تهامة الجنديصفحات الناس

عودة المنفي إلى منفاه/ تهامة الجندي

 

وهبتُ مقتنياتي المتواضعة لحارس البناية، التي كنت أستأجر غرفة فيها، ودخلت بوابة الرحيل، أنوء بحقيبتين، الأولى لحاجاتي الصيفية والأخرى للشتوية. وضعت حملي على شريط الوزن في مطار بيروت الدولي، وقالت لي الشابة اللبنانية الجميلة، بعد أن تمعّنت طويلاً في جوازي السوري: «لديك ثمانية كيلوغرامات فائضة عن المسموح»، تنهدت وقلت: «هذا كل ما بت أملك، أرجوك دعيني أمر»، أجابت: «إما أن تفرغي الزائد، أو تدفعي ثمانية وثمانين دولارا». دفعت المبلغ، وتابعت طريقي إلى حاجز الأمن، ثم قاعة المغادرين.

أرحلُ، كمن يدوس على قلبه، وثلاث ساعات على متن الطائرة، وساعة في مطار اسطنبول، كانت كافية أن أبكي حبيبتي بيروت، وأعبر من قارة إلى اخرى، سوف تأخذني إلى غربتي الثانية بعد النزوح، وبدايتي السابعة ما بعد ميلادي، ودربي الجديد مثل دروبي السابقة، عالق في الضباب وعلامات الاستفهام، ولا زاد عندي غير الصبر، وانتظار مصادفات الحياة.

غادرت صوفيا، وهي تكنس عن كاهلها أدران الفساد والاستبداد، وها أنا أدخلها في الليل، كما دخلتها أول مرة، ويستقبلني نفس الصديق، الذي ودعني، حين هجرتها قبل ربع قرن، انظر إلى شعره الأبيض، وأقول «كبرنا كتير يا خضر»، يبتسم لي، ويقودني بسيارته إلى منزله الصغير، وهناك ألتقي بابنه ألان، وولديّ أخيه، حمادة ورودي، النازحيّن مثلي، وعلى مائدة العشاء نتبادل أحاديث باردة حول الوضع السوري. لا أحد منهم يتابع الأخبار، جميعهم يشعر بالإحباط من قادة الائتلاف والمعارضة، ومن مآلات الثورة، والكل يبحث عن خلاصه الفردي، وقبل أن أبدأ مشواري شعرت بالإعياء.

عرفتُ خضر من خلال أختي، قبل أن أترك بلغاريا بفترة قصيرة. كانت في زيارتي، بعد أن خرجتْ لتوها من المعتقل، وكان مثلها ينتمي لـ «حزب العمل الشيوعي» ومن المطلوبين إلى الأمن السوري. لم يغادر بلغاريا بعد نيله شهادة الدكتوراه، بل تزوج من زميلته آني، وباشر العمل في الإذاعة البلغارية وجامعة صوفيا.

معرفتي بخضر لم تكن عميقة، ولم تدم طويلا، لكني كنت أكن له احتراما خاصا، وحين سألني بعد عودتي إلى سوريا، أن أهتم بطالباته الثلاث، اللاتي سوف يتدربّن على اللغة العربية، لمدة عام في جامعة دمشق، بذلت أفضل ما بوسعي لمساعدتهنّ، وربطتني صداقة مديدة بإحداهنّ، هي التي سوف تدعوني إلى موطنها، بعد أن دخلتُ محنة النزوح.

فتشتُ عن عنوان خضر، وتواصلت معه من جديد، وأنا أنتظر رد السفارة البلغارية على طلبي تأشيرة الدخول. كان لا يزال يقيم في صوفيا، ويزاول نفس مهنته السابقة. سألته المساعدة، ووعدني بتشغيلي معه في الإذاعة، وتأمين غرفة مستقلة لي، مفروشة ومزودة بالتدفئة المركزية، بإجار لا يتجاوز المئة وخمسين دولارا، حينها حزمت أمري بخطا واثقة، وانتقلت من بيروت إلى صوفيا. لم أجد غرفتي بانتظاري، لأن المالكة اعتذرت عن تأجيرها في اللحظة الأخيرة، قال صديقي القديم، وفي تلك الليلة الباردة من أواخر حزيران، وهبني سريره الضيق.

تكورّتُ على تعبي وخيبتي، وغرقت بالوسن، ثم فتحتُ صباحي بلا شهية، وحين تسلّلتْ الذكريات إلى قلبي، زجرّتها وأبعدتها. لا وقت عندي لترف الحنين، عليّ أن أرتب مفردات عيشي، غرفة صغيرة تؤويني، عمل يطعمني، خط الموبايل والإنترنت. ارتديت جينزي وبلوزتي المدعوكة، وقبل أن يذهب خضر إلى عمله، أوصلني إلى مركز المدينة، حيث استلمني حمادة، ورافقني في رحلة البحث عن حياتي، وكنت أعتقد أن معرفتي بخريطة المكان، وإجادتي للغة البلغارية، سوف تيسّر أمري.

لم أتعرّف على عاصمة شبابي ودراستي الجامعية، واكتشفت أني نسيت معظم الحروف السلافية، والكثير من المفردات البلغارية، ولم أعد قادرة على قراءة اللافتات من حولي، وأحتاج من يرافقني في أيامي الأولى، على الأقل، حتى لا أضيع في الدروب الملتبسة أمامي. ومع الشاب الكردي الدمث، حمادة، قضيت وقتاً طيباً، وأنجزت أولى مهامي.

قادني إلى الصرّاف، حيث بدّلت دولاراتي القليلة بالعملة المحلية «الليفة»، ونبّهني ان لكل صراف سعره، وعليّ أن أختار السعر الأعلى، والصرافين المضمونين. ساعدني على شراء خط بلغاري لموبايلي، وبدأنا بإرسال رقمي الجديد إلى أصدقائي وأقاربي.

أثناء انغماسنا بترتيب شؤوني الخاصة، كنت أسأله عن حياته، وأخبرني أنه درس الإعلام في جامعة دمشق، بعدها التحق بالجيش لأداء خدمة العلم الإلزامية، وحين اندلعت الثورة السورية، انشق، وتسلل إلى غازي عنتاب، ومن ثمة إلى بلغارية التي يقيم فيها منذ عامين، ويعمل في شركة «غالوب». كان مثلي يتحدث بحماس وحب عن بدايات الثورة، ويغصّ حين ينتقل إلى حاضرها، وبحسب استنتاجاتي، هو واحد من النشطاء السوريين، الذين يعملون في مجال غوث النازحين.

برفقة حمادة قضيت يومي الأول في صوفيا، انتقلت من شارع لآخر، ومن حي لحي، ركبت جميع أنواع المواصلات العامة: الترام والترولي والمترو، وباصات النقل الداخلي. عرّفني على السوق العربي، وبعض المطاعم السورية. دعوته إلى الغداء في مطعم «تبولة«، ودعاني لشرب القهوة في «الميماس»، وأثناء جلستنا في المكانين، التقيت بالعديد من السوريين، بعضهم كنت أعرفه من أيام الدراسة، والبعض الآخر تعرفّتُ به للتو، لكني فوجئت أن الجميع يعلم بقدومي، مع أني لم أخبر سوى صديقي خضر، واستغربت أن جميعهم، يعاملني كسائحة مقّتدرة، لا كنازحة تبحث عن بلد يقبل إيوائها.

انظر من حولي، وأرشيف ذاكرتي، لا يتطابق مع البث الحي للصور. تغيّرتْ الأسماء والأشكال والأزياء، تبدّلتْ طرز العمارة، وواجهات المرافق والمحّال التجارية، امتلأ الفضاء العام بالمباني الضخمة، العالية، وبالطرق العريضة، والجسور والأنفاق، وانتشرتْ سلاسل المطاعم والمقاهي والأسواق العالمية، المكدونالذ والكنتاكي والكوستا والبينتون… فقدتْ صوفيا بساطتها وخصوصيتها، لم تعد حديقة وارفة، تتناثر في جنباتها الأبنية الواطئة، وتزينها الكنائس القديمة ومراكز الثقافة، صارت عاصمة حديثة، مختلفة تماما، عن تلك التي عرفتها أيام دراستي، وكان عليّ أن أستكشف أسرارها ومفاتيحها من جديد.

خلال تجوالي الطويل مع حمادة، صدمني وجود المتسولين البلغار، وحين وضعتُ علبة تبغي على الطاولة في المطعم، صادف ان عدداً من العابرين، سألوني ان أعطيهم سيجارة، بعدها وأنا أرشف قهوتي في المقهى، راعني مشهد العجوز، الذي ينبش القمامة، ويقتات على فضلات الآخرين. لم أرَ هذا الفقر المدّقع أثناء دراستي، ولم أجد صوفيا نظيفة، كما عهدتها. كلاب الشوارع سارحة في كل مكان، والفوارق الطبقية تطبع المكان والبشر بعلامات دامغة، ومن التقيت بهم، يوصونني ان أنتبه من النشالين، وكنت أضحك، من سيفتح حقيبتي، لن يسرقني، سيشفق عليّ، ويترك لي بعض النقود.

أنهى خضر دوامه في المساء، والتحق بي، ثم اصطحبني إلى منزله، وإلى ساعة متأخرة من الليل، حدثني عن طفولته الشقية في الحسكة، وعن ولع الأكراد بالتصوف، واسترسل في الحديث عن الجان، حتى ظننت، أنه يعاني من خطب ما. لم يكن من الصعب التكهّن، أنه يفتقد الدفء العائلي، ويعاني بعض الاكتئاب، زوجته آني غائبة باستمرار، وعلى عاتقه تقع أعباء المنزل، ورعاية ابنه.

بتُ ليلتي الثانية على سريره الضيق، وفي الصباح أوصلني إلى محطة النقل الداخلي. كان عليّ أن أسافر إلى بورغاس، لألتقي أم وأب الصديقة، التي وجهت لي الدعوة إلى بلغاريا، وبموجبها مُنحت تأشيرة الدخول. شعرت بالضيق، صديقتي تعيش في باريس، وأنا لا أعرف والديّها، لكن لا بد من القيام بهذه الرحلة الغامضة، لتسجيل إقامتي لدى شرطة المدينة، التي صدرت منها دعوتي.

قضيتُ المسافة الطويلة نائمة، وحين وصلت المدينة الساحلية الوادعة، كان الوالدان بانتظاري، واستقبلاني بلطف أدهشني، وحفاوة لم أتوقعها. كانت علامات الثراء والكرم، تبدو جلية على أهل صديقتي، سيارة فخمة وحديثة، نقلتني إلى منزل أنيق من دورين، كان دوره العلوي مخصّص لي وحدي، وفيه نعمتُ بكل وسائل الرفاه والراحة. مع الأم تجولت في حديقة بورغاس الواسعة، وغسلت روحي قرب شاطئ البحر. على مائدة العائلة العامرة، تحدثت بلا حواجز، شاكسني الأب، وضحكت من قلبي. وعلى شرفتي المليئة بالزهور والنباتات العطرية، شربت قهوتي ودخنت. وحين كانا ينظران إليّ بذاك الحنان، ويقولان «لقد عانيت الكثير»، كنت أستغرب، بات التعاطف مع السوريين، عملة نادرة هذه الأيام.

غادرتُ جنتي المؤقتة، بعد ثلاثة أيام، وعدت نشيطة إلى صوفيا، وقبل أن ينقضي الأسبوع، حالفني الحظ، واستأجرت شقة صغيرة، في منطقة هادئة، قريبة من مركز المدينة. كانت أرخص من كل الشقق التي زرتها، لكن أجارها يفوق، ضعف المبلغ الذي ذكره لي خضر، ولم تكن مزودة بأي شكل من أشكال التدفئة، وكان يعوزها الكثير من أساسيات العيش.

بمحض المصادفة التقيت بصديقة بلغارية قديمة في الشارع، تعانقنا، وتحدثنا طويلاً، وشربنا قهوتنا على احد مقاهي الرصيف، دعوتها إلى شقتي، وحين زارتني في اليوم التالي، ملأتها بما كان ينقصها من كسوة النوم، وعدة المطبخ، وأهدتني تلفازها القديم. نظفت سكني ورتبته، ووصلته بالإنترنت، وقبل أن ألتقط انفاسي، بدأت عملي الجديد مع خضر، في القسم العربي للإذاعة البلغارية، ومنذ يومي الأول انشغلتُ بترجمة المقالات الصحفية، وفي اليوم الثاني دخلتُ الاستوديو، لأقرأ المواد التي أترجمها.

في عطلة نهاية أسبوعي الأول، لم أسترح، ولم ألبي أياً من دعوات أصدقائي للسهر أو النزهة. أوصدتُ بابي علي، وجلست أكتب لـ»نوافذ، لأن راتبي من الإذاعة، لن يغطي أجار غرفتي. استرق النظر إلى دموع السماء، وهي تنقر نافذتي، وأحس وأنا أنهي مقالتي، أني أسحب نفسي الأخير. استلقي قليلاً، ثم أبدأ دورة التنظيف والطهي والغسيل، بعدها أجر قدميّ المنهكتين إلى الحمام، أغتسل، أنام قليلا، وأنهض مسرعة للذهاب إلى عملي.

في طريقي تطلع الشمس قليلاً، أشعر بالدفء، وتبتسم الدنيا من حولي. تتكاثف الغيوم، وتمطر بغزارة، فأغرق في الوحل وكآبة المنفى. يخترقني البرد، وأنا في عزّ تموز، فكيف يكون شتائي؟ أحدق في تضاريس المكان، أشتم عبير الطبيعة، وأعلم أن إمكاناتي، لن تتيح لي لمس الجمال، الذي على مرمى نظري.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى