طويلة. هذه واحدة من حقائق سوريا ما بعد حلب، والمكابرة عليها ليست أكثر مكابرة.

في سوريا، كما في أكثر من بقعة عربية وشرق أوسطية، المواجهة قائمة بين مشروع إيراني في الغالب الأعم، وبين لا مشروع عربي ما زال في إطار رد الفعل، ورد الفعل اللفظي في الغالب. هذه حقيقة أخرى والمكابرة عليها ليست أكثر من مكابرة.

بعد يومين، يكون قد مرّ عام على صدور القرار الأممي 2254، حول سوريا، الذي دعا حينها إلى بدء «محادثات السلام» في يناير (كانون الثاني) 2016، العام نفسه الذي يقفل على واحدة من أبشع تجارب حرب المدن منذ الحرب العالمية الثانية. وكأن حلب هي تفسير بشار الأسد وإيران وروسيا لـ«محادثات السلام» أو في الحد الأدنى، هي توطئة لا بدّ منها قبل هذا «السلام»!!

في مقابلته الأخيرة مع صحيفة «الوطن» الموالية له كان الأسد فجًا في التعبير عن هذا التفسير للسلام، وفي تحديد الشركاء فيه.

قال الأسد: «أعتقد اليوم أن البنية الاجتماعية للمجتمع السوري أصبحت أكثر صفاءً من قبل الحرب»، ويستطرد ليقول: «قبل الحرب كانت هناك شوائب طائفية وعرقية تنتشر بشكل خفي في عمق المجتمع، أما الآن فهذا المجتمع أصبح أكثر صفاءً». أيًا كان المحمل الذي ستُحمل عليه تصريحات الأسد، إلا أنها في العمق تعبير دقيق عن عملية التدمير الممنهج للتركيبة السكانية السورية ما قبل الثورة، وتعبير دقيق عن الإرادة الواعية خلف استراتيجية تدمير الحيز المديني، بما يمنع عودة النازحين والمهجرين من أماكنهم، ما يوصل إلى «الصفاء» الذي يبتغيه الأسد! هكذا وببساطة يفهم الأسد عملية «محادثات السلام»، وما بعد حلب، تبدو لي فترة مديدة من التعايش القسري مع نتائج جريمته المتمادية وفق خريطة طريق قد تمتد سنوات.

مرّ عام ولم تبدأ هذه المحادثات المنصوص عليها في القرار 2254، والحقيقة أنها لن تبدأ، نتيجة الإلغاء العملي لما يسمى المعارضة السورية، حتى وإن بقيت كجسم معترف به هنا أو هناك! فلم يعد الشعب السوري أو مكوناته جزءًا من معادلة عملية السلام والعملية الانتقالية في سوريا. أقله أنهم ليسوا جزءًا أو شرطًا من شروط انطلاقها.

المصير السوري معلق على تفاهم فلاديمير بوتين ودونالد ترامب والسرعة التي سيبدأ بها هذا التفاهم والسرعة التي سينمو بها نحو تفاهمات نهائية. وهو معلق أيضًا على قدرة هذا التفاهم على تعطيل الشغب الإيراني عليه وتجاوز حسابات إيران ومشروعها الذي يقف خلف فكرة حمايته لنظام الأسد في الأساس.

أي افتراض واقعي، سيأخذ بعين الاعتبار أن ترامب سيتسلم الرئاسة الأميركية في العشرين من يناير، وسيحتاج في الحد الأدنى إلى مائة يوم لتتضح لديه ولدينا الاتجاهات الاستراتيجية لإدارته في الملف السوري وعموم ملف الشرق الأوسط بأوراقه الكثيرة. نكون قد وصلنا إلى 20 أبريل (نيسان) 2017.

والافتراض الواقعي سيأخذ بعين الاعتبار أيضًا، أنه منذ لحظة التفاهم الروسي الأميركي، إن حصلت، سننتظر ثمانية عشر شهرًا للوصول إلى انتخابات تأخذ سوريا إلى مرحلة جديدة وفق المادة الرابعة من القرار الأممي 2254، فلو حسبنا هذه المدة أنها تبدأ بعد مرحلة المائة يوم لترامب في البيت الأبيض نكون قد وصلنا إلى أكتوبر (تشرين الأول) 2018، لإجراء انتخابات في سوريا وفق دستور جديد يكون قد تم إقراره خلال هذه الفترة. حتى انتهاء المأساة السورية وفق هذا الجدول الزمني يبدو مبنيًا على تفاؤل لا تسنده الوقائع. وليس مستبعدًا أن يُكمل الأسد ولايته حتى منتصف عام 2021.

فواحدة من الاستراتيجيات الضمنية لبوتين، هي إنهاء فكرة تغيير أي نظام عبر القوة العسكرية، وأن آخر نظام ستسمح موسكو بتغييره هو نظام معمر القذافي!

حلب لن تكون نهاية الثورة السورية، وهي لم تكن بدايتها. فطوال الأشهر الأولى من الثورة كانت أكثر السجالات رواجًا على ألسن أنصار النظام أن المدن الكبرى أي حلب ودمشق لا تزال خارج الثورة. ولطالما استخدم ذلك كدليل على ضعف الحاضنة الشعبية للثورة السورية. شهدت حلب في بدايات الثورة مظاهرات أسبوعية كما في بقية أنحاء سوريا لكنها بقيت دون الزخم الاحتجاجي في مناطق أخرى لا سيما حمص. ثم أعلنت تنسيقيات الثورة يوم الخميس 30 يونيو (حزيران) 2011 «بركان حلب» الذي شهد ارتفاعًا في حدة المظاهرات. وفي 12 أغسطس (آب) 2011 شهدت حلب المظاهرة الأكبر حتى ذاك التاريخ تحت شعار «جمعة لن نركع إلا لله». وقد استمر النمو الاحتجاجي يتصاعد إلى حين وصوله لنقطة تحوله الكبرى يوم الثلاثاء 6 سبتمبر (أيلول) إذ نجح الحلبيون في تحويل جنازة تشييع مفتي حلب إبراهيم السلقيني الذي كان قد توفي قبلها بيوم، إلى أكبر المظاهرات السورية ضد النظام.

أيًا يكن ما جرى في حلب، فهو محطة في درب الجلجلة السورية الطويل. ويوم يرحل الأسد، لن يكون قد بقي من سوريا إلا ذكرى وطن ومن السوريين إلا بقايا شعب سكن إحدى أقدم بقاع العالم في التاريخ.

* نقلا عن “الشرق الأوسط”

 

 

 

جرائم الحرب في سورية/ فضيلة الجفال

غدت سورية مقبرة جماعية، يقف العالم مكتوف الأيدي متفرجا على المذبحة والدمار فيها. يلتحف العالم الخجل وحلب تسوى بالأرض، مع غياب المساءلة الجادة لنظام الأسد وحلفائه الذين ضلعوا في جرائم الحرب وقتل الأطفال والنساء والشيوخ والشبان، وتدمير سورية وتهجير ملايين من السوريين. حلب التي تعد موقعا حضاريا واستراتيجيا تحولت إلى مجرد مشهد لأنقاض أمام القصف المتواصل وشن الغارات على ما تبقى من الأحياء التي تسيطر عليها المعارضة شرقي حلب، بإعدام جماعي ورمي بالرصاص. هذا عوضا عن الجثث التي ما زالت تحت الأنقاض. ولا شك أن قصف حلب أحد أكثر جرائم الحرب فظاعة في العصر الحديث.

ويمكن قراءة أن القصف المتواصل في الأشهر الأخيرة من هذا العام يعبر بطبيعته عن خطة متسارعة للخروج بنصر أشمل وليس مجرد مفاوضات سياسية. إذ على ما يبدو وبناء على هذه الحسابات، هناك محاولة مستميتة لكسب الوقت واستغلال الشهر الأخير قبل تنصيب الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترمب في 20 كانون الثاني (يناير)، وذلك باستغلال المرحلة الانتقالية كي تتم مواجهة الرئيس الجديد بواقع سوري جديد قد يكون مجبرا على قبوله. إلا أن هذا الواقع لن يغفل على أي حال نفوذ إيران الضار ولا ضلوعها في كل نزاعات المنطقة من دمشق إلى العراق واليمن. وهذا ما يعول عليه من موقف الإدارة الأمريكية الجديدة كيفما يكن موقفها من الحل السياسي في سورية أو من تماه في وجهات النظر مع روسيا، ولاسيما أن التقديرات الأخيرة حول القوة الإيرانية المشاركة لقوات الأسد على الأراضي السورية، والمكونة من الحرس الثوري وحزب الله والميليشيات التابعة الأخرى تقدر بنحو 60 ألف شخص، وهي ميليشيات لا شك متورطة في جرائم حرب أيضا. ومن المهم وضع خطوط عريضة تحت مشاركة إيران بجرائمها في سورية، وإن كانت ليست الجبهة الوحيدة التي تزعزع فيها إيران المنطقة وتهدد أمنها ومصالحها كما الغرب. إذ إن تدخل إيران في اليمن ودعمها ميليشيات الحوثي أيضا سبب في تدهور وضع اليمن.

كان الثوار قد استولوا على شرق حلب عام 2012، وبدأت القوى تتراجع أمام الدعم الجوي الروسي لقوات الأسد المهترئة إضافة لميليشيات إيرانية أو مدعومة إيرانيا كحزب الله اللبناني كما من العراق وأفغانستان. ومع هذا القصف الانتقامي الأعمى، قد يستعيد الأسد أجزاء رئيسة في سورية إلا أن مساحات أخرى ستبقى خارج السيطرة، فهذا النصر الصغير لا يعد شيئا بعد ست سنوات من الحرب في أرض خربة. وتبقى بعد ذلك ملاحقة الأسد وحلفائه بتهم جرائم الحرب ضرورة حتمية، خاصة أن الأدلة التي جمعتها المفوضية الدولية للعدالة والمحاسبة وغيرها من المنظمات الحقوقية جميعها تشير للاستهداف “المتعمد” للمدنيين والأطفال ولقوافل الإغاثة الإنسانية. لذا فجرائم الحرب في سورية ملف لا بد أن يتم التعامل معه بجدية على المستوى الدولي، طالت أعمار النظام وحلفائه أم قصرت.

* نقلا عن “الاقتصادية”

 

 

 

أميركا من الجحيم السوري/ مشاري الذايدي

في مقابلة مثيرة مع صحيفة «الحياة» اللندنية، الأربعاء الماضي، مع السفير الأميركي في دمشق، والذي كان عاملا أثناء اندلاع الثورة السورية، 2011، عنيت السفير روبرت فورد، كشف الكثير من الصفحات المطوية، من قصة أميركا الأوبامية مع المعضلة السورية.

فورد ترك موقعه قبل سنتين، ومما لفتني في مقابلته إشارته، بعد مجازر حلب، إلى أن ما يجري في سوريا هو مسعى «للتغيير الإثني في البلاد»، على يد إيران وعصاباتها الشيعية من كل صقع، مع الطغيان الروسي العسكري.

تحدث عن تفوق النظام، حاليا، في معارك حلب ثم معركة إدلب المرتقبة، لقتل بقية السوريين اللاجئين في جارة حلب، لكنه أشار إلى أن هذا التفوق ليس نهاية المطاف، فهناك فاتورة خراب اقتصادي مرعب، يعجز النظام مع إيران مع روسيا عن دفع تكاليفها، ولن يساعد الغرب، أوروبا وأميركا في دفع الفاتورة مع هيمنة النظام الأسدي المدان.

غير أن الفقرة الأهم هي حديثه عن خطايا الإدارة الأوبامية في سوريا، وهو منها، ومن ذلك، دوما بحسب فورد، أن أوباما تجاه الحدث السوري من بدايته «لم يحاول التأثير بشكل مباشر».

يضيف: «قلنا لهم مثلاً تجنبوا تنظيم (القاعدة)، إنما لم نمنحهم بديلاً، عوضًا عن مساعدتهم بعدم التحوّل إلى (القاعدة)، لم نقدّم سوى الوعظ».

تحدث عن مقابلته لنوري المالكي، حين كان الأخير ما زال رئيسا لحكومة بغداد، وطائرات التسليح الإيرانية العراقية تمّول النظام الأسدي، يقول: «تجاهلنا الأمر وغضضنا النظر. أنا ذهبت وتحدثت للمالكي عام 2012، قلت له عليك وقف هذه الرحلات، فتجاهلني. رغم تحذيراتي بأن تسليح الأسد سيغذّي التطرف».

هذه لمحات قالها، رجل من مسيري السياسة الأميركية تجاه الأزمة السورية، وهي كافية في الإشارة لفداحة الجرم السياسي الذي ارتكبته إدارة أوباما الذي من نتائجه اليوم: بلطجة الروس، إجرام الخمينية، توحش بشار، تفشّي «داعش»، نفي المعارضة الوطنية المعتدلة وشطبها من المشهد.

على ذكر المعارضة، هل هي أيضا تتحمل جانبا من المسؤولية، بسبب كثرة خلافاتها، وارتهان بعضهم لأجندة دول خارجية، تخاذلهم عن العمل الميداني، وتغاضيهم عن تسلل التشكيلات المتطرفة لصفوف المعارضة، وصولا لتسلل «القاعدة»، ممثلة بجبهة النصرة للجسد المعارض؟

هذا حديث يجب قوله، وسيقال أكثر هنا، لاحقا، صحيح أن بشار وخامنئي وبوتين، منعوا قيام معارضة وطنية، وفضلوا أن يكون كل المعارضين عليهم ميسم «داعش» أو «القاعدة»، لأهداف واضحة، لكن ذلك لا يعفي المعارضات السورية من تحمل واجبها التاريخي الوطني.

يبقى، بتقديري، أن الخطيئة الكبرى تقع على عاتق الإدارة الأوبامية.

*نقلاً عن “الشرق الأوسط”

 

 

حلب واغتيال في أنقرة/ مراد يتكن

السفير الروسي أندريه كارلوف، ديبلوماسي قديم ورجل هادئ، تعامل مع أزمة إسقاط الطائرة الروسية في تركيا تعاملاً متأنياً، وكان له دور في إعادة العلاقات إلى مجاريها بين البلدين. وفيما كان وزير الخارجية التركي، مولود شاوش أوغلو، يستقل الطائرة متوجهاً إلى موسكو لحضور اجتماع تركي- إيراني- روسي حول سورية، وقع حادث اغتيال السفير كارلوف خلال حضوره معرض صور فوتوغرافية. وللمفارقة بدأ كارلوف كلمته خلال زيارة المعرض قائلاً «الهدم سهل أما الإصلاح والبناء فهما الأصعب» وكأنه يصف العلاقات بين تركيا وروسيا.

ثم اقترب منه القاتل وأطلق النار عليه من خلفه، صارخاً «هذا جزاء القتلة في حلب» وعبارات أخرى تعودنا أن نسمعها من قيادات وعناصر «جبهة النصرة» وتنظيم «القاعدة». هنا توقف الزمن وتغيرت كثير من الأمور: أعلنت موسكو حال الطوارئ في كل سفاراتها، وعقد الرئيس الأميركي، باراك أوباما، اجتماعاً طارئاً مع مستشاريه، ووصل وزير الداخلية التركي، سليمان صويلو، إلى مكان الحادث وأغلقت الشرطة المكان. ولا بد من الإشارة إلى خصوصية المكان. فالمعرض أقيم في غرفة صناعة أنقرة، ومكانها يقع في قلب العاصمة، بين السفارة الأميركية والنيابة العامة وعديد من مؤسسات الدولة الحساسة والأمنية. وبرر أمن المعرض دخول القاتل مسلحاً بالقول إنه كشف لهم هويته كرجل شرطة، فلم يشكوا به، والداخلية اعترفت بأنه شرطي من قوات مكافحة الشغب، لكنها أضافت أنه لم يكن على رأس عمله يومها.

وسارع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى الاتصال بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، ثم ظهر أردوغان على الإعلام في بيان مصور وملامحه تجمع الحزن إلى الغضب. وكيف لا، وهو يعلم أن القوانين والمعاهدات الدولية تحمّل الدولة المضيفة مسؤولية أمن الديبلوماسيين الأجانب ومسؤولية حمايتهم. واتفق بوتين وأردوغان على أن الاغتيال هو محاولة استفزازية من أجل ضرب العلاقات بين البلدين، وهو أمر خفف بعض الشيء عن أنقرة، لكن الرئيس الروسي أضاف «علينا أن نعرف من يقف وراء هذا الحادث». وليس يسيراً أن نجعل الروس يصدقون رواية «أن القاتل من جماعة الداعية المعارض فتح الله غولن، وأنه كان يعلم أنه مدرج في قوائم الطرد من الخدمة، لذا قام بما قام به». وأصر بوتين على إرسال وفد تحقيق روسي للمشاركة في الكشف عن تفاصيل الحادث. ولو أن الأمن قبض على القاتل حياً، لكان من الممكن معرفة من وراء الحادث، وإذا ما كان بالفعل من أتباع غولن أم من المتعاطفين مع «النصرة» أو «القاعدة». وحين مطاردة المشاركين في المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز (يوليو) الماضي، أطلق الرصاص المطاطي عليهم أو على أرجلهم أو حوصروا بالغاز المسيل للدموع، وبلغ الحرص أقصاه على عدم قتلهم من أجل محاكمتهم وكشف مؤامرتهم. لكن مثل هذه المطاردة لم تحدث مع هذا القاتل، وخرج وزير الداخلية ليقول إنه تم «تحييد» القاتل أي قتله. ورفض الرد على الأسئلة وأهمها «أما كان من الممكن تحييده حياً؟». وتمس الحاجة إلى التحقيق في إذا ما كان قتل القاتل يرمي إلى إخفاء بعض الأدلة أو معلومات عمن يقف وراءه.

والاغتيال حلقة في سلسلة من الإخفاقات الأمنية التي ترسم صورة تركيا دولةً غير آمنة وغير ممسكة بزمام الأمن في مكان الحادث الحساس. فأنقرة أخفقت في حماية السفير والديبلوماسيين، والقاتل من رجال الشرطة والأمن، وهي فشلت في اعتقاله حياً. كل هذه الأمور تزيد الموقف صعوبة وتعقيداً. وعلى الحكومة أن تصحح هذا العيب في سجل تركيا وشعبها، وأن يترك مسؤولو الحكومة تصريحات تقول «إن تركيا مستهدفة من أعداء داخليين وخارجيين، وإن (مثل) هذه الحوادث سيتكرر مجدداً فلا تندهشوا». فهذا النوع من التصريحات هو الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم.

* كاتب، عن «حرييات» التركية، 20/12/2016، إعداد يوسف الشريف

الحياة

 

 

النصر في حلب «روسي»… وسقوط تدمر «سوري”/ مكسيم يوسين

على وقع أخبار النجاحات الواردة من حلب المحاصرة، بلغتنا أخبار صادمة من تدمر الأثرية حيث سيطر عناصر «داعش» على المدينة، وانهارت دفاعات القوات الحكومية بسرعة، فتبددت فرحة الانتصار. والأحداث الدرامية في تدمر تحملنا على بعض الاستنتاجات المهمة، أولاً، صار جلياً أن «داعش» يعمل في تعاون وثيق مع حركات المعارضة الأخرى، وضمنها تلك المسماة بـ«المعتدلة»، وغيرها من فروع الـ«القاعدة». ثانياً، أحد أهداف الهجوم على تدمر هو تشتيت القوات السورية وحلفائها عن جبهة حلب.

وإلى ذلك، أكدت معركة تدمر أن القدرة القتالية للقوات السورية، باستثناء بعض المجموعات، بالغة الضعف. وفي وسع هجوم يتيم تبديد قوات الحكومة السورية التي تركت بعد انسحابها ترسانة كاملة من الأسلحة. ولا شك في أن موسكو كانت أكثر المتألّمين من سقوط تدمر. فهذه المدينة في عين روسيا ليست مجرد واحة في الصحراء. وإثر تحرير تدمر في الربيع الماضي، وإقامة حفل أوركسترا بقيادة المايسترو العالمي، فاليري غيرغييف، صارت المدينة رمز التراث الروحي للبشرية جمعاء، الذي أنقذته موسكو. وعليه، خسارتها هي ضربة لروسيا تشوّه صورتها. وإذا استأنف رجال «الخلافة» تفجير الأثارات وإعدام السجناء على خلفية الأعمدة الأثرية، تلقت روسيا ضربة هائلة.

وخلاصة القول، إن الفشل الذريع للجيش السوري في تدمر يعني أنّه لم يفز بالحرب، والسيطرة على حلب لن توقفها (الحرب). وأمام الأسد كثير من الأعداء والجبهات، وقواته بالغة الإنهاك بعد خمس سنوات من إراقة الدماء. ولا شك في أن السيطرة على حلب نجاح بارز لدمشق، وأكبر انتصار لها في الحرب. لكن يجب الخروج باستنتاجات صحيحة مما حصل في حلب. ويفترض بهذا الانتصار أن يكون حافزاً لإيجاد حلّ سياسي ويحمل على تسوية سياسية وعلى استئناف محادثات السلام في شروط جديدة. لكن موسكو قلقة من أنّ يسعى «الصقور» في دمشق وطهران، إثر تجرّعهم جرعة كبيرة من الثقة نتيجة النجاح الأخير في حلب، الى السيطرة على كامل سورية، كما سبق ووعد بشار الأسد. واستعادة كامل سورية ليست خياراً ترغب فيه موسكو، وهي تستبعده. وعوض الانسحاب من الحرب السورية منتصرة، تجازف، إذا سعت الى هذا الخيار، بالغرق في مستنقع الحرب لأشهر وسنوات. ومع ذلك، يؤمل بأن تدرك دمشق وطهران الى من يعود الفضل في انتصار الائتلاف الشيعي في حلب، وأن تأخذا بنصائح موسكو في نشوة النصر. ولنسمي الأشياء بأسمائها، ليست دمشق وطهران من حقق النصر في حلب. فالنصر متعذر بطريقة القتال التي رأيناها للتو في تجربة تدمر الحزينة.

* محلل سياسي، عن موقع «كومرسانت» الـــــروســــــــــي، 13/12/2016،

إعداد علي شرف الدين

الحياة

 

جولة سليماني والتهدئة الروسية بعد حلب تجييرالانتصار للنظام لا يكفي للحل/ روزانا بومنصف

ليس واضحا تماما بالنسبة الى مصادر ديبلوماسية كيف يمكن اعتبار السيطرة على حلب وأخراج مسلحي المعارضة منها انتصارا لرئيس النظام السوري بشار الاسد الذي سعت روسيا الى تجيير هذا الانتصار او المكسب له في الوقت الذي تفاعلت مجموعة أمور تدلل على ان ثمة من يقرر مكانه وليس هو المقرر الفعلي. وفيما يعتبر ظهور القائد العسكري الايراني قاسم سليماني في حلب احد ابرز المؤشرات الى التدليل على دور ميداني متعاظم لايران في ما جرى لحلب وعدم اقتصار ذلك على روسيا التي أخذت الواجهة في هذا الاطار تبعا لكل المحادثات الدولية التي جرت معها وكذلك المساعي الى إصدار قرار عن مجلس الامن ، فان تجول سليماني في شوارع حلب لا يعطي النظام السوري اي فاعلية لجهة التأثير الحاسم في معركة السيطرة على حلب. هناك ايضا ما يضاف الى هذا المؤشر الذي يفترض ان يكون محرجا للنظام السوري من حيث المبدأ انه رعى ليس الوصول الى المعارضين وقتلهم او اعتقالهم او اي من هذه الاجراءات الانتقامية المتوقعة منه فحسب إنما عكس تصرفا ميليشيويا كطرف في النزاع او الحرب الأهلية من دون ان يظهر اي موقف تعاطف مع نداءات مثلا من اجل استيعاب عائلات قد لا تكون تحبذ المعارضة لكنها رضخت للمسلحين وهؤلاء قد لا يطمئنون الى ما قد يقوله النظام او اي ضمانات يقدمها لكنه لم يقدم شيئا في حين انه عمد الى المشاركة في نقل السوريين في حافلات الى مناطق سورية اخرى مساهما في المزيد من تهجيرهم الى مناطق داخل سوريا وربما الى خارجها من اجل ان يرتاح باله من وجود معارضة لنظامه . وقد يكون كافيا ومعبرا في الوقت نفسه انكباب روسيا على ما سمته خريطة طريق لما تعتبره حلا سياسيا لسوريا رغبت في وضع خطوطه العريضة على وقع نقل الحافلات الحلبيين من مدينتهم استيعابا لرد فعل لم يتأخر في الظهور او هو استبقها عبر استهداف السفير الروسي في تركيا واغتياله في ما قد يتم قراءته على انه رد فعل قد يكون او يجب ان يكون متوقعا في ظل انخراط روسيا في تأمين سيطرة النظام على مدينة كان لها رمزيتها القوية في الانتفاضة على النظام او حتى في الزعم ان من استهدف هو من تنظيم الدولة الاسلامية. فردود الفعل العنيفة من هذا النوع امر لا يمكن ان تستبعده روسيا ويفترض انها حذرة منه تحت اي عنوان قائم . وخريطة الطريق هذه التي يمكن ان تتيح لروسيا تأمين وجود نقاط مشتركة بحيث تعزز أوراقها وموقعها لم تشمل النظام السوري كموقع لا بد منه في السياق الذي دافعت به عنه امام مجلس الامن من اجل التنسيق معه لتأمين وصول مراقبين دوليين الى حلب. فتنسيق الجهود هو بين الدول القادرة او المقررة لوقف إطلاق النار اي روسيا وإيران باعتبارهما قيمتين على النظام وتركيا باعتبارها قيمة على المعارضة او بعضها ومن اجل اعطاء اشارات الى ان روسيا لا تستبدل الحل السياسي الذي كانت تقول انه السبيل الوحيد لانهاء الحرب السورية بالحل العسكري الذي قادته حتى الان وساهم في انقاذ النظام وحلفائه ايضا كايران من حرب بدت خاسرة في اكثر من مرحلة في الاعوام القليلة الماضية.

هل يعني ذلك بداية حل سياسي او تبديد للاوهام بحل عسكري ؟

يفهم ديبلوماسيون متابعون للوضع السوري ان مسارعة روسيا الى الطمأنة الى ان ما بعد حلب سيكون الحل السياسي اي عبر المفاوضات بين النظام والمعارضة كانت بدافع الا يفهم ان قيادة روسيا لمراحل سابقة في الحرب تعني انها ملتزمة استعادة كل المدن الى سيطرة النظام او انها ستقود مراحل اخرى مرتقبة في الحرب السورية بعدما سبق للنظام ان قال انه سيتابع حربه في اتجاه مدن اخرى من اجل استعادتها كما قال ولو انه اقر بان ذلك لن يكون غدا . هذا لا يعني حكما انسحاب روسيا ولا تخليها عن دور اختطته لنفسها لكن هذه الرسالة الروسية يفترض ان توجه لتهدئة الدول العربية والطائفة السنية في الوقت نفسه ولذلك تكتسب مشاركة تركيا في هذه المساعي او ما يسمى خريطة الطريق اهمية علما ان روسيا تدرك ان وضعها لهذه الخريطة لا ينهي الحرب في سوريا كما تدرك ان الاجتماع او التفاهم مع ايران وتركيا وحدهما على تعميم وقف للنار لا يمكن ان ينهيها ايضا. ففي هذا الجانب او النقطة بالذات فان الثلاثي الروسي الايراني التركي غير كاف على المستوى الاقليمي لجهة ضرورة ان يكون للدول العربية كلمتها على رغم اعتبار روسيا على الأرجح ان تركيا هي المدخل الى هذه الدول ذات الغالبية السنية وهو غير كاف على المستوى الدولي ايضا حيث لا يمكن روسيا وحدها ان تصيغ خريطة طريق لحل لسوريا فيما هي طرف الى جانب النظام من جهة وهي في حاجة الى الولايات المتحدة وأوروبا وأدوارهما الضرورية اذا كان ثمة حل للحرب السورية من جهة اخرى ، علما ان احدا من المتابعين لهذه الحرب لا يؤمن بان ما حصل حتى الان في حلب هو نهاية مطاف هذه الحرب او بدء نهايتها بل ان الامر قد لا يتعدى مرحلة من مراحلها التي لا تزال طويلة او بعيدة.

النهار

 

 

 

باور وحلب ودموع التماسيح/ علي الصالح

الزيف والرياء والنفاق السياسي تجلى في أبشع صوره في الكلمات التي كانت تتدفق من فيه سوزان باور المندوبة الأمريكية في جلسة مجلس الأمن الدولي لمناقشة المأساة الانسانية التي عاشها ويعيشها أهالي مدينة حلب، أو بالأحرى من تبقى منهم في المدينة.

مأساة حلب الإنسانية ، يتحمل مسؤوليتها كل أطراف الصراع في سوريا..

النظام الذي اختار العنف والبراميل المتفجرة بدلا من الحوار مع شعبه وتلبية مطالبه المشروعة في الحرية والديمقراطية، وحلفاؤه تتقدمهم ايران وروسيا عبر القصف والقتل، وفصائل تسمى جزافا «فصائل الثورة» والثورة منها براء، فصائل تدعمها تركيا ودول عربية ومن ورائها زعيمة العالم الحر الولايات المتحدة ومن لف لفها.

ولا تغيب عن الصورة دولة الاحتلال إسرائيل المستفيد الأكبر من هذا التمزق السياسي والجغرافي والاجتماعي الذي تعيشه سوريا، دولة الاحتلال التي تسعى للاحتفاظ بمرتفعات الجولان المحتلة، وبدأت فعلا في مطالبة العالم، لاسيما الرئيس الامريكي المنتخب دونالد ترامب، بالاعتراف باحتلالها لها. هذه الفصائل التي اخذت من اهالي المدينة المنكوبة رهائن على مدى أسابيع، بل فجرت وهي تردد الله اكبر، حافلات مدنية كانت ستنقل هؤلاء المدنيين من جحيم الحرب وحمم المدافع والصواريخ الروسية وبراميل النظام الى مكان آمن.

وليس في ما اقول تجن على أي من هذه «الدكاكين»، دكاكين تبيع البضاعة نفسها وتتنافس وتتقاتل وتتناحر في ما بينها لصالح اصحابها، لا لصالح الشعب الذي يسدد في النهاية الفواتير. وبالمناسبة توجهت لصديق سوري وهو متشدد في معارضته لنظام الاسد ودعمه لـ»الثورة»، بسؤال، وهو أي من فصائل المعارضة وعددها يزيد عن 175، التي تقاتل نظام الاسد، يؤيد ويدعم، فجاء رده مترددا انه كان يؤيد «المناضلين الذين خاطروا بأنفسهم وحياتهم ومستقبل أسرهم وعائلاتهم وانشقوا عن جيش النظام القاتل»، ويقصد بذلك الجنود والضباط الذين انشقوا عن الجيش السوري وشكلوا الجيش الحر، واستطرد قائلا «لكن هؤلاء جرى احتواؤهم وتخريبهم».

باختصار فإن صاحبنا، وأنا احترم رأيه، لا يريد ان يعترف بما اعترف به ميشيل كيلو الذي كان يحتل موقعا متقدما في «الإئتلاف الوطني الممثل الرسمي للمعارضة». ورفض كيلو في مداخلة هاتفية مع مؤتمر لناشطي اتحاد الديمقراطيين السوريين في استراليا، الذي عقد في الاسبوع الماضي، تسمية المقاتلين بـ»المقاومة». واعتبر أن خطاب «الثوار» «متخلف ومعاد للحرية إلى حد كبير جداً، لا يؤمن بمساواة الناس، لا يملك فكرة العدالة في تاريخه السياسي. يجهل فكرة الدولة والمجتمع». ويذَكّر كيلو بان الشعب ثار «بداية وقبل أن يخطف ثورته المنتفعون والمرتزقة وأمراء الحرب وتجار الدم والزعران وخاطفو النساء» من أجل مبادئ الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، ولكن كما يقول أزيحت جانبا «هذه المبادئ لصالح نهج آخر متخلف عنيف، فدخلت الثورة عندها إلى وضع استحالة الانتصار لامتلاكها مشروعين متناقضين».

نعود الى السيدة باور، فقد أسهبت ومن على أعلى منبر في الامم المتحدة، دون ان يرمش لها جفن، في الحديث عن الاعمال البربرية التي ارتكبت ضد أهالي حلب، ومما لا شك فيه أن مجازر واعمالا بربرية ارتكبت خلال الاسابيع الماضية وما قبلها طبعا، راح ضحيتها الاف الاطفال والنساء والمسنين والمسنات والمرضى. والخلاف ليس مع هذا الكلام وهو كلام حق ارادت به باطلا، ولكن الاستهجان ان يصدر مثل هذا الكلام عن ممثلة دولة قائمة اصلا على جماجم البشر، وتبرر عمليات القتل والذبح التي ارتكبتها وترتكبها إسرائيل، لا سيما في قطاع غزة، وتعتبره دفاعا مبررا عن النفس.

الخلاف مع باور مع تأييد دولتها العظمى آخر احتلال في القرن الواحد والعشرين.. وعذابات الشعب الفلسطيني المتواصلة منذ حوالي سبعين عاما.. ودعم محتليه بأحدث أنواع الأسلحة لمواصلة أعمال القتل والتدمير وتكريس الاحتلال.

وباور هي ممثلة دولة استخدمت حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن79 مرة في تاريخه منها 41 لصالح إسرائيل ومصالحها، و33 ضد مشاريع قرارات لصالح الشعب الفلسطيني المحتل.

وباور هي ممثلة زعيمة «العالم الحر» التي رفضت منح تأشيرة دخول لطفلة فلسطينية. هذه «الدولة العظمى التي تتدخل في شؤون دول العالم أجمع، بحجة الإطاحة بانظمة استبدادية، رفضت طلب تأشيرة دخول للاراضي الامريكية، للطفلة عهد التميمي (15 عاما) من قرية النبي صالح قرب رام الله، وهي الطفلة التي ازدادت شهرتها في الشريط المصور الذي ظهرت فيه وهي تحاول تخليص شقيقها الصغير من بين براثن جندي احتلالي، بعضّ يده ونجحت في ذلك. وكانت عهد مدعوة للمشاركة في حملة في الولايات المتحدة بعنوان «يجب ألا يكون هناك أطفال وراء القضبان/ مقاومة حية» تبدأ في 15 يناير المقبل. زعيمة العالم الحر ترعبها طفلة، تقاوم الاحتلال بالوسائل السلمية، لانها ربما قد تفضح زيفها وازدواجية موقفها في عقر دارها، وتعري طفلها المدلل اسرائيل امام الجماهير الامريكية المُجَهّلة.

وباور هي ممثلة الدولة (العظمى) نفسها التي سلمت سجناء أبرياء بعد11 سبتمبر 2001 والحرب على افغانستان، للنظام الاستبدادي نفسه الذي تتحدث عنه في سوريا، انتهى بهم المطاف الى ما وصفته باور في خطابها بـ «معسكرات الاعتقال» في سوريا حيث اخضعوا لوسائل تعذيب غير تقليدية ليتوصل النظام بالنهاية إلى براءة هؤلاء السجناء (من مقال للصحافي والكاتب البريطاني روبرت فيسك في صحيفة «الاندبندنت»).

باور لم تتذكر وهي تحاول أن تذرف دموع التماسيح، حوالي نصف مليون ضحية من الشعب العراقي (مقال فيسك) الذين حصدت ارواحهم طائرات وصواريخ امريكا وحلفائها في حرب ظالمة. ولم تتحدث باور عن الحرب الطائفية التي اشعلتها دولتها في العراق، ولا عن تمزيقه ولا تسليمه لقمة سائغة لإيران.

باور تذكرت في خطابها حلبجة ورواندا والبوسنة، لكن ذاكرتها خانتها فنسيت المجازر التي ترتكب في اليمن بالسلاح الامريكي والبريطاني. بالمناسبة، الا تمثل باور الدول العظمى التي كانت كما هي دوما السباقة في كل شيء حتى استخدام السلاح النووي ضد الجنس البشري؟

حاولت باور جاهدة إعطاء الانطباع بأنها صادقة في ما تقول، وأنها تحس وتشعر بآلام الشعب السوري الجريح ومآسيه، ولكنها فشلت بامتياز، فلا هي كانت مقتنعة بما كانت تقول ولا من كان يستمع اليها ولا ضحايا حلب وغيرهم من الضحايا في سوريا وفلسطين والعراق وليبيا واليمن.

واختتم بان الشعب السوري بالكامل مهمش ومغيب، مصيره يقرر بعيدا عنه على طاولات عواصم غربية وشرقية وأخرى اقليمية (روسيا وامريكا وتركيا وايران واسرائيل). الشعب السوري مغيب بنظامه وقواه «المعارضة»، يباع ويشترى فيه دون ان يكون له قول أو رأي. وهذا هو وضع العرب اجمعين، فهم مهمشون مهملون ومصائرهم تحسم على «موائد اللئام». وعن الدول نفسها التي زعمت تأييدها للشعب السوري، بينما سعت بكل جهد الى وأد ثورته الحقيقية، ونجحت في حيدها عن طريقها نحو نفق مظلم عبر مجموعات ظلامية جاءت، أو بالأحرى بعثت من كل اصقاع الارض لغرض حرق هذا البلد وتمزيق هذا الشعب الأبي الذي كان دوما الحاضنة الدافئة لكل العرب في أزماتهم، وإذلاله وتدميره تاريخيا وتفتيته جغرافيا وضرب نسيجه الاجتماعي.. حتى لا تقوم له قائمة على المدى المنظور. هذا الشعب الذي لم يحسب عليه انه رد عربيا مستغيثا محتاجا، فاللاجئون الفلسطينيون خير دليل، فلم يعاملوا في بلد بالاحترام والتقدير والمساواة التي عاملهم فيها الشعب السوري.. وكانت أياديه مفتوحة دوما لمن يحتاجه.. احتاجهم الشعب الجزائري خلال حرب الاستقلال، واللبناني خلال حربه الأهلية، والعراقي خلال نظام صدام ومن بعده الاحتلال الامريكي واليمني وغيرهم.. فردوا له ولو جزءا بسيطا من الجميل.

كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»

 

 

 

حلب تؤجّج نيران “المظلومية السنيّة”/ عيسى الشعيبي

حدث في حلب ما لا يعدّ ولا يحصى من جرائم وقهر وفظاعات غير مسبوقة، عزّزت لما سيعرف من الآن فصاعداً بـ “المظلومية السنية”، هذه المظلومية التي استثمر فيها تنظيم الدولة الإسلامية كثيراً، وحقّق من خلالها نجاحاتٍ جزئية، فجاءت معركة حلب لتصادق على صحة تلك المزاعم التي ستهيمن، من الآن فصاعداً، على قلوب وعقول قطاعات واسعة من عرب المشرق العربي عموماً، والعرب السنة في كل من العراق وسورية خصوصاً. إذ لم تتمكن كل الشعارات السياسية التي رفعت في سماء الحرب الدائرة في العراق والشام، منذ سنوات، من التستر على ألوان تلك الرايات الطائفية المرفرفة على جحافل المليشيات الدائرة في فلك إيران، ذات المشروع الإمبراطوري التوسعي، كما لم ينجح دخول كل من أميركا وروسيا على خط الحرب ضد الإرهاب، في صرف الأنظار عن حقيقة أن المستهدفين حقاً هم العرب السنة، وما التذرع بالقضاء على “داعش” سوى الوسيلة التي تبرّر الغاية هذه المرة. إذ ليس هناك من بين ملايين النازحين واللاجئين مواطن واحد من غير أبناء الأكثرية العربية السنية، وليس هناك ضحية وقعت، خارج نطاق المعارك الدائرة، من غير أتباع هذه الأكثرية، وينطبق الأمر ذاته على المعتقلين والمغيبين قسرياً، ناهيك عن الأيتام والأرامل والمغلوبين على أمرهم، في طول هذه البلاد وعرضها، الأمر الذي يقول بالفم الملآن، وبلغة غير أعجمية، إن هذه الحرب التي تعيد هندسة الواقع الديموغرافي في المشرق، هي حرب الشيعة ضد السنة، على طول الخط.

ومع أن حقيقة هذه الحرب ساطعة سطوع الشمس، منذ أخذت إيران تكوّن حشود مليشياتٍ تحت أسماء مذهبية فاقعة، وتدفع بهم من أفغانستان وباكستان، ومن كل فج شيعي عميق، إلى ساحة المعارك الدائرة تحت شعار حماية “العتبات المقدسة”، إلا أن القوى السياسية والاجتماعية في مختلف البلدان العربية لم تجد فائدةً في تسليط الضوء على جوهر هذا الصراع المحتدم، فغضت البصر وأغلقت السمع، كون ذلك كله يصب مباشرةً في طاحونة خطاب تنظيم الدولة، ويضفي عليه مزيداً من الوجاهة المحرجة حتى للضحايا أنفسهم.

ولعل هذا الحرج الذي حشر الكتّاب والمثقفين والدبلوماسيين وقادة الرأي العام في زاوية

“نجحت المليشيات في حلب في تشكيل وعي بين الملايين أن الشيعية السياسية دخلت طوراً أشد عدوانيةً” أخلاقية ضيّقة، ومنعهم من تسمية هذه الحرب باسمها الحقيقي، حتى لا تزداد النار اشتعالاً، ويذهب الجميع إلى مواجهاتٍ داميةٍ لا نهاية لها، كان من بين الأسباب المهمة التي مكّنت نظام الولي الفقيه المضي أكثر فأكثر في التقدم على الأرض، وفي الفضاء السياسي والدعائي أيضاً، من دون أن يلقى ما ينبغي إقامته من مصدّاتٍ فكرية ملائمة، وأن يواجه بما كان يجب رفعه من شعاراتٍ مناهضة، حتى بعد أن أعلنت طهران، جهاراً نهاراً، عن هيمنتها على العاصمة العربية الرابعة.

وكان لسياقات هذه الحرب، وكثرة المتدخلين في دهاليزها المعتمة، وتعدّد هوياتهم، أن تبقي على ورقة التوت الجافة، معلّقةً أمام أنظار المراقبين المتعففين عن الانجرار وراء فواعِلها المذهبية الصارخة، إن لم نقل التخفيف من وقع مضاعفاتها نصف المكشوفة، إلا أن واقعة تدمير حلب، وهي إحدى أقدم الحواضر العربية السنية، وتهجير مئات الألوف من سكانها أمام عدسات المصورين الميدانيين، أتت لتضع النقاط على حروف الجملة القديمة الناقصة، وهي أن هذه أحد تجليات حرب الثارات التاريخية غير المسدّدة منذ 1400 سنة.

لم يأخذ كثيرون على محمل الجد إعلان إيران الرسمي عن تأسيس الجيش الشيعي، الذي سيواصل الحرب من الموصل إلى حلب ومن ثم إلى اليمن، واستهزأ بعضهم بتشخيص نوري المالكي المشهد حرباً بين أحفاد الحسين بن علي وأحفاد يزيد بن معاوية، ولم يلتفت أحد، بما فيه من الكفاية، إلى مغزى عمليات التهجير المستمرة من الأنبار ونينوى وصلاح الدين، ومن حمص وضواحي دمشق وغيرها، بكل ما ينطوي عليه الأمر من عمل منهجي متدرّج المراحل، على طريق تغيير التوازنات السكانية لصالح الأقليتين، العلوية والشيعية.

وأحسب أن واقعة حلب، بكل ما انطوت عليه من فجور مذهبي فاق كل ما سبقه من وقائع مماثلة، جاءت على نحو أكبر من قدرة أشد المتسامحين والمهوّنين وكليلي البصر، على التغاضي عن نتائجها الكارثية. كما أحسب أيضاً أن أغلبية بقايا القوميين واليساريين، المصطفين إلى جانب فصائل عصائب أهل الحق والنجباء والحوثيين والشبيحة، يمكنهم ازدراد هذه اللقمة الكبيرة بسهولة، وتسويقها على أنها صفحة مشرقة من صفحات محور المقاومة والممانعة، وهو المحور الباحث عن الطريق إلى القدس، عبر الزبداني ومضايا وتلعفر والفلوجة.

ذلك أن مفاعيل معركة حلب وتداعياتها التي احتفل بها الإيرانيون في الشوارع، وتبادل أنخابها

“مفاعيل معركة حلب ستحفر عميقاً في وجدان الأمة، وستراكم أكثر فأكثر في الوعي العام” الزينبيون والفاطميون والحيدريون ومن لفّ لفّهم، على الملأ كافة، ستحفر عميقاً في وجدان الأمة، وستراكم أكثر فأكثر في الوعي العام، لا سيما في المشرق العربي، مشاعر الاستلاب والحس بالمظلومية السنية، الأمر الذي من شأنه تقويض الاعتدال والوسطية، وتأجيج النيران المشتعلة أساساً، وربما إعادة إنتاج خطاب “داعش” بصورة أشد راديكالية، خصوصاً عندما تتكشف أهوال ما جرى في حلب، ويتضح غور الجروح السورية والعراقية النازفة بغزارة.

وبجملةٍ أخيرة، فقد نجحت المليشيات الشيعية في حلب، وتحت تغطية سلاح الجو الروسي، ليس فقط في تدمير المدينة ذات الرمزية التاريخية، أو تدمير بنيتها العمرانية الباذخة فحسب، وتهجير مئات الألوف من أحيائها العتيقة أيضاً، وإنما نجحت كذلك في تشكيل وعي مشترك بين الملايين، مفاده أن الشيعية السياسية دخلت طوراً أشد عدوانيةً من قبل، وإن مقاومة هذا المد الصفوي المتوحش يقتضي، بالضرورة الموضوعية، الاستجابة بصورةٍ أكثر فاعليةً لمثل هذا التحدّي المصيري، وهو ما سوف يفتح الأبواب أوسع أمام حروبٍ أكثر مرارة، وأشد هولاً من كل ما جرى حتى غداة سقوط حلب بأيدي التحالف الشيعي المتعاظم قوة.

العربي الجديد

 

 

 

 

لو كانت حلب النهاية/ حسين عبد الحسين

أقسى ما في ابادة حلب لا المجازر والتهجير بحق مدنييها، بل أقسى ما في ابادة حلب انها لن تكون الاخيرة، فبعد حمص تستغيث، وداريا تحترق، وحلب تباد، ستتجه الانظار الى ادلب، فغوطة دمشق، فريف حمص وحماة، ثم الجنوب.

وكل عملية ابادة في سوريا ارتكبتها قوات روسيا وايران والرئيس السوري بشار الأسد، سبقتها عملية قصف مكثف، فمعارك، فمجازر بحق المدنيين، فعاصفة استنكار عالمية عبر الاعلام والاعلام الاجتماعي، فاخراج من تبقى من الاحياء من المدينة المنكوبة، فتعليق صورة الرئيس السوري بشار الأسد فوق بقايا مبنى محترق، وهي صور يبدو فيها الأسد عادة عملاقا فوق شعار “سوا منعمرها”، قبل ان يبدو صغيرا في وسط مدينة من الركام، وقبل ان يبدو صغيرا جدا وسط صراع دولي يلتهمه ويلتهم كل السوريين فيما هو يعتقد نفسه ينتصر.

أقسى ما في ابادة حلب انها مجزرة كانت منتظرة، وانها كانت مستهجنة، وان نفس من انتظروها واستهجنوها، انتظروا سابقاتها من محارق ومجازر، واستهجنوها كذلك، وبكوا، كما يبكون اليوم، وسيبكون غدا.

وأقسى ما في ابادة حلب انها محطة سريعة في خط طويل من الاحباطات العربية، من النكبة، فالنكسة، فحرب لبنان، ثم مجزرة قانا فجنين، فحروب العراق، فحربي غزة، فاشتعال سوريا واليمن وليبيا، والآتي قد يكون اعظم.

في مجلس الأمن، جلس مندوب الأسد بشار الجعفري يستعرض نُبل رئيسه وجيشه. رفع صورة ردد انها صورة سورية ركع امامها جندي من قوات الأسد لتدوس فوق ظهره وتعبر. اتضح ان الجعفري، على عادته، يكذب، وان الصورة لمقاتل من الحشد الشيعي العراقي ينحني امام مسنة عراقية. المشكلة ليست في اختلاق الأسد واصحابه للقصص وفبركتها. المشكلة هي في ان صورة الضحايا واالمهجرين العرب صارت اكثر من ان تحصى، جغرافيا وزمنيا.

أقسى ما في ابادة حلب انها اثبتت ان النظام الدولي أكذوبة، وان حقوق الانسان نقاش فكري للمثقفين من النخبة، وان شعوب العالم مازالت قبائل متناحرة ومتنافسة، تعلن انسانيتها فيما تضمر انانية شديدة تقتصر على مصالحها، او في الغالب مصالح اثريائها ممن يتلاعبون بعواطف الناس العاديين عن القومية والاثنية والمذهبية.

أقسى ما في ابادة حلب انه فيما كان الاطفال والمستشفيات تحت الركام، وفيما كان الحلبيون يركضون في الشوارع من دون هدى بحثاً عن ملجأ او مخبأ، كانت الولايات المتحدة، زعيمة العالم الحرّ المزعوم، تعيّن رئيس أكبر شركة نفط في العالم وزيراً لخارجيتها.

وأقسى ما في ابادة حلب ان المبعوثة الدائمة الأميركية الى الأمم المتحدة كانت تبكي متأثرة في سرّها، قبل ان تشن أقسى الهجمات الخطابية ضد روسيا وايران والأسد وتحملهم مسؤولية دماء الحلبيين، ثم تسكت. هذا الموقع الأميركي نفسه في مجلس الأمن، الذي وقف في وجه العالم حتى يستكمل مرتكبو مجازر قانا والمنصوري جرائمهم، وهو الموقع نفسه الذي منع العالم من التحري عن جرائم مخيم جنين ومقتل الطفل محمد الدرة في حضن ابيه. هذا المنصب الاميركي الفتّاك نفسه، يقف عاجزا متفرجا على ابادة حلب، والابادات التي سبقتها في العراق، والمجازر التي ستليها في سوريا.

أقسى ما في ابادة حلب هو تعزيز شعور العرب انهم احياء بالصدفة، وانهم حتى لو فرّوا من مجازر ماضية، قد يواجهون ابادات مستقبلية، فالدم العربي مباح، من المحيط الى الخليج، ولن يأتي العالم لنجدتهم، ولا لفرض مناطق حظر طيران فوق رؤوسهم، ولا ليمنع دموية قاتليهم عنهم.

اين يذهب العرب؟ اين ينفسون عن احباطاتهم؟ اين برامج ابعاد شبابهم عن اليأس المؤدي للتطرف؟ كلها اسئلة تطرحها حلب كما طرحتها من قبلها المجازر السابقة لحلب.

أقسى ما في مجازر حلب ان العرب لم يقتربوا من النهاية بعد، ولا لاح أمامهم بصيص أي امل، ولا يبدو ان في البعيد أي أفق.

المدن

 

 

أي خطوات بعد حلب بدل البكاء على أطلالها؟/ روزانا بومنصف

لا ينفع البكاء على حلب، سواء اتخذ شكل دعوات طارئة لهيئات الامم المتحدة في نيويورك او اعتصامات امام السفارات او استنكارات، انطلاقا من ان جميع المشاركين في هذه الدعوات او القائمين بها، يدركون منذ أشهر المآل الذي كان يهيئ لحل، أو انهم شاركوا عبر الموافقة على تسليم حلب، لا بل سوريا الى روسيا، او ان ثمة تواطؤا او عجزا علنيا في القدرة على انقاذ المدينة واهلها، او تخليا لاعتبارات او مخاوف معينة كما هي حال تركيا التي ترعبها فكرة الدولة الكردية على حدودها. ينقل سياسي بارز التقى الرئيس التركي رجب طيب اردوغان منذ أسابيع قوله لدى سؤاله عن حلب ومصيرها انه حزين جدا عليها، كأنما يستبق او يعرف مسبقا ما تتجه اليه الامور، في حين ينقل آخر نقلا عن مشاركين في مؤتمر الامن الذي انعقد في ميونيخ أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وردا على مطالعة لنظرائه الاوروبيين الذين انتقدوا بقوة اداء روسيا في سوريا توجت بموقف انتقادي عنيف لوزير الخارجية الاميركي جون كيري، قال للاخير انه يتعين عليه ربما ان يطلع على مضمون التفاهمات مع البنتاغون الاميركي. وهذا يسري وفق مصادر سياسية معنية على الدول الغربية كما على الدول العربية. وبمراجعة عميقة للاسباب، تتبين مسؤولية جماعية جنبا الى جنب مع القرار الروسي والايراني باستغلال الوقت الضائع الاميركي الذي تمثل في الانتخابات الرئاسية والمدة الفاصلة عن تسلم الرئيس الاميركي المنتخب مهماته من أجل فرض أمر واقع يتمثل باعادة تمكين النظام من السيطرة على حلب. وقد فاقم وصول دونالد ترامب الازمة لجهة ما اتجهت اليه دول في المنطقة الى اللوذ بروسيا في انتظار تبين الخيط الابيض من الاسود في مسار الرئيس الاميركي الجديد، نتيجة عدم الاطمئنان الى قدرته خلال السنوات الاربع المقبلة من الاحاطة بشؤون العالم ومشكلاته وافتقاده الى الخبرة السياسية. فالخوف من غموض سياسة الولايات المتحدة في المرحلة المقبلة، معطوفا على تخلي ادارة الرئيس باراك اوباما، أرسيا الى جانب عوامل اخرى لا تقل اهمية معالم تحالفات وتلاقي مصالح اقليمية ودولية أنتجت ما انتجته من تطورات حتى الآن. ذلك انه حين تقتضي مصالح الدول التضحية بمدينة او بشعبها، فإن الامور لن تتوقف عندها، في ظل أميركا غير المعنية بتغييرات المنطقة، واوروبا التي تحاول انقاذ نفسها من هجرة من تخافهم اليها، بحيث أن البكاء على سقوط المدينة في ايدي النظام وداعميه من ايران وروسيا قد لا يتعدى مجرد عمل او ما يفترض ان يكون بعيدا من العواطف او المشاعر المتعاطفة مع المعارضة. فما حصل بني على الارجح على مجموعة لاءات، من بينها أن لا انتصار محتملا لتنظيم الدولة الاسلامية، وتاليا لا دولة له ولا انتصار محتملا للاكراد، ولا دولة لهم ايضا، ولا انتصار كاملا للنظام ولا دولة له بسيطرته او بادارته كما في السابق. وهذه المعادلة، تشكل وفق مصادر ديبلوماسية بعضا من التفاهم المتوافق عليه بين الدول الكبرى، وليس قائما او مبنيا على المواقف المعلنة. لذلك فإن الأهم انه فيما يعد سقوط حلب في ايدي النظام وداعميه انتصارا لا يمكن تجاهله مبدئيا، فإن الاهم في نظر هذه المصادر هو ما بعد هذا الانتصار الذي لن يكون كذلك في واقع الامر اذا شاءت روسيا ومن معها انهاء الوضع السوري، أو إذا كانت الدول العربية والغربية ستضع ضغوطا كافية على روسيا. إذ يفترض ان يملك “الجانب” المنهزم مبدئيا في هذه المعادلة أوراقا كافية لاستخدامها حيث يجب وفي الوقت المناسب، بدلا من الاكتفاء بالبكاء على أطلال حلب ورثاء اطفال سوريا. فثمة فضيحة في استمرار الكلام على جرائم حرب ارتكبها النظام في حلب من دون اي صدى عملاني لهذا الكلام.

النهار

 

 

 

 

“البوصلة الأخلاقية” في حلب/ علي بردى

يشبّه الديبلوماسيون الغربيون ما يحصل في حلب اليوم ببعض أسوأ الفصول من أسوأ الحروب التي عاناها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. أقربها الى الذاكرة المعاصرة تلك الأيام السود من عام ١٩٩٥ حين نفذت مذابح سريبرينيتسا في البوسنة والهرسك. دخلت سوريا لوقت طويل في نفق مظلم.

لا تقتصر هذه القراءة القاتمة على الديبلوماسيين الغربيين. يتداور المسؤولون في الأمم المتحدة ومنظماتها الفرعية على التعبير عن الوضع المخيف. يشيرون الى أرقام القتلى والجرحى واللاجئين والنازحين والمحاصرين والمشردين والجائعين والمحتاجين. غير أن اليأس من قدرة المجتمع الدولي على القيام بعمل ما لوقف مأساة السوريين بلغ قعراً أعمق في مدينة حلب. كشف افتقار نظام الرئيس بشار الأسد وحلفائه الى أي “بوصلة أخلاقية” يمكن أن ترشدهم الى واجبات التزام القانون الدولي الإنساني والشرعة الدولية لحقوق الإنسان. حتى الحرب لها قوانينها. داست العصبيات الطائفية والمذاهب العقائدية والمصالح الإستراتيجية “البوصلة الأخلاقية”.

يواجه بعض الديبلوماسيون هذه اللحظات الحاسمة ببعض الصراحة. ما يحصل في حلب ليس “تحريراً” من الجماعات الإرهابية. لا وجود معروفاً فيها لـ”الدولة الإسلامية – داعش”، بل بضع مئات من إرهابيي “فتح الشام” (“جبهة النصرة” سابقاً) بين آلاف المقاتلين الآخرين وعشرات الآلاف من المدنيين. باشر “شيعة ايران” احتفالات مخجلة بـ”انتصارهم” في حلب، المدينة العريقة بتعددها وسط الغالبية السنّية. لا شيء يعبر عن مأسوية الفصل الأخير من الخروج الكبير للمدنيين والمسلحين السنّة من أحياء حلب الشرقية المحاصرة سوى المساومات على خروج محاصرين آخرين من الشيعة في بلدتي الفوعة وكفريا في ريف أدلب. لا مكان لـ”بوصلة أخلاقية” في هذه المعادلة السنيّة – الشيعية المقيتة.لن تكون هذه العملية جزءاً من “السجل المشرق” للحرب على الجماعات التي تعتنق مذهب “القاعدة” في الإرهاب. ما يجري حالياً ذروة في دوامة الجنون الدائرة منذ أكثر من خمس سنوات. غير أن الديبلوماسية الدولية تتسابق مع الزمن من أجل تصويب الأمور نحو اتجاه أكثر عقلانية حتى بعدما صارت “حلب الآن مرادفة للجحيم”، على حد وصف الأمين العام للأمم المتحدة بان كي – مون.

أدت الحرب السورية – ضمن أمور أخرى عديدة – الى جعل مصير الأسد مجرد تفصيل. لم يخلص أحد الى هذه النتيجة إلا بعدما خيبت روسيا خصوصاً، وبطبيعة الحال ايران والميليشيات المؤيدة لها، الآمال – الأوهام في امكان اطاحة الأسد بالإنتفاضة السلمية التي بدأت عام ٢٠١١، ثم بعدما صارت سريعاً ثورة مسلحة، وبعدما انتهت حرباً أهلية طاحنة وحرباً بالوكالة بين القوى الإقليمية والدولية. أراد الأسد وحلفاؤه منذ البداية أن يصوروا ويسوقوا أن القوات النظامية السورية هي رأس الحربة في المعركة الحتمية ضد الجماعات الإرهابية. باقياً ما بقي الدعم له من روسيا وايران، فإن كل الإعتبارات السالفة وسواها لن تعيد إليه المشروعية الدولية في حكم سوريا، حتى لو تحوّلت حلب سوريا سريبرينيتسا البوسنة والهرسك.

النهار

 

 

 

 

من ملعب إلى آخر/ امين قمورية

طويت صفحة المأساة الحلبية الطويلة. لكن الحرب في سوريا لم تنته ولن تنتهي. عمليات نقل المقاتلين وعائلاتهم من المدينة المنكوبة ومن الفوعة وكفريا المحاصرتين، وقبل ذلك من الزبداني وداريا ومضايا وسرغايا الى مناطق أخرى مرشحة بدورها لجولات جديدة من القتال، اشبه بنقل اللاعبين من ملعب في مدينة بعد انتهاء مباراة، الى ملعب آخر في مدينة أخرى للاستعداد لمباراة مقبلة.

انها الحرب المجنونة تتنقل من منطقة الى أخرى. والموت والخراب مستمران. والحرب التي تخوضها قوى محلية بالوكالة عن ارادات خارجية لا تنتج الا استقراراً بالوكالة مرهوناً بتعقيدات السياسات الدولية والاقليمية وتبدل التحالفات والمصالح. وهذا لا يشي بسلام راسخ آت بل يشي بانطلاق مرحلة جديدة من الحروب والصراعات والفوضى في ظل الاستنفار المذهبي.

في حلب تغيرت قواعد اللعبة المستقرة منذ سنوات على خطوط تماس شبه ثابتة. وحسم النظام المتحالف مع روسيا وايران المعركة بالضربة القاضية. ولكن ماذا عن ادلب والارياف الشمالية؟ ماذا عن الباب وبلدات المربع التركي الذي رسم حدوداً جديدة في الصراع السوري؟ من سيدخل الرقة ودير الزور؟ وماذا عن بادية الشام وقلبها تدمر؟ وما مصير القطاعات الكردية التي شقّها تدخل أنقرة؟

الصمت الغربي يوحي بتسليم اميركي باطلاق يد موسكو وحلفائها في المستطيل الجغرافي المسمى “سوريا المفيدة”. كذلك الصمت التركي المشوب برائحة الصفقات. ولكن ماذا عن مصير بقية المستطيلات والمربعات في الارجاء السورية الأخرى؟

سياسة أوباما ازاء سوريا وصفت بالمترددة والمتخاذلة. لكن الثابت ان هذه السياسة أطالت عمر الحرب وجذرتها. وثمة من يقول إن واشنطن الاوبامية كانت ستعتبر نفسها خاسرة اذا ربح اي من طرفي الاقتتال في سوريا. فهل سقوط حلب مؤشر للانتقال الى سياسة أميركية جديدة، أم لفرض ممر إلزامي على الادارة الجديدة؟ وهل يتعاون ترامب مع صديقه الروسي المفترض بوتين في رسم مسار سوري جديد يقود الى حل سياسي متوازن يرضي الجميع ويقضي على الارهاب ويمهد لخلاص سوريا، أم يخلي لموسكو وحلفائها ملعبهم الحالي ويتفرغ للملاعب السورية الاخرى عبر وكلاء جدد بعدما اثبت الوكلاء الحاليون فشلهم؟

السير الاميركي على طريق الحل المثالي في سوريا يبدو مستحيلاً في ظل المشهد القاتم الحالي، وخصوصاً في ظل ادارة أميركية متطرفة لا تنظر الى سوريا والشرق الاوسط الا بالمنظار الاسرائيلي. أما خيار اعادة خلط الاوراق على الملعب السوري، فهو الارجح، مع ارتفاع الضغط الاميركي الايراني، وترسيخ التناقض التركي الكردي، والاستنفار الغربي على دول الخليج.

النهار

 

 

 

حلب الانكسار، لا الانتصار/ محمود الوهب

تضع الفضائية السورية، منذ أكثر من عشرة أيام، عبارة “حلب الانتصار” عنواناً عريضاً على شاشتها، أي منذ أن تخلَّى العالم أجمع عن مدينة حلب، وعن المعارضة السورية المسلحة الموَرَّطة،ِ المورِّطة، في الأصل، على هذا النحو، أو ذاك، وتركها لاتفاقات دولية، ولتقاسم نفوذ ومصالح بين الضواري الدولية والإقليمية، ممن تدخلوا في الشأن السوري على نحو مباشر أو غير مباشر، ومنذ أن قرّر الروس، ومعهم المليشيات الإيرانية/ استباحة حلب، والتمثيل بأهلها، بالمطلق.

لم تنتصر حلب، بحسب ما يزعم النظام وأنصاره، وأعوانه، وحلب التي أعنيها هنا، هي الوطن السوري، هي الأمة السورية بأكملها، سواء على سبيل المجاز أم الحقيقة..! نعم إنَّ حلب لم تنتصر، بل تمكَّن الأجنبي، أو مكّنه النظام منها، منذ اختياره الحل الأمني أسلوباً وحيداً للتعامل مع شعبه الذي هبَّ، منذ قرابة ست سنوات، يطالب، سلمياً، بحقوقه المهدورة على غير صعيد! نعم إنها الحقيقة البيِّنة لكل ذي عين مبصرة، يؤكد ذلك ثلاثة أمور. أولها: جرى الاتفاق الأميركي الروسي، أخيراً، حول خروج المدنيين، والمسلحين من حلب، بمعزل عن النظام السوري.. بحسب الإعلام السوري نفسه، لا غيره! إذ نفى المسؤولون السوريون أن يكون لهم علم بهذا الاتفاق، لكن المعنيين الروس صفعوهم بتأكيده، وكأنما قالوا لهؤلاء المسؤولين ساخرين: ومتى كان لكم علم أو دراية بالشأن السوري؟ ثم ما دخلكم؟! وبالطبع لا تغير من الأمر شيء تلك المراوغات التي قام بها كل من النظام والإيرانيين على السواء، حول تنفيذ الاتفاق، تحت مزاعم باطلة.

يتجلى الأمر الثاني بتلك الفظائع، أي الإعدامات الميدانية الجماعية التي ارتكبتها المليشيات المختلفة بحق أكثر العائلات الحلبية عراقة، وأصالة.. أما الأمر الثالث فأكثر ما ظهر في وقوف المليشيات الإيرانية بوجه تنفيذ الاتفاق من منطق طائفي، تبريراً لعدوانها ولأطماعها، وتثبيتها ما حصلت عليه من نفوذ حتى الآن، ومنها تنصيبها النفس “وكيلاً حصرياً” عن شيعة الأرض كلّهم..! على ذلك أقول: إنَّ حلب، بما ترمز إليه، لم تنتصر، كما يزعم الزاعمون الراقصون على أشلائها بناءً وبشراً، بل انكسرت، نعم انكسرت حلب، وانكسرت لأجلها قلوبٌ كثيرة، قلوبٌ لا تزال مفعمةً بشيء من حب وضمير إنسانيين، وهذا أمر واقع، وحقيقة جلية، لكنَّ الانكسار غير الاندحار أو السقوط، بل هو وقفة مع الذات، وقراءة للأسباب التي أدت إليه، المباشرة وغير المباشرة.. وإذا ما أردت إيجاز الأسباب، فلن آتي بجديد عما قيل سابقاً، ويقال الآن، وربما سيظل يقال: عن عسكرة الثورة السورية بإرادة النظام ذاته، ورعونة التطرّف الديني، والإسلام السياسي عموماً، إن لم أقل بأشياء أخرى كثيرة دخيلة على الثورة والثوَّار، لكني أتابع فأقول: وكذلك بإغماض عين القوى العلمانية واليسارية والديمقراطية عموماً عن هذا الأمر، واستمرار ذلك، على الرغم من رؤية نواقص كثيرة سادت عملية العسكرة والمتعسكرين، إضافة إلى الأحقاد القديمة التي طغت على التفكير العقلاني، ليس في مواجهة الاستبداد وحسب،

“انكسرت حلب، وانكسرت لأجلها قلوبٌ كثيرة، قلوبٌ لا تزال مفعمةً بشيء من حب وضمير إنسانيين، وهذا أمر واقع، وحقيقة جلية، لكنَّ الانكسار غير الاندحار أو السقوط، بل هو وقفة مع الذات” بل في عدم قراءة موازين القوى، الداخلية منها والخارجية، قراءة صائبة، قراءة لم تستند إلى عقل سياسي حصيف. وفوق هذا وذاك، تأتي فرقة الصف، لا بين ذوي التفكير المختلف أصلاً، بل بين أصحاب الرأي الواحد أو الرؤية الواحدة..! ولم تستطع المعارضة تقديم نفسها للعالم، ولجمهورها السوري على نحو خاص، لا سياسياً ولا فكرياً، ولم تقدم رمزاً لها من بين شخوصها الكثيرين!

لست الآن، على كل حال، في مجال الندب والنواح على ما جرى، ولا في تحميل أسباب هذا الانكسار لهذا الجانب أو ذاك، فما جرى لا يعدو أن يكون كبوةً، وانكساراً عابراً، يستفاد من دروسه، على طريق ما يهدف إليه الشعب السوري، ولعلَّ المهمة أمام الشعب السوري، اليوم، وإن صارت أكثر صعوبةً، فإنها أكثر وضوحاً، إذ أضاف نظام الاستبداد إلى موبقاته مبررات ومرتكزات كثيرة لمتابعة الكفاح ضده.. فإذا كانت مبرّرات الثورة السورية قائمة قبل العام 2011، وتتلخص بكم الأفواه، ومجابهة أصحاب الرأي المخالف بالسجون والمعتقلات والتصفيات عموماً، إضافة إلى مصادرة السياسة بالمطلق، وبسط النفوذ على مؤسسات الدولة الغائبة مدنياً وإدارياً، وخصوصاً على القضاء والإعلام والتربية والتعليم بمراحله كافة. ناهيكم عن النهب المنظم والمبرمج للمال العام عبر خواص الخواص، والشركاء الكبار، وبالتوغل الأمني الذي كان شبحه يطول الجميع ودونما استثناء..

أقول: إذا كانت كل هذه المبرّرات الفاقعة قائمة موضوعياً، فإنها اليوم أشد وأقسى بما أضيف إليها من خرابٍ وأوجاع وبؤس اقتصادي غير مسبوق. ويأتي فوق ذلك كله الاحتلال بأشكاله كافة، نعم الاحتلال الذي لا أحد يستطيع أن يعطيه اسماً آخر، الاحتلال الذي لم يقبله الشعب السوري على مدى تاريخه الحيث، ليقبله الآن. فمهما قيل من مبرّرات عن أسباب مجيء الروس والإيرانيين، ومختلف المليشيات المدججة بالأسلحة والأحقاد الطائفية والنهم إلى الدم، فإنها اليوم تشكل احتلالاً فاق في وحشيته كل ما فعله أي مستعمر آخر مرَّ على سورية، إذ يصل، في بعض حالاته، إلى الاستعمار الاستيطاني. أشير هنا إلى المليشيات الإيرانية والأفغانية وحزب الله تحديداً، وإلى تصريح سابق لرأس النظام، يفيد بما معناه: “إنَّ الوطن لمن يحميه، ويدافع عنه”. وأعتقد أن هذا الأمر غير غائب عن أحد، فإحساس السوريين تجاه المستعمر قوي نقي، لا يقبل حلولاً وسطاً.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنَّ النظام نفسه الذي أتى بكل هذه الأوزار، وما تحمله من أثقالٍ، لم يعد قادراً معها على الاستمرار في الحكم، ومن بينها وزر مقتل مئات الضباط، وآلاف العسكريين من الطائفة العلوية ذاتها..!

ثمّة مرحلة جديدة تبدأ، صعبة وشاقة، مرحلة إكمال المشوار الذي بدأته جماهير الشعب السوري في النصف الثاني من مارس/ آذار عام 2011، مرحلة تمتزج فيها مسألة التحرّر الوطني، وتطهير الأرض من أرجاس المحتلين، وتنزع نحو دولةٍ مدنيةٍ تسود فيها ديمقراطية حقة بقوانينها الموضوعية التي تأخذ بالحسبان أطياف الشعب السوري، قومياً ودينياً وطائفياً، لتوظفها في إعادة إعمار الوطن السوري، وتنميته، وحماية أمنه وسلامه.

العربي الجديد

 

 

 

 

سوريا هي المهزوم الحقيقي في حلب/ عبد الوهاب بدرخان

قصة أسلحة الدمار الشامل التي اتخذتها الولايات المتحدة ذريعة لغزو العراق وإسقاط نظامه السابق واحتلاله طيلة ثمانية أعوام من دون إيجاد تلك الأسلحة، رغم المعلومات والتقارير الاستخبارية، هذه القصة تكاد تشبه قصة الإرهابيين التي اعتمدتها إيران عنوانا لغزو سوريا واحتلالها، وإبقاء نظامها الذي سبقهما في استخدام الأسلحة الثقيلة ضد متظاهرين سلميين من شعبه، ولما عجز منح الدولتين «مشروعية» استباحة مدن، مثل حلب.

من الواضح أن هذا النظام بتركيبته الطائفية لم يكن معنيا بالأهمية الحضارية لحلب، وإنما عرف فقط أهميتها الاستراتيجية في معركته العسكرية من أجل إدامة سلطته. حلب لم تشهد أحد فصول الحرب على الإرهاب، رغم وجود مجموعة مصنفة فيها، بل شهدت مرحلة مفصلية من الصراع السوري الداخلي بين النظام ومعارضيه، أولئك الذين وصمهم باكرا جدا بـ«الإرهابيين» ودأب على اختطافهم وقتلهم بالتعذيب.

هناك طبعا إرهاب في سوريا، لكن هناك أنواعا عدة من الإرهاب. لا أحد يجادل في طبيعة تنظيم «داعش»، فهو إرهابي خالص لم يبرهن أن لديه هدفا ولا مشروعا آخر غير القتل للقتل. لكن «جبهة النصرة» التي غيرت تسميتها إلى «جبهة فتح الشام» (جفش) أثارت جدلا، ربما لأن غالبية مقاتليها من السوريين، ولأن مبايعة زعيمها لزعيم «القاعدة» لم تدفعها إلى ارتكاب عمليات خارجية على النمط «القاعدي»، بل قصرت عملها في جبهات القتال مع النظام كأي فصيل آخر.

وإذا كان سلوكها الواقعي لا ينطوي على ممارسات إرهابية، فإن مجرد وجودها كتنظيم قاعدي مصنف شكل اشتباها بالمعارضة وعبئا عليها، وأصبح مؤكدا بعد حلب أنه لم يساهم في إفشالها فحسب بل خصوصا في تغيير النظرة الخارجية إليها وإلى قضيتها.

لكن «جفش» و«داعش» استخدما لإضفاء «مشروعية» على الدور الإيراني ثم على الدور الروسي، وفي غضونهما على الدور الأميركي، وأخيرا على الدور التركي. والواقع أن هذه الأطراف الخارجية الأربعة تبادلت قبول بعضها بعضا وإن تفاوتت أهدافها، رفعت جميعا بالإضافة إلى النظام السوري شعار محاربة الإرهاب.

وإذ دافع الإيرانيون عن هذا النظام، كونه أداتهما وممرهما والغطاء الضروري لوجودهما على أرض سوريا، فإن الأميركيين والأتراك وغيرهما كثر اعتبروا في الحد الأدنى أن هذا النظام «اجتذب» الإرهاب وأفرط في ممارسة «إرهاب الدولة»، وفي الحد الأقصى أنه وإيران صنعا هذا الإرهاب لاختراق مناطق المعارضة، خصوصا أن قنوات الاتصال لا تزال ناشطة بين الإرهابيين الموصوفين وقادة «القاعدة» الموجودين في إيران.

بعد انتهاء الحرب الباردة صدرت عشرات الكتب المستندة إلى وثائق كشفت بشكل رسمي أو شبه رسمي أن الاستخبارات الأميركية عولت في مكافحة الشيوعية (إرهاب ذلك الزمان) على الإسلام والإسلاميين، لكنها اعتمدت أيضا على مجموعات متطرفة في يساريتها وعلمانيتها.

وبذلك كان كل جانب يخدم الهدف المتوخى بإسلوبه، إذ أن فكر الإسلاميين يناهض الإلحاد الشيوعي، وتطرف اليساريين يظهر الجانب الفوضوي في الشيوعية، وبالتالي كان هذان النقيضان حليفين غير معلنين لليمين الغربي في حربه تلك. بمعزل عن الفوارق تبدو المجموعات الإرهابية اليوم حليفا «موضوعيا» و«وظيفيا» للأطراف الخارجية التي تتخذ منه وسيلة وسببا للتدخل في سوريا، غير أنها تحالفت في ما بينها موضوعيا ووظيفيا أيضا كي تهزم شعبا لم يكن يوما ملوثا بوباء الإرهاب.

وتحافظ على نظام استعدى شعبه وكان له تاريخ طويل من التعامل مع الإرهاب، فعدا ممارساته طوال ثلاثين عاما في لبنان، كان عراق نوري المالكي بلغ بعد تفجيرات 19 أغسطس/آب 2009 حد اختصام النظام السوري أمام مجلس الأمن الدولي لولا تدخل طهران لطي هذه الشكوى، لكن إيران ثم عراق المالكي ثم حيدر العبادي هما اليوم حليفا هذا النظام وأبرز مزوديه بميليشيات أثبتت بممارساتها في بلدانها أنها ربيبة نهج إرهابي.

ما حصل في حلب، هل هو نصر على الإرهاب أم نصر للنظام السوري على شعبه؟ رغم أن رأس النظام أعلن نصره، إلا أن هذا النصر هو واقعيا لروسيا ، كما أنه نصر لإيران وميليشياتها في إحدى حروبها لنشر نفوذها! وأي نفوذ يرتجى في تدمير مدينة والرقص فوق ركامها، وفي اقتلاع سكانها وإطلاق النار عليهم في الممرات «الآمنة».

كان قدر حلب أن تختصر سوريا، لذلك فإن المهزوم الحقيقي فيها ليس الإرهاب، كما يدعي الإيرانيون، وإنما هو سوريا نفسها، لأن حلب ستفتح «بازار» تقاسم البلد دوليا وإقليميا.

* عبد الوهاب بدرخان – كاتب صحفي لبناني

المصدر | الاتحاد الظبيانية

 

 

 

 

 

سليماني يستعرض في حلب و «نجباؤه» يقتلون المدنيين/ عبدالوهاب بدرخان

روسيا وإيران والنظام السوري، ثلاثي سيبقى في ذاكرة العالم أنه دمّر حلب، ولعل الشريك الرابع في المسؤولية هو الولايات المتحدة التي بذلت الكثير من أجل بلوغ هذا اليوم، فالتفاهم الروسي – الاميركي على إخلاء حلب كان واضحاً. هذه ليست مجرد مدينة بل حاضرة انحفرت في التاريخ بتجربتها الانسانية الخاصة، المغرقة في القدم، المتواصلة بفضل أهلها لا بجهد محتلّيها القدامى الذين لم يرحّلوا أهلها منها، وستستمرّ بعودة أهلها وليس اعتماداً على محتلّيها الجدد، الذين لم يكن لهم أي دور في بناء عزّها، وانما كان لهم الدور كلّه في تخريبها وإعدام مقوّمات العيش فيها. ليست صدفة أن يكون قاسم سليماني أول متفقّدي الركام الذي ترقص فوقه عناصر ميليشياته، بل أراد الجنرال الإيراني أن يوقّع «انتصاره» بقدميه، كما فعل مراراً في العراق. كثيرون تذكروا صورة آرييل شارون في بيروت خلال اجتياح لبنان قبل أربعة وثلاثين عاماً، إذ رأوا تحدّياً متماثلاً في الحدثَين، الإسرائيلي غازياً في عاصمة عربية، والإيراني معربداً في حلب بعد دمشق.

جاء سليماني للتصوّر في قلعة حلب فيما كانت طهران تقيم الاحتفالات بـ «أولى الفتوحات». ما الذي أراده الإيرانيون؟ مواجهة «المؤامرة الكونية» أم محاربة التكــفيريين، كما ادّعوا ويدّعون؟ ما حصل في حلب كان بإرادة الروس وبموافقات متفاوتة من دونالد ترامب وبنيامين نتانياهو وحتــى من رجب طيب أردوغان وإن مضطرّاً وعلى مضض، فلو لم تقدّم أنقـــرة سكوتها خلال العملية العسكرية لما فاوضـها الــروس بل لما وافقوا على التفاوض مـع الفـــصائل لوضع ترتيبات إجلاء المدنيين والمقـــاتلين. لم يكن الإيرانيون يريدون وقـــفاً للنار ولا خروجاً آمناً للمدنيين، كان مقاتلو ميليشياتهم تلقوا شحناً نفسياً على مـــدى أسابيع هدفه «قتل كلّ من في حلب»، لذلك أوقفوا الباصات ونكّلوا بالمغادرين ونهبوا أموالهم وقتلوا منهم مَن قتلوا. ثم عطّلوا الإجلاء لإجراء إجلاء متـــزامن من قريتَي الفوعة وكفريا الشيعيتين المحاصرتين في محافظة ادلب، على رغم أن مــعاناة حلب وأهلها كانت أكثر عجلةً وإلحــاحاً. كانت روسيا تحت ضغط دولي لأن هـــذه الميليشيات – حليفتها – باشرت تصفـية المدنيين باقتحام البيوت وإخراج العائلات منها حتى أنها أقدمت على تعذيب أطفال قبل استجوابهم ثم قتلهم، وقد تولّت الأمم المتحدة كشف هذه الجرائم.

لم تكن معركة حلب ضد «المؤامرة» ولا ضد الارهاب بل كانت معركة لزرع كل الأحقاد التي يمكن أن تنتج العنف المتطرّف المقبل. الواقع أن ما أراده الإيرانيون هو تسجيل أول واقعة سقوط مدينة «سنّية» وأول انتصار خالص في الحرب الشيعية – السنّية، الدائرة بالأحـــرى مـــن جانـــب واحد، إذ لم يتبنَّ السنّة هــذه الحرب ولم يرغبوا في خـــوضها بل رفضوها ويرفضونها، في حين أن إيران استثمرت فيها الكثير وما انفكّت تدفع الشيعة اينما كانوا الى استعداء الســـنّة بثقافة عدائية بات واضحاً بعد حلـــب أنها تحلل قتلهم، فإيران مصرّة على الحرب والعرب مصرّون على المسالمة، لكن المحارب يخوض حربه وينتصر ويعيث فساداً. وقد أظهر وجود قاسم سليماني في الوقت الذي أقدم «إرهابيون أجانب موالون للنظام السوري» (كما باتت التسمية الدولية للميليشيات الإيرانية) على قتل أربعة عشر مدنياً، مدى استهتار القادة الإيرانيين بأخلاقيات القتال، اذ لم يعد هناك فارق بينهم وبين «شبّيحة» النظام. بل إن وجود سليماني في تلك اللحظة تسبّب بحماسٍ اميركي مفاجئ ومتأخر لإثارة قضيّته في مجلس الأمن، وليس مؤكداً أن واشنطن ستفعل، لأنها سبق أن باركت الدور الإيراني في سورية ولم تعترض عليه إطلاقاً.

لم تحسم معركة حلب الصراع في سورية، إلا أنها مرشحة لإطلاق ورشات البحث عن حلول بعيدة المدى. عندما ظهر رأس النظام ليعلن عن «انتصاره الإلهي» كان يؤكد أنه ربح رهان بقائه في السلطة، لكنه يجهل على الأرجح لماذا سيبقى، طالما أنه لم يعد مؤهلاً لتوحيد الشعب والبلاد. المؤكّد أن بقاءه لا يفيد سوى إيران وروسيا. وإذ كشفت طهران بعض أوراقها في شأن ما تريده مما بعد حلب، فإن الأهم عندها أن تضمن عدم مشاركة النواة الصلبة السنّية في أي حكومة تنبثق من أي «حل سياسي»، وهي تتمسّك ببشار الأسد باعتباره المدافع الأول عن مصالحها والحريص على استمرار وجودها لأنه سيحتاج الى ميليشياتها لفترة طويلة. أما موسكو فتعتبر أنها ربحت لتوّها ورقة «بقاء النظام» أو ما تسميه «الحفاظ على الدولة والمؤسسات»، لكنها كانت ولا تزال تعلم أنها تتحدّث عن كذبة أو عن شيء وهمي، وما يبرّر تمسكّها بالأسد هو حاجتها الى «شرعية» تغطّي دورها في سورية، رغم علمها بأن هذه «الشرعية» الورقية لا تعني شيئاً بالنسبة الى بقية دول العالم. تراهن موسكو على «حل سياسي» مبنيّ على وجود الأسد في شكل أساسي ومشاركة «المعارضات الموالية» التي رعتها هنا وهناك بغية إشراكها في إعادة ترميم شرعيته.

لكن تبقى المعارضة الحقيقية، المتحالفة مع الفصائل المقاتلة، التي شارك النظام وروسيا وإيران في مقاتلتها، كما شاركت أميركا في خداعها، هذه المعارضة هي التي يعتقد الجميع أنها هُزمت في حلب، ويريدونها بالتالي أن تستسلم وتعلن «انتهاء الثورة». وقد نصحها جون كيري بأن تذهب الى أي مفاوضات وتوافق على المشاركة في «حكومة وحدة وطنية برئاسة الأسد» قائلاً إن هذا «أفضل ما يمكن أن يُعرَض عليها الآن، والأرجح أن ما سيُعرض عليـــها مــع ادارة دونالد ترامب سيكون أقلّ وأســوأ»… وبطبيعة الحال فإن المعارضة ستجد نفسها في مأزق محتمل، سواء مع داعميها أو مع الذين منحوها ملاجئ ومنابر وتســـهيلات طالما أن وجودها على الأرض السورية كان دائماً مستحيلاً. هنا ستجد تركـــيا نفسها تحت ضغوط روسية وإيرانية وحتى أميركية ومن بعض أوروبا، اذ يراهن عليها الروس لتضغط على المعارضة المتمثلة خصوصاً بـ «الائتلاف» لتأمين مشاركتها وقبولها الصيغة المقترحة. وللحصول على تعاون أنقرة كثّفت موسكو التعاون معها في الفصول الأخيرة من عملية شرق حلب، كما أن الاجتماع الثلاثي في شأن سورية، وهو الأول من نوعه بين روسيا وتركيا وإيران، يكرّس المرجعية الروسية بالتوافق مع واشنطن.

ليس مؤكّداً أن روسيا ستكون محايدة بين الطـــرفين الآخرين، أذ تبقى حالياً أقرب الى إيـــران التي تتقاسم معها الكثير من الأهداف في سورية وأهمها دعم نظام الأسد، على رغم الخلافات المتزايدة بينهما على الأرض، التي أظهرت تباعداً في مسائــــل استراتيجية ستتفاعل في المراحل المقبلة، منـــها مثلاً متطلبات الحل الأمني والسياسي ووجود الميليشيات متعددة الجنســـية التابعة لإيران. أما تركيا التي خســـرت الكثير من طموحات النفوذ التي أبدتها سابقاً فيبدو أن روسيا ماضية في تعويضها تلك الخسارة، من خلال الدور الـــذي تلعـــبه فـــي عملية «درع الفرات»، لكـــن يبقى أن تنال ما يطمئنها بتقنين دور أكـــراد حزبي «الاتحاد الديموقراطي» و «العمال الكردستاني» وعدم تشجيع قيـــام كيان كردي انفصالي في شمال شرقي ســـورية. ومن الواضح ان ثمة مساومة بدأت، بدليل أن وزير الخارجية التركي أثار علناً مسألة «قطع الدعم عن بعض المجموعات الوافدة إلى سورية من الخارج مثل حزب الله اللبناني والمجموعات الأخرى».

قد لا تكون إيران مرتاحة الى هذه الصيغة الثلاثية، لكنها فهمت أن هناك شيئاً من التسليم الدولي لروسيا في ادارة الأزمة السورية، وبالتالي عليها أن تتعامل مع هذه الصيغة طالما أنها لا تمسّ بمصالحها، وقد أصبحت الميليشيات جزءاً من تلك المصالح. يكفي أن يكون لقاء موسكو تطرّق الى «حزب الله» ليشكّل ذلك انذاراً لطهران بأن قضية الميليشيات من شأنها أن تتفاقم اذا لم تبادر الى اتخاذ خطوات في شأنها. لكن المرحلة المقبلة قد تبيّن للإيرانيين كم كان مخطئاً ذهاب سليماني للاستعراض في حلب، وكم كان مخطئاً اعتداء «النجباء» على المغادرين، إذ إن ممارساتهم اضطرت الروس للتهديد بإطلاق النار على من يعرقل عمليات الإجلاء، ثم اضطرتهم الى القبول بمراقبين دوليين.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

 

 

حلب: وصراع الخنادق الطائفية/ يحيى الكبيسي

منذ بداية الثورة السورية في العام 2011، اختلف الموقف العراقي تجاهها، تبعا لطبيعة الصراع الذي يحكم النخب السياسية العراقية منذ لحظة الاحتلال الأمريكي حيث غاب منطق الدولة، وتحكمت الروايات المختلفة للجماعات العراقية المنقسمة، وتأويلاتها، في تحديد موقف كل منهم، وقد عجزت هذه النخب السياسيه عن انتاج خطاب للدولة يتجاوز انقساماتها وتاويلات الذاكرة تلك. لذلك تقاطع موقف رئيس مجلس الوزراء (الشيعي) مع موقف رئيس مجلس النواب (السني)،في المسألة السورية، بل اننا نجد هذا التقاطع في موقف الكرد ايضا وبين الحزبين الحاكمين، وذلك بسبب اختلاف العلاقة التي تربطهما بالنظام السوري كلا على حدة العلاقة، فقد دعم مسعود بارزاني الثورة السورية بشكل واضح، مقابل صمت رئيس الجمهورية السابق جلال طالباني بسبب علاقاته التاريخية بالنظام السوري من جهة، وعلاقاته التاريخية بالجانب الإيراني من جهة أخرى.

لقد مثل المتغير السوري، بعد الثورة، عاملا مضافا في الأزمة التي يعيشها العراق منذ لحظة الاحتلال؛ فحالة الانقسام المجتمعي الحاد، ومنطق الصراع الذي ما زال يحكم المعادلة السياسية، وعجز النظام السياسي في إشراك القوى السياسية الممثلة للمكونات الاجتماعية والدينية والأثنية والمذهبية في صناعة القرار السياسي، ومن ثم تحقيق الشراكة في السلطة، جعل الجميع يوقن أن نتائج الأزمة السورية سيكون لها تأثير حاسم في علاقات القوة على الأرض. فالكرد، وتحديدا السيد مسعود البارزاني، وجد في نجاح الثورة السورية فرصة تاريخية لتسويق النموذج العراقي بين الكرد السوريين، ومن ثم منازعة النموذج الكردي لحزب العمال الكردستاني المهيمن تقليديا. مع كل ما يترتب على هذا من تغيير في الجغرافية السياسية للمنطقة عموما. والسنة العرب وجدوا في نجاح الثورة السورية فرصة تاريخية ايضا لتغيير المعادلة الإقليمية ككل، باتجاه حكم سني في سوريا يوازن الهيمنة الايرانية في الشرق من جهة، ويعيد صياغة علاقات القوة بين الشيعة والسنة داخليا. والشيعة يرون في نجاح الثورة السورية تحديا مباشرا لهيمنتهم على الحكم في العراق من جهة، وتعزيزا لوضع السنة من خلال حليف يشتركون معه في حدود تبلغ مئات الكيلومترات، حيث يمكن له أن يكون مصدرا للإمداد من جهة، وساحة دعم لوجستية خلفية من جهة أخرى.

وقبل انطلاق الثورة السورية في آذار/مارس 2011 ، كانت النخب الشيعية بوجه عام، تتوجس من النظام السياسي في سوريا، لأنها كانت تصنفه هوياتيا على أنه نظام: بعثي/ قومي، على الرغم من العداء التاريخي بينه وبين نظام «البعث» العراقي. وقد ساءت العلاقة بين الدولتين في العام 2009 الى حد سحب السفير العراقي في سوريا بعد اتهام رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الصريح لدمشق بانها تقف وراء تفجيرات وزارة الخارجية العراقية ، بل وصل الأمر إلى مطالبة مجلس الأمن «بتشكيل محكمة جنائية دولية لمحاكمة مجرمي الحرب الذين خططوا ونفذوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ضد المدنيين العراقيين على غرار المحاكم الجنائية الدولية التي شكلت في أكثر من منطقة في العالم» (قرار مجلس الوزراء العراقي في جلسته رقم 31 في 25/8/2009)! أما النخب السنية فكانت تصنف النظام السوري على أنه نظام قومي/ عروبي، لاسيما بعد مواقفه تجاه الاحتلال الامريكي، حيث استقبلت سوريا عشرات الآلاف من البعثيين والعسكريين العراقيين الهاربين من قوات الاحتلال والمليشيات الشيعية. ولكن الوضع تغير بشكل جذري بعد انطلاق الثورة السورية، فقد اعادت النخبة الشيعية تصنيف تراتبية هوية النظام السوري، ليصبح في نظرها نظاما علويا وحليفا استراتيجيا لإيران، لا بد من دعمه لمنع وصول «الأكثرية السنية» إلى الحكم! في مقابل نخبة سنية أعادت هي الأخرى تصنيف تراتبية هوية النظام في سوريا، حيث أصبح نظاما علويا/ حليفا استراتيجيا مع إيران، لا بد من سقوطه من أجل وصول «الأكثرية السنية» إلى الحكم.

وقد استطاعت النخبة السياسية الشيعية الداعمة للنظام السوري المهيمنة على القرار التنفيذي، أن تحتكر بشكل كامل القرار السياسي المتعلق بسوريا، على الرغم من التصريحات الرسمية حول موقف العراق «الحيادي» مما يجري في سوريا. فقد امتنع العراق عن التصويت على قرار مجلس الجامعة العربية رقم 7438 الصادر في 12/11/2011 الذي علق مشاركة وفود حكومة الجمهورية العربية السورية في اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية. وتحفظ العراق أيضا على قرار مجلس الجامعة العربية رقم 7442 الصادر في 27/11/2011 ، الخاص بـالعقوبات الاقتصادية ضد سوريا، ثم على الفقرة 10 من قرار مجلس الجامعة العربية رقم 7507 الصادر في 2/6/2012 ؛ التي طالبت مجلس الأمن الدولي باللجوء إلى الفصل السابع من الميثاق فيما يتعلق بالعقوبات الاقتصادية ضد سوريا. وتحفظ العراق كذلك على البند الثالث في قرار مجلس الجامعة العربية رقم 7510 الصادر في 22/7/2012 والمتعلق بتنحي الرئيس بشار الأسد عن السلطة في سوريا. وأخيرا أعلن العراق «اعتراضه وتحفظه» على منح مقعد سوريا للمعارضة، عاداً ذلك «سابقة خطيرة» في تاريخ جامعة الدول العربية، ويتناقض مع ميثاقها، كما عبر عن تحفظه على موضوع تسليح المعارضة بحجة رفضه «عسكرة النزاع» (بيان وزارة الخارجية العراقية بتاريخ 6/3/2013).

لم يقف دعم الفاعل السياسي الشيعي لنظام بشار الأسد عند حدود الدبلوماسية، والدعم الاقتصادي (زادت نسبة الواردات العراقية من سوريا بعد الثورة بنسبة 6٪ في العام 2012 «التقرير الاقتصـــادي العربي الموحد لعام 2012»، وتم استثناء البضائع المستوردة من سوريا، فقط، من الخضوع لإجراءات فحص البضائع «قرار مجلس الوزراء رقم 51 في 25/10/2011»)، والدعم اللوجستي، عبر تحويل الأرض والسماء العراقية إلى جسر للتحرك الايراني باتجاه سوريا! بل وجدناه ينخرط بشكل مباشر في الحرب الاهلية السورية، من خلال السماح للمليشيات العراقية بالقتال في سوريا بشكل صريح (كان اول ظهور لميليشيا لواء أبو الفضل العباس وكتائب حزب الله وكتائب سيد الشهداء في سوريا في حزيران 2013، ثم بدات تتردد أسماء مليشيات أخرى: لواء ذو الفقار، ولواء الإمام الحسين).

لقد حظيت الميليشيات العراقية التي شاركت في الصراع السوري بتواطؤ صريح من السلطات الرسمية العراقية، على مدى السنوات الماضية؛ فهذه المليشيات كانت تستخدم المطارات العراقية للذهاب إلى سوريا، سواء بشكل مباشر، او عبر إيران. وكانت جنازات قتلاها تحظى بمراسم توديع عسكرية علنية! وقد دعم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الميليشيات المقاتلة في سوريا، وهو الذي عمد إلى إنتاج، او إعادة إنتاج المليشيات منذ منتصف العام 2012 لأسباب تتعلق برؤيته لطبيعة الصراع الطائفي في المنطقة ككل، تحديدا بعد الثورة السورية، وأخرى تتعلق بالصراع الشيعي الشيعي في العراق، تحديدا بعد اشتراك السيد مقتدى الصدر في محاولة سحب الثقة عنه في ايار/ مايو 2012. وقد انفضحت طبيعة هذه العلاقة عندما تم استدعاء هذه الميليشيات بعد سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة في حزيران/يونيو 2014، للقتال في العراق! فمع نهاية صيف 2014، بدا واضحا ان الميليشيات العراقية العاملة في سوريا قد عادت بكامل تشكيلاتها ومقاتليها تقريبا إلى العراق لتقاتل ضمن ميليشيا الحشد الشعبي! وقد وردت انباء عن بعض القتلى في صفوف هذه الميليشيات في سوريا، فقد أعلنت مليشيا سيد الشهداء على سبيل المثال في بداية عام 2015 على موقعها الرسمي عن سقوط قتيلين لها في منطقة السيدة زينب.

وفي حلب، شاركت ميليشيا «حركة النجباء»، وهي ميليشيا تمولها ايران ولها علاقة عضوية بالحرس الثوري الايراني، عقائديا وتنظيميا، بشكل علني إلى جانب نظام بشار الأسد. ولا يخفي موقع الحركة الرسمي هذه المشاركة، كما لا يخفي طبيعة علاقتها مع إيران! ولكن في الوقت نفسه فان الحكومة العراقية تعد هذه الميليشيات جزءا من ميليشيا «الحشد الشعبي»، الذي يقول عنه رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي بأنه «مؤسسة رسمية تابعة للدولة»! من دون ان يخبرنا كيف يمكن لقوة رسمية تابعة للدولة العراقية، وممولة منها، ان تقاتل في حلب!

كاتب عراقي

القدس العربي

 

 

 

 

في الباصات الخضراء.. نحو الحقيقة/ إيمان القويفلي

لا يمكننا، نحن العرب، أن نشارك عالم السياسة في الغرب ذهوله أمام حقبة “ما بعد الحقيقة”. دخل المصطلح قاموس أوكسفورد رسمياً، بعد أن صوّتت بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي بناءً على معلومةٍ مزيفة بالكامل، وانتخبت أميركا دونالد ترامب بناءً على حفنةٍ من الغضب والأكاذيب. “ما بعد الحقيقة” تعني أن يصبح ما يرغب الناس في تصديقه بخصوص موضوعٍ ما أهمّ مما يعرفونه عنه. لا يمكننا، نحن العرب، أن نشعر بالذهول أمام هذه الفكرة، لأننا طالما عشنا في واقع مختلف: حيث القوة هي الأهم في عالم السياسة، لا الحقائق، وحيث لا وزن لما يصدّقه أو يعرفه الناس، فالمهم هو ما يريده الحاكم. وعندما حاول العرب الثورة على منطق القوة وإدخال العقلانية إلى المجال السياسي، لاذ الحاكم العربي بمزيجٍ مذهلٍ من العنف الوحشي، واستخدام أدوات العقلانية السياسية ضد العقلانية ذاتها. استخدم بشار الأسد في سورية الانتخابات التي تجري بين لاجئين ومهجّرين، وتحت الحصار والقصف، ليعلن فوزه عام 2014 بنسبة 88%، ويقدّم حقيقته الخاصة التي يمزج فيها بين الاختيار الشعبي الحرّ والبراميل المتفجرة، والرئيس ذو الشعبية الجارفة يواصل ممارسة عملية تجريف ديمغرافي وتهجير في كل البلاد التي يقسمها إلى “سورية المفيدة” ضدّ “سورية الضارّة”. بعد عامين، في ديسمبر/ كانون الأول 2016، خلال المراحل الأخيرة من دكّ حلب، في مؤتمر صحافي تعقده صحافية كندية تصف نفسها بـ”الصحافية المستقلة” التي تقدّم تغطية من أرض سورية، و”المتخصصة في التحقق من الوقائع” و”تحدّي قصص الناتو والمؤسسات الإعلامية الكبرى التي تُضلل الأفراد في أوروبا وأميركا”، ستقول هذه الصحافية في المؤتمر إنها ذهبت إلى سورية، وتحدثت مع السوريين، و”تعلم” أنهم يريدون الأسد، ودليلها الدامغ فوز الأسد في انتخابات 2014. في العالم الأسدي، تتحول أنشطة “تدقيق الحقائق” و”تحدّي عالم ما بعد الحقيقة” إلى جزء آخر من بروباغاندا الديكتاتور.

هذه الصحافية، إيفا بارتليت، هي، في النهاية، وعلى مستوى التعريف، ليست أكثر من نسخة متنكّرة من إعلام فلاديمير بوتين. وعلى مستوى عملي، هي جزء من منظومة إعلامية دولية،

“إعلام حزب الله أصبح قادراً اليوم علناً على تهديد خصومه من الطوائف الأخرى بالتهجير في “الباصات الخضراء” تحاول أن تُقدّم هامشيتها على سبيل “التزكية”، فهم “مُهمّشون” لأنهم أحرار، وهم يدافعون عن الأسد، لأنهم يقولون الحقيقة ويتحدّون مؤامرة حلف الناتو من أجل تغيير النظام، والصحافة الدولية مغمورة بركام أخبار جرائم الأسد، لا لأن هذه هي الحقيقة، لكن، لأن هذا هو إعلام “الناتو” الـمُضلل. تشمل هذه المنظومة أشخاصاً مثل بارتليت التي تقول، في مكانٍ آخر، “أنا أنشر في (روسيا اليوم) لأن كلاً منا يقول الحقيقة”، وتشارك في “فيسبوك” صورها، وهي تقوم على الأرض بعملها الصحافي “النزيه والمستقل”، تحت حماية أصدقائها من جيش الأسد. ومثل فانيسا بيلي التي تقول “سلمية الثورة السورية مجرد كذبة. الثورة كانت مسلحة منذ اليوم الأول في درعا”، و”صورة عمران من حلب لا يمكن الوثوق بها، لأن من التقطها إرهابي من حركة نور الدين زنكي”، وكل واحدة من الاثنتين تُحيل على الأخرى كمصدر موثوق، وكلتاهما تنشران في مواقع تدّعي أنها غير ربحية، مثل global research، بالإضافة إلى قناة “روسيا اليوم” وباقي المواقع التي تحتضن “يسار الأسد”. والمهم في هذا التيار الإعلامي ليس أنه مُكرّس كليّة لنشر بروباغاندا بوتين والأسد، بل المقدمات والطرق التي يوظّفونها لتقديم هذه البروباغاندا. تبدأ بارتليت بالاحتجاج على تضليل الإعلام العالمي بالقول “لا أحد يعرف ماذا يحدث في حلب. لا أحد”، لكنها خلال دقائق تنتقل إلى شيء مختلف تماماً وهو أنها وحدها تعرف الحقيقة، لأنها كانت هناك، والحقيقة أن “الخوذات البيضاء” يقتلون السوريين، وجيش الأسد يموت دفاعاً عنهم. وتحتجّ على انعدام وجود أي منظماتٍ عاملة على الأرض في شرقي حلب، لكنها، في مكان آخر، تقول إن جميع المنظمات، HRW، منظمة العفو الدولية، مجرد أذرع لمشروع “الناتو” تدّعي العمل من أجل حقوق الإنسان، لكنها هي، بارتليت، هي الناشطة الحقوقية “الحقيقية”. وترفع بطاقة “أنا كنت على الأرض في سورية. أنا عائدة للتو من هناك” في وجه أي انتقاد،

“هذه لحظة تاريخية، الانتصار فيها تاريخي، والهزيمة فيها تاريخية، وأصحاب المواقف السافلة فيها “سَفَلَة تاريخيون”، وهذه حقيقة أخيرة” لكنها تتهم جميع المواطنين السوريين الذين سجلوا وقائع حصار حلب من الداخل، بأنهم كَذَبة إرهابيون. فكلّ الصور كاذبة، لأن إرهابيين التقطوها. وكل المنظمات كاذبة، لأن “الناتو” يمولها. وكل قتلى تحالف الأسد- إيران- روسيا كانوا حفنة إرهابيين، لا يستحقون إلا الموت. هؤلاء الذين يبدأون حديثهم بـ”لا أحد يعرف الحقيقة في سورية” هم من يريدون أن ينتهوا إلى تقديم بروباغندا “الأسد ضد الإرهاب” بوصفها “الحقيقة”. وهؤلاء الذين يرغبون في نسف ما تبقى من منظماتٍ دوليةٍ حقوقيةٍ وطبية، هم من يرغبون في عالمٍ تتآكل فيه فكرة حقوق الإنسان، لصالح إنتاج حقوقيين جدد، يعقدون صداقاتٍ مع جيش الأسد، ويعملون لصالح بوتين. وهؤلاء الذين يُبدون غاية التّلهّف إلى الحقيقة، فيدققون في تفاصيل “صورة عمران”، لا يهتمّون على الإطلاق بالحقيقة التي تكشفها “ملفات قيصر”، أو شهادات سجناء صيدنايا. ومن يحرصون على التوثيق التاريخي لتسجيلات مشايخ السُّنة التي كانت تشجع على الجهاد في سورية أول أعوام الثورة، من أجل أن ينسبوا الثورة إليهم، لا يبالون بتاريخ “البعث” في سورية في 50 عاماً، ولا سيرة وتاريخ الاستبداد العربي الذي أفضى إلى انفجارٍ عام.

ترويج حالة من سيولة الحقيقة في هذه اللحظة التاريخية هو مجرد مقدّمة لفرض نسخة محدّدة من البروباغاندا، يلعب فيها بوتين دور الـمُحرّر، والأسد دور حامي السيادة الوطنية، وتصبح زيارة قاسم سليماني حلب انتصاراً عربياً، وضمن هذا الشرط المقلوب، لا يعني التصدي لــ”ما بعد الحقيقة” إلا مزيداً من الأكاذيب. من العبث مناقشة التفاصيل مع من يوجد الشيطان في منطلقاته، ومن العبث البرهنة على الحقائق لإقناع من يكمن الخلل في ضميره. يتصارع صحافيو بوتين و”يسار الأسد” مع صحافيّي “الناتو” حول الواقع العربي، لكن كل ما يُنشر في الإعلام العالمي بات أقلّ أهميةً مما نعرفه عن أنفسنا نحن العرب، هذه حقيقة.

تستطيع البروباغاندا الروسية أن تداعب خيال الجندي الروسي بصورة فتاة سورية تخاطبه قائلة “أشعر بالأمان، عندما تكون أرضي تحت سيطرتك”، لكن ما حدث أن السفير الروسي في أنقرة اغتيل رفضاً لدور بلاده في المنطقة، هذه حقيقة. نستطيع أن نتجادل حتى الفجر حول مَن فعل ماذا في سورية، لكننا نعلم جيداً أن أي حكومة عربية صارت قادرة، منذ اليوم، على سحق شعبها من دون أن يتدخل النظام الدولي لمنعها أو عقابها، إذا ما حافظت على علاقة جيدة مع روسيا، وأجادت التلاعب بالجهاديين، هذه حقيقة. ويمكن الحديث مطولاً عمّا دفع الأسد إلى الارتماء في حضن طهران، لكن المنطقة من إيران وحتى حدود سورية مع تركيا أصبحت اليوم منطقة نفوذٍ للحرس الثوري الإيراني، هذه حقيقة. ويمكن الجدال حول مَن حملت الباصات الخضراء مِن حلب، ولماذا توقفت، ولماذا تحركت، لكن إعلام حزب الله في لبنان أصبح قادراً اليوم علناً على تهديد خصومه من الطوائف الأخرى بالتهجير في “الباصات الخضراء”، هذه حقيقة. هذه لحظة تاريخية، الانتصار فيها تاريخي، والهزيمة فيها تاريخية، وأصحاب المواقف السافلة فيها “سَفَلَة تاريخيون”، وهذه حقيقة أخيرة.

العربي الجديد

 

 

بين مذبحتين.. حماة حلب وبالعكس/ حلمي الأسمر

ربما يكون الوقت غير مناسبٍ للمقارنة بين مذبحتين، يفصل بينهما نحو ثلاثة عقود، فالمذبحة الجديدة لم تزل مفتوحةً، والدم الذي سال من ضحاياها لم يجفّ بعد، بل ثمة دم جديد يتدفق، وآخر برسم الانفجار. ولكن، من حق الضحايا في كلتا المذبحتين، وما بينهما، وما سيتلوهما أيضا، أن يسألوا: من المسؤول؟ أما السؤال الأكثر أهمية فهو: هل هناك فرصة للاعتبار، واستدراك ما فات، وما سيأتي من موتٍ محقق؟ ليست الأسئلة كلها لتبرير جريمة القاتل، بل هي محاولةٌ، لسؤال المقتول، فيم قتل؟ ولم؟ بل أكثر من ذلك هي محاولةٌ للبحث عن قتلة “مخفيين”، ربما بدا أنهم “ضحايا”، وهم، في الحقيقة، شاركوا بغير قصد وبنياتٍ “حسنة” في الجريمة، فكانوا جزءاً من أسبابها، وضحاياها أيضا!

في كل بقعةٍ من بقاع العرب والمسلمين، دخلها الناشطون المسلمون الذين يرفعون شعار “تطبيق الشريعة”، تحل اللعنة على العباد والبلاد، وتصحو كل شياطين الأرض، وتُستنفر الجيوش النائمة، وتتحرّك المؤامرات، لإجهاض “الحلم الإسلامي”، حتى ولو كان على مستوى “حزبٍ” متواضع، مثل “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” في الجزائر، فكيف إذا شكل هؤلاء النشطون حركةً مسلحة، تنتهج طريق القوة و”الجهاد”؟ متى يفهم هؤلاء الناشطون أن عليهم أن يغيّروا استراتيجيتهم بشكل جذري وإبداعي، حتى لا يتحوّلوا إلى لعنة حقيقية، ليس على الإسلام فحسب، بل على كل أرضٍ يحلّون فيها، (سورية لن تكون المثل الأخير)

لو أذن للرسول عليه الصلاة والسلام بالقتال، والمسلمون مستضعفون في مكة المكرمة، لتمت إبادتهم عن بكرة أبيهم. لهذا مكث ثلاثة أعوام في دعوة سرية، وحينما انتقل إلى الدعوة العلنية، لم يؤمر بالقتال، بل استمر بدعوته جهراً من دون قتال عشر سنوات، ولم يؤمر بالقتال (حتى مع الأذى والتعذيب) إلا بعد هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وتأسيسه كيان المسلمين.

المسلمون اليوم مستضعفون، وأي صوت علا لهم، يتم سحقه بمنتهى الوحشية، من القريب قبل

“ليس مناسباً لوم الضحية لم قتلها جلادها، فهذا منتهى الغباء والقسوة، لكن صفحة المذبحة لم تزل مفتوحة” الغريب، فكأنهم يعيشون المرحلة المكّية الأولى، ولا يغترّ أحد بكثرة عددهم، فهم بلا كيان ولا شوكة، والشوكة التي “يعلنونها” سرعان ما تُباد، حتى ولو جاءت عبر صناديق الاقتراع، إلى هذا وذاك، فجل من يحملون راية الإسلام، ولا أقول كل، يلتبس عليهم الأمر، فيحسبون كل فرجٍ (أو فوز في الانتخابات) تمكيناً، فيقعون في المحذور، ناهيك عن صلف كثيرين منهم وجلافتهم، وربما وحشيتهم وجهلهم، في تطبيق “شعائر” الإسلام وفروضه، حتى أنه ينفر أهله وذويه منه، قبل غيره من الأعداء، فلا هو بكاسب للقريب، ولا متّقٍ شر الغريب.

لهذا، ربما “فشلت” كل المكونات الإسلامية (السنيّة تحديداً)، مسلحةً كانت أو سلمية، في الوصول إلى هدفها، باستثناء التجربة الأردوغانية في تركيا الحديثة. وحتى هذه لم تسلم حتى الآن من التآمر الدولي، والشيطنة، وها هم يسلطون عليها اليوم صنائعهم من “الإرهابيين” الصغار، لتقويض أمن تركيا، وإلحاقها بمعسكر التجارب الإسلامية الفاشلة، إن استطاعوا.

حينما تُهزَم في معركة، أنت عادةً لا تلعن أعداءك، ولا تلجأ إلى الدعاء عليهم، ولا إلى تنظم المظاهرات ضدهم (!)، بل تبحث عن مواطن الخلل في أدائك، للنصر والهزيمة قوانين ونواميس صارمة، لا تُحابي أحداً. لم نسمع، في مؤتة، مسلماً واحداً، صَب جام غضبه على الرومان وحلفائهم من العرب، ولا خرج أهل المدينة المنورة في تظاهرات تندّد بالرومان.

أحد الناجين من مذبحة حماة، كتب معلقاً على برنامج الفيلم الوثائقي الذي عُرِضَ قبل فترة على شاشة قناة الجزيرة “الصندوق الأسود – حماة 82”: الرسالة التي فهِمها الأسد الأب من القوى العظمى آنذاك، وخاصة الولايات المتحدة، وفقاً لوثيقة مكتوبة، صادرة عن المخابرات العسكرية الأميركية في نيسان 1982، كشف عنها الفيلم الوثائقي، كان فحواها: افعل ما تشاء لتثبيت حكمك، مع الاحتفاظ بمصالحنا ومصالح إسرائيل. للأسف ما تزال صالحة، وقد عمل بها الأسد الابن، وكأن التاريخ يكرّر نفسه. فوفقاً لشهادة توماس فريدمان: “قواعد لعبة حماة تُلعب من جديد، بواسطة بشار الأسد، ابن حافظ الأسد. يحاول النظام السوري إعادة ما فعله في حماة. ولكن بالعرض البطيء، ودونما استعجال، وبشكل تدريجي”. تتوافق صعوبات الثورة السورية حالياً مع استنتاج أننا (السوريين) ما زلنا قاصرين سياسياً في التَفَكُّر والاستفادة من دروس مجزرة حماة 1982، والصراع المسلح بين النظام الأسدي والإسلاميين.

لا أحد ينكر على من ذاق مرارة الظلم والهوان، وعانى من بشاعة جبروت نظام الأسد، أن

“تتوافق صعوبات الثورة السورية حالياً مع استنتاج أننا (السوريين) ما زلنا قاصرين سياسياً في التَفَكُّر والاستفادة من دروس مجزرة حماة 1982”  يحلم بالحرية، ويتوق إليها، بل يعمل على نيلها، ويبذل في سبيل ذلك الغالي والرخيص. ولكن، شريطة الاستفادة من عبر الماضي، وعدم تكرار الخطأ، ودفع الثمن مرتين. أقول هذا وقلبي يعتصره الألم، ولكن كل ما قرأته عن حلب، ومذابحها، وفظائعها، سواء التي ارتكبها النظام أو المليشيا الفارسية، ولا أقول الشيعية، صبّ جام غضبه على القاتل، باعتباره السبب في كل ما حدث، ولم يكد يتطرق أحدٌ إلى ملابسات ما جرى في الجانب الآخر من أخطاء قاتلة، جرت البلاد والعباد إلى ساحة الذبح.

ليس مناسباً لوم الضحية لم قتلها جلادها، فهذا منتهى الغباء والقسوة، ولكن صفحة المذبحة لم تزل مفتوحة، وأخشى ما أخشاه أن يستمر الخطأ، فيدفع الناس الأبرياء مزيداً من أثمان أخطاء “ثوارٍ” يلقون بأنفسهم وأهليهم إلى التهلكة، من دون حساب موازين القوة، ولا الظروف الإقليمية القائمة حاليا. اللعنة على القتلة والمعتدين، من روس وفرس ورجالات نظام فاسد مجرم، غير أن هذه اللعنة لا تكفي لوقف المذبحة، صفحة الصراع لم تزل مفتوحة، والسؤال الكبير الذي يظل مشرعاً هو: ماذا يفعل الناشطون الإسلاميون بإرث مائة عام لم يفض إلا إلى مزيدٍ من المصائب، في مصر كما في ليبيا، وسورية أيضا. هل يحلون “تنظيماتهم” ويجلسون منتظرين “فرجاً” غيبيا، أم يغيرون كل طريقتهم في العمل، فينحون كل شعاراتهم “الإسلاموية” التي تثير الرعب في قلوب الكل، ويعملون لقيام دولٍ مدنية، بحقوقٍ وواجباتٍ، ومواطنةٍ متساوية، أم ينتظرون مزيداً من الإجهاض والسحق لكل برعم يستنبتونه؟ أم يستمرون في طريقهم الذي لم يجلب غير مزيدٍ من المصائب، لهم ولأمتهم التي يجرونها إلى تهلكةٍ، وهم يريدون لها الخلاص؟

العربي الجديد

 

 

 

 

إنجاز معركة حلب هدية بوتين إلى ترامب/ راغدة درغام

الثلاثي «الضامن» لتسوية سياسية في شأن سورية تطيح أسس ما يسمى ببيان جنيف ومبادئه وعملية فيينا، هو الثلاثي الميداني في الحرب السورية الذي يعتبر المعادلة العسكرية جاهزة لبدء تقاسم النفوذ واقتسام الكعكة في صفقة ثلاثية غيّبت الولايات المتحدة وأوروبا والدول الخليجية والأمم المتحدة. وزراء خارجية ودفاع روسيا وإيران وتركيا اجتمعوا هذا الأسبوع في لقاء ما بعد حلب لرسم خريطة طريق سياسية تلغي ما كان تم الاتفاق عليه لعملية انتقالية لهيئة حكم ذات صلاحيات كاملة تنتهي بانتخابات رئاسية. الثلاثي «الضامن» يضمن أكثر ما يضمن بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة كامل الصلاحيات يلبي المطالب الروسية والإيرانية والتركية. تمَّ استبعاد الدول العربية عن المسألة السورية، بالذات الدول الخليجية التي وثقت بعلاقة مميزة مع تركيا. واضح أن تركيا استبدلت هذه العلاقة بانضمامها إلى روسيا وإيران في استراتيجية خبيثة. طورت أنقرة استراتيجية تكريس الأدوار الروسية والإيرانية في سورية، فضمنت لنفسها مقعداً في حلف «الرابحين»، في رأيها، غير آبهة بالتزاماتها ووعودها لدول الخليج. وفّرت تركيا الغطاء السُنّي لموسكو لتهرب من تهمة التحالف الروسي– الشيعي في معركة حلب، إحدى أكبر المدن السنّية العربية. فماذا عن موسكو بعد حلب؟ ماذا عن تركيا بعد الصفقة مع روسيا في شأن حلب والكرد في سورية؟ ماذا عن إيران بعد فوزها بحلب؟ وماذا ستفعل الدول الخليجية والدول الأوروبية والولايات المتحدة بعد حلب؟

استبعاد روسيا وإيران وتركيا الولايات المتحدة من لقاء موسكو يأتي استطراداً لاستبعادها نفسها من ساحة الحرب السورية وتلبية لرغبات إدارة أوباما بالاستبعاد. يأتي هذا اللقاء الثلاثي أيضاً استعداداً لمرحلة دونالد ترامب وتهيئة لأرضية التعامل معه انطلاقاً من التربة السورية.

عنوان تلك المرحلة، وفق اقتناع روسي وإيراني وتركي ومصري، هو «بوتين وترامب»، فلقد نجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتصوير نفسه أهم شريك للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، على أساس رغبتهما المتبادلة في التعايش معاً والتمتع بفن إبرام الصفقات. إيران قررت أن ركوب القافلة الروسية هو أفضل الطرق إلى البيت الأبيض، فقدّمت نفسها حليفاً استراتيجياً وشريك حرب ميدانياً يصعب على روسيا الاستغناء عنه. مصر رأت في علاقة بوتين وترامب موقع تموضع استراتيجي لها تعززه علاقاتها الاقتصادية الجيدة مع الصين، فركبت الحافلة الروسية في سورية. أما تركيا، فوجدت مصلحتها مكرّرة بأضعاف في القافلة الروسية المتوجهة من حلب إلى البيت الأبيض برسالة تطمئن دونالد ترامب.

أميركا الغائبة طوعاً عن سورية تبدو مهمشة وهزيلة وهي تكتفي بابتسامة وزير الخارجية الضعيف جون كيري ومصافحته نظيره القدير سيرغي لافروف. إدارة أوباما تغادر واشنطن، وحلب تطاردها، فلقد ساهم الرئيس الأميركي المغادر في مأساة سورية الإنسانية عبر امتناعه عن الانخراط، نائياً بالولايات المتحدة عمداً عن سورية، وموفّراً الأرضية لروسيا لتعيد بناء نفوذها في الشرق الأوسط، مكافئاً راديكالية إيران ومباركاً تدخلها العسكري في سورية حتى قبل إبطال قرارات مجلس الأمن التي حظرت عليها أي وجود عسكري خارج حدودها. وللتذكير، إبطال هذه القرارات جاء جزءاً من رزمة التفاهمات مع طهران على الصفقة النووية التي أدت إلى هوس باراك أوباما بإنجازها حتى على حساب القيم الأميركية الأساسية. باراك أوباما يغادر البيت الأبيض بعد أسابيع قليلة يتأبط ملفّين لهما عنوان الخط الأحمر الذي تراجع الرئيس الأميركي عنه، هما إنذاره في شأن استخدام دمشق السلاح الكيماوي وإعلانه أن على الرئيس السوري بشار الأسد أن يرحل.

الرئيس المنتخب دونالد ترامب بدأ يمارس الرئاسة الأميركية قبل أن يتسلم المنصب رسمياً، فمن أجله أسرع فلاديمير بوتين إلى أقصى استخدام لما يسمى الفترة الضائعة بين إدارتين أميركيتين، فصعّد عسكرياً في حلب، ونسّق سياسياً وعسكرياً مع الدولتين اللتين تشاركت إحداهما معه حليفاً ميدانياً في الحرب السورية، ودخلت الأخرى ساحة الحرب السورية ضمن صفقة معه.

فلاديمير بوتين أراد أن يقدّم إلى دونالد ترامب هدية ثمينة مصنوعة في سورية غلّفها بعنوان القضاء على «داعش» و «جبهة النصرة» وكل من له علاقة بهذا الإرهاب. بوتين قدّم إلى ترامب إنجاز معركة حلب كي لا يرثها الرئيس الجديد في مطلع عهده وكي يريحه منها. بوتين قرر أن صديقه المحبب إليه ترامب لا يستسيغ التعقيدات وإنما يفضل لعبة ذكية عند إبرام الصفقات، لذلك أراد بوتين استكمال «تنظيف» حلب قبل دخول دونالد ترامب البيت الأبيض.

إنما استراتيجية بوتين لا تقتصر على إجراءات الترحيب بدونالد ترامب رئيساً أميركياً صديقاً له. إنه يتهيّأ للصفقة الكبرى بعدما يثبّت عودة روسيا العظمى إلى الساحة الدولية عبر البوابة السورية.

تأتي الانتصارات الروسية العسكرية في سورية وسط عداء متنامٍ ضد روسيا الجديدة العائدة إلى الشرق الأوسط. فلاديمير بوتين –مهما نفى ومهما غلّف مع تركيا ومصر– يبقى الرئيس الروسي الذي عقد صفقة تحالف استراتيجي مع إيران، بالذات في سورية. فعل ذلك وهو يصيح أنه ضد الإسلام الراديكالي وضد صعود الإسلام إلى السلطة، فتبيّن أنه كان يقصد السُنَّة وليس الشيعة، الذين أتوا بأول جمهورية تفرض الدين على الدولة عبر الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأنه ضد الإسلام الراديكالي السُنِّي إنما مع الإسلام الراديكالي الشيعي. هكذا، أعاد فلاديمير بوتين روسيا إلى الشرق الأوسط عبر الباب المذهبي ليساهم جذرياً في تأجيج الصراع السنّي– الشيعي كما سبق أن فعلت إدارات أميركية عدة. لم تأتِ العودة الروسية إلى المنطقة العربية وسط ترحيب وتقدير واحترام لدورها في سورية، وإنما العكس. هذا استثمار روسي محوط بعلامة استفهام كبيرة، لا سيما أن شبح الانتقام سيلازم روسيا.

العلاقة الروسية– الإيرانية ستكون موقع مراقبة وترقّب بعدما كان واضحاً تماماً أن الشراكة الميدانية بينهما في سورية تحالفية بامتياز. وهذه رسالة واضحة للدول الخليجية، التي ترى موسكو أنها على مواقف متباينة في شأن العلاقة معها، كما في شأن إيران. لذلك، حرصت روسيا ودولة الإمارات، مثلاً، على صوغ علاقة ثنائية مميزة على رغم أي اختلاف بينهما في شأن إيران، بل إن العلاقات الروسية– السعودية، مثلاً، لم تتدهور بسبب انحياز روسيا الواضح لمصلحة إيران استراتيجياً وسورياً، وذلك بسبب التعويض عن ذلك في ساحة الحرب اليمنية، حيث روسيا تمتنع عن التدخل أو التعطيل أو التشويش.

أي علاقة ستبرز بين موسكو وطهران بعد حلب؟ ستبقى أسس العلاقة التحالفية الاستراتيجية ثابتة بالتأكيد. إنما سيكون هناك تفاوت في المواقف المبدئية ستضطر روسيا وإيران إلى معالجته، حمايةً للعلاقة التحالفية من الاهتزاز. فروسيا راغبة في إنهاء دورها العسكري المباشر والحيوي في حرب سورية، بينما إيران عازمة على توسيع أدوارها العسكرية في الحرب السورية. روسيا تريد تقوية الجيش النظامي في سورية بصفته ركناً أساسياً للنظام والدولة، أما إيران فإنها تريد تطبيق نموذج «الحرس الثوري» في سورية، كما في العراق، إضعافاً للجيش النظامي في وجه القوات غير النظامية. هذه اختلافات جذرية وليست تجميلية. إنما هذا لا يعني أن التحالف بين روسيا وإيران أصبح هشاً، فعندما يتحوّل قاسم سليماني مزهوّاً بالانتصار في حلب في خضم الإحراج الروسي لن يكون الجنرالات الروس راضين أبداً. لكن صنّاع القرار في روسيا لن يحتجوا علناً، لأنهم يدركون أن إيران عقدت العزم على تحرير الأراضي السورية والعراقية من «داعش» كي تسترجع مشروع «الهلال الفارسي»، ذلك أن تنفيذ هذا المشروع أولوية استراتيجية إيرانية يتم بمعونة روسية وأميركية.

الأولوية التركية مختلفة لأنها تصب في حماية السلطة للرئيس رجب طيب أردوغان. تركيا أقفلت ممرات إيصال السلاح والنفوذ الخليجي إلى سورية بعدما كان ممر العراق أُقفِلَ أيضاً بشراكة أميركية– إيرانية. وضعت أنقرة مصالحها العليا في السلَّة الروسية، وتخلّت -عملياً- عن موقفها الداعي إلى إسقاط بشار الأسد، بل إنها في انتمائها إلى الثلاثي «الضامن» تؤمّن الشرعية للأسد.

روسيا حصلت على الكثير من تركيا في صفقة بوتين وأردوغان، بما في ذلك ربما تخلي أردوغان عن مشروعه الأكبر، وهو إنماء «الإخوان المسلمين» في الشرق الأوسط وآسيا، فالثلاثي الضامن أشار في بياناته وتصريحاته إلى سورية «العلمانية»، المرفوضة تقليدياً من جانب تركيا، وهذا لافت. تحدث الثلاثي عن وحدة أراضي سورية في الوقت الذي تعمل إيران، ميدانياً، على جغرافية النفوذ والتواصل مع «حزب الله» في لبنان، بينما تركيا تعارض قيام كيان كردي في سورية، لا سيما أن قيام الدولة الكردية المستقلة في العراق بات حتمياً،

فالمنطقة الرمادية في البقعة السورية ما زالت كبيرة، إنما الواضح أن روسيا عقدت العزم على صوغ خريطة طريق عسكرية وسياسية تلغي التفاهمات القديمة وتهيئ الأرضية لشراكة روسية– أميركية جديدة نوعياً تعطي تعبير الصفقة الكبرى معنًى آخر كلياً.

الحياة

 

 

 

لعنة حلب…/ خيرالله خيرالله

لا يجرّ العنف سوى العنف، ولا يأتي الإرهاب سوى بالمزيد من الإرهاب. لم يكن اغتيال السفير الروسي في أنقرة، أندريه كارلوف، سوى عمل إرهابي يعبّر عن شعور باليأس لدى الكثيرين داخل سوريا وخارجها بعد الإرهاب الذي تعرّض له الآلاف من المواطنين السوريين منذ العام 2011 تحديدا عندما قامت ثورة سلمية في البلد. قُمعت هذه الثورة بالحديد والنار والبراميل المتفجّرة من دون صدور إدانة روسية لهذا الفعل الجبان والمتوحّش في آن. شاركت روسيا في الأعمال الإرهابية التي يتعرّض لها الشعب السوري للأسف الشديد. أدخلت نفسها في دوامة كانت في غنى عنها لا أكثر.

تناوب على قمع السوريين وقتلهم وتهجيرهم النظام نفسه والميليشيات المذهبية التابعة لإيران، وأخيرا سلاح الجوّ الروسي الذي استهدف مدارس ومستشفيات وأحياء مدنية. مثلهم مثل الإيرانيين وأتباعهم، لم يوفّر الروس وسيلة، بما في ذلك استهداف النساء والأطفال والمدنيين من كلّ الأعمار من أجل زرع الرعب في نفوس السوريين، وتهجير أكبر عدد منهم من مدنهم وبلداتهم وقراهم. كانت روسيا التي تعرّضت بدورها لعمل إرهابي، شريكا في الإرهاب الذي استهدف شعبا لم يطلب سوى استعادة كرامته.

اعتمد الإيرانيون وأتباعهم، والروس لاحقا، الوسائل التي لجأ إليها النظام السوري منذ سنوات طويلة لإخضاع السوريين وإذلالهم. إنّها الوسائل نفسها التي لجأ إليها النظام السوري في لبنان منذ قرّر الهرب من أزماته الداخلية إليه. كلّ مدينة من المدن اللبنانية شاهدة على إرهاب النظام السوري. بيروت وطرابلس وصيدا وزحلة، كلّها شاهدة. الدامور شاهدة أيضا. الأشرفية، وهي جزء من بيروت، شاهدة. كلّ القرى المسيحية القريبة من الحدود اللبنانية ـ السورية شاهدة على ما ارتكبه النظام السوري، من القاع… إلى العيشية. كان الهدف الدائم تهجير المسيحيين من منطقة الحدود إلى الداخل اللبناني، وذلك خدمة لحلف الأقلّيات الذي نادى به النظام العلوي في سوريا دائما.

لن ينقذ الإرهاب النظام السوري من مصيره المحتوم. خرج النظام السوري من لبنان ذليلا بعدما اعتبر أن التخلّص من رفيق الحريري بواسطة شريكه الإيراني سيضمن له البقاء في البلد إلى ما لا نهاية.

لا تبرير من أيّ نوع لاغتيال السفير الروسي. لكنّ هذا النوع من الإرهاب سيزداد في حال بقي الوضع في سوريا على حاله، خصوصا في حلب. ستلاحق لعنة حلب كلّ من مدّ يده على المدينة بهدف تهجير أهلها وخلق واقع جديد يسمح لبشّار الأسد بالكلام عن أنّه “يكتب التاريخ”. أيّ كتابة لأيّ تاريخ باستثناء الاستثمار في الإرهاب وتشجيعه والعمل على تمدّده لتبرير البقاء في السلطة في ظلّ استعمارين روسي وإيراني؟ لا يحسن بشّار الأسد سوى هذا النوع من الكتابة التي يدفعه إليها حقد أعمى على سوريا ولبنان، وعلى اللبنانيين والسوريين.

ليس مفهوما لماذا ارتكبت روسيا كلّ الأخطاء التي كان يمكن تفاديها في الشرق الأوسط. هل سيجعلها اغتيال السفير في أنقرة تتعلّم من تجارب الماضي القريب والبعيد، بما في ذلك التورط مع نظام سوري أخذ العرب إلى حرب 1967، أو إلى توريط العرب جميعا في تلك الحرب التي قضت على جمال عبدالناصر بكلّ ما كان يمثّله من حسنات وسيئات لا تحصى.

يضع اغتيال السفير الروسي في أنقرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام واقع يرفض الاعتراف به. يتهرّب من هذا الواقع معتقدا أنّ في الإمكان تجاوزه عن طريق القصف وإخلاء المدن السورية من أهلها، لا لشيء سوى لأنّهم من أهل السنّة الذين وقفوا منذ خمسين سنة في وجه حزب البعث بكلّ ما يمثله من تخلّف، وفي وجه النظام العلوي الذي استخدم البعث للوصول إلى حكم سوريا معتمدا الحديد والنار والإرهاب بكلّ أشكاله وألوانه.

مؤسف أن روسيا، وقبلها الاتحاد السوفياتي، كانا دائما في خدمة نظام استخدم الإرهاب للسيطرة على سوريا والتحكّم برقاب السوريين.

مرّة أخرى، لا سبب يدعو إلى تبرير اغتيال السفير الروسي في أنقرة. هذا عمل إرهابي مدان بكلّ المقاييس والأشكال. خسرت روسيا سفيرها. هل يمكن أن تستفيد من تلك التجربة القاسية من منطلق أنّ الاستثمار في الإرهاب لا يمكن أن يقضي على الإرهاب. ما فعلته روسيا في سوريا، خصوصا في حلب، هو ممارسة للإرهاب ستدفع إلى المزيد من ردود الفعل من نوع اغتيال السفير كارلوف. دفع الرجل من حياته ثمنا لسياسة روسية قامت على اعتبار النظام السوري في حرب مع الإرهاب. هذه كذبة كبيرة لا أكثر، لا يصدّقها سوى ساذج أو من يمتلك نيّات سيئة. هل فلاديمير بوتين ساذج أم إنّه من ذوي النيّات السيئة؟ الأكيد أنّه ليس ساذجا بأيّ شكل. على العكس من ذلك، عرف، تماما، كيف يستغل نقاط الضعف لدى إدارة باراك أوباما وتوظيفها لمصلحته. ولكن إلى أين أوصله ذلك؟ لم يوصله سوى إلى اغتيال سفيره في أنقرة. هذه بداية وليست نهاية. يفترض في مثل هذه البداية أن تدعو الرئيس الروسي إلى التعقّل وإعادة النظر في حساباته السورية.

قبل كلّ شيء، إن سوريا ليست غروزني التي دمّرها فلاديمير بوتين على رؤوس أهلها. سوريا جزء من العالم العربي وهي تشكّل نقطة توازن في هذا العالم. من يسعى إلى اتباع سياسة تقوم على قهر السوريين وإبقائهم تحت حكم بشّار الأسد، إنما يعادي العالم العربي كلّه. لا يمكن البناء على نظام سوري مرفوض من الأكثرية الساحقة من شعبه بغية تحويل سوريا منطقة نفوذ روسية. على العكس من ذلك، يمكن لروسيا استعادة تعاطف السوريين في حال لعبت دورا في التخلص من نظام لا مستقبل له، لا داخليا ولا إقليميا. استنفد هذا النظام الهدف الذي وجد من أجله. دمّر سوريا على أبنائها. هجّر السوريين من سوريا ودمّر المدن الكبيرة فيها. كل ذلك لا يمكن أن يبقيه في السلطة، تماما مثلما أن تدميره للبنان وتهجيره مسيحيي الأطراف ومحاربته السنّة في المدن الكبيرة، ثمّ تغطيته لاغتيال رفيق الحريري لم يحل دون انسحابه، في نهاية المطاف، من الأراضي اللبنانية.

ستبقى سوريا تقاوم، مهما فعلت إيران ومهما اشترت من الأرض السورية ومهما أرسلت مستوطنين إلى دمشق ومحيطها وإلى مناطق أخرى. عاجلا أم آجلا سيرحل النظام السوري. لدى فلاديمير بوتين فرصة لا تعوّض لإعادة النظر في موقفه من سوريا والسوريين. لن ينفع إرهابه لا في حلب، ولا في غير حلب. الإرهاب لن يجرّ سوى المزيد من الإرهاب مهما بلغت درجة التعاون والتنسيق مع تركيا وإيران. كلّما تعقّلت موسكو في سوريا واقتنعت أن النظام جزء لا يتجزّأ من الإرهاب، كلما ساعد ذلك في إنقاذ ما يمكن إنقاذه في سوريا. مثل هذا التعقّل لا يمكن إلا أن ينعكس إيجابا على العلاقات الروسية ـ العربية.

ما حدث في أنقرة ليس مجرّد اغتيال لسفير على يد مجرم تحرّكه الغريزة المذهبية. ما حدث كان أبعد من ذلك بكثير. إنّه مؤشر لما ينتظر المنطقة في حال لم يحصل تغيير في السياسة الروسية، وهو تغيير سيصبّ في مصلحة هذا البلد، الطامح إلى دور يفوق حجمه وقدراته، في المدى الطويل.

إعلامي لبناني

العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى