صفحات مميزة

عن محنة حلب –مقالات مختارة-

 

خطة روسيا وحلفائها في «سورية المفيدة»: تحصين دمشق واستسلام حلب… و”مصالحات”/  إبراهيم حميدي

ضاقت الفجوة بين موسكو من جهة وطهران ودمشق من جهة اخرى وباتت القوات العسكرية التابعة للأطراف الثلاثة ماضية في سباق مع الزمن لتطبيق استراتيجة من أربع نقاط تضمن «تحصين» دمشق واستسلام حلب وتحقيق تقدم عسكري في مناطق اخرى وفرض تسويات مع «تطويع» الأمم المتحدة واحتمال إجراء تغييرات سياسية قبل وصول الرئيس الأميركي الجديد الى البيت الأبيض بداية العام المقبل.

ووفق ديبلوماسيين وسفراء زاروا دمشق في الأيام الماضية، فإن مزاج المسؤولين السوريين بات «عالياً جداً والمعنويات مرتفعة على عكس اشهر سابقة، وباتوا أبعد ما يمكن عن مزاج قبول تسويات مع المعارضة السياسية او مع الأمم المتحدة».

بالنسبة الى العلاقة مع الأمم المتحدة، نجحت دمشق في «فرض» ممثل جديد للأمم المتحدة هو علي الزعتري مساعد المبعوث الدولي الى ليبيا ومنحته تأشيرة دخول (فيزا) خلال ايام قليلة وسيصل الى دمشق في الثالث من تشرين الأول (اكتوبر) خلفاً ليعقوب الحلو. كما اعتمد ستيفان دي ميستورا المبعوث الدولي ستيفاني الخوري ممثلة له في دمشق بدلاً من خولة مطر التي انتقلت الى «لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا» (اسكوا) في بيروت مع احتمال اشرافها على مشروع «الأجندة السورية».

كما قبل «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» تمويل مشروع اعادة اعمار في حمص القديمة، وحضر المستشار العسكري للأمم المتحدة أمير ندى جلسات تفاوض لفرض تسويات في مناطق عدة بينها اخراج نازحي داريا من معضمية الشام الى ريفي دمشق وإدلب. وبعد الغارة على قافلة مساعدات في ريف حلب، لاتزال الحكومة السورية ترفض منح اذونات لخطة الأمم المتحدة ادخال مساعدات انسانية الى مناطق محاصرة او صعب الوصول اليها، الأمر الذي نوقش في اجتماعات مجموعة العمل الإنسانية المنبثقة من «المجموعة الدولية لدعم سورية». كما رفضت أي دور جوهري للأمم المتحدة في اتفاقات المصالحة خصوصاً بعد انتقاد دي ميستورا خطة اخراج مقاتلي داريا ومدنييها.

وأشار ديبلوماسيون الى ان الحضور الروسي بات اعمق في ترتيب اتفاقات المصالحة وحضر ضباط من القاعدة العسكرية الروسية في حميميم في اللاذقية مفاوضات التسوية في اكثر من مكان. اوضح خطوة، كانت رعاية القاعدة الروسية الاتفاق بين الإدارات الذاتية الكردية والقوات النظامية السورية في الحسكة قبل اسابيع، وسط تردد أنباء عن ترتيب الجيش الروسي محادثات بين الأكراد ومسؤولين أمنيين في دمشق. وأبلغ ديبلوماسي روسي «مجموعة العمل الإنسانية» ان طائرات روسية حلقت فوق مقاتلي المعارضة لدى اخراجهم من داريا لـ «التأكد من عدم حصول اي هجوم عليهم». واعتبر ما حصل في داريا «نموذجاً يحتذى»، في وقت انتقد معارضون اخراج آلاف المدنيين من مدينتهم من دون أي حديث رسمي سوري او روسي عن عودتهم او اعادتهم وسط مخاوف من «تغيير ديموغرافي».

وبعد مرور حوالى سنة على التدخل المباشر، باتت الحضور العسكري الروسي واضحاً في غرف عمليات الجيش السوري ومفاصله. وكان لافتاً ان وسائل الإعلام الرسمية الروسية نشرت احصائية عن مشاركة اكثر من اربعة آلاف جندي روسي في مراكز عسكرية في اللاذقية وطرطوس وحماة وحلب ودمشق وتدمر للتصويت في الانتخابات البرلمانية الروسية.

وتحدث سفير اوروبي عن وجود ضباط روس في هيئة الأركان السورية في دمشق وأن الهدف الروسي ضمن خطة لتكرار التجربة السابقة عندما كان هناك حوالى ٢٥ ألف عسكري روسي في سورية من السبعينات الى منتصف الثمانينات، لافتاً الى ان الجيش الروسي بات يملك اليدى الطولى و«ضيق هامش المناورة للجانب السوري، لكن في الوقت نفسه باتت الفجوة اضيق بين موسكو وطهران ودمشق». وقال: «هناك استسلام سوري لدور روسيا باستثناء ألعاب صغيرة قد تتعلق بمصالح شخصية». ووفق الديبلوماسييين، فإن «استراتيجية النصر» تقوم على اربعة عناصر:

الأول، «تحصين» دمشق عبر وضع جيوب المعارضة المسلحة بين خيارين: الخروج بشروطنا او الاستعداد لقصف وحصار لايحتملان». وتبلغ قياديون معارضون هذه المعادلة في داريا ومعضمية الشام ويلدا جنوب دمشق وجنوبها الشرقي، اضافة الى بدء شيء مماثل في قدسيا شمال غربي العاصمة. وعلم ان رجل اعمال مقرب من الرئيس بشار الأسد جال في الغوطة الشرقية لدمشق عارضاً عقد تسوية مع الحكومة بما يشمل «استسلام» دوما معقل «جيش الإسلام» وفك الحصار الذي تفرضه القوات النظامية السورية.

الثاني، تحقيق انتصارات عسكرية وتكرار «نموذج غروزني» الذي تعتبره وزارة الدفاع الروسية «ناجحاً». ويشمل هذا مد السيطرة على مناطق اخرى في «سورية المفيدة» خصوصاً حلب، العاصمة الاقتصادية لسورية. وبينما كانت طهران ودمشق تريدان فرض الحصار على الأحياء الشرقية لحلب، كانت موسكو قبل اشهر مع فكرة وقف النار في حلب. لكن في الأيام الأخيرة تطابقت الآراء بين الأطراف الثلاثة، بحيث انخرطت روسيا برياً وجوياً عبر المشاركة في حملة القصف وإرسال جنود محسوبين على موسكو ليساهموا في عملية مكثفة بمشاركة القوات النظامية وميلشيات ايرانية لإطباق الحصار على شرق حلب ثم السيطرة عليه.

كما يشمل هذا تعزيز موقف القوات النظامية في مناطق سيطرتها في مناطق اخرى مثل حمص وإخراج جميع مقاتلي المعارضة منها وتطبيق اتفاق التسوية في حي الوعر، بحيث ينتهي اي وجود للمعارضة في «عاصمة الثورة» بالتوازي مع بدء مشروع للإعمار وفق اولويات دمشق وحلفائها.

ثالثاً، تتضمن هذه الخطة ترك ريف حلب الشمالي لتركيا ضمن تفاهم روسي – تركي وضمن نتائج اللقاء الأمني الذي جرى في بغداد بين مسؤولين امنيين سوريين وأتراك الشهر الماضي، بحيث يجري طرد «داعش» من شمال حلب الى حدود تركيا مع ضبط حدود تمدد فصائل سورية معارضة باتجاه مدينتي الباب ومنبج، مع الاستمرار في مراقبة حدود التدخل التركي وما اذا كان سيشمل التمدد الى الرقة شرقاً لطرد «داعش» من دون دور عميق للأكراد.

كما تتضمن الخطة ترك ريف حلب الغربي باتجاه محافظة ادلب وريفي حماة وحمص. ترك «جيش الفتح» الذي يضم فصائل اسلامية بقيادة «فتح الشام» و«احرار الشام»، اضافة الى فصائل اسلامية اخرى مثل «جند الأقصى»، تسيطر على محافظة ادلب. وفق قول ديبلوماسي روسي الى سفير اوروبي، فإن «التعاطي مع هؤلاء مؤجل الى مرحلة لاحقة» ما يعني ان اولوية موسكو وحلفائها هي القضاء على المعارضة المعتدلة. آخر اشارة الى هذا، كانت قصف وحدة تابعة لـ «جيش ادلب الحر» في ريف حماة، بعد ساعات من توحد ثلاثة فصائل معتدلة هي «الفرقة ١٣» و «تجمع صقور جبل الزاوية» و «الفرقة الشمالية»، علماً ان هذه الفصائل في صدام مع «جبهة النصرة» في ادلب، مع استمرار معركة السيطرة على جسر الشغور وعزل إدلب.

هناك جهد حثيث لدفع فصائل معتدلة الى حضن «فتح الشام» كما حصل بإعلان «حركة نور الدين زنكي» التنسيق العسكري مع «جيش الفتح»، بحيث تكون المعادلة ان الأطراف الثلاثة، موسكو وطهران ودمشق، تخوض «معركة ضد الإرهاب».

رابعاً، تقترح موسكو على دمشق وطهران ضرورة «شرعنة» هذه الخطة بإصلاحات سياسية، وتتضمن مقترحات عدة بين تشكيل «حكومة وحدة وطنية» من معارضين مقبولين من خارج البلاد وداخلها او اسلاميين او تعيين ثلاثة نواب للرئيس الأسد. هنا، تختلف الآراء بين الحلفاء الثلاثة، ذلك ان دمشق تقاوم اي اصلاح سياسي ذي معنى وتعتصم بـ «السيطرة المطلقة»، وهي تريد تأجيل الحديث عن العملية السياسية الى مابعد «الانتصار العسكري» وتبدي طهران استعداداً لقبول قوى اسلامية سياسية في عملية سياسية او في «محاصصة سياسية طائفية»، في حين ترفض موسكو مشاركين الإسلاميين و «المحاصصة الطائفية» وتقترح اصلاحات سياسية «من فوق» تتضمن خياري تعيين نواباً للرئيس او تشكيل مجلس عسكري مشترك.

رهان موسكو وحلفائها، وفق ديبلوماسيين، ان الخطة رباعية الأبعاد، ستحد من خيارات الرئيس الأميركي الجديد وقدرته على الرهان على المعارضة المعتدلة او اجراء تغييرات عسكرية في ميزان القوى، ما يجعل واشنطن في بداية العام المقبل اكثر استعداداً لتسوية بشروط روسيا وحلفائها… وقبول دول غربية للتعاطي مع النظام السوري كأمر واقع بانتظار الخطوة التالية وهي «استعادة الشرعية».

الحياة

 

 

خسرنا، لم نخسر…/ عمر قدور

تدمير حلب بالقصف الروسي لن يكون سوى المرحلة الأولى من تكرار مسلسل غروزني، بعدما فشل فيه بشار وأتى مجرم غروزني الأصيل. من المرجح أن تكون إدلب المحطة التالية، وصولاً إلى ما تبقى من غوطة دمشق خارج سيطرة الاحتلال الثلاثي؛ الإيراني والروسي والأسدي. المهلة الزمنية لهذا المخطط معروفة، إذ تمتد قرابة أربعة أشهر حتى يدخل الساكن الجديد إلى البيت الأبيض، وسيتم استغلالها بكل وحشية وباستخدام كافة الأسلحة المحرمة دولياً.

هذا السيناريو لم يكن مفاجئاً على أية حال، ولا ينفع لاصطناع المفاجأة ذلك الإنشاء السخيف على لسان المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن، ولا التصرف بصبيانية والانسحاب أثناء كلمة مندوب النظام، النظام الذي لم يُحرم أصلاً من شرعية التواجد في هيئة يُفترض بها أن تصون السلم الدولي. على الضد من الضجيج المبتذل والمفتعل، ها هو المخطط يسير كما يشاء منفّذوه، وكما يشاء أيضاً أولئك الذين حرموا السوريين من وسائل الدفاع عن أنفسهم. لذا ينبغي لمن خدعوا أنفسهم مراراً بوهم حدوث تغير دراماتيكي عاجل الإقلاع عن أوهامهم، وينبغي لمن خدعوا أنفسهم بوهم وجود حل سياسي الإقلاع عن السطحية والإنصات إلى مثلث الاحتلال وهو يتنصل في مجلس الأمن من الحل.

خسرنا، نعم خسرنا ولم يربح خصوم لنا، وينبغي ألا يربحوا حتى إذا استعادوا السيطرة على كل شبر من البلاد. الاحتلال يجب أن يبقى احتلالاً، وألا يحظى للحظة بشرعية المنتصر. لذا، يستوي هنا عدم الاعتراف بالخسارة والاستسلام، فعدم الاعتراف يعني عدم التراجع عن كل الأخطاء التي أدت إلى الخسارة، والاستسلام يعني أيضاً اليأس من القدرة على اتباع أساليب جديدة ملائمة للواقع الجديد.

في حربنا هذه لم يكن ليوجد منذ البداية منتصر وخاسر، إذا أخذنا البعد الداخلي لها، فالخاسرون من الطرفين سوريون، وما دُمّر كان يُفترض أنه بلد الجميع. حتى لو افترضنا سقوط النظام فلن يكون إلا ثمناً بخساً مقابل هول التضحيات، أما بقاؤه تحت وهم الانتصار فلا يعدو كونه تعامياً عن الواقع، تقاسمه البلد مع محتلين آخرين يعني أنه لن يحكم ثانية، وهذا هو الرهان الذي ينبغي أن يزداد صعوبة، في حال نجح مخطط غروزني.

لقد اتضح منذ زمن طويل وجود قرار أمريكي بعدم تكرار السيناريو الليبي، ثمة كذب يتعلق بالتهرب من السيناريو العراقي الذي لم يُطالَب به، ومع التطورات الأخيرة يتضح أن السيناريو اليمني رغم تهافته لن يُعتمد في سوريا. ترجمة ذلك على أرض الواقع تعني إفشال تجربة المناطق المحررة والقدرة على طي صفحتها بقرار دولي، بعد تركها مطولاً تحت رحمة طيران الأسد ومن ثم الشريك الروسي. أمام هذا الواقع، من الضروري التفكير في احتمالات أخرى للمقاومة، وتحديداً في احتمالات تكون أقل ارتهاناً للقوى الخارجية وأجنداتها.

فشلت تجربة المناطق المحررة على ثلاثة مستويات، فكافة الفصائل المسلحة عجزت عن توفير الحماية للمدنيين بسبب افتقارها إلى مضادات الطيران، وعجزت أيضاً عن جعلها منصة للتقدم بسبب وجود فيتو دولي على تقدمها في أفضل أوقات سيطرتها، وبين العاملين السابقين فشلت فشلاً ذريعاً في تقديم نموذج بديل عن الإدارة. بالطبع ثمة كلام كثير أيضاً عن سلوك أمراء الحرب في بعض المناطق، وأيضاً عن مشاريع القسر الإسلامية في مناطق أخرى. من هذا الفشل تحديداً يلزم استنباط الاحتمالات الأفضل، إذ ينبغي أولاً الإعلاء من قيمة حيوات المدنيين، بعدما ثبت عدم اكتراث العالم بهم، وبعدما ثبت أيضاً أن تضحياتهم لم تؤدِّ إلى أدنى تغيير في النهج الدولي، وينبغي تالياً البحث عن السبل التي توقع أذى أكبر في النظام مع تجنيب المدنيين تبعاتها، ومع تحييد الخارج عن التحكم بها. هذه الاحتمالات ستضمن أيضاً عدم رضوخ المدنيين لأجندات أي جهة أو أية إمارة حرب، والعودة إلى المعركة بوصفها فقط معركة إسقاط النظام ليقرر السوريون البديل المناسب لهم.

الرهان عسير لكنه ليس مستحيلاً، صعوبته أقل من الصعوبات التي سيواجهها النظام لاستعادة حكمه. وإذا كان النظام استطاع تأجيل الاستحقاقات المترتبة، تحت شعار معركته الحالية، فهو سيكون في مواجهتها في حال استعاد السيطرة. عدم الدخول معه في تسوية مجحفة لا يُعدّ أمراً أخلاقياً فحسب، بل هو في صميم السياسة من حيث عدم مشاركة النظام في تحمل آثار جرائمه على مستوى البلد ككل. ضمن التسوية المعروضة الآن، تقتضي الحصافة ترك النظام ليغرق في استحقاقات انتصاره المزعوم، وإثبات عجزه على كافة المستويات، بما فيها المستوى الأمني الذي قد يبقى هدفاً مشروعاً لعمليات نوعية. فضلاً عن ذلك، سيكون النظام في هذا الحالة مكشوفاً أكثر من قبل، فالقسمة الحالية بين مناطق السيطرة وفرت أماناً لشبيحة النظام ومخابراته في أماكن سيطرتهم، بخلاف الوضع الذي تُمحى فيه حدود السيطرة ويصبح النظام معرضاً للاستهداف في كافة المناطق.

ما يسوّقه مثلث الاحتلال مصحوباً بالعنجهية هو نوع من الحرب النفسية التي لا تتوخى الانتصار، بقدر ما تتوخى الاستسلام المطلق والإذعان التام، هذا ما لا ينبغي تحقيقه. الباقي يحتاج شيئاً من الصبر والتصميم على جعل قوى الاحتلال جميعاً تغرق في ما حولته إلى ركام، وأيضاً التفرج على وحوش الشبيحة وهي تأكل معسكر الموالاة بعد الانتهاء من نهب المناطق الثائرة، لا من منطق الشماتة وإنما ليعرف الموالون أي نصر وُعِدوا به. من هذه الشقوق جميعاً، وعبر عمل منظم، يمكن قلب المعادلة على أولئك المنتشين اليوم بالمحرقة السورية. مرة أخرى، قد لا نجد سنداً دولياً، وينبغي عدم المراهنة عليه، لكن أيضاً يصح الرهان على أن القوى الدولية لن تتفرغ إلى ما لانهاية لحراسة نظام ساقط.

المدن

 

 

 

 

هل تسقط حلب؟/ حسين عبد العزيز

كيف يمكن تفسير العجز الأميركي حيال ما يجري في مدينة حلب؟ وكيف يمكن تفسير لجوء الدولة الأقوى في العالم إلى مجلس الأمن، لممارسة ضغوط لا تنفع على روسيا، لوقف العمليات العسكرية في حلب؟ هل هو ضعف أميركي؟ أم تواطؤ مع الروس، لإبعاد حلب من معادلة الصراع؟

ليس ما جرى، أخيراً، مجرد عمليات قصف عشوائية على المدينة فحسب، بل هو عمل عسكري منظم ومدروس، هدفه إحكام السيطرة على منافذ المدينة، وإعادة تكرار تجربة حمص في حلب، وبالتالي، إنهاء الوجود المسلح للمعارضة في المدينة.

تشكل حلب أهمية كبرى للنظام، ليس فقط من الناحية المعنوية، بسبب كونها المدينة الثانية بعد دمشق من حيث الحجم، ولا لأنها المدينة التي شكلت الساحة الأكثر عنفاً في الصراع فقط، وأرّقت النظام ثلاث سنوات، بل لأن السيطرة على المدينة، وهذا هو الأهم، تشكل مقدمة للسيطرة على الريف الحلبي الكبير.

ولحلب واقع مختلف عن كل ساحات المعارك في سورية، فهي تختزل الصراع المحلي والإقليمي والدولي، وفيها تتحارب كل أطراف الأزمة، وفيها تنتهي المعارك الكبرى في سورية.

من الناحية العسكرية، تشكل جبهة أمامية وخلفية، في الوقت نفسه، لمن يسيطر عليها، حيث تصبح المدينة منطلقاً سهلاً نحو الأرياف الأربعة للمحافظة، في وقتٍ تصبح المدينة قاعدة رجوع، وحماية خلفية أمام أي هجوم طارئ ومفاجئ.

من ناحية الجغرافيا السياسية، تعني سيطرة النظام على المدينة إخراج الفصائل الإسلامية، خصوصاً الفصيلين الأقوى، جبهة فتح الشام وأحرار الشام، الأمر الذي يعني إبعادهم من معادلة الصراع في الساحة العسكرية الأهم في سورية في الوقت الحاضر، وهذا هدف أميركي، قبل أن يكون هدفاً روسياً. ولذلك، من غير المستبعد أن تكون الحملة الأميركية في مجلس الأمن من أجل التعمية على موقفها الراغب في إضعاف قوة الفصائل الإسلامية، وسحب هيمنتها العسكرية على باقي الفصائل، لاسيما “الجيش الحر” الذي تحوّل، في الآونة الأخيرة، رأس حربة لواشنطن وأنقرة، وبتوقيع روسي.

تتمحور المقاربة الأميركية التي بدأت تتمظهر، في الأشهر الماضية، حول تشكيل قوة سورية خالصة من أبناء المناطق ذات توجهاتٍ علمانيةٍ، تكون مقابلاً لوحدات حماية الشعب الكردي، ومكملاً لها في الجزء الذي لا تستطيع فيه وحدات الحماية إتمامه. إنه الجزء المتعلق بمعاداة النظام السوري.

والأهم من ذلك، على هذه القوة الجديدة أن تقبل الانخراط في التسوية السياسية، ضمن الرؤية الأميركية للحل، وتكون خارج المقاربة التركية ـ السعودية للحل. وعليه، لم تكن مصادفةً أن تعتمد أنقرة في عمليتها “درع الفرات” على فصائل الحر والمكونات المحلية، وإبعاد حليفها الأقوى (أحرار الشام) عن هذه المعركة. إنه اتفاقٌ ستكون الأيام المقبلة شاهداً عليه، بحيث تُترك حلب للساحة الروسية في مقابل استكمال أنقرة تأمين عمقها الاستراتيجي في شمال وشمال شرق حلب، غير أن هذه المعادلة قد تدفع قوى إقليمية، وخليجية تحديداً، إلى الخروج من عباءة المقاربة الأميركية التي أسهمت في تقوية النظام على حساب المعارضة، ولعل تصريح مسؤول أميركي أن انهيار اتفاق وقف إطلاق النار، أخيراً، زاد احتمال تسليح دول الخليج العربية المعارضة بصواريخ مضادة للطائرات، ثم تصريح قائد جماعة الفرقة الشمالية، العقيد فارس البيوش، إن المعارضة حصلت على طراز متطور من صاروخ غراد، مؤشر على أن المدينة مقبلة على معارك هي الأشرس في تاريخ الأزمة السورية.

وقد تستفيد الدول الداعمة للمعارضة، كما تفعل روسيا، من مرحلة الصمت والسكون الأميركي، في الفترة الانتخابية، للحيلولة دون سقوط حلب، إلا أن ذلك سيضع تركيا في مأزقٍ مع الروس، من شأنه أن ينعكس سلباً على معركتها “درع الفرات”، وهي المعركة التي تعطيها أنقرة أولوية على غيرها، كونها تتجاوز، في تداعياتها، المسألة السورية إلى الأمن القومي التركي.

تكمن المشكلة الرئيسية في أن الولايات المتحدة في حالة نَوَسان سياسي وعسكري، فهي تريد إضعاف القوى الإسلامية، وفي الوقت نفسه، لا تريد تحقيق ذلك من دون تنازلاتٍ من روسيا والنظام، وهو ما تعجز عن تحقيقه. وهذا التردد هو ما تلعب عليه موسكو، لإعادة ترتيب هدنة جديدة، أو الضغط على واشنطن للانصياع إلى مطالبها. لكن، يبدو من تسارع الأحداث أن المسألة الحلبية تُركت إلى الإدارة الأميركية المقبلة.

العربي الجديد

 

 

 

 

الموت في حلب/ أمجد ناصر

بأيدٍ عارية، وفؤوسٍ ينبشون الركام الهائل. أي أمل؟ أي حافز؟ بل أي قوةٍ تدفعهم إلى تقليب حطام عمائر يستحيل على البلدوزرات تقليبه، بحثاً عن صوتٍ، أو نأمة تحت الردم؟ لا أعرف. مع أنني أعرف، فقد رأيت، ذات يوم، طائراتٍ تفعل شيئاً كهذا في بناياتٍ شاهقةٍ فتسوّيها بالأرض، ورأيت أيدٍ تنقضُّ على الركام، وتخرج من تحته أشلاءً وأنفاساً. ولكن تلك كانت طائرات الأعداء. ماذا نسمي هذه الطائرات؟ لا أعرف. الكلام سهل. وهذا أمر صعب. كيف سيفهمني الآخر، عندما أقول إن هذا العدو أخي؟ ربما سيفهم. سيفكِّر في هابيل. في مملكة آدم التي جعلت الجريمة فعلاً أخوياً. الصور التي تتواصل على الشاشات تزيد الطين بلة. تُميت فينا تدريجاً المشاعر. تبلّد الحواس وتلبّدها. ماذا يعني هذا الفيض من الصور الذي يتوالى على أنظارنا؟ إنه مجرد شيء يحدث. هناك. في مكانٍ، حتى لو كان أليفاً لنا، بيد أنه خارج حواسّنا، فالهدير والركام والدم والأشلاء والرعب والصرخات لا تخرج من الشاشة وتتمشى بيننا. هذا لا يحدث. وما دام الأمر كذلك فهو غير قادرٍ على جعلنا نعرف كم هي مقدَّسة هذه الأيدي التي لا تتراجع أمام الركام. هذه أيد مقدّسة. ولا كلام عندي غير هذا. فمن يرفع الحياة من تحت ركام الموت لا بدَّ أنه يأتي من جهة المقدَّس. من يحفل بالحياة، ويحدب عليها، وهي تُباد، كذلك أيضاً. هذا هو مقدّسنا الإنساني، ونحن لا نعرف غيره. نعرف الشياطين. الآلات البشرية المجوَّفة التي تتحرك بالريموت كونترول من كهوف الحداثة. نعرف مصّاصي الدماء، والزومبيين، فهذا عيدهم. هذا نبيذهم. لا حاجة لنبيذٍ آخر، كما فعل ابن مريم كنايةً عن الدم. ولا عن كسرة الخبز كنايةً عن اللحم. هنا الدم واللحم طازجان، وعضويان إلى أبعد حد. يأتي الهدير الذي يشلع القلوب. يدوّي الموت ويصفر. تتحوّل الأحياء إلى أثلامٍ من الكونكريت حرثتها، بدقةٍ عالية، الطائرات التي عادت إلى قواعدها سالمة.

تغيب تكنولوجيا الإنقاذ ورفع الردم. تصبح في عداد الأعداء. وتبقى اليد العارية. اليد التي حفرت أول قبرٍ في تاريخ مملكة آدم هي نفسها التي ترفع الركام الذي يستحيل رفعه، بحثاً عن نفسٍ لا يزال يتردَّد في صدر طفلٍ أو امرأة. هذه الأيدي هي الدليل الوحيد على أن العالم لم ينته على ما يبدو، وأن هذا ليس يوم القيامة، وأن هناك من لا يزال يحفل بالألم. هذا ليس يوم القيامة. على الرغم من أنه كذلك لأهل حلب التي تدكُّ بحقدٍ لا تتخيل تل أبيب أن يكون في صدور أعدائها. ففي يوم القيامة، يذهل المرء عن أبيه وصاحبته وبنيه. وهذه الأيدي التي تمتد إلى الركام، كما لو أنها تصلّي، لم يأخذها الذهول، ولم يربطها هول الدمار المصمَّم خصيصاً لطرد من تبقى في المدينة إلى خيم اللجوء على أرصفة العالم. يا لهذا الإجرام المندفع بحماسة من يحجّ، أو يطهِّر مكاناً من وباء. حدَّد لهم “الطبيب”، خبير الفيروسات، أمكنة الأوبئة وهم لا يفعلون سوى تطهيرها. نفكِّر هنا بالاستحالة التي بلغتها الأمور هناك، بينما تؤكّد تلك الأيدي التي تنبش الركام وجود الممكن. وها هي كل مرة تُخْرج كائناً، في عداد الأموات، من تحت الردم الضخم. كم طفلاً علينا أن نراه يُنتشل من بين الركام، لنفعل شيئاً أكثر، قليلاً، من الأسف؟ كم طفلاً على سورية أن تقدمه كأيقونة، كقربان، حتى يتحرّك العالم لفعل شيء أكثر، قليلاً، من التنديد؟

قبل يومين رأيتهم، هؤلاء الذين لا يحملون بندقيةً، ولا يرتدون ثياب ميدان، وهم يرفعون بأيديهم المباركة ركاماً يتعالى منه الغبار، ويصلون إلى الصرخة التي تُسمع تحت شقف الحطام الهائلة. كان طفلاً رضيعاً. ينتشلونه. ينفضون عنه الغبار الأبيض. ويصرخ الجمع الصغير الذي يسهم في رفع الانقاض بأيدٍ عارية أمام هذه المعجزة: خروج الحيِّ من الميت. لم تعد المعجزة أن تتوقف الحرب، ويعود الذين هُجِّروا، غصباً، إلى بيوتهم، بل أن تنتشل روحاً صغيرة من تحت ركام البنايات المفرَّغة من الهواء والحياة العادية التي كانت تتدفَّق أنفاسها وروائحها من شرفةٍ إلى أخرى.

العربي الجديد

 

 

 

هولوكوست حلب/ وليد بركسية

الهولوكوست في حلب، ليس مزحة سمجة أو مجازاً لغوياً أو مبالغة عاطفية أو كابوساً، هي الحقيقة المؤلمة التي تنقلها الصور الآتية من عاصمة الشمال السوري، بعدما أطلق النظام السوري وحلفاؤه الروس والميليشيات الطائفية الداعمة له، عملية عسكرية “لإبادة الأحياء الشرقية في المدينة”، إثر انتهاء الهدنة القصيرة التي فرضها الاتفاق الروسي – الأميركي الأسبوع الماضي، وفشل الاجتماع الثاني لمجموعة “دعم سوريا” الدولية في نيويورك الخميس.

عدد الضحايا الكبير، منذ صباح الجمعة، يجعل الصور المتداولة عن ناشطي المدينة ومصوريها، باهتة رغم قسوتها والحقيقة التي تنطق بها وتوصلها للعالم، وكذلك الحال بالنسبة للتساؤلات الكليشيه من المعلقين والمغردين حول طبيعة النظام المجرم وهوية المجتمع الدولي الصامت عن تكرار المجازر، وبالتحديد حول معنى الإنسانية المفقود لدى مقترفي كل تلك الممارسات الهمجية في البلاد.

والحال أنه لا يمكن البحث عن الإنسانية في الحرب لأنها فعل مجرّد يقتضي التخلي عن الإنسانية أولاً كشرط لممارسته، ويصبح المشهد أشد قتامة عندما تكون الحرب حرباً أحادية الجانب ضد الإنسانية نفسها، كما يفعل النظام السوري منذ العام 2011، لكن التشبث بمفاهيم الإنسانية الأبسط يصبح الطريقة الأفضل لإظهار جرائم الحرب على حقيقتها المروعة من دون رتوش أو مبالغات.

وفي حالة حلب، لا تصبح صور المجازر والضحايا مجرد دليل على وحشية النظام، التي بات العالم يدركها جيداً، بل دليلاً على جدّيته في تطبيق سياسة الأرض المحروقة ضد شعبه ونقله حربه إلى مستوى آخر من العنف، علناً من دون مراوغات أو تبريرات إو إلقاء للاتهامات كما كانت عليه الحال طوال السنوات الخمس الماضية.

ومنذ 2011 لم تستخدم كلمة “هولوكوست” كثيراً للحديث عن عمليات النظام الوحشية ضد المدنيين في مناطق البلاد المختلفة، بل كانت تأتي في خلفية حديث الناشطين والإعلاميين عند التوجه للجمهور العالمي، كمقاربة لا تخلو من مبالغة مع مجازر النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، كأسوأ حرب في تاريخ البشرية الحديث، واليوم تنتقل الكلمة من الخلفية إلى صدارة العناوين، كنتيجة منطقية لما يجري سياسياً وعسكرياً: “150 غارة على حلب هذا الرقم وحده كافي ليثبت ان الاسد أخذ الضوء الاخضر من كل الدول”، يقول أحدهم في “تويتر”.

متابعة الناشطين والإعلاميين نقل الحقيقة من حلب، بعد تحول الحرب والمجازر إلى سياق ممل يكرر نفسه منذ سنوات، أمر ضروري ومثير للإعجاب، لأنه انحياز للحياة، التزاماً بما تفرضه المهنة، ليس من منطق التعاطف مع الضحايا والحزن عليهم والتباكي على الإنسانية الضائعة فحسب، بل من منطلق رفض الحرب كنقيض للإنسانية التي تقوم عليها الصحافة نفسها بوصفها فعلاً حياتياً، أما كمية العواطف الآتية مع الصور فليست ابتذالاً بكل تأكيد لأنها تمنع تحول الصحافة إلى روبوت بارد، كبرودة الآلات التي تقتل المدنيين من دون إحساس بالذنب.

وتبرز هنا تغطية “مركز حلب الإعلامي”، الذي يقدم معظم الصور ومقاطع الفيديو من داخل المدينة، والتي تظهر مقتل العشرات خلال نومهم، أو الأطفال والأمهات في أسرتهم وهم يتحولون إلى جثث متفحمة وهم يعانقون بعضهم للمرة الأخيرة، وكذلك صور الدموع والقهر والعجز ممن بقي على قيد الحياة.

ويمكن القول إن قسوة الصور والأخبار لم تعد وحدها كافية لنيل التعاطف وإحداث الأثر المطلوب منها، بسبب استمرارية الحرب السورية لفترة طويلة، بل إن جدّة الصور وحداثتها واختلافها عن الصور التقليدية في سياق الحرب، هي العامل الأهم. وتبرز هنا صور الطفلين إيلان الكردي وعمران دقنيش كنماذج لهذه الفرادة في التقاط الصورة وتوقيتها، ويتكرر ذلك اليوم مع صورة العائلة المدفونة تحت الركام في عناق جماعي، والتي باتت عبر السوشيال ميديا رمزاً للمجزرة الجديدة.

“كل هؤلاء الناس ليسوا مجرد أرقام بل هم قصص من قهر وألم!”، يكتب الناشط هادي العبدالله في “تويتر”، وهي الكلمة الأصدق لما يجب أن تكون عليه التغطية عن حلب، لأن تحول المدنيين السوريين الأبرياء إلى مجرد أرقام هو انتصار للحرب على الإنسانية التي يحاول الناشطون التشبث بها ونقلها للعالم، خاصة أن الحرب لا تجري بين طرفين متنازعين بل هي أقرب لقرار إبادة من طرف واحد.

في ضوء ذلك، أطلق ناشطون مجموعة من الهاشتاغات (وسوم) “نصرة لمدينة #حلب المحاصرة وريفها وتسليط الضوء على القصف المكثف على الأحياء السكنية والجرائم اليومية بحق المدنيين”، أبرزها #HolocaustAleppo، #روسيا_تدمر_الانسان، و#RussiaDestroysHuman.

ويستخدم الطيران الروسي في قصفة لأحياء المدينة، مجموعة جديدة من الذخائر والأسلحة المحرمة دولياً، منها القنابل الارتجاجية “التي تحدث هزات أرضية موضعية وهي مخصصة لتدمير الملاجئ”، كما ينقل ناشطون في شرحهم لمستوى العنف غير المسبوق منذ صباح الجمعة، مع صور للدمار الهائل التي تحدثه تلك القذائف، ومقارنتها بالقذائف الأخرى مثل البراميل المتفجرة والقنابل العنقودية والنابالم وغيرها.

المدن

 

 

 

 

حتى لا تضيع حلب… كياناً وتراثاً إنسانياً/ سوسن جميل حسن

مشهد يفوق احتمال العاطفة الإنسانية، ويتجاوز قدرة اللغة على التعبير.. يجلس رجل خمسيني معفّرٌ بالتراب على الأرض ذاهلاً، تخونه عيناه في البكاء، أمامه كيس أسود ينحني عليه كل حين يفتحه، يقرب وجهه منه ويصيح “يا حسام.. يا حسام”. ثم يرفع رأسه، ويفتح عينيه على خواء أجوف يبتلعه، ويبتلع كل المعاني.

تحوّل حسام أشلاء مكوّمة في كيسٍ أسود، بعد غارة روسية على حيّ في حلب الشرقية. وفي المشهد امرأةٌ تهرول في المكان، تلتف حول ساقيها اللتين تسابقان نبض القلب عباءةٌ سوداء تكبح جماحهما، تصارع الفراغ بيديها، وتشق بهما سحابة الغبار، تصرخ كالممسوسة: بنتي.. بنتي.. إيش صار فيها؟ بينما الدمار الحي ما زال يزفر أنفاسه الأخيرة، حارّة حارقة، كبقايا لسان مشتعل من فم تنين رهيب مرّ من هنا، من فوق سماء حلب محمولاً في طائر من صنع بشري، يجيد اختراق جدران الصوت وجدران الضمائر فيقتلها، متحدّياً جبروت العالم بجبروتٍ أكبر. لم يعد يهم إن كانت الطائرات التي تلقي حمم غضبها وحقدها على الآمنين في بيوتهم طائراتٍ بطيار أم بدونه، فتلك الأرواح الساكنة في أجسادها فوق الأرض تحوّلت أرقاماً يديرها الطيار بشغف طفل أرعن، يلعب البلاي ستيشن، أو لعبة الحرب الذكية على لوحة اللابتوب، ربما يفرحه حدّ النشوة انتصارٌ يحصد فيه عدداً أكبر من الأرقام/ الضحايا.

تتدفق هذه المشاهد على الشاشات وجميع الوسائط بكل ما يحمل كل واحد فيها من دلائل دامغة على الهمجية التي تفوق التصوّر، مثلما تفوق ما يخزن التاريخ من تجارب مشابهة، ومن مؤثراتٍ يصح القول فيها إنها تفتت الحجر، لم تستطع إحداث خدشٍ بسيط في الضمير العالمي، لتبقى حلب لقدرها ومصيرها الأسود ساحة صراع دولي وإقليمي، كلما اشتد أكثر فاجأتنا تصريحات الأقوياء بأن النفق صار أشدّ ظلاماً وظلماً وإظلاماً.

“قدر يعجز أبناء حلب عن مواجهته، وتحويل مصيرهم الذي يرسمه بأعتى ما وصل إليه العقل البشري من أسلحةٍ مصممةٍ بطاقات الشر والعنف”

قدر يعجز أبناء حلب عن مواجهته، وتحويل مصيرهم الذي يرسمه بأعتى ما وصل إليه العقل البشري من أسلحةٍ مصممةٍ بطاقات الشر والعنف. التقيت بأبٍ يمسك يد طفله الذي لم يكمل السنوات الست يريد تسجيله في إحدى مدارس اللاذقية التي جاءها هاجراً ومهجّراً بسبب طاحونة الحرب. قال لي: استطعت الهرب مع أولادي وزوجتي، لكن والدي، ومعه خمس من أخواتي، ما زالوا عالقين هناك. لا يستطيع والدي الخروج، فراتبه التقاعدي لا يتعدّى الخمسة والعشرين ألفاً، هو هناك يسكن في بيته، لو استطاع الإفلات من المسلحين الذين يمنعون الأهالي من المغادرة، فإن راتبه لا يكفيه أجرة بيت من غرفتين، فكيف يعيش هو وأخواتي؟ هم محاصرون مرة من المسلحين الذين يمنعونهم من المغادرة، ومرة من قوات النظام التي تمنع المساعدات من الدخول. قال لي: وصل سعر أسطوانة غاز الطبخ إلى الثمانين ألفاً. المياه نادرة، سعر صهريج المياه أربعة آلاف، معظم الناس يشربون من المياه الملوثة، فالماء يأتي مرة في الأسبوع ساعتين أو أكثر قليلاً.

هذه حلب التي سجلت تاريخاً من النكبات كانت تنهض منها مثل عنقاء أسطورية، وتعود إلى ترميم نفسها، وإعادة دورها الحضاري على مرّ العصور. لكن النكبة الكبرى، بل الكارثة الإنسانية التي تذهل التاريخ، على الرغم مما تحفل به ذاكرته من حروبٍ ميّزته وميّزت هذا النوع من المخلوقات الذي لم يترك للسلام في ماضيه أكثر من فتراتٍ قصيرة تكاد تكون مهملة، ولم يستطع صنع السلام في حياته، على الرغم من أن المعاهدات التي وضعت بدعوى السلام، منذ العام 1500 قبل الميلاد حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تفوق الثمانية آلاف، أسست نظرياً لسلام دائم لكن أطولها لم يدم أكثر من عامين، هي الكارثة التي تحلّ بحلب اليوم.

يسعى عديدون من أبناء حلب الحريصين عليها وعلى تراثها الإنساني إلى التوثيق، ومن بينهم الباحث محمد قجّة، يقول تحت عنوان “حلب ألم التدمير .. وأمل التعمير”: ويكتب حلب المحروسة لم تعرف، خلال تاريخها عبر آﻻف السنين، حالة من التدمير الممنهج، كالتي تشهدها منذ خمسة أعوام. قلعة حلب .. سيدة قلاع العالم تاريخاً وحجماً ودوراً مؤثراً، لحسن الحظ أنها نفسها لم تتعرّض لدمار ذي بال، لكن محيطها اﻷثري تم تدميره بتصميم وإصرار. ويعدّد قجة ويدوّن أسماء الأمكنة في محيطها، بعد أن يقدم وصفاً هندسياً موجزاً عن القلعة، وعن المعبد الذي يعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، معبد الإله حدد والآلهة عشتار.

ثم هناك، كما يسجّل الباحث قجة، أسواق حلب المسقوفة الفريدة في العالم. ويعود تاريخها إلى القرن الرابع قبل الميلاد. وتتألف من سوق محوري، يمتد من باب أنطاكية حتى سوق الزرب، ويتفرع عنه 38 سوقاً بشكل رقعة شطرنجية. وتحمل اﻷسواق غالباً تسميات مهنية. أما الجامع الأموي في حلب فيعود تاريخه إلى عام 717م. وتأتي فرادته المعمارية من مئذنته التي تعد من أجمل مآذن العالم اﻹسلامي. ارتفاعها 46 متراً. وهي مربعة ضلعها 4.95 أمتار. ولها ستة أشرطة كتابية، تؤرخ بناءها في الفترة السلجوقية قبل ألف سنة تقريباً. إلا أن المئذنة اﻷموية هدمها نقفور 962 م. وتدمير هذه المئذنة الفريدة اليوم كارثة معمارية وتاريخية وحضارية. ويسأل الباحث محمد قجّة ابن مدينة حلب: متى نبدأ تعمير تلك اﻷماكن مع كل

“لا البشر ولا الحجر يمكن أن يعودوا إلى ما كانوا، لكن منطق الحياة يستدعي التفكير بإعادة التشكيل بصيغة أخرى للبناء الإنساني والمكاني السوري” حلب المدمرة؟ من سيقوم بذلك؟ من سيخطط ويضع البرامج؟ ويتابع: سؤال خطير ينتظر أبناء البلد المخلصين الخبراء لينهضوا بهذا العبء، والعمائر المدمرة موثقة ومؤرشفة ومخططاتها محفوظة. ولكن ثمّة لصوص اﻷزمات وتجار الحروب الذين لديهم مخططات أخرى من اﻷبراج واﻷسواق الحديثة، ما يلغي شخصية المدينة وتاريخها وخصوصيتها العالمية، وهذا لن نقبل به مطلقاً.

يمثل هذا الصوت ضمير الوطن، ويحمّل مسؤولية النخبة الثقافية الوطنية السورية المنوط بها الدور الحامي للهوية الحيّة المفتوحة على التطور والحداثة التي ترتبط بماضيها ارتباطاً حياتياً، مثل الحبل السري للجنين، الهوية المتصلة بالماضي من دون العيش فيه، وهو دور مطلوب بقوة من أجل الحفاظ على الأجهزة الحيوية التي تمنح الأوطان حياتها. لكنه ليس الدور الوحيد، فإعادة البناء والإعمار تتطلب إعادة بناء الإنسان، بالتوازي مع إعادة إعمار المكان. تعرّض الإنسان في سورية بشكل عام، وفي حلب خصوصاً في سنوات الحرب إلى أعتى عملية تشويه وانتهاك لكينونته، من يعيد السلام إلى ذلك الرجل الذي يخاطب أشلاء ابنه من كيس أسود؟ من يصحّح انتماء تلك الأم التي فقدت ابنتها تحت ركام غارةٍ حاقدة، ويعيد إليها معنى الأمكنة؟

من الحماقة الادّعاء أن كل شيء يمكن أن يعود إلى ما كان عليه، لا البشر ولا الحجر يمكن أن يعودوا إلى ما كانوا، لكن منطق الحياة يستدعي التفكير بإعادة التشكيل بصيغة أخرى للبناء الإنساني والمكاني السوري، بروح سورية العريقة، الروح التي أنتجت حضارةً إنسانية. تبقى العقبة الكبرى التي تتطلب موقفاً حازماً صلداً منتمياً للوطن يُبنى على المشتركات بين أبنائه، موقف يقول قبل كل شيء: لا. لا للجبابرة الذين يتحكّمون بأرضنا وأرواحنا ومصيرنا. لا لروسيا وأميركا وأذنابهما المحليين والإقليميين، لا لمن يمحو ماضينا وحاضرنا، ويرسم على أنقاضنا جغرافيا رأس المال العالمي المتوحش.

العربي الجديد

 

 

ثلاثة وجوه للسفّاح/ الياس خوري

في البداية أود الاعتذار من الروائي الأردني الكبير غالب هلسا لأنني قمت بتحريف عنوان روايته «ثلاثة وجوه لبغداد» من أجل أن أجد عنوانا لهذا المقال، الذي تهيمن عليه ثلاثة وجوه للوحش الذي تفوّق على السفاح في رواية «السؤال».

اعتذاري ليس صادقاً، فالوحش الذي يزرع بلادنا بالخوف والدمار، تفوّق على خيال الروائيين جميعاً، وجعل من الاحتجاج الأدبي على القمع صرخة خيال عاجزة عن اللحاق بفنتازيا الجريمة.

الوجه الأول في حلب، والمقصود ليس الجريمة المروعة التي تجري في المدينة الذبيح فقط، بل المذبحة الشاملة التي حولت سوريا بأسرها إلى حقول للموت. هنا قرر المستبدان بوتين والأسد الصغير ومعهما حليفهما الإيراني اللبناني، تحويل سوريا بأسرها إلى غروزني. فلقد استنتج بوتين أنه يستطيع استعادة انتصاره الهمجي، ولكن في سوريا هذه المرة، عبر تدمير مدن الشام بأسرها. أما الأسد الصغير فهو لا يتوقف عن الضحك ببلاهة أمام مشاهد الدمار التي يصنعها، وهو يخطط كيف سيجعل من موت السوريين درسا أبديا للشعب، ومادة تزيد من تراكم ثروته وثروة ابن خاله. كما يتابع الحليف الإيراني- اللبناني مشروع التطهير العرقي في سوريا، ضمن خيال طائفي مصاب بالعته، معتقدا أنه ينتقم اليوم لماض مندثر، لا يشبه إحياؤه الوهمي سوى الاحتفاء الإسرائيلي بالعودة إلى أرض ميعاد صنعتها الأسطورة الدينية.

في حلب، يجرّب الروس أسلحتهم وقنابلهم الفراغية والانشطارية والارتجاجية على الشعب السوري. والمضحك المبكي في هذه الحرب هو أن الدولتين العظميين لا تتقاتلان إلا بالدم السوري، أمريكا تقصف جيش الأسد في دير الزور فيردّ عليها الروس بقصف قوافل الإغاثة الذاهبة إلى حلب، ثم يتسع الرد بشكل جنوني، ليشمل كل شيء في المدينة.

لا حدود لتوحش السفّاح الذي يبيد الشعب السوري، ويقوم بتهجيره من أرضه، فلقد وجد في سوريا أرضا مستباحة، وشعبا تُرك وحيدا، وقيادات سياسية عاجزة، فاندفع في لعبة القتل من دون رادع.

لكن سوريا لا تواجه السفّاح وحدها، فلكل أرض في المشرق العربي سفاّحها الخاص، والسفاحون يلتقون في لعبة مصالح معقدة داخل تناقضاتهم، بحيث تختلط الأمور، فلم نعد ندري هل الأمريكان حلفاء الروس في الجريمة، أم مجرد متواطئين؟

غير أننا نعرف أن هناك سفاحاً آخر في الجنوب السوري، يقامر بكل شيء لأنه متيقن من أن دولاب هذا الزمن يدور لمصلحته، فيندفع إلى أقصى الجريمة خالعا أقنعته كلها.

الوجه الثاني للسفاح هو إسرائيل الليكودية. هنا تصل الوقاحة إلى ذروتها، نتنياهو يتهم الفلسطينيين وكل معارض للاحتلال في العالم بالتطهير العرقي! لأن المستوطنين اليهود في الضفة الغربية، يواجهون خطر التطهير العرقي!

الأمر لا يقتصر على كلام رئيس الحكومة الإسرائيلية الذي أعلن تعاطفه مع اليئور عازاريا قاتل الشهيد عبد الفتاح الشريف، أو على حرد وزيرة الثقافة الإسرائيلية ميري ريغيف بعدما دمج تامر نفّار مقطعا من قصيدة محمود درويش «بطاقة هوية» في حفل توزيع جوائز ‘أوفير’ في أسدود. وعقّب مغني الراب الفلسطيني الذي يحمل وشم غيتو اللد في صوته قائلا: « ريغيف لم تفهم كلمات القصيدة، رغم إمكانية الترجمة عن طريق مترجم غوغل»، وتابع «هناك مورفيكس (قاموس عبري – إنجليزي – عربي) وهناك ميري فيكس. هي لا تزعجني فحسب، لكن كل الحكومة تزعجني.»

الأوغاد في إسرائيل الذين يتابعون ملاحقة شاعر الجليل في قبره، لا يكتفون بالكلام، فالكلام بالنسبة لهم مدخل إلى القمع الوحشي الذي يمارسونه في فلسطين المحتلة، والذي اتخذ في الأسبوع الماضي شكلا جديدا عبر ملاحقة قياديين في حزب التجمع واعتقالهم. يعتقد السفّاح الإسرائيلي أنه يستطيع إعادة الفلسطينيات والفلسطينيين في داخل الداخل إلى الأقفاص التي حشرهم فيها بعد عام 1948، لكنه يتجاهل حقيقة أن هزيمة الفلسطينيين لم ولن تكتمل، وأن غبار الموت الذي يرشح من الخطاب الإسرائيلي ومن جنازير دبابات الاحتلال لم يعد يخيف أحداً، وأن المقاومة ستستمر وتتنامى ولن تتوقف.

حظر الحركة الاسلامية، وملاحقة التجمعيين، ليست سوى كلمات عابرة، يقولها ويمارسها «عابرون في كلام عابر».

السفاح الذي يتوحش في سوريا وفلسطين يتخذ شكلا كوميديا في لبنان، يجسّده وزير الخارجية ورئيس حزب «التيار الوطني الحر» الذي يتزعمه الجنرال عون. فجبران باسيل لا يتوقف عن ممارسة هوايته في «الاستهبال» المضحك. من إعلانه أنه يؤيد منح الجنسية إلى أولاد اللبنانيات المتزوجات من غير اللبنانيين، شرط أن يستثنى من ذلك المتزوجات من فلسطينيين وسوريين! وصولا إلى اقتراحه العبقري بإجبار منظمات الإغاثة على شراء موسم التفاح اللبناني الكاسد من أجل توزيعه على اللاجئين السوريين!

ما يبدو هزليا في كلام باسيل يخفي وحشية عنصرية تحوّل الكلام إلى سم. فهذا اللعب الطائفي بتشجيع من حزب الله الذي يتفرج على الفراغ اللبناني ويمارس الحرب والقتل في سوريا، يبدو مجرد نزوة أخيرة تقوم بها الجماعية العونية، لكنها نزوة قد تقود ليس إلى انتحار المارونية السياسية وحدها، بل إلى انفجار كبير في بلد صار ثلث المقيمين فيه من اللاجئين السوريين.

بدل أن يدافع اللبنانيون عن حدود بلادهم، يقوم جيش منهم باجتياح الأراضي السورية وتهجير الناس، معتقدا أن ولاية الفقيه لا تُهزم، ومستظلا الروس ومن يغطيهم هنا وهناك، من إسرائيل إلى أمريكا.

الوزير اللبناني الحصيف ليس سوى مراهق سياسي ساذج يسعى إلى السلطة، ولا يأبه إذا كان ثمن وصوله إليها هو تدمير الوطن الصغير على رؤوس أهله.

هل أخطأ غالب هلسا حين لم يستطع أن يذهب به الخيال إلى حيث يمكن للسفاح أن يمضي؟

أم أنه مثلنا جميعاً، وقع ضحية الأمل التاريخي، متناسياً أن التاريخ عربة يجرها حصان أعمى؟

القدس العربي

 

 

 

الغضب في مجلس الأمن على روسيا إلى أين؟/ روزانا بومنصف

لم تسفر كل الاجتماعات التي عقدت على هامش اعمال الجمعية العمومية للامم المتحدة في نيويورك والتي كان محورها انقاذ الهدنة في سوريا عن اي نتيجة تذكر فيما حفلت جلسة لمجلس الامن دعت اليها فرنسا وبريطانيا وايطاليا وشاركت الولايات المتحدة في الدعوة اليها ايضا( علما انها لم تكن متحمسة قبل اسبوع لجلسة حول الاتفاق الاميركي الروسي ) بانتقادات قوية لروسيا لانخراطها مع النظام السوري في قصف عنيف يطاول حلب فيما افسح لمندوب النظام في الامم المتحدة في مؤشر على استمرار التسليم واقعيا بشرعيته في ان يدلي بدلوه ايضا. استعانت الولايات المتحدة بحلفائها من اجل التصدي لروسيا معها في جبهة موحدة في موضوع القصف الذي يستهدف حلب وسقوط الهدنة التي اتفق عليها الاميركيون والروس وحدهما دون سائر الشركاء في المجموعة الدولية لدعم سوريا، وهو امر يعبر عن ارتباك اميركي في ظل اختلاف وجهات النظر داخل واشنطن حول الاتفاق الاميركي الروسي وعن عدم رغبة الرئيس باراك اوباما في القيام باي مبادرة في الاشهر القليلة الباقية له.

الكلام العالي النبرة الذي وجه الى روسيا تضمن مواقف صريحة تتهمها بالبربرية كما فعلت الولايات المتحدة، في حين ان دولا كفرنسا وبريطانيا ادرجتا ما تقوم به روسيا في اطار جرائم حرب فيما خرج المندوب الدولي في سوريا ستافان دو ميستورا عن ديبلوماسيته الى اتهام النظام بقصف لا سابق له للمدنيين وكذلك فعل الامين العام للمنظمة الدولية بان كي مون. الهجوم الديبلوماسي العنيف على روسيا توج بكلام ديبلوماسي مواكب مفاده ان للصبر على روسيا حدودا ووضع روسيا في موقف دفاعي فيما اعلن النظام السوري الذي يجد باستمرار في الموقف الروسي مدافعا شرسا عنه في مجلس الامن والمجتمع الدولي انه على وشك تحقيق انتصار عسكري. والسؤال الاساسي بعد هذه المواقف القوية هل ان الدول الدائمة العضوية ستدفع روسيا الى لجم اندفاعها في قصف حلب ومساعدتها النظام على تدميرها من اجل اعادة السيطرة عليها وما هي الخطوات التي لوحت باتخاذها متى فقدت صبرها ام ان هذه المواقف هي بدل عن ضائع في ظل ارتباك اميركي واوروبي عشية الانتخابات الاميركية وعجز عن القيام باي شيء عملاني يخفف عن السوريين محنتهم ازاء القصف الذي يقوم به النظام وحلفاؤه ؟.

تقول مصادر ديبلوماسية ان الاعتقاد بان روسيا ومعها النظام وايران لن يعمدوا الى استغلال فرصة الانشغال بالانتخابات الاميركية من اجل السعي الى تسجيل مكاسب ميدانية توجه سوريا والمفاوضات لاحقا في اتجاه اخر عما تم تداوله حتى الان هو اعتقاد في غير محله. فاحدى الوسائل لردع هذا المنحى هي الخطاب القوي الذي اعتمد وقد استخدم المندوب الفرنسي لدى الامم المتحدة مقارنات لحلب حيث شبهها بساراييفو قبل عشرين عاما وبغرنيكا خلال الحرب الاهلية الاسبانية على نحو يحرج روسيا امام الرأي العام العالمي من خلال وضعها امام المسؤولية عن مجزرة انسانية مباشرة او غير مباشرة في حال لم تستخدم مونتها على النظام السوري لوقف هذه المجزرة. وما لم يؤد هذا التشهير بروسيا الى اعادة احياء الهدنة التي لا تخفي المصادر ان تكون الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية في انهيارها بعد قصف مواقع للنظام في دير الزور بحكم خلاف بين ادارة اوباما والبنتاغون الاميركي حول التعاون العسكري مع سوريا لا بل ايضا على خلفية انزعاج من عقد اوباما اتفاقا مع روسيا ملزما لخلفه، فان اميركا و الدول الاوروبية امام تحدي ان ترقى الى مسؤولية الكلام الذي استخدمته، وذلك تحت طائل محاولة تبرئة ذمتها مما يحصل في حلب مع ترك الامور لروسيا في موضوع سوريا اقله في ما يتعلق بالولايات المتحدة. فالاتهام بجرائم الحرب يحمل في طياته امكان اللجوء الى المحكمة الجنائية الدولية او رفع دعاوى دولية واذا تعذر ذلك يمكن ان تؤدي المفعول نفسه. فبعض رؤساء الديبلوماسية في الدول الكبرى يقرون بانهم تركوا المجال طوعا لروسيا في سوريا لكنهم لم يعتقدوا بانها قد تذهب الى هذا الحد ليس في منع النظام من الانهيار فحسب وتأمين استمراره بل في الانخراط في حرب مباشرة ضد المدنيين في المدن السورية.

لكن ورقة اللجوء الى محكمة دولية وان كانت قوية ومبررة تبدو قاصرة عن لجم النظام كما داعميه وفق ما تخشى المصادر الديبلوماسية المعنية في ظل تسليم الولايات المتحدة واخرين معها حتى الان ببقاء الرئيس السوري على رغم مسؤوليته عما يزيد على نصف مليون قتيل في بلاده وفق الارقام الموثقة لدى الامم المتحدة واتهامه ايضا باستخدام الاسلحة الكيميائية في الحرب. لكن لا بد ان تكون الولايات المتحدة تملك اوراقا يمكن ان تستخدمها تحول دون استفادة روسيا وحلفائها من الوقت الضائع الذي يتمثل ببضعة اشهر بين الانتخابات وتسلم ادارة اميركية جديدة من اجل عدم فرض امر واقع جديد انطلاقا مما تعتقده هذه المصادر انه سيكون تقسيما ميدانيا للواقع في سوريا. وبحسب هذه المصادر فان قصف مواقع للنظام السوري في دير الزور يؤشر الى امكان لعب الولايات المتحدة دورا في ردع استباحة حلب وتدميرها خصوصا اذا كان في واشنطن وجهة نظر تدعم عدم التسليم لروسيا بكل الاوراق.

النهار

 

 

 

 

فشل دو ميستورا/ علي بردى

يعكس التصعيد العسكري الواسع في مدينة حلب الوجه الأقبح لفشل المقاربة الديبلوماسية التي اعتمدها المبعوث الخاص للأمم المتحدة الى سوريا ستافان دو ميستورا. لم يستثمر جيداً في الأدوات القانونية والسياسية المتوافرة لديه في المنظمة الدولية التي يمثلها. لا يزال ينتظر الترياق من التوافق – المهم للغاية بلا شك – بين رئيسي مجموعة الدعم الدولية لسوريا، وزيري الخارجية الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف.

أدت مقاربة دو ميستورا عملياً الى تقليل شأن الأداة الأهم على الإطلاق للعثور على مخرج سياسي للحرب السورية. أهمل الى حد بعيد بيان جنيف لحزيران 2012 الذي توسط فيه سلفه في هذه المهمة الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيرته الأميركية في حينه هيلاري كلينتون. قطع الأمل في إمكان صوغ خطوات محددة لعملية الإنتقال السياسي، ومنها تأليف هيئة حكومية انتقالية تحظى بكامل الصلاحيات التنفيذية بموافقة أطراف النزاع. بل أنه لم يتعامل بجدية كافية مع اقتراحات محددة قدمها اليه مسؤولون دوليون لاختيار الشخصيات المقبولة لرئاسة هذه الهيئة ولعضويتها. مرّ على اسم الوزير السوري السابق عبدالله الدردري مثلاً مرور الكرام. أخفق أيضاً في انتزاع موافقة واضحة من موسكو وواشنطن على سبل تحديد الجماعات الإرهابية في أطر الأمم المتحدة. ثمة أساس قانوني متوافر أصلاً عبر القرارات الخاصة بتنظيم “القاعدة”. لم تكن له يد في إضافة “الدولة الإسلامية – داعش” و”جبهة النصرة”.

استعاض عن ذلك بما سمي “عملية فيينا” وإعلاناتها البديلة من بيان جنيف. فوّت فرصاً كثيرة حتى بعد تشكيل مجموعة الدعم الدولية لسوريا. تجلى ذلك في أدائه الخجول أخيراً في نيويورك لمجموعة الدعم. لم يجتهد لإعادة الثقة بين كيري ولافروف. هل ينتظر أن يقطف ثمار الجهود التي بذلها كبيرا الديبلوماسيين الأميركيين والروس مجدداً؟ كان الهدف متواضعاً على أي حال: العودة الى وقف العمليات العدائية عبر خطوتين لا توافق عليهما، وقف طلعات الطيران الحربي السوري وفصل قوى المعارضة المسلحة عن “النصرة” بمسمياتها المختلفة (“فتح الشام”) و”داعش” وسائر الإرهابيين المرتبطين بالمذهب الإرهابي لـ”القاعدة”.

العملية السياسية في خبر كان!

لا يمكن دو ميستورا، الذي ينتهي عقده الراهن مع الأمم المتحدة في آذار المقبل، أن يفكر في طريقة البقاء في مهمته بينما يوضب نظراؤه مع الأمين العام بان كي – مون حقائبهم. كذلك يفعل كيري الذي سيفقتد العالم قدراته الإستثنائية قريباً حين يغادر الرئيس باراك أوباما البيت الأبيض.

يدفع السوريون أثمان الإنكفاء الأميركي السريع والمحاولة الروسية المجلجلة لملء الفراغ في ساحة الشرق الأوسط وعجز الأمم المتحدة ومبعوثيها.

أما حلب فقد تكون، استناداً الى كيري، قرطاجة الجديدة.

النهار

 

 

 

 

حلب: الموت رحمة/ مهند الحاج علي

تحت ركام مبنى في حي المواصلات القديمة الحلبي، رقد أب يحضن طفلاً رضيعاً، ويضع يده اليمنى على رأسه. أظهرتهما صورة نشرها الدفاع المدني، متجمدين في سرير غطاه الركام وطبقة من الرماد الكثيف. لحظة سلام نادرة في حلب، ولا يوفرها سوى انقطاع النفس. التنفس عبء في هذه المدينة. في الصورة ذاتها، أحد رجال الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) يُزيل الأنقاض المحيطة بالضحايا لانتشالهم، أو ربما بحثاً عن أحياء تحت الركام.

لكن أين الأم؟

بعدها بساعات، تنشر صفحة الدفاع المدني على الفايسبوك، صوراً وفيديو لمجزرة في حي ”بستان القصر“. 13 قتيلاً و150 جريحاً. 150؟ أي يذهب مثل هذا العدد لتلقي العلاج؟

كانت الغارات الجوية دمرت كل مستشفيات مناطق حلب الخارجة عن سيطرة النظام خلال أسبوع واحد في تموز الماضي. لم يجد هؤلاء الجرحى سوى أرض مشفى ميداني (شقة خالية). لا أسرة طبعاً. أنابيب المصل تتدلى من السقوف والجدران، وصراخ الجرحى يتعالى في الغرف الضيقة المكتظة بهم. رجل أُصيب بعينيه ولُفت بقطع قماش تُغطيها الدماء، وآخرون مُزّقت أطرافهم يواصلون تحريك رقابهم ورؤوسهم صعوداً ونزولاً، وكأنهم يُحاكون وسادات مفقودة.

والمستشفى، من ناحية التصميم، أروقة وغرف وأسرة وتعقيم ومعدات. لكن في هذا المشفى الميداني في حلب، العملية عكسية. ينام الجرحى على الأرض وتختلط دماؤهم وعويلهم، والأرجح أيضاً روائح الدماء والعرق. هذا اجتماع لسيئي الحظ، أي ممن بقوا على قيد الحياة وسط هذا الدمار ومصانع الموت، جواً وبراً. هم أحياء بانتظار جولة أخرى من الموت.

والدفاع المدني، علاوة على عمله الميداني، يُوثّق على صفحته تحولات المدينة، وتحديداً هذه الأحياء المستهدفة دوماً، أي ”المواصلات القديمة“ و”الباب“ و”بستان القصر“. شُرفات الأبنية تتدلى منها عمودياً، وتأخذ معها بعضاً من الغرف الأمامية. فلا زوايا هُنا ولا أشكالاً تُوحي بالباطون المتماسك. فهذه الحرب، وعلى عكس النزاعات الأهلية، لا تُظهر آثار الرصاص، بل مُخلّفات أمواج من الانفجارات المتتالية. إنها حرب من طرف واحد. فمن يملك السماء، أي طيران روسيا والنظام السوري، يتصرف كمسلح دخل الى منزل يقطنه مدنيون يُريد الانتقام منهم في أفلام المافيا. يُطلق نيران رشاشه الأوتوماتيكي دون توقف، ويتفنن بقتل كل واحد منهم، يُغدقه الرصاص بكرم شديد. لا منازع هُنا بل فضاء رحب لامتحان القدرة البشرية اللا متناهية على الشر والتلذذ بالقتل.

والبراميل تتساقط منذ سنوات على هذه الأحياء، ثم جاءت المقاتلات الروسية بغاراتها المتتالية، والقنابل العنقودية. خلال الأيام الماضية، سمعنا باستخدام قنابل اختراق التحصينات أو ”مدمرة الملاجئ“ المعروفة بإسم Bunker Buster. هذه لا تُدمر فحسب بل تحفر الطوابق السُفلية أيضاً، إن كان هناك من يختبئ بها لحماية أطفاله، وهي جريمة في عُرف النظام والقوات الروسية.

مثل هذا النوع من التدمير ينتقص من عمل الدفاع المدني. لن تترك لهم القوات الروسية طفلاً يُنقذونه. وقد طال القصف مركز هنانو للدفاع المدني، وحرم بالتالي المنطقة من سواعد تنتشل ضحاياها.

في منشور لاحق، يكشف ”الدفاع المدني“ مصير المرأة، أم الطفلين القتيلين في ”المواصلات القديمة“، وزوجة الأب المغطى بالغبار وهو يُعانق طفله. ”خرجت على قيد الحياة“ من تحت الأنقاض، أعلنت الصفحة. في صورة منشورة مع الخبر الموجز، تحمل الأم طفلها، ابن الـ8 شهور. تشده إلى صدرها وقد غطاه غبار الركام الممزوج بالدم، وتنظر إلى السماء مفجوعة. إلى من كانت تُوجه أنظارها؟ إلى القاتل؟ أم إلى الله؟

أن تُفجع أم بعائلتها الكاملة، صنف خاص من التعذيب. لا سلام هنا. في مثل هذه اللحظات، الموت رحمة!

المدن

 

 

 

 

روسيا تقرر الحسم العسكري في سوريا/ حسين عبد الحسين

أوباما لا يهتم فعليا لما يجري في سوريا، ويفضل أن تقوم روسيا بتثبيت المناطق خارج سيطرة “داعش” (ا ف ب)

أن يكرر وزير خارجية الولايات المتحدة جون كيري أن لا حل عسكرياً ممكناً في سوريا، لا يعني أن ما يقوله صحيحاً، خصوصاً بعدما شعرت روسيا أن أميركا ليست جدية، أو انها غير قادرة، على تقديم استسلام المعارضة السورية المسلحة.

هكذا، بعد صولات وجولات ديبلوماسية امتدت على مدة اكثر من عام، رافقتها ثرثرة أميركية لا متناهية عن “الرؤى المشتركة”، و”المحادثات الايجابية”، و”تقليص الفجوات”، تبين أن روسيا قررت ان تحسم الأمر عسكرياً في سوريا حتى تلقن العالم درساً مفاده أن ما يهم في الشؤون الدولية هو ما تقوله موسكو، لا ما تتفوه به واشنطن.

وروسيا لا يهمها كثيرا الرئيس السوري بشار الأسد او قواعدها العسكرية في طرطوس وحميميم. ما يهم الروس هو تقديم الاحداث السورية كنموذج للنظام العالمي الجديد الذي يتصوره رئيس روسيا “القوي” فلاديمير بوتين. هو عالم لا مكان فيه للضعفاء، تحدد فيه موازين القوى العلاقات، ولأن روسيا هي الاقوى، اذا هي رأس العالم.

أما هدف بوتين من استعراض عضلاته العسكرية، فضلا عن تشتيت الانتباه الروسي عن فشل الداخل، فهو دعوة الدول غير الصديقة لأميركا للانضمام الى محور عالمي بزعامته. دعوة بوتين هذه لا تقتصر على التحالفات العسكرية، فهو ما زال متمسكا بتحالف “بريكس” الاقتصادي، المؤلف من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب افريقيا، ومصرّ على اقامة بنك دولي لهذه المجموعة لينافس المؤسسات الاقتصادية العالمية التي تتزعمها اميركا واوروبا.

وفي السياق نفسه جاء تباهي بوتين باستخدام قاذفاته قاعدة جوية في ايران، للايحاء ان طهران دخلت تحت عباءة منظومته الدولية، وهو ايحاء رفضته ايران فور شيوعه. وفي هذا السياق ايضا حاول بوتين استقطاب حكومة بغداد الشيعية، وتركيا، وكردستان العراقية، واسرائيل، والأردن، ومصر.

لكن مثلما تبين ان منظومة بوتين الاقتصادية هي نمر من ورق، مع دخول اقتصادات روسيا والبرازيل وجنوب افريقيا ركودا اقتصاديا مزمنا، وتعثر الصين، وتراجع الهند، وتكريس الاخيرة تحالفها مع اميركا، كذلك تبدو هيمنة بوتين عسكريا على ايران كاذبة، وصداقته مع تركيا وحلفيتها كردستان العراق سطحية، وتحالفه مع اقرب حلفاء أميركا اسرائيل والاردن ومصر وهميا.

تبقى سوريا، التي يبدو فيها النصر شبه مجاني لبوتين، ويبدو انه لا يتطلب اكثر من بضعة الاف قنبلة عنقودية ونابالم حارقة، وابادة عشرات الاف الحلبيين السوريين، والسماح لميليشيات ايران بتنفيذ رغباتها في استماتتها لانتزاع مناطق الثوار.

ويبدو النصر في سوريا شبه مجاني لبوتين، ديبلوماسياً أيضاً، بسبب قرار الرئيس الأميركي باراك أوباما، منذ اليوم الاول لاندلاع الثورة السورية في العام ٢٠١١، تصنيف الأزمة السورية في خانة “مكافحة الارهاب” حصراً، وهو ما يعني انه يمكن لموسكو القيام بما يحلو لها طالما ان ما تفعله لا يتعارض مع سياسة واشنطن المخصصة لاكتساح اراضي داعش عسكريا.

على انه في اللحظة التي تبدو فيها سياسة أوباما غير مهتمة بمجريات الاحداث في سوريا، تطل علينا ادارته بحظرها اقرار ابسط القوانين المخصصة لمحاسبة الأسد ومسؤولي نظامه عن ارتكاب جرائم حرب بحق السوريين في سجونهم، في خطوة تظهر انحياز أوباما الفاضح تجاه الأسد.

أوباما لا يهتم فعليا لما يجري في سوريا، ويفضل أن تقوم روسيا بتثبيت المناطق خارج سيطرة “داعش”، وان يقوم التحالف الدولي باكتساح “داعش” وتسليمه لرئيس حكومة العراق حيدر العبادي وميليشياته الايرانية. كما يتمنى أوباما ان لا تحدث “مفاجآت” في الايام المئة الاخيرة له في الحكم، وهو ما يقتضي أكبر كمية ثرثرة من كيري بهدف اضاعة الوقت.

في هذه الاثناء، سيسجل بوتين اكتساحاً عسكرياً ضد المعارضة السورية، وسيرميه في وجه أوباما، اللامبالي، قبل خروج الاخير من الحكم. اما كيري فسيواصل ثرثرته التي تترواح بين الاشادة باتفاقية الهدنة مع روسيا ومطالبته الفارغة بفرض حظر جوي فوق مناطق المعارضة.

المدن

 

 

 

 

“معركة حلب” ترسم مصير الإقليم/ عبدالمعين زريق

«حلب هي مطبخ العالم». تعبير يذكر بتاريخ هذه المدينة العريقة في تاريخ سوريا الطبيعية، جاء على لسان ملك أوروبي في عهد غابر عندما وقف على تلة مرتفعة، يراقب خيوط الأدخنة المتصاعدة من منازل أهالي حلب ومطابخها ومطاعمها الشهيرة.

ومن المعروف بداهةً، ما يتمتع به المطبخ الحلبي من تراث وتقاليد راسخة تأخذ حيزاً وازناً في المطعم والطبخ الشرق أوسطي.

المدينة التي كانت السيارة تستطيع قطع مسافة محيطها كاملاً عبر محلقاتها الواسعة، بمدة زمنية لا تزيد عن ساعة واحدة قبل الحرب على سوريا، أصبح الآن من المتعذر، بل من المستحيل، الانتقال عبر هذا المحيط المقطوع بالمتاريس النارية ويكاد يتعذر عبورها على جيوش عالمية كبرى، وبالتالي صار من السهل الوصول إلى الاستنتاج الذي أدركه الحلبيون مبكراً: أن الحدود التي قطعت حلب إلى نصفين ما هي في حقيقتها إلا حدود تصارع مشروعين عالمين، وهي تعني بصورة أدق، صلب مشروع وجوهر الحرب على سوريا ودخول جديد وانزياح متقدم غير مسبوق لحدود «حلف شمالي الأطلسي» في الجغرافية السورية.

إن كل البروباغندا الإعلامية والشعاراتية الثورية التي غطت في سوريا مجريات الاحداث التي اجتاحت المنطقة، مع ظهور لوثة «الربيع العربي»، إنما جاءت بقصد ضم سوريا إلى المحور الأميركي في المنطقة، عبر ليّ عنقها وقرارها الوطني وإدارتها بزاوية أفقية معاكسة، في حدث تاريخي مشابه لما حاولته القوى نفسها في عام ١٩٥٧، وتحت ذرائع مماثلة.

في المرة السابقة اتُهمت سوريا بالشيوعية، وأُريد «استخلاصها» بالوصاية المباشرة من الشيوعيين، بينما تتهم سوريا الآن بـ«التشيّع» ويراد «استخلاصها» مجدداً، ومن القوى نفسها من محورها المقاوم «الشيعي الصفوي» بلغتهم، الأمر الذي فشل قديماً عبر النهوض العربي القومي التقدمي بالاتجاه إلى الوحدة مع مصر والتحالف الاستراتيجي فيما بعد مع الاتحاد السوفياتي وانكفاء أعداء سوريا وخصومها وجيرانها الألداء.

هل تنضج تفاهمات

روسية إيرانية تركية تنزع حلب

من التجاذبات الدولية؟

ومشروع «أمركة» سوريا يواجه حالة استعصاء في الوقت الراهن ضمن سياق الحرب التي تجري على أرضها، حيث يحمل «الثوار» معهم حدود «الأطلسي» على أظهرهم ويتقدمون به في أماكن مختلفة في سوريا، لكن أبرز تمظهر لتقدم وتراجع هذه الحدود المتغايرة ضمن تصارع المحاور الإقليمية والمشاريع العالمية تمثله مدينة حلب.

بتاريخ ١٩ تموز ٢٠١٦، شهدت حلب الذكرى الخامسة لاجتياحها من قبل المسلحين، الريفيين في معظمهم، كنوع من العقاب لحالة الشك والريبة التي نظر بها الحلبيون إلى ما سُمّي بـ«الثورة السورية»، حيث رفضت المدينة وخالفت كل «المواعيد الثورية»، وظلت على شكها المريب لوقت اجتياحها.

عاقبت «الثورة» حلب، وارتكب «الثوار» و«المجاهدون» في حلب آثاماً وخطايا، ما لا يمكن إخفاؤه أو التنكر له، يترجم نمطاً جديداً في تفكير الثورات الحديثة المستوردة التي تحرق مدنها وتهدم أوابدها التاريخية، ثورات تعمل عبر وكيل خارجي يرشّ الوعود بإعادة الإعمار والرفاهية، لكن بعد التدمير الشامل وإفقار الوطن ودفع الناس إلى خيار اليائسين المضطرين إلى ركوب ثورات «الأطلسي» الملونة والحركات الأتبورية العالمية.

تشتعل الحروب في حلب منذ تم الإعلان عن «ملحمة حلب» التي أطلقها السعودي عبدالله المحيسني في شهر آب الجاري، واستطاعت الفصائل المنضوية في جحافل سياسات المحور «الأطلسي» تحقيق خرق في جنوب غرب حلب في جزء من حي الراموسة والكليات العسكرية المجاورة، وتم خلالها فتح ثغرة اتصال إلى الأحياء المحاصرة الواقعة تحت سيطرة المجموعات المسلحة، بينما قوبلت المستجدات أخيراً باتخاذ قرار مضاد من الحلف السوري الروسي الإيراني مع المقاومة بتحرير حلب، وفتح منافذ خروج للمدنيين ولمن يرغب من المسلحين بضمانات روسية وعفو رئاسي مكمل لمدة ثلاثة أشهر.

ويبقى التساؤل التالي ذا أهمية بالغة: هل تستطيع اندفاعة كبيرة لمحور حلفاء سوريا ــ يبدو أنها ستكون أشد من «عاصفة السوخوي» السابقة ــ الاستفادة من التفاهمات الجديدة والصفقات السرية في ما يخص الساحة السورية وإنقاذ حلب من اللعبة الدولية، وضمها إلى الدولة السورية بهامش آمن متدحرج نحو الريف المجاور، في فرصة تبدو ذهبية؟ وبذلك يدخل الصراع بين المحاور في لعبة معقدة أخرى على الشمال والشرق السوري وخوض معارك أخرى لتعطيل مفاعيل مشاريع التقسيم والفدرلة، الأمر الذي يتطلب اصطفافات جديدة ومصالحات صعبة ومواجهات عسيرة.

تخوض حلب اليوم حرب سوريا والإقليم بعد فشل متكرر للهدنات ولحالات الاتفاق المتعثر الروسي الأميركي، حربٌ تتصارع فيها المشاريع، وفيها تتحدد مصائر الشرق والعالم لعقود طويلة، حروب كسر عظم شرسة، يمكن فيها لمن يزور حلب هذه الأيام أن ينظر من أي سطح مرتفع أو تلة عالية أو بناء بطبقات متعددة، أن يشاهد كل يوم تقريباً سحباً كثيفة من الدخان الأسود تغطي سماء المدينة بشكل شبه كامل، سحب ناجمة عن احتراق إطارات سيارات مستخدمة في غزوة «ملحمة حلب» أو تلك الناجمة عن القصف الذي يستهدف به الجيش السوري وحلفاؤه مواقع المسلحين و«الجهاديين»، وعندها سيدرك الناظرُ المترقب تماماً وبسهولة أن حلب بالفعل هي «مطبخ العالم».

فهل ستكون هذه السحب الدخانية المتصاعدة فوق سماء حلب دليلاً على نضج الطبخات السياسية الموقَدة على تفاهمات روسية تركية إيرانية مستجدة؟ وهل باستطاعة هذه التفاهمات انتزاع حلب من التجاذبات الدولية مقابل شروط تركية مقبولة تحقق حلولاً معقولة للهواجس التركية في منع الكانتون الكردي ولمسألة اللاجئين في تركيا، ليتم ركن حلب في موقعها الوطني بشكل يماثل ما حدث في مدينة حمص سابقاً؟ وبذلك ترتسم آفاق منظورة واضحة للحرب على سوريا، أم لا زالت هناك سحب دخان كثيرة ستتصاعد من حلب ومن غيرها من مدن وعواصم مهمة مجاورة تنم عن معارك كسر عظم جديدة آتية في المنطقة تتدحرج الى ما يشبه «هرمجدون» العصر الأخير؟

* كاتب سوري

 

 

 

حلب والسوريون تحت رحمة.. “حلّاق واشنطن”/ إياد أبو شقرا 

مع أن مأساة سوريا تستعصي على الظرف، تذكّرني محنة الشعب السوري مع موسكو وواشنطن بنكتة موجعة سمعتها عن حلاّق حريص على أن يرث ابنه مهنته، لكن الولد لا يهوى الحلاقة ولا يريدها مهنة. وذات يوم أجبر الحلاق ابنه على حلاقة ذقن زبون بينما كان منهمكا مع آخر. وفجأة صرخ الأول فسأله الحلاّق عما به وعلم أن الولد جرحه.. ولشدة غضبه من ابنه حاول لطمه لكن الأخير رجع إلى الخلف فأصابت اللطمة الموجعة الزبون المسكين. واستأنف الابن الحلاقة لكنه سرعان ما ألحق بالزبون جرحا ثانيا، ومجدّدا همّ الحلاق بلطم ابنه لكن الابن تفادى اللطمة وأصيب الزبون.

وتكرّرت عذابات الزبون بين جروح الابن ولطمات الأب إلى أن قطع الابن أذنه وبادر إلى الاعتذار منه، فرجاه الزبون همسا أن يرميها بسرعة في سلة المهملات قبل أن يراه أبوه.. تفاديا للطمة أشدّ إيلاما!

هذا الوضع يصدق اليوم على القصف الروسي الوحشي لحلب، مقابل الاستنكار اللفظي من واشنطن و«تلويحها بوقف التعاون مع موسكو»!! فبينما يموت السوريون.. يقصف الروس ويوفّرون التغطية السياسية لجرائم بشار الأسد و«يحرد» جون كيري ويلوّح بوقف التعاون..

إنها لوحة سيريالية مأساوية بشعة تدلّ ليس فقط على انهيار المعايير الأخلاقية في السياسة الدولية، بل تشير أيضا إلى أن المنطقة العربية مقبلة على كارثة، وإلى أن ما اصطُلِح على تسميتها «الحرب على الإرهاب» تُدار بطريقة مخالفة للمنطق وتتجاهل عمدا جذور المشكلة وتغيّب أعراضها.

إن السكوت «المتفاهَم» عليه إزاء تدمير ما تبقى من مدينة حلب وتهجير أكثر من نصف أهلها مقدمة لإعادة تسليمها لنظام الأسد برعاية روسية – أميركية فرضت الصمت حتى على تركيا، يتكامل مع التحضيرات لتحرير الموصل أمام خلفية مشهد عراقي خطير.

ومن ثَم، فتركيز الاهتمام على ظاهرة «داعش» و«جبهة النصرة» بمعزل عن التعقيدات المحيطة بالصورة العامة للمنطقة، بكل تشابكاتها الأمنية والسياسية والعرقية والدينية والمذهبية، لن يؤدي إلا إلى «حل» مؤقت يخدم إدارة أميركية أتقنت ترحيل تبعات تقصيرها ومصالحها القصيرة الأمد إلى الإدارات التي ستليها، وقيادة روسية تسلّطية لا تقيم وزنا لا لحقوق الإنسان ولا المجتمع المدني ولا مفاهيم الديمقراطية ولا التفاعل بين الشعوب.

وبالأمس اعتذر الرئيس الأميركي باراك أوباما من الأسد على قصف عسكرييه في دير الزور، واستقبل رئيس وزراء العراق حيدر العبادي ليدعم علنا خططه لـ«تحرير» الموصل. وكان واضحا، قبل اللقاء وبعده، تأييد أوباما الكامل لسياسة بغداد التي ما عاد سرّا أنها تُصاغ في طهران. بل إن العبادي نفسه هو الذي كان قد أعلن صراحة أن قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري الإيراني» وقائد عملياته في سوريا، يعمل «مستشارا» للحكومة العراقية.

ثم إن معظم الجهات المتصلة بالوضع الداخلي العراقي، وفي مقدمتها الهيئات المهتمة بحقوق الإنسان، تربط ميليشيات «الحشد الشعبي» وتجاوزاتها الطائفية بـ«الحرس الثوري الإيراني»، ومع ذلك تتصرف حكومة بغداد وكأنها آخر من يعلم ويكترث.

وأخيرا وليس آخرا، دافع الرئيس أوباما وفريقه طويلا عن سلبيتهم تجاه سوريا، بـ«فشل التدخل في العراق» الذي انتهى بتدمير الدولة وسقوطها مفتتة في أحضان إيران. ومع هذا، بعد الاتفاق النووي مع طهران، صارت العلاقة معها «ثابتا» في سياسة واشنطن الشرق أوسطية، فسكتت عن تدخل الميليشيات الإيرانية ميدانيا في سوريا وهيمنتها على العراق ولبنان، وبات «التدخل الفاشل» لجورج بوش الابن في العراق الأرضية التي بُنيت عليها سياسة إدارة أوباما على امتداد المنطقة.

في ضوء هذه المعطيات غدا ضروريا التساؤل: إلى أين ستتّجه المنطقة بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في الأسبوع الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل؟ وهل سيواصل مَن يخلف أوباما (أو تخلفه) السير في خطه بصرف النظر عمن سيفوز في هذه الانتخابات على اعتبار أن التغيير الذي طرأ منذ سريان مفاعيل الاتفاق النووي كبير جدا، وأن عملية إعادة تأهيل إيران أميركيا قطعت شوطا بعيدا بالتوازي.. مع تغلغل مُناصري إيران في أروقة الكونغرس والإعلام ومراكز الأبحاث وشبكات المصالح المالية.

متابعو حملة المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون رصدوا منذ بعض الوقت تشكيلها فريق مستشاريها لشؤون السياسة الخارجية، وبين الأسماء التي يتوقع أن يكون لها صوت مسموع بالنسبة لقضايا الشرق الأوسط والعالم الإسلامي والإرهاب: جايك سوليفان وفيليب غوردون ولورا روزنبرغر، بالإضافة لشخصيات مخضرمة مثل مادلين أولبرايت وليون بانيتا. ويرى المتابعون أنها لن تتبنى بالكامل كل سياسات أوباما، بل ستوازن بين النظرة المصلحية العملية التي اعتمدتها الإدارة الديمقراطية في عهد بيل كلينتون والنظرة العقائدية الانكفائية – بل الاعتذارية – التي تبناها أوباما. ولكن وجود سوليفان وغوردون بالذات ضمن الفريق لا يشجع على التفاؤل. فالأول شكّل مع وليام بيرنز (نائب وزير الخارجية) وبونيت تالوار (مستشار الشؤون الإيرانية) «ثلاثي» فريق المفاوضات السرّية مع إيران في مسقط وكان أحد مخطّطي سياسة واشنطن في سوريا وليبيا وميانمار (بورما). والثاني من «ثوابت» سياسة أوباما الشرق أوسطية الكارثية ولا سيما تجاه سوريا، والاثنان – مع زميلهما بن رودز – مقرّبان من لوبي «ناياك» الإيراني في واشنطن.

وعلى الضفة الأخرى، هناك فريق المرشح الجمهوري دونالد ترامب الذي يضم مجموعة من الشخصيات اليمينية المتشدّدة، والبعض منها مناوئ لتمدد نفوذ إيران لكنه أيضا مناوئ للمسلمين عموما. وبين الأسماء الأبرز جورج بابادوبولوس والأكاديمي اللبناني الأصل وليد فارس. الرجلان مهتمان بقضايا الشرق المتوسط وينتقدان بشدة «انسحاب» أوباما من المنطقة، وفي حين سبق للأول أن نصح إسرائيل عام 2015 «بالتعاون مع روسيا من أجل أمنها، وكذلك مع سوريا ولبنان وربما مصر»، تتهم الجماعات الإسلامية الأميركية الثاني بـ«الإسلاموفوبيا».

وهكذا، فنحن العرب أمام «معلوم» ديمقراطي مؤسف و«مجهول» جمهوري مقلق. وحالنا كلنا أضحى كحال السوريين، وبالأخص حلب، مع «حلاٌق واشنطن» الذي يضرّ حتى عندما يريد أن ينفع!

 

 

 

 

الغرام البعثي بالموت الجماعي (هولوكوست حلب نموذجا)/ فاضل السلطاني

من فضائل البعثيين التي من الصعب أن ينكرها المرء أنهم يفعلون ما يقولون. قالوا عام 1968 في العراق إنهم سيتركون الأرض بلا بشر. وفعلوا. امتلأت الأرض بأكثر 500 مقبرة جماعية، ودفن فيها أكثر من نصف مليون قتيل، وهاجر منها نحو أربعة ملايين إنسان إلى المنفى. وفي حلبجة كردستان العراق، تبخر عام 1988 أكثر من خمسة آلاف إنسان في لحظات، بغاز الخردل والسارين. البعثيون يحبون الحصاد الجماعي.

قال العالم حينها إنها الجريمة الأسوأ في القرن العشرين. وصرح عالم الاجتماع البريطاني الأشهر أريك هوبزباوم أنه كره القرن العشرين، الذي يستخدم فيه حاكم السلاح الكيماوي ضد شعبه. كانت المرة الأولى عام 1915 في الحرب العالية الأولى حين استخدم الجيش الألماني، في عهد فيلهلم الثاني، غاز الكلور فقتل 15 ألف جندي من جنود الحلفاء دفعة واحدة. والآن، وبعد أكثر من قرن من التقدم البشري والحضارة وحقوق الإنسان وثورة المعلومات والتطور التقني الهائل الذي توجه بالبراميل المتفجرة، نرى حاكما آخر، في القرن الواحد والعشرين، لم يكتف بقصف شعبه بالغاز الكيماوي مرة واحدة أو مرتين أو ثلاثا، بل تحول ذلك إلى فعل روتيني. وماذا تريدون أن يفعل غير ذلك؟ يلقي عليهم البالونات الملونة؟ أم الحلوى؟ ولماذا لا يفعل ذلك في عالم يقول ما لا يفعل. كان على هوبزباوم أن ينتظر ليكره قرنين كاملين.

حاكم آخر، عربي أيضًا. صار عندنا حاكمان عربيان وطنيان مقابل حاكم واحد أجنبي في تاريخ البشرية كلها.

أرض بلا بشر مرة أخرى. وماذا يفعل هؤلاء أساسا بالبشر؟ لا حاجة لهم. أمامنا الآن شاهد آخر، ما يزال طازجا طزاجة الدم، إذا استثنينا الشواهد الأخرى، التي صارت عتيقة، فذاكرتنا أوهى من خيط عنكبوت. أمامنا الآن هولوكوست حلب.. هولوكوست لا يراه أحد، ولا يسمع أزيز نيران أفرانه أحد. والقاتل تزداد ابتسامته بلاهة، أكثر من بلاهة العالم كله.

لترحل حلب إلى أرض أخرى. نريدها بلا بشر، كما رحلت داريا من قبل، والمعضمية وحي الوعر.. وسوريا كلها.

حاصر نابليون موسكو 1812. ثم دخلها، لكنه لم يجد شيئا سوى الخراب والأرض المحروقة. فعاد من حيث أتى. ماذا يفعل بأرض بلا بشر؟

كيف يمكن أن ينتصر المرء على أرض جرداء، على أحجار متساقطة، وأشجار منزوعة عنها أغصانها، وطيور ميتة في أوكارها، وقبور مهجورة لا يزورها أحد؟ من يريد أرضا كهذه؟

كان الروائي الأردني غالب هلسا يطلق على صدام حسين لقب «عاشق الموت». وعشاق الموت كثيرون في التاريخ العربي، وأخطرهم أولئك الذين شاءت الصدف أن يتحكموا برقاب البشر، من الحجاج، إذا ذكرنا أمثلة فقط، إلى صدام حسين إلى الأسد الأول والثاني. ولكي نكون منصفين، لا بد أن نسجل للثاني تفوقه على أسلافه، حتى على أبيه، في عشقه للموت، وبشكل خاص موت الأطفال، قبل أن يصيروا رجالا غليظين. «أرض بلا بشر» درس تعلمه الأسد وحفظه جيدا في مدرسة البعثيين، الذين أثبتوا حقا أنهم أوفياء لأساتذتهم النازيين.

*نقلاً عن “الشرق الأوسط”

 

 

 

قتل في حلب.. وجدل بنيويورك/ بكر عويضة 

لو استمر جدل مجلس الأمن الدولي بشأن مجازر سوريا أسابيع أو أشهرًا، فلن يضر ذلك واشنطن أو موسكو شيئًا، أما حقول الدمار والقتل فسوف تتسع رقعتها أكثر، بينما ترتفع أعداد الضحايا؛ قتلى ومشردين وجوعى، في حلب وحولها، بدمشق وجوارها، عاث الفساد فضرب خير البلاد من درعا إلى الرقة حتى الحسكة ودير الزور، لا أحد ينجو من عمى شرٍ كاد يدمّر إرث حضارة الإنسان وينسف كل ما يرمز لها في تدمر، بل إن قوافل غوث تحمل الغذاء أو الدواء تطالها الحمم، فتعجز الأمم (غير) المتحدة عن لوم طرف محدد، كأن القصف هبط من كوكب آخر، أو كأنما كل هذا الرهط المتقاتل فوق جثث الأبرياء بسوريا، أو العراق، وبأي مكان يُقتل فيه البشر جورًا، ليس بينه مَن يملك جرأة تحمّل حتى مسؤولية القتل الخطأ. الحق أن في هذا ما يعزز القول إن كل الذين يقتلون لمجرد القتل، هم جميعًا جبناء يزعمون شجاعة الرجال، ذلك أن للحروب قوانينها، ولفرسان الوغى نبل خُلقٍ هم أجمعون منه بَراء.

ليس بوسع أحد التكهن كم من الزمن يستمر تبادل التهم بين واشنطن وغيرها من عواصم الغرب، من جهة، وموسكو وحلفائها في الجهة المقابلة، حول من المُلام أكثر من الآخر بسبب مآسي سوريا، لكن المؤكد هو أن سوريا التي ذهبت مع ريح ما سمي «ربيع» العرب لن ترجع، لقد ولّت الأدبار، ومحلّ نسيجها المتناغم حلّ دمار بني ملجم الجدد.

تُرى، أهو حريق مكتبة بغداد مقدّر له أن يتكرر على أبواب قلعة حلب، أهم تتار جنكيز خان يستنسخ نهجهم «داعش» أبي بكر البغدادي وما شابهه؟! ألم يقل أولون إن نصوص التاريخ تعيد إنتاج ذاتها بشخوص وأسماء شتى؟ نعم، إنما قلّ التعلّم من دروس الماضي، وندر أن يعتبر القوم مما جرى لأسلافهم، فتوالت الفتن على المسلمين، واحدتها تلد ما بعدها، وبدل أخذ العبر، ساد اعتقاد بأن الأسلم هو سدّ باب الكلام نهائيًا، وجرى إغلاق أبواب الاجتهاد بإحكام، فأطفِئت مصابيح تنوير كان الأحرى أن تُضاء في فضاء العالم الإسلامي كله، وعِوض أن ينهض فكر يفتح أبواب المستقبل أمام أجيال المسلمين بلا مساس بثوابت العقيدة وأركانها الأساسية، إنما كذلك من دون هلع إزاء أي تقدم في العالم يطوّر واقع الناس ويوفر فرصة العيش بمستوى حضاري أفضل في كل مجالات الحياة، عِوض ذلك راح تيار الترهيب ينتعش على مراحل، وإذ اشتد له الساعد أخذ يصول بمشارق أرض العرب ويجول في مغاربها، بلا حسيب يلجم مؤدلجين هم ورثة فكر ابن ملجم، ورغم أن بعضهم يضع ربطة العنق وقد يتسوق بأفخم متاجر أوروبا، لكنهم موجودون وراء ستار المسرح، يمارسون غسل الأدمغة، ويسهمون في تسويق إرهاب قتل أعمى لا يفرّق بين أطفال أو نساء، في مطاعم أو مكاتب، بأسواق أو في طائرات، بقطار أو في حافلات، بدعوى أنه «استشهاد» يطبق فريضة «الجهاد» وفق أهوائهم. وإذ وقعت قارعة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، فطفح كيل الدم، وشق دخان نار الكره الأسود الطريق إلى عنان السماء، بدا أن الوقت تأخر كثيرًا، وأن اختراق مجتمع العرب المدني اتسع على الرتق. رغم ذلك، لم يكن الاستسلام للتطرف هو الحل، فأن يأتي الدواء متأخرًا خيرٌ من ألا يأتي أبدًا.

ذلك الغياب للاعتبار حصل على صعيد المنازلة الفكرية مع فصائل التطرف وتنظيماته. أما على مستوى تصرف أنظمة حكم عربية عدة، فغياب أخذ العبرة، واستخلاص الدروس واقع منذ مطالع ما بعد التحرر من الاستعمار الأوروبي. في هذا السياق قد يفيد استحضار مقولة تاريخية للزعيم التونسي الحبيب بورقيبة خلاصتها أن الحفاظ على الاستقلال هو الجهاد الأكبر.

وافق التونسيون زعيمهم، فكرموا بورقيبة وأعطوه صفة «المجاهد الأكبر»، وجهِدوا للحفاظ على استقلال بلدهم وتحديثه، ثم أتت أجيال من الساسة راحت تقدم أمجادها ورفاهية حاشيتها على بسطاء الناس والمُعترين. بقية الدراما معروفة، ومتواصلة، ليس فقط بتونس الخضراء، بل في كل بلد عربي زعم ساسته، سواء في الحكم أو المعارضة، أنهم حريصون على استقلال الوطن ومستقبل أبناء البلد، فيما ولاؤهم يتنقل وفق الهوى، يُباع ويُشترى بأسرع من حركة الأسهم في نيويورك أو لندن أو غيرهما. أين العجب إذن أن تتمدد حقول الدمار والقتل بسوريا وغيرها، فيما الحل رهن التوافق بين واشنطن وموسكو؟!

الشرق الأوسط

 

 

 

 

روسيا تُجاري الأسد …حلب أرض محروقة/ موناليزا فريحة

كل المؤشرات كانت تدل على أن اتفاق وقف النار في سوريا هو مكسب إضافي لموسكو في صراعها مع واشنطن على سوريا. فبالشكل الذي خرج به، كان سيتيح للرئيس بوتين تحقيق هدف جديد من الأهداف التي وضعها لتدخله في هذا البلد، وهو اعتراف أميركي ببلاده حليفاً أساسياً في الحرب على “داعش” و”النصرة” وغيرهما من الجماعات التي يدعي محاربتها هناك.

وفي المقابل، بدا الاتفاق الذي شابته عيوب كثيرة، وخصوصاً من حيث الافتقار الى الاجراءات العقابية للمخلين به، هو بمثابة استسلام للسياسة الأميركية في سوريا. ومع ذلك، لم يبخل البيت الأبيض بأي تنازلات لإنجاحه، بما فيها تجاوز تحفظات “البنتاغون” عنه والضغط على الديموقراطيين في مجلس الشيوخ لوقف التصويت على مشروع قانون يتيح فرض عقوبات على النظام السوري ومعه روسيا وإيران، على خلفية الفظاعات المرتكبة في حق المدنيين والسجناء.

على هذا الأساس، كان مفترضاً أن تبذل موسكو قصارى جهودها لإنجاحه، بما في ذلك الضغط على النظام السوري لالتزام الهدنة وعدم قصف مواقع المعارضة والسماح بدخول المساعدات الانسانية الى المناطق المحاصرة تمهيداً للانتقال الى المرحلة التالية لاقامة مركز أهداف موحدة وشن غارات مشتركة وإعادة إطلاق العملية السياسية لاحقاً.

إلا أن أياً من هذه الخطوات لم يحصل، في ما عدا توقف القصف بضعة أيام. ومرة جديدة، عجز بوتين عن إلزام حليفه السوري التزام شروط الاتفاق، وها هو يجاريه في رغبته في خوض هذه الحرب حتى النهاية. فمعركة الأرض المحروقة التي يشنها النظام في حلب بدعم أساسي من روسيا والاسلحة الفتاكة التي تدك المدنيين ليست هدفاً روسياً بقدر ما هي تحقيق لحلم الأسد باستعادة المدينة ولو أنقاضاً. وهذا ما يحصل عملياً، ذلك أن أنواع الاسلحة المستخدمة في القصف لن تترك الاحياء المحاصرة من المدينة إلا أطلالاً وسكانها أشلاء جثثاً.

وبالطبع، لن يغيب عن بال موسكو في تصعيدها الأخير محاولة تحسين شروطها أكثر في أي اتفاق مقبل، والضغط على واشنطن للاستسلام لحل روسي تماماً بتصنيف مثلاً مزيد من الجماعات المقاتلة مثل “أحرار الشام” أو “جيش الاسلام” منظمات إرهابية. إلا أن إخلال موسكو بتعهداتها في الاتفاق والانهيار الوحشي للهدنة يزعزعان ثقة العالم بقدرتها على الضغط على الأسد، كما يعززان الاعتقاد السائد أن واشنطن متواطئة معها أو في أحسن الاحوال عاجزة عن التأثير في أي اتفاق معها.

… ما يحصل في حلب يثبت أن الحلول المبتورة في سوريا أو أنصاف الحلول كاتفاق وقف النار الاخير، هي في أحيان كثيرة أشد خطراً من الحرب نفسها!

النهار

 

 

 

 

 

ثمن «الحسم» في معركة حلب/ زهير قصيباتي

إدفع تسلَم…

بهذه العبارة أو فحواها تحدّث المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية دونالد ترامب عن مفتاح التحالف أو الشراكة مع أي دولة في العالم، في حال تمكّن من الدخول إلى البيت الأبيض، لاستعادة «قوة أميركا ومجدها» وهيبتها التي يظن أنها ضاعت، نتيجة تردُّد باراك أوباما وعجزه. وبعدما أطلق في بداية حملته الانتخابية وعوداً لانتشال الولايات المتحدة من «كبوتها»، أعلن بوضوح، في المناظرة التلفزيونية مع المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون، أن معيار التحالف مع أميركا المدافعة عن الحريات، سيكون دفع الطرف المتحالف معها الفاتورة المناسبة.

بالتالي، أميركا التي برّرت لعقود طويلة خوضها حروباً بالدفاع عن «القيم الديموقراطية» في العالم، يريدها البليونير ترامب مجرّد شركة حراسة، مثل «بلاك ووتر» في العراق، أو جيش مرتزقة لمن يدفع أكثر.

وبمنظار المصالح الأميركية التي رأى أوباما أن الدفاع عنها يقتضي عدم الانزلاق في صراعات المنطقة وحروبها، وعدم التضحية بالدماء الأميركية، تبدو طروحات ترامب مكمّلة لتلك الفلسفة، مع فارق وحيد، هو افتراض أن تقبض واشنطن الثمن، كلما ارتأت إنقاذ «حليف»، ولو بالتدخُّل عسكرياً.

وإن كان إحباط الناخب الأميركي يترجم قلقه على مصيره ومصير قوة كانت عظمى قبل عهد أوباما، فالمفاضلة بين ترامب وهيلاري قد لا تعني الكثير للعرب الغارقين في دماء الخرائط، التائهين بين بحور التشرُّد وصحارى المخيمات… إذا استُثني طيش ترامب وغروره اللذان يجعلان قيادته الجيش الأميركي، كارثة كبرى للولايات المتحدة وللعالم.

في تنديده بجر كلينتون (وأوباما) المنطقة إلى «الفوضى العارمة»، قد يشيع ترامب وهماً بأنه يحبّذ استقرارها، وهو تعهّد اقتلاع «داعش»، وإن كان لا يعلم بأي ثمن… ويتجاهل أيضاً أن وعده بالاعتراف بالقدس «عاصمة موحّدة لإسرائيل» ليس من شأنه سوى زيادة مشاعر اليأس والكراهية والحقد، وتغذية إرهاب «داعش» وسواه.

وأما إشادته بالرئيس فلاديمير بوتين، للإيحاء باستعداده للتعاون معه في إدارة أزمات العالم، فلا تبشّر العرب إلا بمزيد من الحروب والكوارث. لا أحد سيكترث الآن لصمت ترامب على المذبحة الكبرى في حلب، وما يفعله الروس ليحقق النظام السوري «انتصاره». تتبدّد مع الإبادة في حلب كل سيناريوات «بيع» الكرملين النظام بالتقسيط، حماية للمصالح الروسية. وأن يصبح البليونير سيد البيت الأبيض، فذاك سيعني أن مصير حرب كلّفت السوريين حوالى أربعمئة ألف قتيل، سيصبح بين يدي ترامب وبوتين… إما أن يجدد الأول تفويض الروس مهمة إدارة الحرب والحل، وإما أن يندفع لتشجيع خيار تقسيم سورية، لتفادي خسارة واشنطن كل الأوراق.

في الحالين، الكارثة للسوريين يُرجّح أن تتزامن مع تأجيج الصراع المذهبي في العراق، لدفع الشيعة والأكراد والسنّة إلى خريطة الدويلات، بعد دحر «داعش» في الموصل.

«إدفع نحارب» لحمايتك، شعار افتراضي لرئيس محتمل، لكنه في كل الأحوال يعكس حجم المأزق الذي يتخبّط به الأميركيون، والنتائج البائسة لتدمير سياسة إدارة أوباما الثقة بحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، باستثناء إسرائيل.

في ليبيا، حمّل الأميركيون الأوروبيين وزر الفشل في صوغ استراتيجية لليوم التالي بعد إطاحة نظام القذافي. في اليمن، تغاضت واشنطن عن تسليح إيران الحوثيين، لتمرير الاتفاق النووي… وفي سورية تكتفي إدارة أوباما ببيانات التنديد بين مجزرة وأخرى، فيما مجلس الأمن معطّل، والأمم المتحدة مغيّبة، وأوروبا محاصرة بضربات الإرهاب وأعباء موجات المهاجرين.

الكرملين يتحدّى الجميع، وواضح أنه يسعى إلى الحسم مع المعارضة السورية في حلب، تحت غطاء ضرب الإرهاب وجماعاته. وفيما واشنطن «مذهولة بتلك الوحشية»، عين تركيا على المسلحين الأكراد.

ألم يعلن النظام السوري أنه يريد «الانتصار»؟ يستعجل وإيران الهجوم البري في حلب، ولا تأبه موسكو للغضب الأوروبي، فالتوقيت حاسم فيما أميركا منهمكة بالانتخابات، ولن يقْدِم أوباما في أسابيعه الأخيرة على ما تردَّد سنوات في فعله لإنقاذ الشعب السوري.

ورغم كل الغبار، والدمار الذي يزرعه القصف الروسي على حلب، لفرض استسلام المعارضة السورية، هل مازال ملتبساً فهم دوافع التصعيد الإيراني ضد المملكة العربية السعودية، عشية «معركة حلب الكبرى»؟

مع هيلاري رئيساً أو ترامب، بوتين سيواصل نهج الحسم العسكري في سورية، وأما «عملية السلام» فمجرّد دخان للتضليل.

الحياة

 

 

حلب المُدمّرة بوابة الفيديراليّة؟/ راجح الخوري

ليس كثيراً اذا وصفت موسكو البيانات الأميركية عن ان باراك اوباما طلب من وكالات الأمن القومي الأميركي البحث في خيارات لخطة بديلة من الديبلوماسية في سوريا بأنها تصريحات طائشة وخرقاء، ذلك ان التصعيد الجنوني الذي يمارسه الروس والنظام وحلفاؤه في حلب، والذي أدى الى ما وصفه مدير العمليات الانسانية ستيفن اوبراين بأنه أخطر كارثة انسانية تشهدها سوريا، لن يدفع الإدارة الاميركية قبل أسابيع قليلة من مغادرتها البيت الأبيض الى تغيير حقيقي في سياستها التعامي عن المذبحة السورية.

قبل ثلاثة أعوام عندما قصف النظام الغوطتين بالسلاح الكيميائي لحس أوباما تهديداته بتوجيه ضربة عقابية اليه، والآن عندما يتم تدمير حلب على رؤوس أهلها سيلحس أوباما تلويحه بالقوة الذي يأتي في سياق لا لوقف تدمير المدينة بمقدار الحرص على ان يسمعه الناخب الأميركي كي لا تنعكس سياسة التخاذل الاميركية على خياراته الإنتخابية حيال هيلاري كلينتون!

هل هناك “خطة ب” عند واشنطن؟ ليس من الواضح. وهل توافرت أخيراً رغبة أميركية في تزويد المعارضة المعتدلة، صواريخ مضادة للطيران توقف التدمير المنهجي لحلب، او السماح للحلفاء بتزويدها هذا السلاح؟ أيضاً ليس من الواضح، وخصوصاً بأزاء تاريخ من مخاوف واشنطن من ان تصل الصواريخ الى أيدي الإرهابيين!

وهكذا عندما يتصل جون كيري بسيرغي لافروف معترضاً على التدهور البالغ للوضع في سوريا، ويحمّل موسكو مسؤولية الإنهيار المريع، بما في ذلك إستخدامها قنابل محرمة في مناطق مدنية، ويبلغه ان الإدارة الأميركية تناقش خيارات غير ديبلوماسية لمواجهة هذا التطور الخطير، يبدو الأمر فعلاً بمثابة تهديد واضح بتغيير قواعد اللعبة!

ولكن عندما تردّ موسكو في البدية بأنها على إستعداد لمواصلة التعاون مع واشنطن على رغم التهديد الاميركي بتعليقه، يبدو الأمر كمحاولة رياء جديدة لإمتصاص الإمتعاض. أما عندما تصف بعد ساعات قليلة التهديدات الأميركية بأنها مجرد تصريحات خرقاء فإن ذلك يعني واحداً من أمرين:

إما انها تدرك جيداً ان أوباما الذي كان بطة عرجاء قبل ستة أعوام، بات الآن بطة منتوفة عشية تركه البيت الأبيض، ولهذا فإن التلويح بخيارات بديلة تدرسها وكالات الأمن القومي الأميركي، لن يثني بوتين عن المضي في إقتناص فترة الإنحسار الأميركي ليفرض روزنامته السياسية من حلب الى أوكرانيا.

وإما أن أوباما المخاتل، يدفع بوتين الى ان يلعب ضمناً دور الشريك المضارب في سوريا، بمعنى تركه يرسم بالنار حدود التقسيم ويتحمل مسؤوليته [لأن من غير الممكن إستعادة نفوذ الأسد على كل سوريا]، وهو ما يخدم عملياً رهانات أميركا الواضحة على قيام منطقة كردية، التي تلتقي مع اعلان بوتين في آذار الماضي عن الحل عبر الفيديرالية، التي تشكل حلب بوابتها الأخيرة!

النهار

 

 

 

 

حلب والاهتزاز الأميركي السعودي نموذجان لا مؤشرات خارجية تغطي التحرك الداخلي/ روزانا بومنصف

ثمة تطوران على مستوى كبير من الاهمية والخطورة تعتقد مصادر سياسية انهما يوفران خلفية غير مريحة لتطور واقع الاوضاع في لبنان في الاسبوعين الاخيرين بصرف النظر عن الصلة المباشرة او غير المباشرة لهما بالواقع اللبناني ولو ان الحركة السياسية الداخلية الاخيرة والتي لا تزال مستمرة عزلت المعطيات الخارجية المؤثرة او التي يقال انها تؤثر من اجل التركيز فقط على المعطيات الداخلية . الامر او التطور الاول، والذي لم يخف الضجيج السياسي الداخلي، تتصل مفاعيله بالهجمة غير المسبوقة للطيران الروسي على حلب من اجل مساعدة النظام على استعادة السيطرة عليها في توظيف فاضح اولا لواقع تحول الرئيس الاميركي باراك اوباما بطة عرجاء، وهي التسمية التي تطلق على الرئيس الاميركي في اواخر عهده الرئاسي حين يغدو ضعيفا، في بداية الاشهر الاربعة الاخيرة من ولايته الرئاسية . فهو اذ وضع فيتو على قانون “العدالة ضد رعاة الارهاب” الذي يسمح لذوي عائلات ضحايا 11 ايلول 2001 بمقاضاة المملكة العربية السعودية لم يمنع الكونغرس الاميركي من اعادة التصويت عليه واقراره في مؤشر على الضعف الذي اضحى عليه اوباما وربما تصفية حسابات معه في اواخر ايامه الرئاسية. وثانيا للعجز الذي اظهره اوباما في مقاربة الملف السوري ومعرفة روسيا وعلى لسان احد الديبلوماسيين الروس انه يرغب في انتهاء عهده ببعض التهدئة في الملف السوري في الوقت الذي لم يفت روسيا كما سواها التناقض في المواقف الاميركية من الاتفاق الذي توصل اليه وزير الخارجية الاميركي جون كيري مع نظيره الروسي سيرغي لافروف بحيث اعتبر قصف التحالف بقيادة اميركا مواقع جيش النظام السوري في دير الزور محاولة لنسف التعاون مع روسيا عسكريا واستخباريا في سوريا. ومع ان مصادر ديبلوماسية عدة توقعت سعي روسيا وحلفاء النظام اي ايران ايضا الى الاستفادة من الوقت الضائع حتى انتخاب رئيس اميركي جديد وتسلمه مهماته من اجل فرض امر واقع جديد، فان التدمير المنهجي لحلب لم يكن متوقعا مباشرة من جانب روسيا وفق ما تقول هذه المصادر. لكن انخراطها المباشر يؤشر الى لامبالاتها برد الفعل الاميركي والغربي في ظل فرصة سانحة ومثالية لها لانها لا تخشى رد فعل عنيفا في المقابل. ولهذا كله وقعه في الخلفية الاقليمية للصراع المحتدم في المنطقة بحيث لا يمكن تجاهل ان رهانات كبيرة تعقد عليه من دون استبعاد ان يكون لحظة منتظرة لترجمتها في لبنان ايضا. ومع ان الولايات المتحدة اعلنت درسها جملة خطوات للرد على تدمير حلب وهي سعت بذلك الى حفظ ماء الوجه ازاء عدم قدرتها على ردع روسيا كما الى ابقاء المبادرة في يدها بدلا من انتقالها الى الدول الغربية الحليفة التي لا تستطيع تحمل تهجير جديد يوصل الوف اللاجئين الى ابواب اوروبا، فانه يخشى الا ينجح رد الفعل الاميركي في ردع اتجاه يبدو ماثلا للعيان اي تمكين روسيا وايران النظام من اعادة السيطرة على حلب لاسباب واعتبارات مفتوحة على احتمالات شتى .

الامر الاخر في الخلفية الاقليمية والذي لا يجوز اغفاله هو مفاعيل موقف الكونغرس الاميركي واقراره قانون ” العدالة ضد رعاة الارهاب” المعروف بـ “جاستا” بما يعنيه ذلك على مستوى الاستهداف المعنوي ولاحقا المادي للمملكة. اذ انه في خضم الصراع الاقليمي المحتدم بين الدول العربية الخليجية وايران يأتي اقرار الكونغرس الاميركي القانون المذكور ليوجه ضربة قاسية لحليف تاريخي في وقت صعب بحيث لكل عنصر من عناصر هذا الصراع ما يدخل عليه اهمية كبيرة خصوصا لجهة التحول الذي يشهده الواقع الاميركي بالانفتاح على ايران واقامة مسافات بين المجتمع الاميركي والمملكة العربية السعودية. ويعود ذلك الى زمن توقيع الاتفاق النووي مع ايران في تموز 2015 والذي كان منطلقا لتوتر بين الولايات المتحدة والدول الخليجية عموما والمملكة خصوصا لم تنته مفاعيله بعد على رغم المحاولات الجدية من الجانبين الاميركي والسعودي للتخفيف منه. لكن هذا القانون سيوظف حكما في الصراع الدائر في المنطقة من ضمن الحملات السياسية التي تشمل التقارير عن استهداف مدنيين واطفال في اليمن وما الى ذلك.

وبصرف النظر عن مفاعيل ذلك لاحقا وامكان استدراكه فان اللحظة الراهنة حافلة بمؤشرات سلبية بحيث تترك علامات استفهام كبيرة عن تأثير هذه المؤشرات على لبنان. اذ ان هذا الاخير الذي عاش على وقع مفاعيل الازمات الاقليمية المتناسلة خلال الاعوام القليلة الماضية يعيش ازمة خانقة لجهة تفكك مؤسساته الدستورية وفي ظل وضع اقتصادي يقارب الانهيار. وهي عوامل كافية وحدها لان تحرك محاولات السعي الى ايجاد خرق في الازمة المستمرة. لكن وفي ظل الصراع الاقليمي الذي ارخى بظلاله على لبنان لا ينظر الى محاولة الخرق الجارية في الوقت الحالي من زاوية محلية فحسب بل من زاوية الخلاصات الاقليمية ايضا وانعكاسها ليس فقط من حيث المناخات التي تتركها عموما بل من حيث ترك لبنان يتخبط وحده في محاولة ايجاد حل لا يدفع من خلاله الاثمان من خلال خيارات معينة. اذ ليس خافيا ان ليس ثمة اي ود بين العماد ميشال عون وسائر الزعامات وهناك تخوف كبير من وصوله ، لكن المشكلة ليست شخصية فحسب بل ايضا هناك قلق مما ستعنيه رئاسة عون في حال انتخابه في الميزان الاقليمي وما اذا كان انتخابه عنوان ازمة وليس عنوان انفراج على وقع مسار التطورات في المنطقة.

النهار

 

 

 

 

محنة حلب وكشف المستور بين الأميركان والروس/ د. خطار أبودياب

يتزامن الإصرار على سحق المعارضة السورية المسلحة في حلب مع حلول الذكرى الأولى للتدخل العسكـري الـروسي الكثيف في سوريا، ويتمثل الهدف في تحقيق انتصار كبير وفرض رؤية معينة لتأهيل النظام وتركيب المشهد السوري.

هل تكون المهمـة يسيرة خلال الأشهر الأخيـرة مـن ولايـة باراك أوباما، أم ستفشل من جديد حسابات اللاعبين الدوليين والإقليميين في تطويع الحراك الثوري السوري، في سياق نزاع متشعب يصعب احتواؤه والسيطرة عليه.

في الأيام الأخيرة لا تتعامل موسكو بجدية مع تحذيرات واشنطن وتستخدم القوة المفرطة، إذ أن التصعيد الأخير منذ أواسط الشهر الماضي أتى بعد سقوط اتفاق جون كيري – سيرجي لافروف الموقع في التاسع من سبتمبر، بعد كشف المستور من غموض مقصود وغير بناء.

من هنا، لا يمكن للتراشق الكلامي والسجال الأميركي الروسي الدائر حاليا أن يحجبا توافقا ضمنيا ورد في أحد بنود الاتفاق ينص على “بذل جهود مشتركة خاصة في حلب بما يخدم تطبيع الوضع في سوريا”.

وكان من الواضح أن التطبيع حسب فهم الروس هو الإخضاع على شاكلة ما جرى في الكثير من الأماكن التي شملها ما يسمى مصالحات قاعدة حميميم. لكن “الشيطان الذي يكمن في التفاصيل” دخل على خط الإبهام في الترتيبات مع عدم وقف إطلاق النار وعدم دخول المساعدات الإنسانية والتفسيرات المتباينة، إذ أن هدف الإدارة الأميركية هو تجميد النزاع و”ستر الوجه” قبل الدخول في حقبة البطة العرجاء، بينما كان هدف موسكو أن تساعدها واشنطن على تحقيق أهدافها.

يجدر التأكيد أنه منذ بدايات الأزمة السورية، استثمر فلاديمير بوتين كل طاقته في دعم بشار الأسد، لتكون سوريا نقطة ارتكاز حيوية للعودة إلى الساحة الدولية، والوصول إلى المياه الدافئة وفرض نفسه لاعبا دوليا.

ومما لا شك فيه أن الرئيس الروسي استفاد من ضعف سياسة أوباما، الذي سلّمه مفتاح الحل في سوريا، بالضبط منذ سبتمبر 2013 حين التوصل إلى الاتفاق حول السلاح الكيميائي السوري والتراجع عن الضربة العسكرية.

في هذا السياق ساد الانطباع عند المراقبين بأن جون كيري أراد التوصل إلى اتفاق بأي ثمن لإنقاذ سمعته الشخصية و“دوره التاريخي”، لكن موافقته على تشكيل غرفة عمليات مشتركة مع الروس لمكافحة الإرهاب (الأولوية الروسية التي استجاب لها المفاوض الأميركي كانت في الفصل بين المعارضة المعتدلة المسلحة وجبهة فتح الشام، النصرة سابقا) لم تكن تحظى بموافقة نهائية من البنتاغون ووكالة المخابرات المركزية الأميركية، لأن الشكل الجديد من الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن من أوكرانيا والبلطيق إلى الشرق الأوسط، لا يجعل من تقاسم المعلومات والعمل المشترك في الملف السوري لوحده (ولو تحت غطاء ضرب الإرهاب)، أمرا مرحبا به من المؤسستين الأميركيتين الموجودتين على خط التوتر، لأن ذلك يكشف الأساليب الأميركية وربما أصدقاء واشنطن المفترضين أمام الخصم التاريخي.

وربما تفسر ذلك الغارة الأميركية على الجيش السوري في دير الزور، وما تلاها من تصعيد روسي أخذ يهدد كل التنسيق والتعاون الروسي الأميركي في هذا الملف.

بالرغم من الرغبة الروسية في انتهاز الفرصة وإحراز الحد الأقصى من المكاسب، وبالرغم من الخلل بين المؤسسات الأميركية نفسها، كان يتمثل المستور في المشاورات الأميركية الروسية في عدم الإفصاح عن الخلاف المركزي على الهدف النهائي حيث يريد الروس تثبيت شرعية بشار الأسد، بينما يصر الأميركـان على “سوريا جديدة من دون بشار الأسد” (ورد هذا الكلام حرفيا في مذكرة تسلمتها المعارضة السورية أواسط شهر أغسطس الماضي من مايكل راتني الموفد الأميركي الخاص إلى سوريا). لكن واشنطن التي تبنت “عدم إسقاط منظومة الأسد قبل إيجاد البديل الملائم وعدم سحق المعارضة” تمادت في أسلوب الاستنزاف وراهنت على إمكانية إبقاء “لعبة الأمم الكبرى” تحت السقف الذي تحدده، لكن القيصر الجديد تمكن خلال عام من تكريس دوره كلاعب أول على الساحة الروسية عبر تحالف متين مع إيران وتقاطعات مع إسرائيل وتركيا، وتنبه للورقة الكردية مما أتاح له الإمساك بالجزء الأكبر من الورقة السورية.

ضمن الاختلال في ميزان القوى التفاوضي وبالرغم من تسليم واشنطن في بقاء بشار الأسد خلال مرحلة انتقالية من سنة ونصف السنة وذلك لبدء مسار الحل السياسي، سعت موسكو بقوة لفرض أولويـاتها مع كشف تنـازلات واشنطـن التي لا تحرجها فقـط مع المعـارضة السورية بل مع تركيا والمملكـة العربية السعـودية، وتسهم أكثر في فضح مدى صدقيتها وتبرز فشلها السياسي والأخلاقي على الساحة السورية.

مع استمرار التصعيد والسعي لاحتلال شرق حلب تضع موسكو واشنطن والقوى الغربية وما يسمى مجتمع دولي أمام التحدي، ويتمظهر العجز إزاء القوة الفظة في عالم الاضطراب الاستراتيجي.

لن تثني الخيارات الجديدة التي تدرسها واشنطن الرئيس الروسي عن الاستمرار في اندفاعه في سياق توجه جيوسياسي شامل لموسكو يتعدى النفوذ في منطقة الشرق الأوسط.

هكذا لا تكشف محنة حلب فقط عن المستور من مناكفات وتفاهمات الأميركان والروس، بل أيضـا عن وصمة عـار على جبين الإنسانية لا يمكن لكل غار صابون حلب أن يزيلها.

أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس

العرب

 

 

 

 

الواقعية الروسية في حلب.. وحشية بلا حدود/ سلام السعدي

لطالما اندرجت السياسات الخارجية للولايات المتحدة الأميركية في إطار المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية. تلك المدرسة المضادة للمدرسة الليبرالية التي تدعو إلى استخدام القوة من أجل انتزاع المكاسب، سواء بصورة مباشرة أو عبر المفاوضات التي تتم بعد إخضاع الخصم. ضمن هذه الرؤية، لا يمكن تقييد السياسة بالمبادئ الأخلاقية ولا بالقوانين الدولية. وهكذا، فإن قصف الولايات المتحدة هيروشيما وناجازاكي باستخدام قنابل نووية في الحرب العالمية الثانية كان “شرعيا” بل “ضروريا” بالنسبة إلى أنصار تلك المدرسة، حتى وإن أودى بحياة أكثر من مئتي ألف إنسان.

تطورت القوانين الدولية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وخصوصا ذلك الشق المتعلق بحقوق الإنسان. وكبحت الولايات المتحدة استخدامها للقوة بصورة مفضوحة ومتعمدة ضد المدنيين، قدر الإمكان، وإن واصلت استخدام القوة بصورة عامة. ولكن لاعبا دوليا جديدا، هو روسيا، برز اليوم ليتبنى المدرسة الواقعية الكلاسيكية، وينتهج سياسة الحرب الوحشية من دون أي ضوابط تكبح الاستخدام المفرط للقوة ضد المدنيين والمشافي وحتى قوافل الإغاثة.

يمكن ملاحظة أن روسيا بوتين تقدس استخدام القوة إلى درجة كبيرة، وتعتبرها السلاح الأكثر فاعلية في تموضعها الدولي الجديد، وفي مفاوضاتها مع الغرب في الملفين الأوكراني والسوري. لم تنطلق المفاوضات الروسية الأميركية الجادة إلا بعد أن تدخلت روسيا عسكريا في سوريا قبل نحو عام. وقد ساعد تدخلها النظام السوري على تحقيق مجموعة من المكاسب الميدانية التي كانت ضرورية لتدعيم موقفه التفاوضي لاحقا. وحتى أثناء المفاوضات، واصلت روسيا التخطيط مع إيران لاستخدام القوة من جديد، وقد ترجم ذلك عبر حصار مدينة حلب.

انطلقت جولة مفاوضات جديدة بعد حصار حلب، حقق خلالها الروس تقدما إضافيا على حساب الموقف الأميركي، وتم الاتفاق على إمكانية التنسيق العسكري بين الجانبين مقابل التزامات روسية متعددة. نكثت موسكو الاتفاق مجددا وامتنعت عن تنفيذه، إذ لاحظت أن فرصة استخدام القوة لا تزال سانحة، وهي تؤتي ثمارها بصورة فعالة وبأسرع مما كانت تتوقع.

هكذا بدأت روسيا عملية جوية شملت قصفا مكثفا لمدينة حلب. ولأن استخدام القوة هو غاية بحد ذاته ضمن هذه الإستراتيجية، كان من الضروري أن لا يكون القصف اعتياديا، بل غير مسبوق وباستخدام أنواع متعددة من الأسلحة. مرت عشرة أيام على ذلك الهجوم الوحشي أجمع سكان حلب على أنه الأعنف منذ اندلاع الثورة. قتل ثلاثمئة مدني في الأيام الثلاثة الأولى للهجوم وواصلت روسيا قصف الأطقم الطبية والمشافي بشكل مركز. وفي ظل ذلك، حاولت موسكو فتح نافذة مفاوضات سرية مع واشنطن كمحاولة ابتزاز جديدة، وهو ما دفع وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى القول بغضب “لا يمكن أن تكون أميركا فقط هي من يقدم التنازلات”.

لم تف جولة العنف الروسية بغرضها، وكان لا بد من شن عملية برية للسيطرة على حلب على أمل تحقيق مجموعة من الأهداف. يتمثل الهدف الأول في تصعيد استخدام القوة والتأكيد على أنها تشكل عنصرا حاسما في إستراتيجية موسكو في سوريا حتى لو فشلت القوات المهاجمة في السيطرة على المدينة. ثاني الأهداف سيتحقق في حال نجحت العملية البرية وسقطت مدينة حلب بيد النظام. حينها، سيحقق بوتين قفزة كبيرة على رقعة الشطرنج ويصبح في وضعية “كش ملك” أمام نظيره الأميركي المقيد بالمفاوضات.

الرد الأولي للجانب الأميركي على العملية العسكرية الروسية في حلب جاء مثيرا للسخرية وتمثل بإعلان زيادة المساعدات الإنسانية للمدينة المحاصرة التي لا يمكن أن تدخلها أي مساعدات. وبدا ذلك الرد مجرد دعاية سياسية أميركية، كما عكس إحباطا وتخبطا بما يخص الخيارات البديلة.

ولكن الأميركيين، الذين أكثروا من تحذير روسيا من “المستنقع” السوري، سرعان ما أدركوا أنهم هم من تورطوا في “مستنقع” المفاوضات” مع الروس. وبدأ الحديث عن إمكانية قيام الولايات المتحدة بتعليق المحادثات مع روسيا ودراسة ردود “أشد صرامة بما في ذلك الخيارات العسكرية”.

يبدو حجم الجرائم التي ترتكبها روسيا في سوريا لافتا بالفعل ويتعدى إيمانها بضرورة استخدام القوة. ربما يحاول بوتين لعق جراحه والانتقام من أميركا والغرب في حلب. إنه المكان الذي تمسك فيه موسكو بأوراق أكثر بكثير مما تفعل واشنطن.

كاتب فلسطيني سوري

العرب

 

 

 

يوم القيامة في حلب!/ د. محمد سليمان أبورمان

هكذا كتب السياسي والناشط السوري، الصديق د. عبدالرحمن الحاج، على صفحته على شبكة التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، وهي الصفحة التي تملؤها، كما هي حال كثير من صفحات السوريين، صور الأطفال الذين قضوا في المذابح المروعة هناك، ومشاهد من القصف العنيف الذي سوى أغلب أحياء حلب الشرقية بالأرض، ما أدى -وفق التقديرات الدولية- إلى مقتل وإصابة الآلاف، خلال أيام فقط، نسبة كبيرة منهم من الأطفال!

لماذا القصف الروسي العنيف وتعمد استهداف المدنيين؟ الهدف واضح، وهو تركيع المعارضة وإجبارها على الخضوع، وإيصال رسالة واضحة لهم بأن الروس مصرون على إنهاء حالة حلب مهما كان الثمن، حتى لو أبيدوا جميعا؛ وأنه لا أحد في العالم اليوم يقف في وجه بوتين وحلفائه الإيرانيين، ولن يساعد أي طرف إقليمي أو دولي السوريين المحاصرين في حلب الشرقية.

الخيار الوحيد الذي يقدمه الروس للمقاومة السورية، بعد انهيار المحادثات في أمريكا وتبخر الهدنة العسكرية، هو الاستسلام والخروج لا غير، واستنساخ ما حدث في داريا في حلب، أي تطهير طائفي وهندسة ديمغرافية.

على العموم، الروس محقون، ورهانات المعارضة سابقا على وجود حلفاء خاطئة؛ فلا أحد مع السوريين في حلب اليوم، لا أحد على الإطلاق. ولعل العامل الحاسم في هذه “المعادلة” ليس الموقف الأمريكي المتخاذل أصلا، بل هو الموقف التركي بعد الانقلاب، ما تحدثنا عنه سابقا مرارا. فأردوغان ترك حلب اليوم لتباد، وفضل الالتفات إلى مصالحه وأمنه الوطني ومواجهة الكابوس الكردي على حدوده الجنوبية، واستبدال المقاربة السابقة بإقامة منطقة آمنة في شمال حلب.

هل جاء ذلك وفق صفقة مع روسيا وإيران، بعدما ساعد الأتراك الحلبيين مؤخرا على كسر الحصار في منطقة الراموسة، قبل أن يعود الروس والإيرانيون وجيش بشار إلى إحكامه مرة أخرى؟ أظن ذلك؛ فالتغير في الموقف التركي واضح تماما، ويشي بوجود تفاهمات تركية مع الروس والإيرانيين من جهة، والأمريكيين من جهة أخرى، أي استدارة تركية كاملة في سورية.

ماذا عن باقي الأطراف؟ السعودية تراجع دورها بصورة ملحوظة أيضا، أولا بسبب التراجع التركي، وثانيا الإرهاق من حرب اليمن، وثالثا الضغوط الدولية عليها وإلصاق تهمة دعم الإرهاب بها؛ إذ رأينا كيف أن الكونغرس الأمريكي يعد لمواجهة “فيتو” الرئيس باراك أوباما، فيما يتعلق بحق أمريكيين بمقاضاة الحكومة السعودية في مسؤوليتها عن أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001.

الأطراف العربية الأخرى مشلولة تماما، وهناك من يقف إلى جانب الأسد إما علنا أو سرا. أما الأمريكيون والأوروبيون فبالرغم من انهيار الهدنة وتوقف محادثات السلام راهنا، فإنهم لن يتدخلوا في دعم المعارضة عسكريا، بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

بالطبع الرهانات الضعيفة الأخرى تلاشت تماما، مثل الرئيس الإصلاحي في إيران حسن روحاني، الذي أصبح أكثر تشددا من قاسم سليماني في الملف السوري.

لماذا نذهب بعيدا؟ أين هي المعارضة في الجنوب السوري في درعا، مهد الثورة، والمحطة القادمة لتصفية حسابات النظام وشركائه الإيرانيين؟ فالفصائل هناك لم تحرك ساكنا تجاه ما يحدث في حلب، وكأنها تعيش في دولة أخرى، رغم تململ بعض فصائل الجبهة الجنوبية، إلا أن ارتباط المقاومة هناك بالحسابات الإقليمية جعلها مكبلة اليدين تماما.

ما لا تدركه المقاومة في درعا أن أهوال القيامة المقبلة ستكون في درعا؛ إن لم تكن روسية، فهي إيرانية، وأن المثل العربي الشهير ينطبق عليهم تماما “أكلت يوم أكل الثور الأبيض”، وكل الضمانات والوعود الحالية ستذوب مباشرة!

* د. محمد سليمان أبورمان – باحث بمركز الدراسات الاستراتيجية بالجامعة الأردنية مهتم بالحركات الإسلامية والإصلاح والتحول الديمقراطي

المصدر | الغد الأردنية

 

 

حدود معركة حلب/ وليد أبي مرشد

هل كُتب على مدينة حلب أن تختصر كل أبعاد النزاع السوري، الإقليمية منها والدولية، بعد أن تحول هذا النزاع إلى مجموعة حروب مستولدة من رحم انتفاضة شعبية تضافر النظام والمعارضة (أو بعضها على الأقل) على إزاحتها عن هدفها؟

ما تشهده «جبهة» حلب اليوم أقرب إلى حرب مذهبية تتقاطع مع نزاع إثني عربي – كردي، وتتداخل مع سباق إقليمي للهيمنة على الشرق الأوسط.. وأخيرًا لا آخرًا مواجهة بالوكالة بين رئيس دولة عظمى متردد ومتلكئ (باراك أوباما) ورئيس دولة أخرى جموح وطموح (فلاديمير بوتين).

منذ انطلقت الانتفاضة الشعبية في سوريا قبل أكثر من خمس سنوات وسياسة أوباما السورية سياسة تفويت الفرص بامتياز. ومن نافل القول التذكير بأن الإجراءات التي كان تطبيقها ممكنًا في بدايات الثورة السورية (مثل فرض منطقة حظر جوي في شمال البلاد أو ملجأ آمن للمدنيين) لم يعد تحقيقها متيسرًا، دون التسبب بمواجهة مع روسيا – آخر ما يسعى إليه الرئيس الأميركي.

من سوء حظ الانتفاضة السورية ألا يتبدل المشهد الدولي منذ خمس سنوات: رئيس أميركي غارق في دوامة التردد، ينتظر اليوم بفارغ الصبر إلقاء تبعات النزاع السوري على عاتق خلفه، ورئيس روسي أتقن استغلال تردد نظيره الأميركي ليسجل إنجازات لم يكن يتوقعها في مسيرة تحويل روسيا إلى شريك أساسي في القرار الدولي.

معركة حلب تكرس موقع روسيا الجديد «كبيضة قبان» موازين القوى في المنطقة. وبقدر ما تنجح روسيا في تثبيت وجودها في هذا الموقع قبل انتهاء ولاية الرئيس أوباما (ما قد يفسر ضراوة تدخلها العسكري في حلب) تكون قد نجحت في إرساء القواعد الأولية للأمر الواقع الجديد في المنطقة، ويكون أصعب على الرئيس الأميركي الجديد تغييره.

ولكن هذا السعي الروسي لا يخلو من تبعات عسكرية وسياسية قد لا تكون لصالح موسكو على المدى البعيد، وربما المتوسط أيضًا.

عسكريًا، يتفق معظم المراقبين على أن عدد الجيش النظامي السوري لم يعد كافيًا لاحتلال منطقة حلب والاحتفاظ بها تحت سيطرة النظام (مما قد يفسر استراتيجية ترويع أهلها لتهجيرهم). وهذا الواقع يستوجب المزيد من الاعتماد على تدخل روسي ميداني مباشر في معركة حلب يبدو أن موسكو تحاول تحميل قسط وافر من تبعاته للميليشيات الشيعية التابعة لإيران.

أما سياسيًا، فلن يكون مستبعدًا أن يؤدي توثيق التعاون العسكري الروسي مع إيران إلى المزيد من الانحياز الروسي للمحور الشيعي في المنطقة، مع ما سيترتب عليه من تحولات. إن لم يكن انقلابات جذرية، في موازين القوى الشرق أوسطية.

ولكن السؤال يبقى: هل سيؤدي دمار حلب وسقوطها في أيدي التحالف الروسي – الإيراني إلى انتهاء الحرب الأهلية في سوريا أم إلى تحولها إلى الأسوأ؟

تتوقف الإجابة عن هذا السؤال، إلى حد كبير، على من ستحمله الانتخابات الرئاسية الأميركية إلى البيت الأبيض، وموقفه من معطيين رئيسيين:

– حدود توسع النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، وبالتالي نظرته إلى روسيا كشريك أو منافس للولايات المتحدة في المنطقة.

– سعي إيران الحثيث للتحول إلى دولة نووية تهيمن على المنطقة، وما سيستتبعه الطموح الإيراني من ردود فعل إسرائيلية – أميركية.

رغم أن النظام السوري والرئيس بوتين نجحا في إدراج النزاع السوري في خانة المواجهة بين العلمانيين والتكفيريين (لا أكثر ولا أقل)، فإن انهيار «الدولة» السورية إن لم يؤدِ إلى شرذمتها بالكامل، يبرز الحاجة إلى تعويمها بتمويل غربي – عربي. وهذه الحاجة ستجعل من الصعب تجاهل دور صندوق النقد الدولي والدول العربية القادرة في أي تسوية تلتزم بإعادة بناء سوريا.. واستطرادًا تجعل من الصعب أيضًا تجاهل رغبة الأكثرية العددية في سوريا بلعب دور أكبر في حياة سوريا السياسية.

الشرق الأوسط

 

 

 

تصادم الجبّارين إذ يحرق حلب… فهل من «خطة باء»؟/ عبدالوهاب بدرخان

من يتحمّل مسؤولية جرائم الإبادة في حلب ومَن يُحاسب عليها؟ أثبتت الجلسات الأخيرة لمجلس الأمن، أن المجتمع الدولي مستعدٌّ لمواصلة التفرّج وإبداء الغضب والتأثّر من دون أن تكون لديه القدرة على لجم الوحشية الروسية، بعدما أمضى أعواماً في تمكين بشار الأسد ونظامه من الإفلات من العقاب. العالم يتعامل مع المحنة السورية على أنها مجرّد مشاهد «درامية»، كما لو أن الأطفال المنتشلين من تحت الأنقاض لا يموتون ولا يروّعون ولا يفقدون عائلاتهم، بل يلعبون أدواراً لاستدرار العطف وامتحان المشاعر، أو تُتخذ مآسيهم وسيلة للتراشق الدولي، بالأحرى الأميركي – الروسي، بالاتهامات لترجيح «أخلاقية» هذا وبربرية ذاك. كانت هناك أيام بنت فيها أميركا «عظمتها» على العنف المطلق، بالسلاح النووي في هيروشيما وبـ «النابالم» في فيتنام والقصف «السجّادي» في أفغانستان والقنابل الثقيلة في العراق، وجاءت أيام استعادة روسيا «عظمتها» السوفياتية بنقل إرث البراميل المتفجّرة من أفغانستان الى سورية كما بتكرار جرائم غروزني في حلب.

ليس في خطاب روسيا، ولا في قنابلها الفوسفورية والعنقودية والارتجاجية، سوى نموذج للإرهاب والتوحّش بأحدث أنواع الأسلحة، واحتضان متماهٍ مع إرهاب نظام الأسد وحليفه الإيراني ووحشيتهما. وبذلك تنتفي كذبة البحث عن «المعتدلين» في الجانب الآخر، وفرزهم عن «المتطرّفين» المطلوبة إبادتهم، لتصبح مهمة روسيا وحليفيها الحضّ على العنف والتطرّف، أقصى العنف والتطرّف، تبريراً لـ «محاربة الإرهابيين» وإبادتهم. سبق لنظام الأسد أن واجه سلميّة شعبه بالقتل، ومذّاك لم يعد شعبه ولا عاد هو رئيسه، ثم دفع عسكرييه دفعاً الى الانشقاق، فلم يعد الجيش العربي السوري موجوداً ليحلّ محلّه «جيش الأسد»، ثم دفع معارضيه دفعاً الى التعسكر ليُفلت كل ترسانته ضد الشعب وصولاً الى السلاح الكيماوي. وفي ذلك كله، كان فلاديمير بوتين حليفاً وراعياً وموجّهاً، فهو والأسد والملالي متضامنون على غرائز لا إنسانية مشتركة تغذّي عملياً من إرهاب «داعش» وتستعدي خصوصاً كل مَن يدافع عن وجوده وحقوقه ومستقبله داخل وطنه.

إما التهجير قسراً أو الاستسلام أو الإبادة، تلك هي الخيارات «الداعشية» التي تعرضها روسيا على المدافعين عن حلب. وإذا كان الوجه الوحشي لبوتين استفزّ العالم، فالأرجح أنه لم يرَ في حلب حتى الآن سوى عيّنة أوليّة منه. فلا هو باحث عن سلام ولا عن حلٍّ سياسي، وهو لم يتدخّل مباشرةً إلا لقيادة الحل العسكري. ويتبيّن الآن، أن حواراته مع واشنطن كانت تمثيليات تبدي تفاهمات ظاهرية، لكن تغلب عليها التجاذبات لفرض شروطه على الأميركيين، الذين قدّموا كل التنازلات السياسية والعسكرية الممكنة، من دون أي اعتبار لمصالح الشعب السوري وطموحاته، لكنها لم تكن كافية. فمنذ انهيار الهدنة الأولى في آذار (مارس) من هذه السنة، ومع اقتراب نهاية ولاية باراك أوباما، مسّت الحاجة الى ترتيب هدنة ممكنة الصمود، وبدأت المساومة التي استغرقت أكثر من ستة شهور ثم تمخّضت عن الاتفاق الأميركي – الروسي الأخير.

على رغم أن التنازلات العسكرية ليست علنية، إلا أنها تبيح لروسيا واقعياً ضرب فصائل المعارضة بذريعة القضاء على تنظيم «القاعدة» (جبهة النصرة/ فتح الشام)، وهذا يسمح لواشنطن بالضغط لاحقاً على المعارضة وداعميها لتمرير التنازلات المتعلّقة بالحلّ السياسي. كان الاتفاق ينطوي على معادلة رابحة وغير مكلفة بل مجانية بالنسبة الى موسكو، لكنها طالبت واشنطن بـ «شراكة» بين جيشَي البلدين طالما أن تصفية «القاعدة» من ثوابت الأهداف الأميركية، وعندما جاءت الموافقة من باراك أوباما اعتبر الروس أن واشنطن قدّمت لتوّها «تنازلاً استراتيجياً» في سورية، وبدل أن يثبّتوا إنجازهم هذا بإنجاح الهدنة والالتزامات المرتبطة بها إحراجاً لمعارضي الاتفاق في البنتاغون والـ «سي آي إيه»، فإنهم على العكس واصلوا حماية انتهاكات النظام، وعلى وقع انتكاس متدرّج للهدنة بدأوا حملة ابتزاز ديبلوماسي لنشر مضمون الاتفاق والدعوة الى تكريسه بقرار من مجلس الأمن.

وسط هذه الحملة، قصفت الطائرات الأميركية بـ«الخطأ» موقعاً لقوات الأسد، وشكّل ذلك رسالة دموية ردّت عليها روسيا برسالة دموية أيضاً حين قصفت قافلة المساعدات الإنسانية. في تلك اللحظة، تزعزعت الهدنة لكن طرفيها الخارجيين واصلا شكلياً اعتبارها قائمة في انتظار مساعي إنقاذها، إلا أن لقاءات في نيويورك كشفت خلافهما وعمّقته، الى حدّ أن الجانب الروسي انتهز مشاركته في اجتماع «المجموعة الدولية لدعم سورية» ليُصدر من دمشق بياناً باسم «الجيش السوري» يعلن فيه انتهاء الهدنة وبدء «عملية كاملة» للسيطرة على حلب «خلال أسبوعين» وفقاً لمصادر النظام، أو «خلال أسبوع» وفقاً لميليشيا «النجباء» العراقية، وهي أحدث فوج استقدمته إيران الى سورية، أو «بتدمير كامل للمدينة وقتال من شارع الى شارع خلال شهور» وفقاً لتقدير أورده المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا الذي خسر الدعم الروسي على ما يبدو.

اصطدم الجبّاران فدفعت حلب وأهلها الثمن من دمائهم. ومن الواضح أن معارضة البنتاغون والاستخبارات أسقطت اتفاق كيري – لافروف وأطارت صواب موسكو، خصوصاً أن تلك المعارضة انتقلت الى العلن، ثم أصبحت رسمية مع إعلان رئيس الأركان الأميركي جوزف دانفورد في جلسة استماع، «أننا لن نتشارك معلومات استخبارية مع روسيا». وبالتالي لم يعد الروس معنيين بالهدنة، ولا بتقديم أفكار لإنقاذها، بل بنتائج المعركة التي تُخاض خصوصاً بالتدمير وليس بمواجهات قتالية سبق لقوات الأسد والإيرانيين أن جرّبوها وخسروا فيها جميعاً، ولن تتقدّم هذه القوات الى أي موقع إلا بعد التأكّد من تدميره وإخلائه كلياً. قد يكون هذا التصعيد في حلب وارداً مسبقاً في حسابات واشنطن، إلا أن وحشيته المفرطة وضعتها أمام تحدٍّ روسي بالغ الفظاظة، وحتى إذا كانت لديها خيارات للردّ عليه فمن الصعب تصوّر إدارة أوباما في أواخر أيامها منخرطةً في مواجهة يريدها بوتين بل يبحث عنها. بديهي أن الانفلات الروسي الذي أسقط الهدنة، أسقط معها الحل السياسي بالشروط التي تم التوافق عليها مع واشنطن.

كانت معارك مطلع آب (أغسطس) الماضي، لفك الحصار عن حلب، وما رشح عن المحادثات الأميركية – الروسية للفصل بين «جبهة فتح الشام» و «المعارضة المعتدلة»، وما يحصل راهناً، ضاعفت جهود فصائل حلب لتوحيد صفوفها. غير أن هذه الخطوة المتأخّرة جداً لن يكون لها معنى إلا اذا توافر شرطان: الأول، التزام واضح من الفصائل كافةً، بما فيها «فتح الشام» و «أحرار الشام»، بما يسميه رياض حجاب «المشروع الوطني السوري» الذي يُفترض أن يجمع المعارضة بكل أطيافها. والثاني، اتفاق موازٍ بين الدول الداعمة لمواكبة هذا المشروع بشقّيه السياسي والعسكري، مع إزالة/ أو تجاوز التحفّظات الأميركية عن تسليح مناسب يمكّن الفصائل من الدفاع عن نفسها وعن مواقعها.

هذا ما يُشار إليه بمصطلح «الخطة باء»، وإذا لم يكن أوانها قد فات فإنها تفرض نفسها بكل إلحاح، بعدما كانت الولايات المتحدة تلجمها لتحرث في الأوهام البوتينية، وإذا بها تحصد هزيمة شنيعة لديبلوماسيتها وتتسبب بكارثة فادحة للشعب السوري، وإنْ لم تعترف بهما. خلال بضعة أيام، تغيّرت معطيات الأزمة وفتح فصلٌ جديدٌ فيها، فنظام الأسد وجد روسيا تحسم أمرها بالعودة الى الاعتماد على خططه العسكرية والسياسية، وفي المقابل ظهرت بوادر التصلّب عند المعارضة السياسية برفض روسيا «كراعٍ لأي مبادرة» ما دامت شريكة للنظام في جرائمه، فيما صارت الفصائل المقاتلة تعتبر الروس أهدافاً لها. وهذا مؤشر أول الى سورية – المستنقع الذي كانت روسيا ولا تزال تخشى الوقوع فيه، ولا شك في أن أميركا ستحرص على إغراقها فيه.

* صحافي وكاتب لبناني

الحياة

 

 

 

خمسة صواريخ تكفي حلب/ حسان حيدر

تنفس سكان حلب المحاصرون الصعداء واستعادوا الأمل بانتهاء محنتهم، عندما خرج سفراء الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا من قاعة مجلس الأمن غاضبين من استدعاء سفير دمشق للتحدث في جلسة مخصصة للبحث في مأساتهم. الآن فقط تأكدوا أن الدول الغربية لم تتخل عنهم، وصار بإمكانهم أن يموتوا مطمئنين. لم يعد مهماً سقوط آلاف القنابل الفراغية والارتجاجية والعنقودية والبراميل المحشوة بالفوسفور الحارق، لأن القوى الغربية الكبرى، وفق ما تبيّن، لا تزال تساندهم بقوة وتشعر بالغضب لمرأى سفير النظام المسؤول عن تكديس جثثهم وجثث أبنائهم في الشوارع والمشارح.

لم يعد مبرراً بكاء الأطفال ونحيب الأمهات وجزع الآباء. بات بإمكان سكان حلب تلقي الموت بفرح وصمت، فالضجيج الذي يحدثونه قد يعكر مهابة القرار بمغادرة القاعة الفخمة، وينغص على السفراء الثلاثة متعة الانتصار المكرس أمام العدسات والأضواء. وصار لزاماً على المصورين ووسائل الإعلام أن يمحوا اللونين الأحمر والأسود لدماء الحلبيين وحروقهم من الصور التي ينشرونها لقتلاهم وجرحاهم، لأنها قد تعطي انطباعاً خاطئاً بأنهم تُركوا لمصيرهم في وجه آلة بطش جبارة يحركها القاتلان في قصري الكرملين والمهاجرين، وقد توحي عن غير حق بأنهم ليسوا سوى تفاصيل هامشية في المفاوضات على خرائط النفوذ وحدوده بين شرق وغرب.

ولا بد أيضاً من إعادة النظر في ما تروجه المنظمات الإنسانية عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ترتكب في حلب وسائر سورية، لأنها قد تؤثر على الصداقة والزمالة القائمة بين كيري ولافروف، وقد تدفع أحدهما إلى الامتناع عن رفع كأسه تحية للآخر، أو معانقته بحرارة، كلما التقيا للنظر في أمر السوريين.

وبات لزاماً أن يتوقف المعارضون السوريون ومؤيدوهم عن توجيه تهم العجز والتخاذل واللامبالاة والتواطؤ إلى الأميركيين والأوروبيين، بعد تلك التعبئة الديبلوماسية الفذة التي أوصلت إلى القرار البطولي بالانسحاب من الجلسة وانعكاساته الكبيرة على موازين القوى على الأرض، والضغط الهائل الذي يمثله على روسيا ونظام الأسد لإشعارهما بالندم والخجل من النظر إلى صور السفراء الثلاثة وهم يخطون إلى الخارج والتأثر بادٍ على وجوههم.

لا بد من أن سكان حلب وسائر المقصوفين أيقنوا بأنه لم يكن أمراً سهلاً على الإطلاق أن تصل المندوبة الأميركية في الجلسة ذاتها إلى حد وصف الغارات الروسية على المدينة بالبربرية، وتفهموا تماماً الجهد المهول الذي بذلته في تخطي أعراف العلاقات بين الدول، حتى كادت تحوّل موقفها النظري المجرد إلى مشكلة شخصية مع زميلها الروسي، ما تستحق عليه الإطناب والتهنئة وراحة البال.

وعرف هؤلاء بالتأكيد أن السفيرة مضطرة إلى التزام الخلاصة العبقرية التي توصل إليها رئيسها أوباما قبل الجلسة بأيام، عندما أكد أنه لا يمكن تحقيق انتصار عسكري في سورية، وأن حكومته ستواصل، بغض النظر عن إمعان الطرف الآخر في القتل والتدمير، مسعاها الديبلوماسي لوقف الحرب، وأن من نوى أمراً كأنه أقدم عليه.

وحتماً، فإن ملايين السوريين من محاصرين وجرحى ومشردين، وأولئك المرشحين يومياً للانضمام إليهم، يتفهمون بلا أي لوم أو ضغينة، انشغال الأميركيين بالانتخابات الرئاسية وضيق الوقت الذي يمكن أن يخصصوه لبلاد بعيدة تدمر على رؤوس مدنييها. وقد سبق لهم أن خبروا كيف وجد سيد البيت الأبيض حلاً سحرياً للقصف الكيماوي على أشقاء لهم، بتحويل القاتل بين ليلة وضحاها إلى متعاون مع المجتمع الدولي.

كان الخروج الغاضب للسفراء أقصى ما تفتق عنه ذهن حماة العالم الحر المنهمكين بنشر الديموقراطية في غير الشرق الأوسط، لإراحة ضميرهم المثقل، فيما تكفي خمسة صواريخ مضادة للطائرات لتجنيب حلب وسكانها كل هذا القتل والدمار.

الحياة

 

 

 

عقدة بوتين في حلب/ بهاء أبو كروم

مَن يُتابع القصف الروسي لمدينة حلب ويرى أطفالها يُدفنون تحت الأنقاض، يُلاحظ أن وراء الإصرار الروسي على هذا النوع من التصعيد العسكري ما هو أبعد من إسقاط المناطق الشرقية من المدينة التي لا تزال تحت سيطرة المعارضة، إذ تبرز دوافع نفسية وراء هذا الكم من إرادة التشفي من حلب، كما لو أن على كاهل أطفالها تقع مسؤولية هزيمة السوفيات في أفغانستان، أو حرب الشيشان، أو مسؤوليتهم عن خسارة الروس حربهم الباردة مع الغرب.

وما استدعاء أدوات التدمير الشامل إلى أكبر مدن سورية وأعرقها امتداداً في التاريخ، إلا دليل على أن الآلة العسكرية الروسية تهدف إلى فرض هيبتها واستعراض قدراتها في التعاطي مع شعوب المنطقة والدول المحاذية لها على حد سواء إن هي حاولت التصدي للإرادة الروسية، وكأن المطلوب من حلب أن تكون درساً لمن يقوى على مجرد التفكير في ذلك.

لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، إذ بعد الاتفاق الذي لم يُكتب له النجاح مع الولايات المتحدة، تحسنت ظروف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقويت مبرراته أيضاً، فمن وجهة نظره قدّم فرصةً للحل وأعطى مجالاً للهدنة العسكرية ووافق بشروطه على إدخال المساعدات الإنسانية التي عاد وأحرقها على أبواب المدينة، والوقت الآن هو للحسم وتحقيق الأهداف. الروس كانوا واضحين منذ البداية، فهم لديهم أهداف محددة في سورية لم يأتوا إلا لتحقيقها، وإذا عجزوا بالسياسة فلن يترددوا في استعمال كامل طاقتهم الحربية.

فتثبيت حضورهم القوي في سورية يشكل معبرهم إلى نظام دولي يتنافسون فيه مع الولايات المتحدة. وفي وعي الروس وثقافتهم فإن سلامهم الداخلي يتلازم حُكماً مع فاعلية خارجية، فروسيا كلما قويت في الخارج انتظمت قوتها في الداخل والعكس صحيح أيضاً. وهذا ما تثبته الحقائق، إذ على رغم التراجع الاقتصادي الذي تسببت به سياسات بوتين في روسيا فقد حقق حزبه انتصاراً كبيراً في انتخابات مجلس الدوما أخيراً تجاوز نتائج 2011 عندما كانت روسيا تنعم بطفرة اقتصادية.

لكن ريثما يُعيد النظام الدولي توازنه، فالوقت لا يزال يعاكس رغبة السوريين في التحرر من نظام الأسد ومشروع إيران، تضاف إلى ذلك حالياً طموحات روسيا، وذلك بعدما فشل المسار المشترك مع الولايات المتحدة الذي أعقب هجوم نظام الأسد بالسلاح الكيماوي على الغوطة في آب (أغسطس) 2013.

والواضح أن جملة مسائل نقلت المشهد السوري إلى مستوى آخر يستمر حتى قدوم إدارة أميركية جديدة، حينها قد يصبح الفراغ في سورية مضاعفاً لا تقوى على ملئه إلا سياسة إقليمية تضع حداً للتراخي في مواجهة روسيا. طبعاً هناك إمكان لذلك، وما قامت به تركيا أخيراً قد يُحفز المبادرات الإقليمية بهذا الاتجاه، إذ لا يُمكن أن تُترك المعارضة السورية وحدها في هذه المواجهة وهي التي تحارب بالوكالة عن شعوب المنطقة كلها.

صحيح أن ضغطاً هائلاً يأخذ الولايات المتحدة باتجاه التخلي عن لعب دور الشرطي على الساحة الدولية باعتباره دوراً قد يؤدي إلى أكلاف بشرية قررت إدارة أوباما التوقف عن دفعها واستخدام الديبلوماسية والقواعد الدولية كوسائل لتسوية النزاعات، وهو ما «لا يتمتع بشعبية واسعة» وفق خطاب الرئيس الأميركي أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، لكن في المقابل وبغياب قانون دولي قادر على حماية المدنيين، فإن عالماً بلا شرطي يفترض على الأقل عدم ترك اللصوص يسرحون فيه!

طبعاً، الضياع الأميركي على المستوى الاستراتيجي كان بادياً، وأوباما كان يغرد وحيداً حين اعتبر أن لا حرب عالمية في الأفق على رغم أن «روسيا تحاول استعادة مجدها الضائع بالقوة». وفي الوقت ذاته، كان رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية الجنرال جوزيف دانفورد، يعتبر أن فرض إقامة منطقة حظر جوي قد يؤدي إلى نشوب حرب مع روسيا، وزاد وزير دفاعه آشتون كارتر أنه بات على قناعة تامة بأن روسيا أصبحت تشكل تهديداً جدياً لمصالح الولايات المتحدة على الساحة الدولية.

فجوة أوباما الدولية يملأها بوتين بإعلانه أن «دروس التاريخ تشهد على أن إحلال السلام في العالم لا يتحقق تلقائياً». وعلى رغم أنه لا يحاسبه على أفعاله، فللرئيس الروسي عداوة مستدامة مع النظام الدولي، وهو نظام لا يستوي، بفَهمِه، إلا إذا تعطلت قيمه وآليات محاسبته وأُطلق العنان لأوتوقراطييه في قمع شعوبهم بالوسائل كافة.

الانتصار الروسي في معركة حلب يعني الكثير لبوتين، أتخيل ماذا سيفعل على أنقاض مدينة الطفل عمران، بعد تدميرها وإن كان سيأتي بأوركسترا مارينسكي الروسية، لتعزف ألحان الموسيقي الألماني باخ كما فعلت على خشبة مسرح تدمر الأثري (وقد سبق للفرقة ذاتها أن عزفت في مدينة تسخينفال عاصمة أوسيتيا الجنوبية، بعدما دخلها الروس عام 2008).

هنا تتكامل الرغبة في التشفي من حلب والمعارضة السورية مع الحاجة إلى تعويض سيكولوجي عن مرحلة الانكفاء الروسي عن الساحة الدولية.

عقدة حلب بالنسبة إلى بوتين تشبه عقدة غوردييه، وهو الحبل الذي ربط به ميداس عربة والده الملك غوردياس التي قطعها الاسكندر الأكبر بسيفه بعدما عجز عن فكها بيديه إذ لم يجد طرفاً للحبل. وقد تنبأ العرافون بأن مَن يحل هذه العقدة سيكون فاتح آسيا، وبالفعل فقد فُتحت أمام الاسكندر (ابن الملك فيليب) أراضي القارة وصولاً إلى نهر السند.

طبعاً لا يعتمد الرئيس الروسي على العرافين في قضاياه الاستراتيجية، لا سيما أن الذين شجعوه على الدخول إلى سورية، ومنهم خامنئي، لديهم خبرة كبيرة في فتح المدن والعواصم الشرق أوسطية بكثير من الطرق والوسائل!

* كاتب لبناني

الحياة

 

 

 

حلب .. “ست المداين”/ معن البياري

“هيْدي حلب، مش أيّْ مْدينة، ستّ المدايِن هيِّ حلب”.. صدق الفنان سميح شقير كثيراً في أغنيته الجديدة، كتابةً ولحناً وغناءً، إذ يقول هذا فيها. وهي أغنيةٌ تكاد تُحسب مرثيةً للمدينة السورية التي يريدها القاتلون الكثيرون، شلّت أيديهم، حطاماً لا غير، أو بلا ناسها. يغني سميح: “باقي منها ظلّ مدينة”.. بأنغامٍ ذات بساطةٍ ظاهرة، يتوازى فيها الشجى والأسى، الحزن والفقد. وبتقشّفٍ واضح، وبعوده فقط، وصوته الخافت، والذي تقيم فيه أنّات الموجوعين، يؤدي سميح شقير مغناته هذه. تُشاهده، بين صور متحرّكة، لأنقاضٍ وخرائب، ودمار وحرائق ونيران، وأسواقٍ مهجورة وبيوتٍ متروكة، لغبار الصواريخ وجنونها، لأطفالٍ جزعين، ومصابين واجمين، ولركام يفتّش فيه ناس ناجون عن ناس سالمين أو مصابين أو موتى. صور من هذا كله، تتخللها مشهدياتٌ أخرى من حلب لمّا كانت، عمائر نظيفة، وأسواقاً بهيجة، موحيةً بالأمن والأمان.. يغني المغني بين هذا كله عن “رعبٍ وموت”، وعن فقراء باقين، ومقتدرين “فلّوا”.

تعبُر حلب من جولة تمويتٍ إلى أخرى، من نوبة قصفٍ متوحشٍ إلى متوالياتٍ مثلها وأعنف. لا يُراد للمدينة التي “انتظمت فيها العلالي العجيبة”، على ما كتب ابن بطوطة، أن تحترق فقط، بل أن تغيب وتمّحي ربما، أن تصير مثالاً كيف يكون تأديب من يرفضون حكم الأسد. تُشاهد ما تُيسر لك شاشات التلفزات من أهوال المأساة اليومية فيها، فيطرأ على بالك سؤالٌ عمّا يريده القاتلون من هذه المدينة بالضبط. ما هكذا يُحارب الإرهاب والإرهابيون، ولا هكذا تُخاض الحروب، ولا بمثل هذه الفظاعة يصدّ نظامٌ متسلط تمرّداً عليه. ثمّة أغراضٌ أخرى، إذن، للأسد والروس والإيرانيين، أولها الانتقام الأقصى والأقسى. لا يجوز لحلب أن ينتفض أحدٌ فيها على المحتل الأسدي الجاثم على البلاد. على فقرائها أن يعرفوا أن نعيماً غزيراً كانوا يرفلون فيه، تحت جناح السلطة الحانية عليهم، وإذا ما ركلوه، فإن عليهم أن يتحمّلوا ما يذوقونه من صنوف التقتيل والتهديم والتهجير، والتي تُبدع فيها صواريخ روسية وبراميل متفجّرة. هذا هو المعنى الأساس في المحرقة الماثلة في حلب، المدينة التي كتب المؤرخ أرنولد توينبي إن صمودها وعدم سقوطها في يد الفرنجة، على الرغم من حصارها الطويل في العام 1124 كان نقطة تحوّل مهم في تاريخ العالم، وقد استعصت على جيوش الصليبيين، فلم تقدر هذه أن تحتلها، لمناعة تحصينها.

مدينة الصناعات الرائقة والبديعة، ومدينة الحلويات الشهية، ومدينة القدود الطربية، تضجّ كتب رحالةٍ وعساكر ورسامين ومستشرقين كثيرين بالإتيان على أناقتها. كتب بعضهم عنها إنها كانت، إبّان العهد العثماني، الأجمل بناءً، وألطف المدن عِشرةً، وأصحَّها مناخاً. كتبوا إن الحلبيين “أكثر أهل السلطنة العثمانية تمدّناً”. هذه الحاضرة التي نستيقظ صباحاً، وننام مساءً، ومشاهد الدم والتهديم فيها تؤشّر إلى فداحة القاع الذي تمكث فيه الأمة، كم بقي فيها من سكانها الخمسة ملايين؟ هل يُراد منهم أن يهجروها؟ هل هذه هي الخطة التي لا نعرف؟ هل تشهد يوماً تعود فيه إلى البهاء والألق اللذيْن كانت عليهما، وقد تهدّم فيها نحو مئة وخمسين شاهداً وعمراناً أثرياً؟ احترقت مكتبة المسجد الأموي الذي تضرّر كثيراً. نال الدمار أسواقاً وأبواباً قديمة، وأحالت صواريخ بوتين وقذائف الأسد وحراب خامنئي وأشياعه حواضر في المدينة إلى ما يضرب نفوسنا بسويداء باهظة، وحلب “محلّها في النفوس أثيرٌ”، على ما كتب الأندلسي ابن جبير (توفي في 614 هجرية)، لمّا جال فيها، ولم يستطع أن يُحصي خاناتها لكثرتها، ورآها “بلدةً تليق بالخلافة”. وعلى وفرة ما شاهد في أسفاره، رأى ابن بطوطة (توفي في 779 هجرية) أنه لا نظير لحلب “في حسن الوضع واتفاق الترتيب واتّساع الأسواق”. أما عن ناسها، فقد أدهش سموُّ أخلاقهم وحسن تصرّفهم ووقارهم الشاعر الفرنسي لامارتين (توفي في 1869 ميلادية).

لم يتزيّد سميح شقير، إذن، في تسميته حلب “ست المداين”، كما غنى أخيرا، في جديده (إنتاج ميتافورا). وقد أوجع كثيراً لمّا رمى زفرته الأسيفة في أغنيته “يا خسارتنا يا حلب”.

العربي الجديد

 

 

 

هل يحتاج اتفاق الهدنة إلى سقوط حلب؟/ محمد قواص

يبدو الصمت المحيط بمقتلة حلب وكأنه نتاج إجماع دولي إقليمي على إسقاط المدينة وفق خارطة طريق مرسومة بدقة. ليس في الأمر اجتهاد، ذلك أنه يجري وفق عزف يتطلّب أفعالا يقوم بها نظام دمشق المدعوم عسكريا ودبلوماسيا دون أي محدد أو حرج من قبل موسكو، يقابله ردّ فعل مدين ومستهجن تمارسه بالقول، والقول فقط، عواصم الغرب بقيادة واشنطن. وبنهاية هذا العزف وإيقاعاته يجري تدمير المدينة حيا بعد حي، وحياة بعد حياة.

استخدمت واشنطن تعبير “الوحشية” في وصفها لحدث حلب الراهن. تحدثت برلين عن “الهمجية”، وأطل وزير خارجية لندن ليصرخ “إنها جرائم حرب”. ومع ذلك فالأمر لم يتجاوز حدود الأبجديات وضجيج الكلام، إلا من ردح متبادل بين النساء، تلك في نيويورك، سامنتا باور، ممثلة واشنطن في مجلس الأمن، وتلك في موسكو، ماريا زاخاروفا المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية. تفرغ الأفواه الرسمية الكبرى من الكلام عند كل مساء، لكن آلة القتل لا تتوقف ولا حتى يصيبها أي ارتباك في الصباح أو المساء.

يظهر للعيان أن الوزيرين الحميمين، سيرجي لافروف الروسي وجون كيري الأميركي، صنعا، بخبث، اتفاقا مفخخا ينفجر وفق ساعة توقيت محددة. ولا بأس أن يتبادل الصديقان ببراعة التهم من على منابر مجلس الأمن، ليكتشف جون أن صديقه سيرجي “يعيش في كوكب آخر”. لا يملك الوزير الروسي إلا الابتسام حبورا من استعانة نظيره بضروب الخيال العلمي لمواراة عجز بلاده عن مواراة فضيحتها في سوريا. بالمحصلة يلعب اللاعبون وفق قاعدة لعب جديدة تتطلب تجاوز عقدة حلب، في الوقت الحالي على الأقل.

في هذا الوقت بالذات تخوض الولايات المتحدة انتخابات الرئاسة من جهة، فيما يودّع الرئيس باراك أوباما ساعة بعد ساعة عهديْن في ضيافة البيت الأبيض. لا تريد الإدارة الأميركية إزعاج الرئيس في تورّط عسكري متعجّل، وهو الذي سعى خلال السنوات الثماني السابقة إلى إخراج بلاده من وحول العالم، ولا تريد الإدارة الديمقراطية للولايات المتحدة إرباك مرشحتها للرئاسة، هيلاري كلينتون، في ما يمكن أن ينزع منها نقاط فوز في انتخابات نوفمبر المقبل.

في هذا الوقت بالذات تتمتع تركيا بفترة سماح دولية نادرة انتزعتها من المجتمع الدولي برمته، بغربه وشرقه، تتيح لها التخلص من الخطر الكردي في شمال سوريا، وتوفر لها، وتحت ذريعة مكافحة الإرهاب، بوجهيه الداعشي والكردي، تواجدا عسكريا ثقيلا يجعل من أنقرة رقما صعبا في معادلات سوريا المقبلة.

في هذا الوقت بالذات تنكفئ دول مجلس التعاون الخليجي نحو معالجة أزمة اقتصادية تسوقها إلى اعتماد برامج إصلاح وتقشف، فما تتركز جهودها الأمنية على الملف اليمني، بما يحيل الميدان السوري متراجعا في سلم المواجهة الخليجية مع إيران. ثم إن في احتكار الحلّ والربط في سوريا من قبل روسيا والولايات المتحدة، يشعر الخليجيون بأن دورهم بات رافدا مواكبا لا يملك مقوّمات المعاندة.

في هذا الوقت بالذات يكتمل المشهد الدولي الإقليمي المتواطئ في تمرير استحقاق حلب بسكوت الجبهات السورية الداخلية البعيدة عن حلب، على نحو يعكس التزام كافة المرجعيات الإقليمية لفصائل المعارضة السورية بخارطة طريق غامضة تتطلب، لسبب ما، إنهاء الحالة الحلبية من أجل العبور باتجاه حلقات لاحقة في مسلسل ما يحاك لسوريا.

لا يبدو أن أمر حلب يمثّل حالة خلاف بين شرق وغرب، بين واشنطن وموسكو، بين سيرجي وجون. فآلة الموت وأبواق الاستنكار تتوازى وتتواكب داخل ورشة مشتركة تعمل على إسقاط المدينة. ما هو مخطط في هذا الإطار مرسوم ربما داخل ثنايا البنود السرية التي لم يفرج عنها اتفاق الهدنة الشهير بين وزيري خارجية موسكو وواشنطن. وما هو مرسوم قد لا يحتمل خروجا عن النص، وإذا ما سال لعاب اللاعبين للخروج عن خطوط الخرائط، فإن تسريبات “رويترز”، المنقولة عن مصادر أميركية مجهولة، عن إمكانية السماح لدول خليجية بتسليح المعارضة بمنظومات دفاع جوية، تهدف إلى التذكير بقواعد اللعبة ولوائح قصاص الضالين. تمسّك أوباما بعقيدته بعدم إدخال بلاده في المستنقع السوري، وقيل إنه وقف يتأمل غرق روسيا في ذلك المستنقع. واشنطن تستلهم رؤاها من ذاكرة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، ومن ذاكـرة إدارة جورج بوش في غزو العراق. فلاديمير بوتين لا تفوته هذه الذكريات أيضا، وهو يناور منذ تدخله العسكري المباشر في سوريا منذ أكثر من عام على نحو لا يحيل سوريا إلى أفغانستان جديدة لقواته. المعادلة بسيطة: تكتفي روسيا بتوفير كثافة نيران جديرة بمواهب دولة عظمى تجرّب أسلحة في ميدان متاح، فيما يترك الاستنزاف الميداني في أيدى قوات نظام دمشق وإيران، بحرسها الثوري وتوابعه اللبنانيين والعراقيين والأفغان. فلتلك الأجناس قدرة عجائبية، لا تمتلكها قريحة الدول الكبرى، على ابتلاع السقطات والنكسات والهزائم، وتحويلها بقدرة قادر إلى انتصارات لا تنتهي.

سوريا ليست بلدا مهما بالنسبة إلى الولايات المتحدة وفق قراءة جو بايدن نائب الرئيس الأميركي. ولن تطيح واشنطن بـ“منجزها” مع إيران وباتفاقها النووي الشهير معها من خلال صدام أميركي إيراني في سوريا “غير المفيدة” في استراتيجيات الولايات المتحدة الدولية. واشنطن والغرب، كل الغرب يدين النظام السوري الآيل يوما إلى السقوط سواء استولى على حلب أو لا، لكنه لا يوجّه أي لوم إلى إيران ولا يستنكر أداء ميليشياتها التابعة ولا يعتبر حزب الله فصيلا إرهابيا هذه المرة يجوز عليه ما يجوز على فصائل أخرى وسمها اتفاق الهدنة الأميركي الروسي بتلك التهمة.

لكن سوريا بلد مهم لروسيا، والنظام السوري قاعدة أساس من قواعد المقاربة الروسية الإستراتيجية للملف السوري. تعامل موسكو سوريا، ليس فقط بصفتها الجيو إستراتيجية وما توفّره للبحرية الروسية من إطلالة حيوية على المياه الدافئة، بل ما تتيحه المناسبة الروسية من إطلالة لفلاديمير بوتين على العالم الغربي الذي أراد الالتفاف على ممالكه من بوابة أوكرانيا. وعلى أساس تباين أوزان الأهمية، قد يحق لروسيا التي تحتاج لـ”سوريا المفيدة” بأن تفوز بها، طالما أن هناك من يجاهر بعدم الحاجة إليها ولا تلفته أهمية فيها.

على أن حكاية المأساة السورية خلال الأعوام الخمسة الماضية لا تسمح بالاستسلام لمعطى اللحظة للبناء عليه، ذلك أن أي تفصيل طارئ ناتج عن خلل في فهم المصالح والتوازنات المعقّدة، محليا ودوليا وإقليميا، قد يقلب الطاولة ويعيد الأمر إلى مربعات خلفية. يكفي أن يظهر أن تسريبات “رويترز” حول صواريخ أرض – جو للمعارضة السورية ليست تهويلا أجوف حتى يعود الفرقاء إلى تثبيت عجائبي لهدنة جديدة.

صحافي وكاتب سياسي لبناني

العرب

 

 

 

 

حلب الكحلاء/ سعيد يقطين

«ما جدوى الكتابة»؟ سؤال يتردد في أعماقي مرارا، وأنا أتابع ما يجري بين الفينة والأخرى، على ما يقع في الوطن العربي، لأني صرت بصراحة غير قادر على مواكبة جديد الأخبار والصور. إنك لا ترى إلا أقصى أنواع العنف والتدمير، مما يدفعك للتساؤل: هل الذين يأتون بهذه الأفعال بشر؟ إذا كنا نتفق جميعا على أن «الدواعش» وحوش وبرابرة، وأنهم لا يتورعون عن القتل والتقتيل، والصور التي رأيناها لهم وهم يقطعون الرؤوس بدم بارد، دالة على وحشيتهم، فماذا يمكن أن نقول عن بشار وزبانيته، وعن الجيش الروسي الذي يقوم بما هو أشنع وأفظع، بما يمتلكه من ترسانة عسكرية، لا تبقي ولا تذر، تخرب الأحياء حيا، حيا، وتفجر المستشفيات؟ أيمكن أن نقول عن هؤلاء بأنهم يحاربون الإرهاب والدواعش؟ وهل محاربة الدواعش تقضي بتقتيل كل من على الأرض ومن فيها، والتنكيل بكل من يشاركهم إياها، من المدنيين والأبرياء؟ أليس هؤلاء أشد على الإنسانية من كل الدكتاتوريات التي مرت على الأرض؟ وها حلب الشهباء شاهدة على ما نقول.

إن متابعة أفلام الرعب والأحداث العنيفة، وأفلام نهايات العالم، أكثر هونا على من يُحذَّرون في بداية الشريط على أن في الفيلم مشاهد قوية، ولا يمكن تحملها لما فيها من مناظر حساسة، بالقياس إلى ما يجري على أرض سوريا، بصورة عامة، وعلى حلب، بصورة خاصة. إن رؤية بعض الصور المقدمة من حلب أكثر واقعية وفظاعة من الخيال الذي نراه في السينما، وهو يقدم إلينا بخدع سينمائية، ومؤثرات فنية. أو ليس الواقع أكثر غرابة وعنفا من الخيال؟ وحين تبدو لك سماء حلب سوداء داكنة السواد، وآثار البنايات المنهارة والمدمرة بشكل همجي لا يمكن للكواببس إلا أن تنهال عليك، وأنت تتصور الحلبيين والسوريين كيف يعيشون هذا الرُّهاب القاتل. ومع ذلك ترى القتلة من النظامين الروسي والسوري ينددون بالإرهاب، ويدعون أنهم سيواصلون الحرب على الإرهاب. ولم يبق الحديث مخاتلا، كما في البداية، عن داعش، ولكنه صار صريحا عن المعارضة المسلحة والشعبية.

ألم تكف كل هذه السنوات بشارا، وهو يذبح شعبه بلا هوادة؟ حتى الهدنة التي يتفاوض بشأنها الشرق والغرب، ويلتقيان بشأنها، صارا يختلفان بصددها، وهي لا ترقى إلى مستوى ما يمكن أن يتم النقاش حوله، وهو إنهاء الحرب؟ أليس هذا تعبيرا عن رغبة أكيدة في استمرار تدمير ما بقي من سوريا من لدن العالم أجمع؟ ألا تقوم روسيا، الآن، في سوريا بالدور الذي قامت به أمريكا، بالأمس، في العراق؟ أليس في هذا توزيعا للأدوار بين أقوياء الأمس واليوم على تقليص أي دور للعرب في المنطقة، لفائدة إسرائيل التي باتت بمعزل عن أي اهتمام، وهي تضطلع بالدور التقليدي في فلسطين بلا حسيب ولا رقيب؟

لم يقم الاتحاد السوفياتي مرة واحدة بالاصطدام المباشر مع أمريكا. كانت الحرب بالوكالة من خلال دول إفريقية وآسيوية وجنوب أمريكية. وها بوتين يحلم باسترجاع «القوة الروسية»، مستغلا محاولة أوباما تغيير صورة أمريكا في العالم، فيحقق الحلم الروسي في الهيمنة على المنطقة، بالتدخل السافر، مستفيدا مما يقدمه له النظام السوري. أما بشار، فينزع، بدوره وهو الزعيم ابن الزعيم نحو استكمال ما ابتدأ به أبوه، بدك حماه، بتدمير حلب. أليس هذا الواقع أشد مرارة من الخيال؟ تبدو هذه الحرب وكأنها لعبة فيديو، لا نهاية لها. وكلما انتهت حلقة، جاءت حلقة أخرى، وهكذا دواليك. إنها اللعبة الإلكترونية إياها: القتل والتدمير، والتعطش لمعاينة الدماء والأجساد المحترقة، والديار المحطمة على رؤوس ساكنيها. ولا فرق بين الجندي الأمريكي في العراق، والروسي في سوريا، ولا فرق بين الأب والابن.

لا أخال الروس، وهم يحاولون استرجاع «مكانة» الاتحاد السوفياتي المنهار، لا يقومون إلا بما كان يقوم به الأمريكيون في العراق؟ فإلى جانب محاولة بسط الهيمنة على المنطقة، من جهة، وتجريب أسلحتهم وتطويرها، من جهة أخرى، يتلبسون صورة الجندي الأمريكي التي كان يعتبر نفسه في نزهة، وأنه يمارس الحرب وكأنها لعبة فيديو؟ إنهم ليسوا بشرا، إنهم مثل وحوش أفلام الرعب لا يهمهم سوى نهش الأجساد، وتدمير كل شيء. من يقول إن العرب لا يتقنون فنون «أفلام الرعب»، وليس لهم مخرجون أكفاء في ذلك واهم. إن كل أفلام الرعب الأمريكية، بخدعها السينمائية، تقف عاجزة عن تجسيد ما يجري في سوريا وتمثيله.

إن مرد تساؤلي عن جدوى الكتابة يكمن في وقوفي على ردود الفعل حول هذه الحرب؟ والكل مصر على استمرارها، ويراها طويلة الأمد. وأنا أرى العالم لا يهمه ما يجري، وحتى التصريحات عن الخروقات، وعن التدمير، ليست سوى عبارات رنانة لا فائدة منها، وهي تقال داخل أروقة الأمم المتحدة. كانت جرائم الصهيونية ضد الفلسطينيين تثير ردود فعل في الشارع الأوربي، والعربي. وكانت الحرب على العراق تلقى صدى في الشوارع نفسها. الآن لا نرى، ولا نسمع سوى تعليقات باردة من الإعلام العالمي، والعربي. فهل مقولة «الحرب على الإرهاب» صارت مبررا لانتهاج كل الأساليب للتدمير والتقتيل الذي لا يلقى الإرهابيون فعلا، إلا جزءا يسيرا منه بينما كل الجرائم ترتكب ضد المدنيين وضد البنيات التحتية لشعب مهجر، ومحاصر؟ لماذا يخرس الشارع العالمي تجاه الفظائع التي ترتكب في ليبيا واليمن وسوريا والعراق؟

يشارك الكل في حرب الفيديو متفرجا، أو صامتا خنوعا، وكأن هذه مشكلة لا قيمة لها. ووسط حرب الفيديو هذه تتعالى أصوات، باسم عائلات ضحايا أحداث أيلول (سبتمبر)، من الكونغرس الأمريكي تطالب بمقاضاة رعاة الإرهاب؟ أين كنا، وأين أصبحنا؟ إن عائلات ضحايا الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) أرقى جنسا من الشعوب التي دُمرت بلدانها، وتعرضت للتقسيم والتقويض ونشر الفوضى التي ما تزال آثارها إلى الآن قائمة في العراق. من يقاضي الكونغرس الأمريكي على مصادقته الحرب على العراق؟ وعلى تدميره وتخريبه؟ من يقاضي روسيا على جرائمها في سوريا؟ من يقاضي الشعب الأمريكي على صمته على التدمير الذي تلحقه إداراته، التي يصوت عليها، وتدخلاته السافرة في الشؤون العربية، وهو يرسم السياسات التجويعية للشعب العربي وشعوب العالم المستضعفة؟

لقد تغير العالم فعلا، وتاريخ القرن العشرين، لن يتكرر بالصورة نفسها في هذا القرن. فعندما يتولى رئاسة فرنسا وإيطاليا أناس مثل ساركوزي وبيرلسكوني، يبرز لك الفرق الكبير بين التاريخ والواقع. وعندما تنظر في الواقع الفكري والثقافي الذي عرفته فرنسا في السيتينات والسبعينيات، مثلا، وما تعرفه حاليا يظهر لك البون بوضوح بين الأمس واليوم. صارت الشعوب غير مهتمة إلا باجترار الروتين اليومي، وصار المرتزقة ورجال الأعمال اللصوص هم من يُسيِّر العالم بلا قيم ولا أخلاق غير أخلاق السوق الشرهة. وحتى الشعوب العربية، صارت بدورها ملهية بالقوت اليومي، والتفكير في الأمن، وصارت نخبتها صورة عن نخب العالم ضعيفة وانتهازية.

جاء الربيع العربي ليكون فاتحة عهد جديد، ينعم فيه المواطن العربي بالحرية، فاستغلته الطائفية الدينية والعرقية والعسكرية للحيلولة دون تحقق الحلم العربي في التقدم والتطور، والحياة الكريمة. واستغلته أنظمة أخرى لممارسة الحرب عليه، وتدمير حلمه بملئه بالكوابيس، وها هي تقول له: حلب الشهباء لن تكون سوى كحلاء؟

كاتب مغربي

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى