حازم نهارصفحات مميزة

عن مثقفين فاقدين للمعنى…/ حازم نهار

 

 

من دون الدخول في جدل حول تعريف المثقف وأدواره وأصنافه وعلاقته بالسياسة والسلطة، ومن دون وضع هذه المفردة بين قوسين، يمكن القول إن ظاهرة المثقف والسلطة السورية تحديداً، خلال نصف قرن، تحتاج إلى دراسة خاصة ومعمقة. لكننا نحاول هنا الإشارة إلى مواقف المثقفين من السلطة خلال السنوات الأربع الماضية، وهي مواقف متنوعة تبعاً لأنماطهم الفكرية وعلاقاتهم السابقة بالسلطة، ونمط العلاقات الزبائنية التي خلقتها. بعض المثقفين هم صناعة السلطة أو مندرجون أصلاً في سياساتها منذ زمن بعيد، وهؤلاء لا يستحقون أن نتعب أنفسنا بنقدهم، أو بالأحرى هم دون مستوى النقد بمراحل.

أما المثقفون المحسوبون على معارضة السلطة، فإنهم يحتاجون إلى النقد، فبعضهم كان واضحاً في موقفه من السلطة خلال فترة ما بعد الثورة، فيما بعضهم الآخر تراجع خطوة أو خطوات إلى الوراء، أو وقف على الحياد منتظراً ما ستؤول إليه الأمور، تبعاً لرؤى أو تحليلات خاصة، أو وفقاً لمصالح ذاتية ظهرت إلى العلن بعد أن كانت مخفية. لكن النقطة الرئيسة التي أود تسليط الضوء عليها هي موقف ذلك المثقف المعارض، والعارف بطبيعة السلطة، الذي اتخذ موقفاً حيادياً أو دور «المعارض الناعم» أو حتى المناصر ضمنياً للسلطة القائمة في وجه الثورة، بعد سنوات طويلة من معارضته لها.

يستند هذا المثقف في مواقفه تلك، وفق ما يقول ويكرر، إن افترضنا صدقيته وعدم وجود علاقة وثيقة بين مواقفه ومصالحه الشخصية، إلى معرفته ببنية السلطة المعقدة، وقدراتها وعلاقاتها الإقليمية والدولية ووسائلها وآليات عملها، الأمر الذي يسمح لها بمجالات واسعة من المناورة والبقاء، منكراً بالتالي هذه المعرفة على الآخرين الذين اتخذوا منها موقفاً صريحاً وواضحاً. في الحقيقة، كثيرون من الذين أبدوا مواقف واضحة وصريحة إزاء السلطة، كانوا يعرفون أكثر من ذلك، ولم يستغربوا سلوكها خلال السنوات الأربع الماضية، ومع ذلك عُرفوا بمواقفهم الواضحة والصريحة ضدها.

في 1993 نشر سعدالله ونوس، مسرحيته «منمنمات تاريخية» التي تناول فيها المواجهة التي حدثت عام 1400 بين تيمورلنك وابن خلدون، القاضي والمؤرِّخ والعالم الاجتماعي المعروف. وقد حاول ونوس في مسرحيته أن يستكشف ماذا يمكن أن يكون قد ترتب من انعكاسات في العصر الحالي بسبب قرار ابن خلدون ألَّا يُدينَ الجنرال التتري وعشقه للسلطة.

تيمورلنك يشقُّ طريقه نحو دمشق، ابن خلدون ينتظر في منزل رئيس قضاة دمشق، شيوخ دمشق يناقشون في المسجد الأموي موقفهم من الغزو التتري، حيث اختلفوا في ما إذا كان تجب محاربة الطاغية أم مراضاته، وانتهوا إلى إصدار فتوى بوجوب الجهاد ضد تيمورلنك. وقعت المعركة، ومات كثيرون.

أما ابن خلدون الذي شعر بالاحتقار، خصوصاً إزاء أولئك الذين ليسوا من النخبة، فرأى أنه لا جدوى من الجهاد ضد قوىً جارفة مثل تيمورلنك، فهذا وقت الهزيمة لا ريب، ولا شيء يمكن فعله لإيقافها. ولذلك، بعد أن يلتقي ابن خلدون بتيمورلنك، ينصح وجوه دمشق بالاستسلام من دون قتال. على ما يبدو، يفصل ابن خلدون بين الموقف/الفعل والمعرفة، لأن المعرفة أقوى وتدوم أطول.

يتساءل ونوس عن نوع المعرفة التي كان ابن خلدون يُنتجها. بعد ستمئة عامٍ من الاحترام، يجلب ونوس ابن خلدون ليوبِّخه على تحفظه الأحمق على فعل أي شيء، وانتهازيته السياسية، ورفضه لتحدي تيمورلنك بحجة معرفته بنتائج المعركة وإدراكه لأطوار حياة الدول، ويسأل الجمهور عن النتائج التي كان يمكن أن تحدث لو قرَّر ابن خلدون أن يتدخل. ربما كان ليغير وجه التاريخ، لكنه لم يكن مهتماً بالتغيير، أو التطور، وإنما كان مهتماً بنجاته ونظرياته التي توصل إليها حول حياة الدول.

تطرح «منمنات تاريخية» على المشاهدين تساؤلاً: كيف يجب أن تكون ردة فعل المثقف على الظلم؟ هل يجب أن يرفضه ويقاومه أم عليه أن يحسب نتائج رفضه ومقاومته، ويحدد موقفه في ضوئها؟ ينتقد ونوس هنا عدّة أمور: الطاغية، المثقف الخائف، والاستجابة الانتحارية وغير المدروسة للظلم. هل أخطأ ابن خلدون عندما حافظ على حياته وأعطى تيمورلنك ما طلبه منه؟ لقد عاشت توصيفاته الحيادية وتحليلاته أكثر من الأفعال العاطفية التي قام بها المجاهدون لإيقاف التقدم التتري المميت. وقد أثبت التاريخ صحة ما فعله ابن خلدون عندما قال لطالبه: «التاريخ سيتذكر المعرفة التي أنتجتها والكتب التي كتبتها فحسب». كيف نرى ما فعله ابن خلدون بعد ستمئة عام، كيف نتقبَّل صحة ما فعله؟ نعم لقد نسي التاريخ أولئك الذين قاتلوا وماتوا، واعتُبِرَ «الخائنُ» بطلاً. كيف نستطيع أن نوازن الالتزامات السياسية مع أساسيات البقاء؟

على المسرح يترك ونوس الخيار للمشاهدين ليقرِّروا بأنفسهم إن كانت هذه الشخصية التاريخية قد اتخذت القرار الصحيح أم لا، لكنه لم يدع مجالًا للشك في مناسبات عدة ليقول لنا «إن المعرفة تقتضي مسؤوليةً على من يحملها… يجب على المثقفين أن يتدخَّلوا في الشؤون العامة، ويقاوموا المعتدين والحكَّام الطغاة…». فالكتابة عند ونوس سياسية بطبيعتها، ومن يقف جانباً يُعين الطاغي على طغيانه. بمعنى آخر، ليس هناك حيادٌ في الثقافة، ولا يستطيع المثقف أن يكون على الحياد، وينبغي أن يكون هناك تناسقٌ وتكافؤٌ بين الكلمات ومعناها.

إن إدانة ونوس لتهرب ابن خلدون من مسؤوليته السياسية تتحدى الجميع. قد يبدو في كثير من الأحيان أنه لا جدوى من الاحتجاج، أو قول الحقيقة في مواجهة نظام متسلط، لكن سعدالله يخبرنا بأن المثقفين يستطيعون أن يصنعوا فرقاً، وأن إذعانهم للاستبداد أو حياديتهم أو انتهازيتهم ستؤدي إلى الدمار. كان يوسف العظمة وصحبه يعلمون أنهم سيخسرون في ميسلون، لكنهم آثروا أن يقاوموا ويصنعوا فرقاً، وقد فعلوا.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى