صفحات المستقبل

عن مؤتمر “سميراميس” وأفق العمل الديمقراطي السوري

 


ما زال الجدل الذي سبق ورافق ولحق مؤتمر “سوريا للجميع في ظل دولة ديمقراطيّة مدنيّة”، والذي عُقد في دمشق اﻻثنين الماضي، قائماً. ففكرة عقد لقاء تشاوري بين شخصيات مُعارضة ومستقلّة نقديّة في دمشق أثارت الترحيب واﻻستياء معاً، ففي حين رأى فيه البعض فرصة لإثبات الوجود العلني على الأرض وطرح خطاب معارض على الناس بالقرب منهم رأى البعض الآخر فيه (أو في بعض تفاصيله) فرصةً مهداة للسلطة لتحسين صورتها وتسويقاً إعلامياً لأطروحات الإعلام الرسمي وشبه الرسمي حول حوار مفترض في ظل الأحداث الراهنة وتداعيتها ورد الفعل الأمني العنيف عليها.

كل الآراء المتضادّة الموجودة لها أسبابها و معطياتها التي تستند عليها، والجدال فيما بينها صحّي ومطلوب، فالبناء الديمقراطي هو عملية تراكميّة تنهل قوتها من النشاط الفكري والسياسي، وتباين الآراء المتعددة (وليس فقط الثنائيات المتناحرة) حتّى لو اختلفت وتخالفت بشدّة. من حضر أو شارك أو دعم له أسبابه الوجيهة، كذلك الأمر مَن غاب أو اعترض أو توجّس. المهم هنا هو أن يأخذ هذا الاختلاف شكلاً نقاشياً يساهم في عملية التراكم الفكري والسياسي وليس طابع التخوين وإلقاء اﻻتهامات الذي لجأ البعض إليه للأسف، إما ﻷنهم ﻻ يتقنون غيره، أو ﻷن الضغط النفسي المتولّد عن الوضع العام يولّد نزعة متشنجة. لا ننسى أيضاً مدمني العدم و العدميّة من أصوات بروباغندا القمع و الإلغاء، الذين يرفضون بعنف كلّ شيء إﻻ سيادة قولهم وفعلهم وموقفهم وحده، حتّى لو كانت سيادة على صحراء قاحلة خاوية.

أختلف مع الذين قسوا على المؤتمر والمشاركين فيه بنقدهم، مع احترامي لكل آراء الذين لم ينجرّوا إلى لغة التخوين و اﻻتهامات و الإلغاء و تفهّمي للأسباب التي يوردونها في آرائهم. أعتقد أن عقد هذا المؤتمر في دمشق كان، شكلاً و مضموناً، خطوة إيجابية في طريق إحياء و بناء حياة سياسية سليمة و حيوية، بعد عقود من الخواء، نحتاجها بشدّة في ظل اللحظة التاريخية التي نعيشها. وأتمنى أن تلحقها خطواتٌ أخرى مشابهة تساهم في تحقيق أساس لأصوات مدنيّة ديمقراطيّة (أقول أصوات و ليس صوت، فلا يوجد رأي مدني ديمقراطي واحد بل آراء كثيرة تجمع على نقاط أساسيّة، و من هذه النقاط الأساسيّة تتفرع آراء مختلفة بشكل حيوي و سليم) يراها الناس على الأرض ويعرفونها ويعرفون قائلها. هذا ليس انتقاصاً من أحدٍ و إنما تعبير عن رأي يعتقد أن جزءاً كبيراً من الشارع يشعر بنوع من الأمان عندما يتمكّن من سماع وضوح وثقة هذه الأصوات بجانبه (مكانياً). ليس السواد الأعظم من المشاركين في المؤتمر مستجّدين على العمل المدني الديمقراطي، فمنهم من ضحّى بسنواتٍ طويلة من عمره في سبيل مبادئه و أفكاره، لكن اجتماعهم العلني في دمشق هو مرحلة جديدة من هذا النضال يجب أن تستمر و تتطوّر.

لعلّ مكان اﻻجتماع هو أبرز النقاط التي أثارت السجال و الخلاف. هل سُمح بالمؤتمر كخطوة إعلامية لتحسين الصورة، و بالتالي تصرّف المشاركون به بما يعارض مصلحة الحراك الشعبي المُطالب بالتغيير؟ علينا أن نتذكّر أنه لم يسبق أن اتسع الصدر لهكذا لقاءات في الداخل إﻻ في حقبة قصيرة جداّ من “ربيع دمشق” مطلع العقد السابق، و أعتقد أنه لو كان منع المؤتمر ممكناً، إعلامياً وسياسياً، لتم منعه. لقد تمّ هذا اللقاء لأن هناك شيئاً يتغيّر في سوريا دون توقّف و دون عودة، وهذا اللقاء هو نتيجة (لن أقول أنه إنجاز) وتعبير عن هذا التغيير الذي يحدث دون توقف. ﻻ شك أن ثمة محاولات للاستثمار الإعلامي الموالي للمؤتمر قد حدثت، لكن حدوثها كان متوقعاً و أعتقد أنّ المشاركين في المؤتمر نجحوا في تجنّبها إلى حدّ كبير، كما أنها ﻻ يجب أن تشكّل سبباً لإلغاء هكذا خطوة.

لم يدّع المؤتمِرون تمثيل أحدٍ، كما لم يضعوا أنفسهم في موقع القادر على طرح أي مبادرة سياسيّة باسم الشارع أو الحوار والتفاوض باسم الحراك الشعبي، بل عبّروا عن مواقف اتخذوها كأفراد مستقلين. وإن خرجت مبادرة أو تشكّل تجمّع أو ائتلاف في المستقبل من مؤتمرات مشابهة فبإمكان من يشاء أن يعتبر نفسه مُمَثّلا فيها أو لا، فحجمها و حجم صوتها لن يأتي مما تقوله، بل من مدى سعة القاعدة الشعبية الموافقة على هذا القول. هذا هو ألف باء الحياة السياسية “الطبيعية” التي يجب أن نعمل بقوّة على ترسيخها لإنهاء أوضاع “غير طبيعيّة” عشناها طيلة عقودٍ خلت.

أكّد البيان النهائي للمؤتمر على دعم المساواة بين جميع السوريين دون أي تمييز ديني أو عرقي أو جنسي في دولة مدنيّة ديمقراطيّة تعددية، كما نبذوا كلّ أشكال الخطابات الطائفية والجهوية، وأدانوا كل الخطابات والمواقف الداعية للتدخل الأجنبي في سوريا. رغم ذلك لم ينجوا، و لن ينجوا، من هجوم التشكيك و التخوين و اتهامات العمالة من قبل محترفي خطاب الكراهية اﻻستئصالي، داخل و خارج الإعلام. ﻻ يعرفون إﻻ هذه اللغة وهذه الاتهامات المعلّبة ومسبقة الصنع. هنا ﻻ لغة للعقل، بل كراهية شديدة لصوته.

سوريا المستقبل، سوريا العدالة والكرامة والمساواة، تُبنى لحظة بلحظة في عملية شاقة و صعبة و مؤلمة. التحديات كثيرة و الأخطار كبيرة. لكن العمل المشترك بين كل المؤمنين و المؤمنات بمبادئ الديمقراطية المدنية التعددية كأسلوب بناء للدولة ومؤسساتها وبالمواطنة الديمقراطية منهجاً للعلاقة بين المواطنين و الوطن، بغض النظر عن اختلاف الرؤى والآراء، هو السبيل للوصول إلى برّ الأمان، بقطيعة كاملة مع الماضي وأشباحه وكوابيسه.. ونُخبِه.

..

http://www.syriangavroche.com/

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى