صفحات مميزةلن ننساكم -بمثابة تحية الى شهداء سورية -

غاندي الصغير – رولا ركبي

 

رولا ركبي

مازلت أذكر ذاك المساء الخريفي ، تواعدنا على اللقاء في ساحة الأمويين ، ، سيارة سكودا رمادية اللون ، كانت هذه هي العلامة الوحيدة . وصلت قبل الموعد كما عادتي عندما أكون متحفزة ، تفحصت المكان ولا سيارة رمادية من أي نوع ،درت حول الساحة وفي ختام الدورة السابعة ، كانت السكودا الرمادية على يمين الطريق ، ترجلت من سيارتي لأستفهم عن خط سيرنا ، قالت لي : وجهتنا داريا لكن أتبعيني ! لحقت بهم وسط طرقات عجيبة لم تطأها عجلاتي من قبل ، اتصلت مستفهمة : عادي نحن نحاول تجنب الحواجز ، استمرت رحلتنا قرابة الساعة وصلنا بعدها الى شارع عريض وسط داريا ، ومن ثم انحرفنا بأتجاه طريق فرعي على اليمين، في صدر الحارة نصب سرادق كبير ، مئات الكراسي والأضواء المسلطة ، دخلنا مدخل بناية مضاء والوجل يمتص طاقتنا ، صوت قرآن خافت أرشدنا الى مكان عزاء النساء ، غرفة فسيحة ، تتبعها أخرى أضيق ، كراسي مرصوصة الواحد تلو الآخر ورؤوس نسوية موشحة بالسواد ، لا بكاء ، لا نحيب ،صمت مطبق .ما أن وجدت كرسيا  فارغا حتى رميت نفسي عليه بينما تابعت صديقاتي السير وسط نظرات متفحصة لكنها مرحبة .

في عمق القاعة جلست صبية ، كدت أن أعتبرها طفلة ، لولا تكور بطنها ، ألبسوا آمنة زوجة غياث ثوب عرس أبيض ، وجهها شمعي اللون وعيناها زائغتان ،بجانبها أمرأة ترتدي السواد وبيدها مسبحة الشهيد ، كانت متمالكة النفس أو هذا ما ظهر لي ، رحبت بنا وراحت تقص حكايا شهامة وشجاعة أبنها ، مختلطة بأهازيج الشهادة .

ولد غياث مطر في داريا ، نما وترعرع فيها ، وهي مدينة صغيرة الى الجنوب من دمشق ، بدأ فيها حراكا مدنيا حقيقيا في نيسان 2003، عندما خرجت مسيرة صامتة ، شارك فيها نحو 200 من الشباب ، بينهم 50 فتاة محجبة ، وطافت المسيرة شوارع المدينة ، رافعة لافتتين ، تحمل الأولى آية ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم ) والثانية تقول ( عودوا الى القرآن لكي نتخلص من الذل والهوان ) .

ابتدأ شباب داريا العمل الفعال تحت هذا الشعار وأطلقوا نشاطا أجتماعيا لتغيير الواقع : تنظيف المدينة، بحيث توزع عشرات الشباب بزي موحد وراحو ينظفون الشوارع ويوزعون أوراقا صغيرة تدعو الى الألتزام بقواعد نظافة المدينة ، والمكافحة الشعبية للفساد وليس ترك الأمر لجهاز الدولة ، ولا تتم هذه المكافحة بالعنف وإنما تركز على صون النفس ، لا أقبل رشوة ولا أرشي أحدا ، وتوجه الشبان الى الموظفين للحديث اليهم عن حرمة الرشوة وما تسببه من دمار للوطن .

وسط هذا المناخ الجمعي السلمي  الفاعل ، ترعرع غياث مطر ، شارك في المظاهرات السلمية المطالبة بالحرية ، وزع ماء وورودا بيضاء لعناصر الجيش والأمن ،رفع لافتات كتب عليها : أنا وأنت أخوة ، لو كنت مكانك لما قتلت المتظاهرين السلميين ، الوطن يتسع للجميع ، أرجوك دعنا نتظاهر سلميا !

عرف باسم غاندي الصعير لإصراره على مبدأ اللآعنف ، تم أعتقاله بكمين في 6 أيلول وسلمت جثته الى أهله يوم السبت 10 أيلول 2011 ، وفي بطنه جرح كبير تمت خياطته وآثار التعذيب والحروق على جسده.حتى ذاك التاريخ كانت الثورة السورية سلمية ، إلى أن تفاقم عنف وإجرام النظام وبات من الملزم الدفاع عن النفس وعنها !

ودعتنا آمنة قائلة : سوف تعودون لتباركوا لي بولادة غياث الصغير ، سوف لن تتركونا !

في سوريا سوف يولد جيل جديد وسوف يسأل قريبا : لماذا قتل أبي ومن قتله ؟

خاص – صفحات سورية –

اللوحة للفنان السوري بشار العيسى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى