صفحات مميزة

عن محادثات أستانة المرتقبة –مقالات مختارة-

 

 

ولم يبقَ للسوريين سوى أستانة../ مازن عزي

عندما فرضت روسيا عقوبات اقتصادية على تركيا، نتيجة اسقاط طائرة حربية روسية خرقت الأجواء التركية نهاية العام 2015، قامت “دولة” أبخازيا بفرض عقوبات اقتصادية على تركيا. وأبخازيا هي “دولة” صغيرة على الضفة الشرقية للبحر الأسود، ويكاد لا يعترف بوجودها أحد سوى روسيا. عقوبات أبخازيا الإقتصادية على تركيا، ورغم عدم تطبيق معظم بنودها، مرّت من دون أن يلتفت لها أحد، ونافل القول إنها لم تؤثر في الاقتصاد التركي. أبخازيا وشقيقتها أوسيتيا الجنوبية، هي مقاطعات انتزعتها روسيا من غريمتها جورجيا، في حروب متقطعة أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي، وتفكك دوله.

أسلوب روسيا في دعم متمردين انفصاليين موالين لها، لاقتطاع مساحات من دول مجاورة، تكرر مع الأزمة الأوكرانية، إذ أعلنت كل من لوهانسك ودانيتسك، حكماً ذاتياً شرقي أوكرانيا، بالاضافة إلى احتلال موسكو لشبه جزيرة القرم. الأسلوب ذاته رافق حروب القوقاز منذ العام 1993، وإقامة دولة الشيشان بعد تدمير القوات الروسية لعاصمتها غروزني. المتمردون الشيشان الذين حاربتهم روسيا كـ”إرهابيين” في الشيشان، كانوا قد قاتلوا في صفوف المليشيات الروسية في أبخازيا، بقيادة شامل باساييف، الذي قتل لاحقاً في عملية استخبارية روسية.

قد يكون تمدد روسيا على حساب جاراتها، أمراً منافياً للقانون الدولي وسيادة الدول، إلا أن للكرملين، رواية أخرى دائماً، تتعلق بحماية مواطنين روس في تلك الدول، أو حتى التذرع بطلب رسمي من حكومات أقاليم محلية. ومع ذلك، وبالنظر إلى خريطة التمدد الروسي، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، يمكن ملاحظة مجموعة من العمليات المتوازية: قضم قطاعات صغيرة من الأرض، وإحداث عمليات تغيير ديموغرافي فيها بحيث تصبح موالية تماماً للكرملين بعد تهجير السكان من إثنيات وقوميات “معادية”، وتنصيب أنظمة لا تحظى باعتراف دولي تبقى دُمى في يد الكرملين، تعقد اتفاقات مشتركة مع روسيا الفيدرالية، وتكون معتمدة كلياً على الاقتصاد الروسي، وقد تدمج قواتها المسلحة في الجيش الروسي كما في حالة أبخازيا.

تلك الانتصارات الصغيرة على الأرض، تُقابَل بخلق حالة عداء كبيرة مع الجيران. فأوكرانيا وجورجيا باتتا من أشد أعداء روسيا، خصوصاً مع عمليات النزوح للأوكران والجورجيين إلى داخل البلدين، بما يُبقي مروياتهم حية، معادية للسردية الروسية. الأعمال العدائية الروسية لم تساهم إلا في تقوية القوميين في الدول المجاورة، ودفعهم للبحث عن الحماية في اتفاقات مع “حلف شمال الأطلسي” و”الاتحاد الأوروبي”.

انتصارات صغيرة على الأرض وخسارات في الجيوسياسة في معظم البلدان المحيطة، بحيث باتت روسيا تطوّق نفسها بأقواس أزمات مشتعلة. وإذا كان أغلب سكان جورجيا وأوكرانيا يتبعون الكنيسة الأرثوذوكسية، فعداء موسكو مع كييف وتبليسي، لا يتعلق بالدِّين، بل يعمل على تضخيم العامل القومي في النزاع. حالة كازاخستان تبدو استثناءً، فغالبية سكانها من المسلمين، بنسبة 70 في المئة، و63 في المئة منهم من الكازاخ.

نورسلطان نزارباييف، الحاكم المستوحد الأوحد في كازاخستان، بملايينها التسعة، ومساحاتها الشاسعة، وثرواتها النفطية الهائلة، هو آخر الحكّام السوفيات. فمنذ العام 1989 استلم الحكم في “جمهورية كازاخستان السوفياتية” مفوضاً عن “الحزب الشيوعي”، واستمر في الحكم بعد الانهيار الكبير في العام 1991، حتى اليوم. نزارباييف، آخر ديناصورات الحقبة الشيوعية الأحياء، اتجه إلى الليبرالية الإقتصادية، ومَنَعَ الديموقراطية في بلاده. كحال معظم الديكتاتوريين في العالم، يرى نزارباييف الساعي لتوريث ابنته، في الديموقراطية، العدو الأكبر لسلطته. ومع ذلك، فهو يتفاخر بمستوى الأمن في بلاده، ويرفع من راية “التعايش” بين القوميات والأديان فيها. ولم يمنع ذلك، بعثة “الأمم المتحدة” من نقد قمع السلطات الكازاخية للسكان، وتكميم الأفواه، واغتيال الصحافيين. تسعة صحافيين معارضين لنزارباييف، ماتوا “صدفة” في حوادث سير، وآخر تلفزيون مستقل أغلق في العام 2016.

علاقة نزارباييف، الباحث عن إكسير الحياة، بفلاديمير بوتين، تكسوها الغرابة. فبوتين، تساءل في العام 2014، عن “شرعية” جمهورية كازاخستان، داعياً الكازاخ للتصرف بشكل حسن في ما يتعلق بالمصالح الروسية. بوتين قال: “لم يكن هناك أبداً، بلد يدعى كازاخستان، فتلك الجمهورية هي منتج صافٍ للرئيس الحالي نزارباييف”. وأضاف بوتين: “كلي ثقة أن غالبية سكان كازاخستان يدعمون تطوير علاقات قوية مع روسيا”. بالنسبة للرئيس الروسي: “نزارباييف قائد حذر، وربما الأكثر حذراً في الفضاء ما بعد السوفياتي. هو لن يتصرف أبداً، ضد إرادة شعبه”. بوتين، الجيوستراتيجي، يرى أن “كازاخستان كانت جزءاً من عالم روسيا الكبير، الذي هو جزء من حضارة عالمية بمعايير الصناعة والتقدم التكنولوجي، وأنا كلي ثقة بأن الأمور ستظل هكذا في المدَيَين المتوسط والبعيد”. الرئيس الروسي، أردف تلك الملاحظات الاستثنائية، بتحذير غامض: “نزارباييف صنع شيئاً فريداً. لقد خلق دولة في منطقة لم يكن فيها دولة من قبل أبداً. لم يكن للكازاخ دولة، أبداً”.

قد تكون تلك الملاحظات المُبطنة أحد الأسباب التي دفعت نزارباييف للإنضمام إلى “الاتحاد الأوراسي”، مع روسيا وبيلاروسيا. تحالف أكد الرئيس الكازاخستاني، مراراً وتكراراً، على طبيعته الإقتصادية لا السياسية. التحالف دخل حيّز التنفيذ مع العام 2014، أثناء خروج أوكرانيا من عباءة الكرملين. وإن كان نزارباييف، يفهم شهية بوتين المفتوحة، ويتخوف منها، إلا أن ذعره مما حدث في أوكرانيا، جعل من التحالف مع روسيا، شراً لا بد منه. ومع ذلك، أوضح نزارباييف، في خطاب موجه لمواطنيه، المتظاهرين في أستانة وآلماتا، ضد النفوذ الروسي المتصاعد: “استقلالنا هو الكنز الأثمن الذي قاتل أجدادنا للحصول عليه. وقبل كل شيء، لن نسلمه لأحد، وثانياً سنفعل ما في وسعنا لحمايته. كازاخستان لن تكون جزءاً من منظمات تُشكّلُ تهديداً لاستقلالنا”.

وسبق كلام بوتين المُلغّزِ، حملة منظمة في روسيا، يقودها القوميون، تطالب بأجزاء من كازاخستان، خصوصاً الحدودية الشمالية، كأراضٍ روسية. وتعيش غالبية روسية، في تلك التخوم الحدودية الصناعية، ما دفع إلى تعليق لوحات عملاقة تحمل اسم كازاخستان، لتذكير الجالية الروسية، التي تُشكّل خُمس سكان البلاد، بأنهم لا يعيشون في روسيا.

الأزمة التي تعيشها كازاخستان، ليست فريدة أيضاً. فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وجد 25 مليون روسي أنفسهم في دول مجاورة، كنتيجة لسياسات الشيوعية في خلط وتحريك السكان، والتغيير الديموغرافي. لكن أزمات الدول المجاورة لروسيا، هي فرص لا تُفوّت لموسكو، التي دعمت مؤخراً إنشاء حزب قومي روسي في أستونيا، الجمهورية البلطيقية، المنضمة لـ”حلف شمال الأطلسي”. وإذا كان الغرب، إلى حدّ ما، مستعداً لدعم أوكرانيا ودول البلطيق، من المدّ الروسي، فذلك لا ينطبق على كازاخستان. فنظام الأستانة الحديدي، يرى في الغرب تهديداً حقيقياً لسلطته من خلال الحديث عن “حقوق الإنسان” و”المؤسسات الديموقراطية”. الأستانة ترى في الكرملين حليفاً لا بد منه، في نهاية المطاف. فمَن غير روسيا مستعد لدعم نظام سلطوي، لم يتردد في قتل عشرات العمال المتظاهرين، في كانون الأول/ديسمبر 2011، في بلدة زهاناوزين، الصناعية-النفطية، احتجاجاً على طرد شركة النفط المملوكة من الدولة أكثر من 1000 موظف.

في الأمس القريب، فرضت أبخازيا عقوبات على تركيا، واليوم تستضيف كازاخستان محادثاتِ سلام سورية… إنه العالم، كما يراه الكرملين.

المدن

 

 

 

 

الحل السياسي في سورية وهم أم حقيقة؟/ لؤي صافي

الحل السياسي للصراع العسكري في سورية حاجة ضرورية لمنع الانهيار الكامل للمجتمع السوري، وزعزعة استقرار دول الجوار. وهو ضروري قبل ذلك لوقف حمام الدم المستمر منذ خمس سنوات. نظرياً تدعم جميع الأطراف المتصارعة، باستثناء «داعش» و «فتح الشام»، مشروع الحل السياسي منذ سنوات. القوتان العالميتان الأكثر تأثيراً في الحالة السورية، روسيا والولايات المتحدة، تدعمان أيضاً الوصول إلى حل سياسي ووضعتا في جنيف عام 2013 ثم في فيينا عام 2015 خريطة طريق للوصول إليه.

كذلك دعمت المعارضة السورية ورقتي جنيف وفيينا وشاركت في مفاوضات جنيف عام 2014، التي أفشلها النظام برفضه قبول تشكيل هيئة الحكم الانتقالية التي نص عليها بيان جنيف وجميع القرارات الأممية التالية له. روسيا لم تمارس أي ضغوط على نظام الأسد للالتزام بوثيقة جنيف، بل عملت على حمايته من أي إدانة أممية في مجلس الأمن، ثم وضعت ثقلها العسكري خلفه خلال السنة الماضية. اليوم تدفع روسيا باتجاه الحل السياسي وتدعو المعارضة المسلحة في الشمال، ومعارضين سوريين تنتقيهم من دون تشاور مع قوى المعارضة الرئيسية، للمشاركة في مؤتمر آستانة.

أعتقد شخصياً بأهمية الحل السياسي للصراع العسكري في سورية وبضرورة التفاوض للوصول إليه، وكنت في مقدم الداعين للمشاركة في مؤتمر جنيف، وشاركت في الوفد الأول الذي مثل الثورة السورية. ولكني أجد نفسي اليوم في المعسكر الرافض للتحرك الروسي تحت غطاء الحل السياسي، وأرى أهمية التعامل بحذر شديد مع مؤتمر آستانة والتصور الروسي لتفاصيل هذا الحل، لأني أعتقد أن روسيا تسعى إلى تفريغ وثيقة جنيف والقرارات الدولية المرتبطة بها من بنودها التي تمنح السوريين الفرصة الحقيقية للدخول في عملية انتقال سياسي لا يمكن لسورية أن تستعيد عافيتها ما لم تقم بها. وفي ما يلي جملة الحيثيات التي تدفعني إلى التشكيك في المسار الروسي الذي يمر عبر مؤتمر آستانة.

أولاً: ألزمت القيادة الروسية، بالتفاهم مع تركيا، الفصائل المقاتلة في الشمال بالمشاركة في مؤتمر آستانة بعد موافقتها على وقف شامل لإطلاق النار وقبولها التمييز بين معارضة متشددة لا تخضع لشرط وقف إطلاق النار، ومعارضة معتدلة تعترف روسيا بها.

ثانياً: تمت المفاوضات التي أنتجت مشروع آستانة بين روسيا وتركيا في شكل أساسي، وبالتالي فإن الأتراك هم المفاوض الحقيقي. ويصب سعي الأتراك إلى وقف شامل للقتال في مصلحة الثورة التي استطاع النظام بحنكة ودهاء عسكرتها. وهذا سيتحقق من دون الحاجة الى مشاركة المعارضة السياسية في مؤتمر آستانة، لأن التعويل هنا هو على التفاهمات مع المقاتلين وعلى المصالحات المحلية. المعارضة السياسية تستطيع المساهمة من خلال دعم مواقف المجالس المحلية في المناطق المحررة، والتنسيق بينها.

ثالثاً: تتحكم روسيا بدعوة السياسيين، وهي ستختار الخلطة المناسبة لتوليد المعارضة التي تحقق لها أهدافها. وانسحاب أفراد دعوا بأسمائهم لن يؤثر في المسار العام للمشروع الروسي، ولكنه سيضعف المعارضة أكثر مما ساهمت الدول خلال السنوات الماضية في إضعافها.

رابعاً: عدم مشاركة قوى المعارضة السياسية الرئيسية سيحول بين الروس وخرق الإجماع الحالي حول جنيف، وسيفرض بيان جنيف مرة أخرى كما حدث بعد مؤتمري موسكو وآستانة السابقين.

خامساً: خرقت روسيا وقف إطلاق النار في وادي بردى، وتسعى إلى الحسم العسكري ووضع سكان هذه المنطقة تحت خيارين: إما الاستسلام الكامل للنظام أو تحويل الوادي إلى قطعة من الجحيم، بالطريقة نفسها التي تعاملت بها مع مدن وقرى الشمال السوري.

تدل حيثيات التحركات الروسية، بما فيها التحركات العسكرية على جبهات الصراع داخل البلاد، على أن موسكو تسعى إلى تحويل مؤتمر آستانة إلى منصة لاستسلام المعارضة وقبولها العمل تحت القيادة الراهنة للنظام الذي أدى الى الكارثة السورية، مع تغييرات طفيفة لا تولد تغييراً مهماً في بنيته. هذا يعني أن المعارضة في حال قبولها المشروع الروسي ستصبح شريكة للنظام في كل المآسي المستقبلية التي ستنجم عن استمراره في الحكم. فالنظام سيمنع، كما فعل عبر تاريخه الطويل، قيام أي تغيير حقيقي. وطبيعة النظام واعتماده المتزايد على قوى طائفية محلية واقليمية للاحتفاظ بالسلطة، سيؤديان إلى تدهور كبير في الواقع الاجتماعي والسياسي بدلاً من تحقيق التطور الإيجابي الذي يطلبه ويستحقه السوريون الأحرار.

إن المعارضة السياسية التي تمثل روح الثورة الراغبة في إنهاء الواقع السوري المرير تتحمل مسؤولية وطنية وأخلاقية وتاريخية تحتم عليها الابتعاد عن أي حل سياسي يكرس سلطة نظام الأسد، ويكرس بالتالي واقع الاستبداد والفساد. كما أن احتفاظ القيادات السياسية للمعارضة بموقفها الأخلاقي في رفض الاستبداد والفساد سيبقي على الشعلة التي حملتها ثورة الحرية والكرامة، والأهداف التي قامت من أجلها حية وقّادة يحملها الشباب الواعي من أبناء سورية الأبية ويسعون لتحقيقها عندما يحين الوقت وتتضافر عوامل نجاح التغيير الضروري والقادم بحول الله. المؤرخون يسمون الثورة التي قامت عام 1936 ضد المستعمر الفرنسي بالثورة السورية الكبرى. وهي ثورة انتهت بعد ثلاث سنوات من اندلاعها من دون تحقيق أهدافها ولكنها كانت الخطوة الضرورية التي أدت إلى حصول سورية على الاستقلال عام 1946.

طبعاً هذه ليست دعوة إلى السكينة السياسية ضمن ظروف تتحكم فيها إرادات دولية ودول اقليمية، وتخضع فيها الفصائل الثورية المسلحة لتأثير تلك الدول. بل هي دعوة إلى التحرك بحذر وإدراك حدود القدرة الذاتية وعدم الانجرار خلف تحركات دولية لا يمتلك فيها السوريون فرصاً كثيرة لتحقيق الأهداف التي انتفضوا دفاعاً عنها.

أعلم أن المعارضة منهكة ولكن النظام منهك أيضاً. والقبول بمواقف تلغي السنوات الخمس ونتائجها السياسية على النظام خطأ استراتيجي قاتل. أسوأ ما يمكن أن يقوم به السياسيون اليوم هو التخلي عن ورقة جنيف والقرارات الدولية الداعمة لها تحت ضغط الظرف الراهن. أعلم أن السياق ضاغط والوضع سيئ، ولكني لا أرى أي مخرج للسوريين وعودة للاستقرار خارج إطار عملية انتقالية حقيقية.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

 

 

 

آستانة: لقاء الضعفاء على حساب الدم السوري/ أنور البني

منذ انتهت معركة حلب بدأت روسيا بمحاولة استثمار نتيجة هذه الحرب، عبر تحويلها إلى مردود سياسي من خلال الاجتماع الثلاثي مع كل من تركيا وإيران، ودعوتها إلى مؤتمر حوار بين النظام والمعارضة (بما فيها المعارضة المسلحة) في مدينة آستانة، بمشاركة تركيا وإيران. ومنذ ذلك الوقت، تجري ترتيبات ولقاءات وحوارات كثيرة بين المدعوين إلى المؤتمر تمهيداً له، لتصدر تباعاً من كل طرف تأويلات مختلفة للقاء آستانة، ودوره، والنتائج المرجوة منه، بينما تأمل الجهة المبادرة (روسيا) بأن يكون الخطوة الأولى نحو حل سياسي يساهم في تكريسها قوة عالمية، وتثبيت نفوذها في سورية.

ما هو ملاحظ بهذا الوضع أن صاحب المبادرة (روسيا) لم يعلن عن نقاط الحوار، أو المسائل التي ستُناقش في هذا اللقاء. وليس من الواضح إن كانت روسيا لم تفعل لأنها لم تضع الباقين في انتظار استخلاصها الأنسب من الحوارات الجارية، أم لأنها لا تريد أن تترك للأطراف مجالاً للمناورة قبل اللقاء. فليس واضحاً إن كان اللقاء تثبيتاً للهدنة (التي لم تصمد حتى الآن، وما زالت الأطراف المدعومة من روسيا تمعن في خرقها ليل نهار) ووضع آلية لمراقبتها، أو أنه سيتطرق الى مجمل القضية ويضع أجندة للعملية السياسية اللاحقة. كذلك لم يُعلن، حتى الآن، عن الأطراف التي يمكن أن تشارك في هذا اللقاء، حيث ما زال هناك غموض كبير حول الأطراف المحلية والإقليمية والدولية التي ستُدعى، وتكثر التصريحات الروسية التي تتمنى، أو تقترح، أو تؤكد، مشاركة الأمم المتحدة وأميركا والسعودية ومصر وقطر وغيرها، من دون أن يُصرح، حتى الآن، عن توجيه دعوة رسمية الى أي طرف.

وهو ما يبعث على الاعتقاد بأن لقاء آستانة لقاء الضعفاء الذين يحاولون الاستقواء بآستانة لتحسين مواقعهم، أكثر من كونه يهدف إلى وضع المسألة السورية على مسار الحل. وبالتالي، الاعتقاد بأنه لن يكون هناك أي تطور على صعيد الوضع السوري مع هذا اللقاء إن حصل.

فروسيا الضعيفة التي غرقت بالحرب في سورية أساساً لتحسين وضعها الدولي، تحاول الإمساك بهذا اللقاء كورقة قوة تجذب إليها اهتمام أميركا وأوروبا لإعادة الاعتبار إليها كلاعب دولي كبير، وعلى أمل بدء محادثات جادة معها حول الأوضاع في العالم، خصوصاً الوضع في أوكرانيا، ودول أوروبا الشرقية، وعلى أمل رفع العقوبات عنها. لكن الغرب ما زال يتجاهلها، ويمدد العقوبات، ويتمدد عسكرياً في شرق أوروبا، ويرفض الدخول في حوار سياسي معها حول أوكرانيا وشرق أوروبا ما لم تنصَع للمطالب الغربية بالانسحاب من القرم وأوكرانيا. وهو قلل من أهمية ما تفعل حين لجأت الى مجلس الأمن لأخذ شرعية دولية لاتفاق الهدنة، حيث صدر القرار الأممي بعدم تبني الهدنة من قبله وإنما اكتفى القرار بأخذ العلم بها، أي أنه لم يعط الشرعية الدولية لاتفاق الهدنة التي فرضتها روسيا. لذلك فروسيا في حاجة الى هذا اللقاء، على أمل أن تحسّن وضعها مقابل الغرب، أو، في الحد الأدنى، أن تظهر قوتها على الأطراف الإقليمية وتحسّن وضعها الإقليمي.

أما تركيا، فخذلتها أميركا وأوروبا وتركتاها وحيدة تواجه روسيا وإيران، ووضعها الداخلي يتّجه الى الهشاشة بعد الانقلاب العسكري الفاشل وتراجع الليرة وازدياد نفوذ الأكراد في منطقة الشريط الحدودي في سورية، وازدياد الهجمات الإرهابية على أراضيها، أكان من حزب العمال الكردستاني أو من «الدولة الإسلامية». وتجد تركيا في هذا اللقاء ما يرجع إليها دورها القوي المؤثر ويجنبها مزيداً من الخسائر عبر الاستقواء بالأطراف الإقليمية تجاه الغرب وأميركا.

وتترقب إيران ما ستأتي به الإدارة الأميركية الجديدة تجاهها، وتجاه روسيا، والمنطقة. فلقاء آستانة فرصة لتبقى محمية مترقبة ما هو آتٍ، وتحديداً أن ما صدر عن الرئيس المنتخب دونالد ترامب يوحي بأن إدارته ستحاول أن لا تواجه تناقضات المصالح بينها وبين روسيا في الملف السوري، بل أن تسايرها وتنخرط معها عبر الاعتماد عليها.

وتبحث المعارضة السورية بشقّيها السياسي والعسكري الضعيف، والذي لم يجد حقيقة من يمد له يد المساعدة الكافية، بخاصة بعد خسارة حلب وموجة التمدد العسكري للنظام في ريف دمشق عبر الحسم العسكري أو ما يسمى المصالحات، عن أي مكان يمكن أن يقدم ضمانات حقيقية لوقف القتل والدمار في سورية، مع الفوز بشرعية ما.

والنظام السوري في حاجة الى هذا اللقاء ليبقى ضمن اللعبة ويحفظ موطئ قدم تحسباً لما هو مقبل. فهو لا يعرف بالضبط أين تتجه به المقادير، ومن سيمسك بدفة سفينته في النهاية، أكانت روسيا التي يمكن أن تفاوض عليه وتبيعه لمصالحها الكبرى مع أميركا وأوروبا مقابل مصالحها في أوكرانيا وشرق أوروبا، أو إيران التي يمكن في النهاية أن تخسر الحرب كلها وتنحسر إلى داخلها وتتركه وحيداً بعد أن يفشل مشروعها في التمدد (تحديدا إذا اجتمع ضد مشروعها كل من أميركا وروسيا والغرب وتركيا والخليج وفق ما تنبئ به سياسة الإدارة الأميركية الجديدة).

ختاماً، يبقى الكثير من الأسئلة معلقاً مثل: هل يمكن روسيا وإيران وتركيا، مع اختلاف مصالح كل منها في ما خص سورية، فيما هي جزء من المشكلة، وتقاتل على الأرض، أن تكون جزءاً من الحل؟ ومن سيرعى هذا الحل ويضمنه؟

لقاء آستانة إن تم هو لقاء الضعفاء الذين لا يملكون الآن سوى الاستقواء بلقائهم غير المبني على أسس متينة، ما يرجّح أن يكون حوار طرشان. وللأسف، ذلك كله تقطيع للوقت على حساب دم السوريين ومعاناتهم، وعلى حساب تدمير سورية.

* محامٍ ورئيس للمركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية

الحياة

 

 

 

 

حلب وآستانة: ما بينهما وما بعدهما/ عبدالباسط سيدا

تتكاثر الإشاعات هذه الأيام حول المستقبل الذي ينتظر سورية والسوريين، وحول طبيعة النظام السياسي الذي من المفروض أن يلملم أشلاء سورية أرضاً وشعباً. كما تتناول هذه الإشاعات أسماء الأشخاص الذين سيناط بهم إنجاز مهام المرحلة الانتقالية، أو أولئك الذين سيشاركون في مؤتمر آستانة الخ…

والإشاعات، بموجب معطيات علم النفس التطبيقي، تنتشر في ظل توافر عاملين أساسيين هما: الأهمية والغموض. فكلما ارتفعت درجة هذين العاملين تزايدت الإشاعات، وارتفعت وتيرة انتشارها، لا سيما إذا أخذنا في اعتبارنا واقع تقدّم وسائط التواصل الاجتماعي غير الخاضعة لأية ضوابط تمكّن المتعامل معها من التحقق من مصداقية الأخبار وأشباهها.

فالوضع السوري يمثّل أهمية قصوى بالنسبة إلى المواطن السوري الذي بات يتعلّق بقشة، كما يقال، للخروج من النفق المظلم. كما أن الوضع المعني يمتلك حيوية كبرى على المستويين الإقليمي والدولي لاعتبارات مختلفة تتمحور حول المصالح والهواجس والحسابات المستقبلية.

أما الغموض فباعثه الأساسي إبعاد السوريين، معارضة وموالاة، عن الاطلاع على بواطن الملف السوري وأسراره، وعـلى اتـخاذ القرارات المؤثرة في شأنه.

فالمعارضة بكل هيئاتها ووظائفها السياسية والميدانية مجرد موضوع منفعل، ماهيته ردود الأفعال تجاه الجهود الإقليمية والدولية. هذا في حين أن النظام سلّم أموره منذ زمن بعيد إلى الراعي الإيراني وأذرعه، ومن ثم إلى الحليف الروسي الذي يبدو أنه يتطلع إلى حصيلة مغايرة لتلك التي يرمي إليها النظام الإيراني ويعتمد سياسة لا تطمئن ولي الفقيه على طول الخط.

وقد بدأ الغموض يلف موضوع الحل السياسي في سورية مع بدايات الغزل الروسي – الأميركي، الذي تحوّل لاحقاً إلى عتب المحبين – المتخاصمين.

ومع ظهور نتائج الانتخابات الأميركية بمفاجأتها الكبرى، انتقلت إدارة أوباما إلى سياسة التصعيد المحدود المدى مع الروس، وذلك انتظاراً لمجيء الإدارة الجديدة بقيادة ترامب الذي يحيّر الجميع ويربكهم بغموض توجهاته، وسرعة انعطافاته، الأمر الذي يسمح بإطلاق العنان لمخيلات نسج الإشاعات وترويجها. هذا علماً أن إدارة أوباما بوعودها التبشيرية ونتائجها الواقعية الصفرية تظل المسؤولة الأولى عن انهيارات منطقتنا.

وفي أجواء ترقّب المقبل المجهول من جانب ترامب، قام الروس بتنسيق غير مسبوق مع الجانب التركي وسط مناخ يوحي بوجود توجه جدي روسي غير عادي في التعامل مع الملف السوري، وذلك عبر استثمار حصيلة ما بعد حلب، وتجاوزها في الوقت ذاته.

فقد حقّق الروس بإسقاط حلب جملة أهداف من الواضح أنها ستكون ركائز خطتهم الجديدة الخاصة بسورية تحديداً، وبعلاقاتهم الإقليمية والدولية في صورة عامة.

فقد أثبتوا مقدرتهم الميدانية بقوة نيرانهم الاستراتيجية في مواجهة مدينة محطمة، ومدنيين محاصرين، ومقاتلين تقرّر حرمانهم، بفرمان سياسي دولي، كل وسيلة للدفاع عن النفس في مواجهة الطيران.

كما تمكّنوا من انتزاع دور في الملف السوري معترف به، ولو على مضض إقليمياً ودولياً. واستطاعوا في الوقت ذاته إفهام الحليف المنافس، أي النظام الإيراني، أنه لن يكون الآمر الناهي في سورية مستقبلاً، سورية التي تحتل في لعبة التوازنات الدولية موقعاً أهم من أن يترك لقمة سائغة للمشروع الإيراني القائم على أساس التطويع السكاني والتغيير المذهبي، وفرض نهج ديني أوتوقراطي لا تستسيغه غالبية الطائفة العلوية نفسها، ناهيك عن المذاهب والأديان الأخرى، لا سيما السنّة، أي الغالبية الغالبة في بلاد لا يناسبها سوى الاعتدال والتعايش بين الجميع ومن أجل الجميع.

من ناحية أخرى، عزّز الروس وجودهم الدائم في المياه الدافئة، وهذا ما سيمنحهم فرصة أداء دور مستمر لعقود مقبلة في عملية ترتيب أو إعادة صياغة معادلات التوازنات الإقليمية.

ولإدراك الروس حساسية الملف السوري عربياً وإسلامياً، استغلوا اللحظة الحرجة مع استكمال السيطرة على حلب، وعملوا على إعطاء أنفسهم صورة مثالية عن أخلاقية المنتصر. فأجروا سلسلة اتصالات ومفاوضات مع القوى الميدانية، ومن بينها بعض تلك التي كانت روسيا تعتبرها إرهابية، وتقصفها إلى جانب المخابز والمشافي والمدارس.

ونجحوا عبر التنسيق والتفاهم مع تركيا، التي تنطلق هي الأخرى من ظروفها المتداخلة، وأولوياتها المستجدة، من الإعلان عن وقف لإطلاق النار، ومتابعة الاتصالات والمشاورات لتحديد هوية ووظيفة الذين سيشاركون في اجتماعات آستانة، التي يريد الروس لها أن تكون حاسمة قدر الإمكان، مع تيقّنهم من أن المآلات لن تكون وردية لمصلحتهم كما يرغبون، وإنما هناك قوى أخرى مهمة لها دورها المؤثر، وهي لم تقل كلمتها بعد. ويشار هنا عربياً إلى السعودية، ودولياً إلى الولايات المتحدة الأميركية ومعها حلفاؤها الأوروبيون.

النظام الإيراني قلق إلى أبعد الحدود مما يجري. فهو لا يمتلك أدوات الضغط الكافية لعرقلة التوجه الروسي، لكنه في الوقت ذاته يدرك أن استمرار الأمور هكذا ربما كان مقدمة لبلورة ملامح التفاهم الروسي – الأميركي على أرض الواقع، وهو تفاهم من شأنه أن يحدّ من النفوذ الإيراني في سورية. وهذا النفوذ الذي يتمثّل في صيغة من تغلغل لافت في مفاصل الدولة والمجتمع، يثير عواطف السوريين جميعاً وهواجسهم، وفي اتجاهات مختلفة. فهو يثير امتعاض، أو ارتياح، مجموعة لا يستهان بها من الضباط السوريين الموالين للنظام ممن يرتبطون مع الروس بصلات عدة منها القرابة عبر الزواج، أو القدرة على التفاهم بفعل مشاركتهم في دورات تدريب روسية، أو عبر التقاء المصالح التي عادة يكون التوافق في شأنها مع قوة عظمى أسهل وأقل كلفة، وذلك قياساً بالتفاهم مع قوة أخرى توجهها عقلية تتدخل في تفاصيل التفاصيل.

روسيا تعد العدة لمؤتمر آستانة، وستشاركها تركيا وإيران أيضاً. وليس سراً أن حاجات حيوية قد جمعت بين هذه الدول في الوقت الحالي. لكن الأولويات والمنطلقات والمصالح متغايرة. كما أنه ليس سراً أن الجميع في انتظار الرئيس الأميركي المقبل. ولعل هذا ما يفسر الحرص الروسي على نيل مباركة مجلس الأمن، مقابل التأكيد بأن ما جرى وسيجري لن يكون بعيداً من الجهود الدولية لمعالجة الوضع السوري. ولهذا كانت الإشارة المقتضبة إلى بيان جنيف والقرارات الدولية، والزعم بأنها ستكون في الخلفية ففي صيغة ما. هذا مع أن ما يستشف من التسريبات والترتيبات يؤكد وجود نزعة تستهدف تغيير قواعد اللعبة عبر آستانة.

وتبقى المعارضة السورية بكل مسمياتها ووظائفها المعنية أكثر من غيرها بكل يُعمل عليه، لأن المصير في نهاية المطاف هو مصير سورية وشعبها. فهذه المعارضة مطالبة بالعمل الجدي من أجل توحيد الرؤية والموقف، وتحقيق التشابك الفاعل بين الجهود السياسية والعسكرية والإعلامية والديبلوماسية، حتى تتمكّن من امتلاك الحد الأدنى من مقوّمات الاستعداد لتحديات المرحلة الصعبة المقبلة.

* كاتب وسياسي سوري

الحياة

 

 

 

 

ما الذي ستتمخض عنه المفاوضات السورية في أستانة؟

رأي القدس

لا نعرف كيف توافق الطرفان الروسي والتركي على اختيار مدينة أستانة، عاصمة كازاخستان، مكانا للمفاوضات السورية، لكن من المؤكد أن للطرفين أسبابهما الوافرة لهذا الاختيار، فروسيا تعتبر كازاخستان، التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي قبل انهياره، حليفة موثوقة، وفوق ذلك فإن القومية الروسية نسبة تقارب 25٪ من مواطنيها (70٪ بالمئة من السكان مسلمون وأغلب الـ30٪ الباقون مسيحيون مع أعداد قليلة من اليهود والبوذيين)، بينما يجد الأتراك في كازاخستان (كازاخ كلمة تركية تعني الحرّ وبالتالي فالبلد هو «وطن الأحرار») عشرات العلاقات التي تربطهم بتلك المنطقة التي تعتبر منشأ البدو الأتراك الذين انساحوا وصولاً إلى تركيا نفسها وشكّلوا عالماً لغويّاً وثقافيا كبيراً يتوزع على العديد من البلدان، أما اسم أستانة فهو الاسم الجديد لعاصمة البلاد ولكنه أيضا أحد الأسماء القديمة التداول (والتي كان يستخدمها مواطنو الدولة العثمانية العرب) لمدينة إسطنبول.

بهذا المعنى فإن اختيار بلد هو حصيلة اجتماع تاريخ الامبراطوريتين الكبيرتين لروسيا وتركيا محمّل بالدلالات التي ترضي الطرفين، وهو قد يكون رافعة تفسير للمعنى الحقيقي للمفاوضات الجارية في سوريا.

تفيد هذه الخلفية في قراءة ما وراء التفاصيل التي يمكن أن ينشغل بها المفاوضون السوريون، سواء كانوا من النظام أو من المعارضة، ويمكن أن تجعلهم أكثر قدرة على استيعاب ما يحصل في تلك المفاوضات والحدود التي يأملونها منها أو التي يرغبون في ربحها على الطاولة أو في ميادين القتال.

لا بأس مع ذلك، من تفحّص هذه الفرضية مع مجريات ما يحصل حاليّاً على الأرض السورية وفي كواليس السياسة بين موسكو وأنقرة (ومن خلفهما طهران والسعودية ودمشق وعمّان والقاهرة… وواشنطن وتل أبيب!)، فالواضح أن موسكو تحاول تعزيز قبضتها على قوات حليفها بشار الأسد وموضعة نفوذ القوّات التي تقودها إيران ضمن التسوية الجارية، فيما تقوم تركيا بضبط حدودها مع سوريا وإبعاد شبح الدولة الكردية التي كان هيكلها العظميّ يتشكل بسرعة خلال فترة إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما والإشراف على هندسة جديدة للنظام في سوريا تتضمن مصالح المكوّنات الاجتماعية والعسكرية والسياسية المعارضة.

التجاذبات الحاصلة حاليّاً تقول إن الأتراك يتجهون أكثر فأكثر نحو الصيغة الروسية لعسكرة المفاوضات، بمعنى وضع الفصائل المسلحة وجهاً لوجه مع النظام، واذا كان هذا قد يضمن تنفيذاً أوسع للاتفاقات على الأرض فإنه يفقد المعارضة السورية خبرات الهيئة العليا للمفاوضات، كما يفقد الائتلاف السوري المعارض (وهو تشكيل يمثل تجمع الأحزاب والحركات السياسية السورية التي ناضلت لعقود ضد النظام) وزنه الدبلوماسي ومصداقيته التي تعترف بها الكثير من الدول، كما أنّه سيشكل اختلالاً للعلاقة مع الدول العربية الداعمة لهذه الهيئة، وخصوصاً السعودية وباقي دول الخليج العربي.

الردّ على هذا قد يكون القول إن غياب تمثيلية الدول العربية الداعمة للمعارضة السورية يقابله غياب تمثيلية إيران، وهو يعني قبولاً اضطرارياً بتفويض الدول العربية لتركيا في تلك المفاوضات، يوازيه قبول إيران بتفويض روسيا.

أغلب الأطراف السياسية السورية المعارضة لا تتوقع أن يتمكن اجتماع أستانة المقبل من تحقيق خرق كبير في مجال المفاوضات بين النظام والمعارضة، وترى أن مباحثات أستانة قد تتمخض عن اتفاق مبادئ يمهّد لاجتماعات جديدة على الحلبة الدولية في جنيف.

يبقى القول إن المفاوضات بين روسيا وتركيا ستسعى لتمثل مصالح شبكة حلفائهما على الأرض السورية، ولكنّها، بكل المعاني، ستكون مفتاح مفاوضاتهما أيضاً على التاريخ والجغرافيا والسياسة في أوراسيا وليس في سوريا فحسب.

القدس العربي

 

 

هل من حظوظ لتسوية في سورية؟/ خالد غزال

كما كان متوقعاً، لم يصمد وقف النار في سورية، وجرى اختراقه في شكل رئيسي من قوى النظام والميليشيات التابعة لإيران. قد لا يعني ذلك انهياراً كاملاً، لأن القوى التي أقرته، اي روسيا وتركيا، ستسعى الى إعادة تفعيله، تمهيداً للمفاوضات التي ستجرى في عاصمة كازاخستان هذا الشهر وفي جنيف في الشهر المقبل. السؤال الفعلي المطروح الآن، هل يمكن هذا الاتفاق ان يحقق الهدف من إعلانه اي إنجاز تسوية تنهي الحرب السورية؟ وما الألغام المزروعة في وجه هذه التسوية؟

ليس من شك أن روسيا وتركيا ترغبان في إنجاز تسوية، فروسيا تعتبر أنها حققت الكثير من المهمات التي وضعتها لنفسها في سورية. صحيح أنها لم تستطع إنهاء الحرب على كل الأراضي السورية، لكنها أنقذت، بتدخلها العسكري الضخم، النظام الأسدي من السقوط، كما حققت نصراً مادياً ورمزياً من خلال استعادة مدينة حلب من المعارضة. كل التصريحات والممارسات العملية توحي بأن روسيا لا تريد التورط أكثر في الحرب السورية، ولا تريد ان تتحول سورية الى أفغانستان أخرى لجنودها. على رغم أن الإجراءات بتخفيف الوجود العسكري الجاري الآن لا يمكن التعويل عليها في وصفها خروجاً روسياً من سورية، إلا أنها تبقى إشارة مهمة تعلنها روسيا عن حدود مساهمتها في الحرب السورية. السؤال المطروح على روسيا، هو عن مدى إمكانها فرض تسوية في سورية مستندة الى «الانتصارات» التي حققتها، في وقت لا تزال معظم الأراضي السورية خارج نفوذ النظام والقوى الداعمة له. الشك كبير في هذا المجال.

القوة الثانية في الاتفاق هي تركيا. لا شك في أن الأتراك يرغبون في تسوية تمنع عنهم امتداد النار السورية الى أراضيهم، ومنع الأكراد من إقامة حكم ذاتي بدأ يلهب القومية الكردية داخل تركيا ويدغدغ أحلام «الدولة الكردية». لكن هل يسمح موقع تركيا وحدود تدخلها العسكري بفرض تسوية، وهي العنصر الأضعف في هذه الحرب الدائرة؟ بالتأكيد الجواب سلبي، وما تتنطح له تركيا لا يتوافق مع موقعها وميزان القوى على الأرض. في كل حال، كان تعليق بشار الأسد على الدور التركي هو الاستهزاء عبر قوله: «ان تركيا دولة هشة».

يبقى أصل الموضوع في التسوية، أي النظامين السوري والإيراني. والألغام التي بدأت تنفجر في وجه التسوية مصدرها النظامان اللذان لا يرغبان بالمطلق في تسوية، ويصران على هزيمة كاملة لقوى المعارضة واستعادة كامل الأراضي السورية عبر الحسم العسكري. فالنظام السوري يعتبر أن ما أنجز من «نصر» حتى الآن غير كافٍ، وهو يريد من روسيا إكمال حربها لاستعادة كامل الأراضي. وهو يعيش فعلياً أحلام الحسم العسكري الكامل، وقد عبّر عن ذلك الى وفد فرنسي بالقول: «اننا على طريق النصر». وفي الحديث عن تسوية، فإن المعني الأول فيها هو النظام الذي عليه تقديم تنازلات، والتي لا تقوم تسوية من دون تقديمها من جميع الأطراف. هذا النظام الذي رفض تقديم تنازلات وإجراء تسوية منذ ست سنوات، لا يبدو أنه راغب او قادر على تقديم هذه التنازلات، لذا لم يكن مستغرباً أن يستمر في أعماله العسكرية على رغم قرار وقف إطلاق النار.

اما إيران، فمن الواضح أنها غير راضية عن حديث التسوية الجاري، فهي ترى أن أهدافها من الحرب السورية لم تتحقق حتى الآن، وان مشروعها الاستراتيجي في إقامة هلال شيعي يمتد من إيران الى العراق الى سورية ولبنان لا يزال يحتاج الى مزيد من الحرب لرسم كامل معالمه على الأرض. لذا استمرت ميليشياتها في القتال، وفي تجاهل الحديث عن التسوية.

في المقابل، كيف يمكن إنجاز تسوية، بيما يجري استبعاد سائر القوى الاقليمية المتدخلة في الحرب بدرجة أو بأخرى؟ هذا الاستبعاد لا يساعد في نجاح مفاوضات التسوية او إنجازها، خصوصاً أن معظم التنظيمات المسلحة لها ارتباطات بقوى عربية وإقليمية، وأن مشاركتها او موافقتها على التسوية من العوامل المؤثرة. يبقى أخيراً موقف التنظيمات المسلحة الكثيرة العدد والمرجعيات، كيف يمكن إدخالها في تسوية، وما المكتسبات التي ستحصل عليها. لكن السؤال الأصعب هو أيضاً عن مدى قدرة هذه التنظيمات على الدخول في المفاوضات في ظل الانقسامات الحادة في صفوفها.

اذا كان من حديث عن تسوية فعلية، فكل الشبهات تدور حول ما اذا كانت روسيا وتركيا ومعهما الولايات المتحدة قد وصلت الى قناعات بأن ما تحقق على صعيد تعيين حدود «سورية المفيدة» هو أقصى الإنجازات المعطاة للنظام، ما يعني ان التسوية ستكون على حفظ هذه الأرض وترتيب موقع السلطة فيها، فيما تبقى سائر المناطق موضع تنازع بين القوى المهيمنة عليها من أطراف المعارضة، او مع النظام الذي لن يكتفي بحدود سورية المفيدة. إنها مرحلة جديدة في الحرب الأهلية السورية التي لا يمكن لأحد التنبوء بنهايتها.

* كاتب لبناني

الحياة

 

 

 

 

من «سايكس – بيكو» إلى «لافروف – ظريف – أوغلو”/ وحيد عبدالمجيد

استند اتفاق «الهدنة»، الذي رعته روسيا وتركيا في 29 الشهر الماضي، إلى إعلان موسكو الثلاثي الصادر عن هاتين الدولتين ومعهما إيران قبل ذاك بأيام ثلاثة. لم يكن ذلك الاتفاق، إذاً، ثنائياً محضاً على رغم أن إيران لم تشارك في المفاوضات المكثفة التي سبقته بين روسيا وفصائل سورية مسلحة. لكنها كانت على علم بما دار فيها، فضلاً عن أنها طرف رئيسي في إعلان موسكو الثلاثي، الذي يعبر عن أن أطرافه الثلاثة هي الأكثر تأثيراً ولو بدرجات متفاوتة على الأوضاع في سورية اليوم.

وقد نتج هذا الواقع lن غياب، أو تغييب، قوى دولية وإقليمية أخرى كان لبعضها حضور ملموس في مسار الأزمة السورية سابقاً. لذلك تتجه الدول الثلاث إلى خلق تفاهمات تتيح لكل منها فرصة لتحقيق أهدافها في سورية، والمنطقة عموماً. وهذا هو جوهر المصلحة المشتركة التي باتت تجمعها، على رغم أن الخلافات بينها كثيرة، وبعضها عميق.

وستكون الأسابيع المقبلة اختباراً لمدى قدرة الدول الثلاث على تغليب هذه المصلحة بما قد يتيح لها التحكم فعلياً في مسار الأزمة، إذا تفاهمت على توزيع النفوذ بينها، وتوصلت إلى تفاهمات مع قوى دولية وإقليمية أخرى تحصل بموجبها على مقادير أقل من النفوذ في بعض المناطق شمال سورية وجنوبها.

وإذا مضت الأمور في هذا الاتجاه، وواصلت روسيا نهجها الذي اختلف تكتيكياً منذ الحسم العسكري في حلب، وحذت إيران حذوها في السعي لضمان مصالحها عبر وسائل سياسية أكثر منها عسكرية، وظلت الدول العربية غائبة أو مغيبة بفعل تشتت مواقفها، قد تشهد الأزمة للمرة الأولى منذ ست سنوات بداية تحول استراتيجي لا تقتصر آثاره عليها.

وعندئذ قد يؤدي إعلان موسكو الثلاثي بين سيرغي لافروف ومحمد جواد ظريف ومولود أوغلو وظيفة تاريخية من النوع الذي أداه اتفاق وزيري الخارجية البريطاني مارك سايكس والفرنسي جورج بيكو قبل قرن كامل في ظروف مختلفة كلياً، وفي زمن آخر تماماً.

وقد يسجل التاريخ لاحقاً أنه في العام الذي انشغل كثير من العرب باستعادة بكائيات اتفاق «سايكس-بيكو» في ذكراه المئوية، وجعلوه منصة يشكون عليها زمانهم، كانت الأحداث الجارية في سورية، وبدرجة ما في العراق وليبيا، تتجه صوب تفاهمات تُعيد تقسيم بعض بلادهم، ولكن إلى مناطق نفوذ، وليس بالضرورة إلى دول مستقلة في المدى المنظور. وربما تكون هذه التفاهمات بداية مرحلة جديدة تتبلور معالمها تدريجاً بغض النظر عن صمود اتفاق وقف النار والتقدم صوب مفاوضات من عدمه، لأنها ترتبط أساساً بقدرة موسكو وأنقرة وطهران على مواصلة التشاور والسعي إلى توسيع نطاق المصلحة المشتركة التي تجمعها، والبحث عن سبل لاحتواء خلافاتها ومنع تفاقمها.

وقد تستغرق هذه العملية التاريخية سنوات كما حدث قبل قرن، إذ كان «سايكس-بيكو» مجرد فاتحة لاتفاقات توالت في سان ريمو وسيفر ولوزان حتى 1924، ولم تمنع الخلافات البريطانية-الفرنسية التي كانت واسعة وعميقة أيضاً من دون إكمالها.

ولا يعني ذلك أن التاريخ يكرر نفسه، لأن تداعيات التفاهمات الروسية-التركية-الإيرانية على مستقبل العرب ستختلف عن تلك التي ترتبت على ما حل بهم بموجب ترتيبات وضعت بريطانيا وفرنسا أساسها قبل قرن.

فقد بدأت شعوب عربية تتحرك مثقلة بتخلف في ثقافاتها المجتمعية، وانخفاض في مستويات وعيها. ولكن انتقالها من السكون إلى الحركة سيغير المعادلات السياسية في المنطقة تدريجاً، على رغم أن بداية هذا الانتقال تُنتج آثاراً سلبية وبعضها مأسوي.

لذلك فالأرجح أن لا يبقى العرب خارج التاريخ لمدة قرن كامل آخر، كما حدث خلال القرن الذي مضى منذ بداية التفاهمات البريطانية-الفرنسية في 1916. فقد بقي العرب طول هذا القرن، الذي تغير العالم فيه جذرياً، غارقين في تخلفهم التاريخي، ومستهلكين للتكنولوجيا التي ابتكرها غيرهم، ومستثنين من التحولات الديموقراطية التي حدثت خلاله. وعندما حاولت شعوب عربية أن تشق طريقاً جديداً يفتح لها ثغرة إلى المستقبل في مطلع العقد الجاري، تكالبت عليها القوى المضادة للتقدم، والمسلحة بتراكمات التخلف التاريخي، وصراعاته، وثقافته البدائية. وهي نفسها القوى التي تتحمل مسؤولية استمرار مصير العرب في أيدي غيرهم حتى اليوم، مثلما كان الحال قبل قرن عندما فرضت هزيمة الدولة العثمانية تحديد قوى دولية مستقبل بعض بلدانهم عبر مفاوضات ومؤتمرات بدأت باتفاق سايكس-بيكو.

ولذلك يظل استذكار هذا الاتفاق جائزاً على رغم اختلافه عن الإعلان الروسي-التركي-الإيراني. فالعرب غائبون، أو مُغَّيبون، عما يجري فيما تظهر الملامح الأولية لتقسيم الجزء الأكبر من سورية إلى مناطق نفوذ لقوى دولية وإقليمية. وعلى رغم أن الأوضاع ما زالت سائلة، تسهل ملاحظة منطقة نفوذ لروسيا في الساحل حيث توجد قاعدتان جوية وبحرية، وأخرى لتركيا في الشمال من جرابلس إلى ريف حلب وصولاً إلى مدينة الباب، لإقامة سد منيع أمام الحلم الكردي. أما مناطق النفوذ الإيراني الأكثر سيولة فهي الأوسع، لكن أهمها تلك التي تدخل ضمن مشروع الربط بين طهران وبيروت. وهناك منطقة رابعة في الشمال تسيطر عليها «قوات سورية الديموقراطية» ويواصل فيها الأكراد حلمهم الذي يظل رهناً بمعادلات النفوذ الجديدة. ويمكن أن تمارس الولايات المتحدة نفوذها انطلاقاً من هذه المنطقة، إلى جانب أخرى جنوباً توجد فيها فصائل «غرفة العمليات العسكرية».

لكن خريطة مناطق النفوذ ستظل سائلة ومرتبطة بتفاعلات سياسية ومسلحة ستستمر لفترة غير قصيرة، وستتأثر بنتائج معارك ضارية ستتواصل حتى في حال التوجه نحو مفاوضات هنا أو هناك، وستكون أشد ضراوة اذا تعذر التفاوض أو فشل مجدداً قبل أن يبدأ.

وهكذا يمكن إعلان لافروف – جواد – أوغلو أن يؤسس لتفاهمات قد تكون هشة، لكنها قابلة للتوسع مع التطور المتوقع في علاقات موسكو وواشنطن عقب تولي دونالد ترامب الرئاسة رسمياً يوم الجمعة المقبل. وستقود التفاهمات الموسعة المتوقعة إلى اتفاقات جديدة انطلاقاً من ذلك الإعلان، وتطويراً له في اتجاهات مختلفة، إلى أن تتضح ملامح خريطة سورية المقبلة، بالتوازي مع تبلور معالم التغير المحتمل في الخريطة العراقية، في ضوء صراعات داخلية وإقليمية عنيفة ستعقب تحرير الموصل من «داعش».

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى