صفحات الثقافةميسون شقير

عن مي الحافظ/ ميسون شقير

 

 

ترحل مي الحافظ، وتملأ صورها الصفحات الزرقاء، كأنها المزيج العميق من القهر الفلسطيني والوجع السوري، كأنها التغريبة التي كان علينا أن نعبرها لكي نصل إلى كل جهات الأرض دما يطرش خريطة العالم.

مي الفلسطينية السورية، الثائرة، معتقلة الرأي لدى سجون الطاغية، كاتبة رواية “عينك على السفينة”، ترحل إلى روايتها، تاركة وصيتها الثقيلة، بأن لا نترك السفينة، وإن أغرقها العالم النذل، وحلمها المجروح أن يسقط الطغاة، ويسقط المحتلون، ونبني وطنا للعدل والحياة.

مي المتفردة كزهرة بحرية مالحة، الشابة التي وعت ما الذي يعنيه النزوح والتشرد، وما الذي تعنيه فلسطين، مي التي تعرف النكبة والنكسة، وتعرف تل الزعتر، وأيلول الأسود، وتعرف صبرا وشاتيلا، مي المترعة بالهزائم والقهر، كان اندفاعها حارا وصاخبا وصادقا، وهي التي ربت في داخلها حلما عميقا بالعودة، وإصرارا على الانخراط بأي جهة تحمي لها أحلامها.

خذل العالم مي الحافظ، وخذلتها الفصائل الفلسطينية المنقسمة، وخذلتها المواقف المتهورة، والقيادات الفارغة، فبقيت تبحث عن جهة تلوذ بها، فالتقت بشباب وشابات سوريين ينتمون في فترة الثمانينيات الى حزب العمل الشيوعي السوري، والذي كان أعضاؤه مشاريع معتقلين سياسيين، أو مشاريع شهداء. انضمت للحزب الذي كان يتبنى فكر المقاومة ودعم الحركات التحرّرية الفلسطينية ودعم اللجان الشعبية الفلسطينية في سورية، قالت عنه إنه أصبح موئل أحلامها ومستقبل مئات الشبان. وهنا تحولت مي من فلسطينية حملت على ظهرها خيمتها، إلى فلسطينية سورية حملت أيضا الرأي والموقف، ودفعت ثمن أحلامها وأحلامنا، عمرا طويلا في زنازين الموت تحت الأرض، وقي بلاد الذل فوقها.

ولدت مي الحافظ في حلب، كبرت بين حلب القلب وفلسطين الروح اعتقلها النظام السوري

“ترحل اليوم مي، وقد عاشت الثورة السورية، وتفاعلت مع كل صوت فيها”

ثلاث مرات، لتذوق مرارة الذل في وطن يتاجر بفلسطين وقضيتها، ويعتقل شبابها فيه. وفي الثمانينيات، تفاقم الرعب في سورية، وتفاقمت الاعتقالات التي طاولت كل كوادر الشباب من الأحزاب المعارضة، وخصوصا حزب العمل، فاعتقلت مي. وفي سجنها الطويل، تعرضت لكل أشكال التعذيب التي تقتل في الإنسان روحه، مثلما تقتل فيه جسده. تكتب في روايتها “عينك على السفينة”: “تسابقوا على دحرجة جسدي على الأرض، كما لو أنهم في ملعب كرة قدم، كانوا منتصرين في كل الأشواط”.

في زنازين النظام السوري، في الزنازين الانفرادية، والمزدوجة التي تحدثت مي عنها بالتفصيل في روايتها، والتي واجهتنا جميعا بعجزنا، وضعفنا.. في تلك الزنازين المظلمة، تموت الحياة، تموت الروح في روحها، تموت الأحلام، وتتغير الطريقة التي كانت تفكر فيها شابة مندفعة حرة متمردة، حملت أحلاما أكبر منها بكثير. في تجربة السجن الطويل والقاسي، وتجربة انهيار الحزب والحلم الفلسطيني، جعلت مي المناضلة تعيد ترتيب الطريقة التي كانت تفكر فيها، وتعيد ترتيب رؤيتها. تكتب مي في روايتها: ما زالت المعارضة تفتقد للرؤية السياسية كي تصبح معارضة فعالة، احترفنا العمل السياسي، لكن في إطار قيادات نخبوية وشخصيات اعتلت الهرم بتخبط وتناقض شديد، بين الممارسة والنظرية. نضال سري قسري، سرى مبدأ تعيين القيادات. عبارات شعارات شمولية، برامج نارية أسرت كياننا، الخاص كان متلاشياً لدرجة الذوبان في العام، أصبحنا شهداء عقيدة ونحن أحياء.

تخرج مي بعد سجنها الطويل مثقوبة القلب، مريضة الجسد، تخرج ميتة كما قالت: “خرجت من سجني لم أكن أنا… أكلنا… أكلني الديب، وخرجت من بطنه، انعصرت في أحشائه وذبت في عصارة معدته تهشمت أضلاعي، جمجمتي، وجهي أين وجهي؟ في داخلي نحيب عال، انكسار”.

تنقلت بين أربعة فروع أمنية في سورية، وأكثر ما جرحها في الصميم أن يحمل أسوأ تلك الفروع وأنذلها اسم “فرع فلسطين”، أن تتعذب بأشد أنواع التعذيب فيه، أن يصبح أغلى اسم على قلبها، هو أكثر اسم يحز عنقها.

ترحل اليوم مي، وقد عاشت الثورة السورية، وتفاعلت مع كل صوت فيها. سقت الثورة في بدايتها روح مي الذابلة، وأعادت إليها حلمها، ترحل بعد أن قتلها العلم للمرة الألف، مريضة مذ خرجت من سجون الأسد، لكن خذلان العالم السوريين قتلها، ترحل في حلب التي لم تقبل أن تتركها.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى