صفحات الرأي

عن نقص الدولة وعن الحاجة إليها في العالم العربي

ماجد كيالي *
جاءت الثورات التي اندلعت في كثير من البلدان العربية، فجائية وعفوية وصاخبة، لكنها لم تأت من فراغ، إذ إن أسبابها كانت كامنة عند عموم الناس، في تفاقم مشاعر القهر والحرمان والضياع والغضب، الساكنة فيهم منذ عقود، وبواقع تردّي أحوالهم المعيشية، والأهم بسبب فقدانهم الأمل، إلى درجة يصحّ القول معها إن هذه الثورات تأخّرت كثيراً.
ينبغي لفت الانتباه، أيضاً، إلى أن هذه الثورات لم تأتِ من دون سابق إنذار، ذلك أن الحكام في الدول العربية، كانوا ناقشوا قضايا الإصلاح السياسي والاقتصادي والمعرفي، في معظم مؤتمرات القمة، التي عقدت في السنوات الماضية، لكنّ المعنيين لم يتعاطوا مع هذه المسألة بطريقة جدّية ولم يحسموا فيها، وبذلك فقد ظلّت كل القرارات والمبادرات والمشاريع مجرّد حبر على ورق. فوق ذلك فقد شهد العقد الماضي عقد كثير من المؤتمرات والندوات وورش العمل، وصدور الكثير من الكتب والدراسات والتقارير، التي تخصّصت في بحث مشكلات العالم العربي وسبل إصلاح أوضاعه وتطويره من مختلف النواحي.
يمكن أن نذكّر هنا بتقارير «التنمية الإنسانية العربية» التي صدرت تباعاً في النصف الأول من العقد الماضي (2002 – 2005)، وشاركت في إعدادها نخبة من الأكاديميين والمثقفين والباحثين في السياسة والثقافة والمجتمع والاقتصاد، والتي لخّصت أزمة التنمية الإنسانية العربية بثلاثة نواقص هي: نقص الحرية، ونقص المعرفة، ونقص تمكين المرأة، على أساس أن تمكين الناس منها (مع التنمية الاقتصادية والتعاون البيني) قد يمكّن العالم العربي من السير على سكّة التطور.
التقارير المذكورة تستحقّ التقدير لجدّيتها ودلالاتها وفرادتها، على رغم أنها ربّما لم تسلم من الحسابات السياسية التي قد تكون جعلتها تتجاوز مسألةً أساسية تتمثّل بنقص الدولة في العالم العربي، المتمثّل بنقص تطوّرها الكياني/ المؤسّساتي والقانوني وشكل حيازتها على الشرعية نسبة إلى مواطنيها.
فما ينبغي إدراكه جيداً أن نقص الدولة يفضي إلى نقص المواطنة، وبالتالي نقص المواطنين المتمثّلين في مجتمع، أو الذين يعرّفون ذواتهم بوصفهم شعباً، لا مجرّد رعايا. وما يفاقم من حساسيّة هذا الأمر أن الدولة في أوضاعنا كانت نشأت مأزومة لجهة الشرعية، بقيامها واستمرارها على أحد حاملين، القبيلة أو الجيش، اللذين انطلقت منهما للتأسيس لشرعيات وهويات وبالأحرى لعصبيات جديدة، قامت بتدعيمها في ما بعد بأيديولوجيات وشعارات كما بادّعاءات جلب الأمن والاستقرار أو جلب التنمية، التي تأتّت غالباً من الريع النفطي.
بأيّة حال، فإن مصير هذه التقارير الغنيّة لم يكن أحسن من مصير مثيلاتها من القرارات الصادرة عن مؤتمرات القمة العربية، لأنه من الأصل ليس ثمة أيّة صلة بين صنّاع القرار وبين الباحثين والأكاديميين في العالم العربي.
هذا يؤكّد أن ثورات العالم العربي لم تأت من فراغ، ولا من دون سابق إنذار، وأن الحكام يتحملون المسؤولية عن تأزّم الأوضاع في بلدانهم، وعن انتهاج المحكومين طريق الثورة لتغيير واقعهم، وأيضاً المسؤولية عن معاندتهم وممانعتهم التغيير، بانتهاجهم وسائل القوّة لكسر روح الحرية عند شعوبهم.
ويستنتج من ذلك أن المشكلة الأساسية التي يعاني منها العالم العربي إنما تكمن في نقص الدولة، أو في نقص «الحكم الرشيد»، أما البديل فيتمثل في الإصلاح السياسي أو في تمكين الحكم الرشيد، وهو بمعنى أكثر تحديداً في إعادة الاعتبار للدولة، باعتبارها دولة مؤسسات وقانون ومواطنين.
وفي الواقع، فإن أكثر ما يمكن المرء ملاحظته في معظم العالم العربي هو تعثّر حضور الدولة، أو غيابها، وغلبة الوظيفة السلطوية عليها، وافتقارها إلى الشرعية، والفجوة بين الحكام والمحكومين. فقد شهدت بلداننا، في العقود الماضية، استيلاء الأنظمة ذات الطبيعة التسلّطية على الدولة وتهميشها لها، وحؤولها دون ظهور المواطن ودون تبلور مفهوم الشعب، واحتلالها للمجتمع وللمجال العام، للموارد والرموز، للمكان والزمان والرواية التاريخية، وحتى للمخيّلة. وبديهي أن يؤدي وضع كهذا إلى نوع من الفوات التاريخي في البلدان المعنية، وإلى التقهقر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي فيها.
حقاً، لم يبق مجال لم تحتله هذه النظم، أو تطبّعه بطابعها، بعدما باتت تعتبر البلاد والعباد بمثابة ملكية خاصّة لها، الأمر الذي أدّى إلى تشوّه الدولة وتآكل مكانتها، وتحوّلها إلى مجّرد حالة افتراضية أو صوريّة. فالجيش، مثلاً، وهو بمثابة «قدس الأقداس» تمّ تهميشه لمصلحة «حرس جمهوري»، أو تحوّل إلى نوع من جيش انكشاري أو مملوكي أو احتلالي، يتركّز همّه، على الأغلب، في حماية واقع السلطة، بعدما بات «الأمن القومي» مجرّد أمن حاكم، أو أقلّية حاكمة. أما أجهزة الأمن فباتت للمراقبة والسيطرة والترويع ولبثّ الفرقة في المجتمع. وبديهي أن حال السلطتين التشريعية والقضائية لم يكن أحسن إذ تمّ تسخيرهما، كما أجهزة الدولة المدنية والخدمية، إلى احتياطي في خدمة امتيازات السلطة، وتوسيع قاعدتها الاجتماعية. وفي دول كهذه تمّ التحكّم بالتعليم وبوسائل الإعلام وبالأنشطة الفنّية والثقافية والرياضية، كما تمّ احتكار الموارد والاستثمارات الاقتصادية. هكذا لم يبق مجال عام، أو حتى خاصّ، لم يتم احتلاله أو التحكّم به أو إخضاعه للمراقبة من المدارس والجامعات والمراكز الثقافية والفعاليات الفنية إلى دور النشر والسينما والمقاهي والنوادي الرياضية.
الأنكى أن النظام التسلّطي الاستبدادي في العالم العربي اقترن بالفساد أيضاً، وهذا لا يقتصر على الإثراء غير المشروع، وإشاعة المحسوبية والواسطة والرشوة وتشريعها في المعاملات، إذ يشمل ذلك علاقات المواطنين إزاء بعضهم بعضاً. وللفساد هنا ثمة وظيفتان: الأولى، وتفيد في توسيع القاعدة الاجتماعية للنظام، بتوسيع الفئات المستفيدة منه والمتواطئة معه. والثانية وتفيد بخلخلة المجتمع والتلاعب بقيمه، ما يضعف الأساس الأخلاقي والقانوني لمناهضة الاستبداد.
المعنى من ذلك أن الفساد المقترن بالاستبداد لا يتمظهر في مجرّد نهب موارد مالية أو في التربّح غير المشروع، فهو يتمظهر أيضاً، في التلاعب بالقانون والقضاء والتشريع، وتفتيت المجتمع، وتشويه التنمية، والإضرار بالعملية التعليمية، وتخريب البيئة، والحطّ من قيمة الثقافة والفن والإبداع وروح التفوق ومصادرة الفضاء العام، وتهريب الأموال وهدر الموارد، ومن ضمنها الموارد البشرية التي من مظاهرها «هروب الأدمغة» وعدم تكافؤ الفرص.
هذا ما يضفي صدقية على مقولة «السلطة المطلقة مفسدة مطلقة»، لأن هذه السلطة عندما تشرّع الفساد وتعمّمه إنما تحاول تعميم خاصيّتها، القائمة على اغتصاب الحقوق وسلب الحريات وامتهان كرامات الناس. وبدوره، فإن هذا النوع من الفساد المعمّم والمشرعن يشرعن بدوره الاستبداد، ويعيد إنتاجه، بل إنه يقوم بتجميله، وتنزيهه، واعتباره منّة ربّانيّة، كما نشاهد ونرى! وفي الواقع، فإن هذا الوضع هو الذي يسهل على السلطة الاستبدادية صدّ أية مطالبات مشروعة بالحرية والعدالة والكرامة. وكان الكواكبي أكد ذلك في كتابه: «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي تحدّث فيه، قبل قرن ونيف، عن الارتباط الوثيق بين الاستبداد والفساد، معتبراً أن الفساد السياسي أصل الداء، وأن أي إصلاح قبل الإصلاح السياسي لن يجدي.
هذا يعني أن الثورات معنيّة أساساً بإعادة الاعتبار للدولة أولاً، بما هي دولة مؤسّسات وقانون، لأن قيام دولة كهذه هو حجر الزاوية في فتح باب التطوّر في بلدان العالم العربي، ولأنه من دون ذلك لا يمكن الحديث عن مواطنين يتشكّلون بوصفهم شعباً، كما لا يمكن الحديث عن حداثة أو عن ديموقراطية أو عن تنمية اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية. هذه هي دروس ستة عقود من تعثّر قيام الدولة في واقعنا العربي.

* كاتب فلسطيني
الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى