صفحات العالم

عن مواطن ممنوع من السّفر

 


فــاروق وادي

لم يكن يخطر في بال صديقنا الراحل عبد الله الحوراني، وهو يبذل جهده مع شخصيّات سياسيّة سوريّة متنفذة للحصول على تصريح مغادرة مؤقّت لحسين العودات، حتّى يتسنى له تلقي العلاج في الخارج، أن صديقه الممنوع من السفر كاد أن يستنفذ الشهور الثلاثة التي منحت له، دون أن يغادر أرض الوطن.

إلى أن اضطر العودات إلى مغادرة دمشق أواخر تشرين الثاني الماضي في اليوم الأخير لانتهاء التصريح، حتى يشارك في عزاء صديق عُمره وكفاحه..عبد الله الحوراني، الذي جاءه بإذن السّفر.

تعرفتُ إلى حسين العودات من أحاديث عبد الله الحوراني، قبل أن ألتقيه. عرفتُ منه حكاية تحوُّله من ‘البعث’ إلى واحد من أشرس المعارضين للنظام. وأصغيت إلى تفاصيل المأساة التي ألمّت به حينما فقد ابنه الشّاب البكر بصعقة كهربائيّة سرقته بلحظة خاطفة من عمر الزّمن، وكيف انكبّ على تأمُّل الفجيعة، فأنتج أوّل مؤلفاته ‘الموت في الديانات الشرقيّة’، الذي أهداه إلى ذكرى ابنه الرّاحل.. خلدون.

كان مثيراً للاهتمام، أن يكون كتابه الثاني الذي أهداه للحوراني، يتناول بالدراسة ‘السينما والقضيّة الفلسطينيّة’ (1987). ورغم مرور سنوات طويلة على صدور الكتاب، فإننا نستطيع الادعاء أن كتاباً آخر في الموضوع لم يتجاوزه بعد، ليس من حيث قيمته التأسيسيّة والتوثيقيّة فقط، وإنما لاعتماده المنهج العلميّ في البحث، ناهيك عن ثراء المعلومات التي احتواها وغزارتها، حتّى تاريخ صدوره.

اللافت في نتاج حسين العودات الثقافي، هو التعدُّد واتساع رقعة اهتماماته الثقافيّة. فهو لم ينأى عن مجال تخصصه الدراسي الأوّل في الجغرافيا، فأنتج أعمالاً موسوعيّة في هذا الحقل، منها الإشراف على ‘موسوعة المدن الفلسطينيّة’، التي وضعها إلى جانب مؤلفه التوثيقي ‘وثائق فلسطين’، فزاوج بذلك، في همومه البحثيّة القوميّة، بين جغرافيا فلسطين وتاريخها في عملين مرجعيين.

دبلوم الصحافة الذي حصل عليه لاحقاً، فتح له كوّة اهتمامات أخرى، انتج فيه موسوعتين، الأولى مشتركة حول الصحافة في بلاد الشّام، والثانية حول الصحافة في بلاد المغرب، إلى جانب ‘دراسات إعلاميّة’ و’النظام العربي الجديد للإعلام والاتصال’ (مشترك). وفي مجال الدراسات السوسيولوجيّة، وضع كتاب ‘العرب النصارى’، وكتاب في مجال الدراسات النسويّة حمل عنوان ‘المرأة العربيّة في الدين والمجتمع’. ومؤخراً (2010) أصدر كتابه ‘الآخر في الثقافة العربيّة’، الذي غطّى فيه الموضوع المطروح على امتداد أربعة عشر قرناً من الزمان.

‘ ‘ ‘

لا أذكر متى كانت المرّة الأولى التي التقيت فيها حسين العودات. لكن اللقاء الذي عزّز معرفتي به كان عام 1988، حيث سافرنا معاً إلى القاهرة بتكليف من عبد الله الحوراني للإعداد لمؤتمر حول الأديان السماويّة في مدينة القدس، ولأسبوع ثقافي فلسطيني يقام على هامش المؤتمر. وصلنا مطار العاصمة المصريّة في العاشرة مساء. غاب جواز سفر حسين العودات في مباحث أمن الدولة وجلسنا ننتظره لساعات، إلى أن جاء أحد الضبّاط في ساعة متأخرة من الليل ليقول لي: ‘إنت تقدر تمشي. أمّا الأستاذ حسين فسيكون ضيفنا الليلة، هنا في المطار، والصباح رباح’!

تحت إلحاح رفيق رحلتي الممنوع من الدخول، غادرت المطار إلى الفندق. كان الليل قد أوغل في الليل، فلم يكن بالإمكان إجراء اتصالات بأحد في ذلك الوقت المتأخر.

جاء الصباح متلكئاً. والقاهرة لا تستيقظ إلاّ متأخراً. غير أنني انطلقت في كلّ الاتجاهات التي قد تمكنني من تلقي المساعدة لتحرير رفيق الرحلة من المطار: اتحاد الفنانين العرب، حزب التجمُّع الوطني، سفارة فلسطين. ولم تفلح محاولات إدخاله القاهرة سوى بعد أكثر من عشرين ساعة من التوقيف، قضاها في المطار، يراقب البشر من كلّ لون وملّة، الذين كانوا يدخلون مصر إن شاء الله آمنين. وبعضهم كان يضع القلنسوة، فيسأل حسين العودات الضباط الذين هناك: ‘هل تعتقدون أن هؤلاء، وبعضهم من الإسرائيليين، يحبون مصر أكثر مني، أنا الممنوع من الدخول إليها؟!’.

عندما التقينا مساء في بهو الفندق، بعد قلق امتد طوال تلك السّاعات، كنت أهيىء النفس للإصغاء إلى تذمر وضيق، وربما إلى غضب من الطريقة التي استقبل بها. فإذ به يُردد بيتاً لنجم من قصيدة ‘بهيّة’: ‘اللي بنى مصر كان في الأصل حلواني’!

خلال أسبوعين من الإعداد والمتابعة الحثيثة والمرهقة لما جئنا من أجله، التأم المؤتمر أخيراً. وعندما عبّرت لحسين العودات عن اعتقادي بانتهاء مهمتنا مع تسلُّم المؤتمر مهامه، ضحك قائلاً: ‘لم ننته بعد، علينا أن نضع قرارات المؤتمر وتوصياته’. وعندما أعلنتُ دهشتي واحتجاجي بأن مثل هذا الأمر ليس من مهمتنا، أمسك بورقة من أوراق كافيتيريا الفندق، قلَبَها، وأخذ يصوغ على ظهرها قرارات المؤتمر والتوصيات التي سيتخذها!

ربما لذلك، لم أشارك في الضحك مع الحاضرين، عندما التقينا بعد سنوات في بيت حسين العودات بدمشق، وكنّا نصغي للكاتب الطيِّب صالح وهو يعيد، ضاحكاً، قراءة خطاب كان قد ألقاه في ختام أحد المؤتمرات العربيّة، قال فيه أن العودات هو رجل من لزوم كلّ المؤتمرات. فهو يبدأ بالتخطيط للمؤتمر، ويقترح الأسماء المشاركة، وعناوين الأبحاث المقدَّمة، وجدول الأعمال، وبرنامج الجلسات، ولا تنتهي مهامه إلاّ بعد أن يضع بنفسه قرارات المؤتمر وتوصياته قبل التئامه!؟

‘ ‘ ‘

كنت أتجوّل قبل وقت قريب في صفحات الإنترنت، عندما عثرت على خبر قديم يتعلّق بحسين العودات، وما زلت، منذ سنوات وحتّى الآن، أتعثّر بالخبر نفسه وكأنه قدر يلاحق الرجل الذي بات يقترب حثيثاً من منتصف عقده الثامن بخطوات واهنة وبصر أشد وهناً، ولكن بذهن متقد، وثقة راسخة بالمستقبل، وعزم لا يلين: ‘حاصرت مفرزة تابعة للأمن السياسي منزل العودات في السّاعة السّادسة إلاّ الربع بتوقيت دمشق صباح الثلاثاء 24/5/2005 واقتيد محاطاً بعناصر الأمن، وما زلنا دون أيّ خبر عنه’…الخ.

الآن، كلما تعثّرت بحسين العودات على شاشة ‘الجزيرة’ معقباً على الأحداث الدامية في بلاده، بحكمة الشيوخ وروح الشباب المتوقِّدة، وبشجاعة لا تعترف بكيانات الخوف، أتردّد في البحث عنه على الهاتف أو صفحات الانترنت أو الصحف اليوميّة، حتّى لا أتعثّر بالخبر يتكرّر من جديد، فأتخيّله يسأل محققه، قبل أن يتلقى منه أيّ سؤال: ‘هل إن هؤلاء الذين اقتادوني إلى هنا، وأولئك الذين اتخذوا أمر مداهمة بيتي، والسادة الذين يمارسون سياسات تقمع البشر وتستبيح دمهم، وتحاول إسكات أصوات تهتف للحريّة، يظنون أنفسهم بأنهم يحبون سوريا أكثر مما يحبها مواطن مثلي.. ممنوع من السّفر؟!’.

‘ كاتب من فلسطين

wadi49@hotmail.com

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى