صفحات الناس

غرباء الشام: عن أبي القعقاع وحسن جزرة/ مصطفى أبو شمس

 

 

السلفية الجهادية التي تبنّاها أبو القعقاع هي التي قادت إلى قتل حسن جزرة، والنظام الذي حاربه حسن جزرة تحت راية الثورة كان هو الذي قد قَتلَ أبا القعقاع. تلك هي المعادلة التي تستوقفك عند الحديث عن ظاهرتين جمع بينهما حي الصاخور شرق حلب، وكان جامع العلاء الحضرمي الذي بناه أبو القعقاع شاهداً على بعض فصول حكايتهما، لتبقى كاريزما الأسماء طاغية بسطوتها على المكان، وهي التي تسببت بشكل أو بآخر بمقتلِ كل منهما، وتحوّلِ سيرتهما الذاتية، التي ترتبط أحياناً إلى درجة التداخل وتبتعد أحياناً إلى درجة التناقض، إلى أساطير وشائعات نالت من الرجلين دون القدرة على إثبات الحقيقة، ليرتبط اسم أبي القعقاع دائماً بقشعريرة الحديث عن الجهاد والحماسة، ويرتبط اسم حسن جزرة بابتسامة لا تفارق كل من يتحدث عنه، سواء اختلف مع سلوكه ومنهجه أم اتفق. أما السمة الأهمُّ التي ظلّلتهما فقد كانت «غرباء الشام»، الاسم الذي التصق بالرجلين حتى بات لازمةً لحضورهما في الذاكرة الجمعية.

حلب ما قبل العام 2000

في العقد الأخير من القرن العشرين، سمحَ نظام الأسد الأب –على نحوٍ مخالف للتوقعات- بظهور نشاط ديني في مدينة حلب، ارتكزَ على شخصيات كانت تمتاز بقوة الخطابة والتأثير الحماسي، محمود الحوت وأحمد حسون ومحمود عكام وغيرهم من المشايخ «الأقل تأثيراً»، وبات لكل منهم –إذا صحّ التعبير- مريدون يتتبعون خطبهم في المساجد التي كانوا يخطبون فيها أيام الجمعة، ويتابعون دروسهم في تلك المساجد أيضاً.

انتشرت الخطب والدروس كما لو أنها صناعة إعلامية ممنهجة، فغزت الأسواقَ على شكل أشرطة كاسيت تُباعُ على بسطات، كان لكل من هؤلاء الأشخاص مكانه فيها، وخاصة في الأسواق الشعبية، فتُباع أشرطة محمود الحوت أمام جامع الكلتاوية، وأشرطة العكام في «براكة» على زاوية حديقة ميسلون، فيما نال أحمد حسون الحظَّ الأوفرَ بانتشار أشرطته في سوق الجمعة، وهو سوقٌ للبسطاء يؤمّه الناس من مختلف المناطق الريفية والشعبية لشراء الأشياء المستعملة والجديدة بأسعار رخيصة. كذلك انتشرت تلك الخطب في السرافيس وتكاسي الأجرة ومجالس العزاء، وجُلّها كانت تتناول موضوعات مؤثرة في بنية المجتمع، يتلقفها الناس بعد حالة الحجر الديني الذي فُرِضَ بعد «أحداث الإخوان المسلمين» في ثمانينات ذلك القرن. في تلك الفترة نفسها برزت ظاهرة الخزنوية، على يد مؤسسها الشيخ محمد الخزنوي ذي الأصول الكردية، التي بُنيت على أسس قوية واعتمدت الطريقة النقشبندية، وظهرت بدايةً في قرية تل معروف في مدينة القامشلي. انتشرت الخزنوية في أوساط مدينة حلب، وبات لها مرشدوها ممن يسمون أنفسهم «الملّا»، وبدأت بالشيوع وخاصة بين جيل الشباب الذي كان يعاني من حالة ضياع وجهل ديني في تلك الفترة.

ظهور أبي القعقاع

ظهرَ أبو القعقاع فجأة، وكأنه خُلقَ دفعةً واحدةً في تلك المرحلة دون تدرّج. وأبو القعقاع هو محمود قول أغاسي، من مواليد 1973، من أصول كردية. ولدَ في قرية الغوز وكان من سكان حي الصاخور، درسَ في الثانوية الشرعية ثم كلية الشريعة، وحصل على الماجستير والدكتوراه من الجامعة الإسلامية الباكستانية.

لعلّه ظهرَ في «الوقت المناسب»، ففلسطين كانت البداية دائماً للحديث عن أي ظاهرة دينية أو جهادية، وقضيتها هي السجادة التي يمدّها كل من يريد الحديث عن حال الأمة، خاصة بما يتوافق مع نهج «المقاومة والممانعة» التي تزعمها الأسد الأب في تلك المرحلة، والتي كان يُسَوَّقُ لها بين السوريين.

اختار الرجل مكاناً وسطياً في مدينة حلب لبناء مسجده الخاص عام 1998، الذي أسماه مسجدَ العلاء الحضرمي، ولا يُعرَفُ السبب في إطلاق هذا الاسم عليه، إلّا أن الناس كانت تتناقل «كرامات» هذا الصحابي الجليل في كثيرٍ من المجالس، وارتباطه بالقوة والجهاد، ولعلّ هذا ما جعل أبا القعقاع يطلق هذا الاسم على المسجد الذي بناه بحيث تكون واجهته مُشابِهةً لقبة الصخرة في فلسطين. كانت واجهته الأساسية كأنها نِصفُ قبة الصخرة، وكان يضمُ مساحة مبنية على شكل مستطيل تبلغُ نحو 180 متراً مربعاً، بالإضافة إلى طابق آخر على شكل «عليّة»، أما فناء المسجد فقد كان بمساحة 100 متر مربع تقريباً.

يقع المسجد في شارع الوكالات في نهاية حي الصاخور بالقرب من «دوار الصاخور»، وهو عقدة مرورية مهمة تربط بين أحياء حلب الشرقية والغربية وتؤدي إلى مطار حلب الدولي. خلفه تقع حديقة الصاخور، التي مثّلت في فترات سابقة أخطر الحدائق، إذ كان روّادها من أصحاب السوابق والمجرمين، وكان المرور فيها مساءً أمراً شبه مستحيل. وأمام المسجد كانت مكاتب لبيع السيارات، وخانات ومحلات جملة لبيع الخضار.

بُني حي الصاخور عام 1946 فوق القسم الصخري المرتفع شرق حلب، وهذا سبب التسمية، ليمتدَّ فيما بعد إلى الأراضي الزراعية المجاورة وكروم الفستق التي كانت منتشرة هناك، بحيث بات من أكبر الأحياء الشعبية في مدينة حلب، مقسماً إلى ثلاثة أقسام، وتغلب على ساكنيه الصبغة العشائرية، فمعظمهم يتبع لعشائر البطوش والكيار والفراهدة، بالإضافة إلى اتصاله من الجهة الشمالية بحي الحيدرية الذي يقطنه كردٌ وتركمان تمددوا داخل الصاخور، ناهيك عن بعض العائلات الحلبية القليلة، وبعض سكان المناطق الريفية والقرى المجاورة الذين استوطنوا الحي.

كان الحيّ يضمّ حالةً من الانقسام العشائري والمناطقي، كانت تؤدي في كثير من الأحيان إلى حالات من الشغب والعراك، الذي غالباً ما يتطور إلى العراك بالأسلحة التي كانت أيضاً منتشرة في معظم بيوت الصاخور، دون أن تُحرِّكَ أجهزةُ الدولة ساكناً، بل غالباً ما كانت تقفُ موقفَ المتفرج مما يحدث في الحي، وقليلاً ما كانت تسعى للصلح بين الأطراف المتقاتلة، ولكنها كانت على صلة وثيقة بوجهاء الحي هناك.

في تلك البيئة المعقدة بنى أبو القعقاع مسجده، وسعى إلى تعزيز وجوده هناك عبر التواصل الوثيق مع السكان وحضور مجالس الوجهاء في المنطقة، ليشارك الجميعَ أفراحهم وأتراحهم، ويتحولَ خلال فترة قصيرة إلى ركن أساسي من أركان الحي. يقول بعض الناس إن أبا القعقاع تحوّلَ وقتها إلى «حمورابي الحي»، ساعده في ذلك تقربه من المختار أسعد البطوشي، إذ كان جليسه اليومي في مضافته، بالإضافة إلى صوته الغنائي الجميل، ومشاركته دوماً بأغنية «غرباء» التي كان يبدأ بها حضوره.

أنشودة «غرباء»، مدخلُ أبي القعقاع إلى الصاخور

على الرغم من أن أنشودة غرباء كانت من تأليف سيد قطب، وكانت بحسب موقع معازف في ملفه عن الجهاد تمثل الأنشودة الأكثر حزناً في أناشيد تيار الإخوان المسلمين، والأكثر تمييزاً لمريدي ذلك التيار، إلّا أن نظام الأسد، عدوَّ الإخوان الأول، لم يقف في وجه أبي القعقاع الذي تمثلّها دائماً في المجالس التي يحضرها، ليُعرَفَ فيما بعد كمؤسس لـ «حركة غرباء الشام»، وإن لم يكن هناك خلال وجوده وحتى وفاته أي ذكر لكلمة حركة، وإنما اكتفى بمؤسسة إعلامية كانت تسمى «مؤسسة غرباء الشام»، فيما ساعدَ صوته الجميل على انتشار الأغنية التي كانت مجهولة بالنسبة لمعظم السوريين.

بقيت أنشودة غرباء الأكثر حضوراً في مجالس الشيخ، إلّا أن أناشيد أخرى بدأت تظهر وتسري بين الناس لتمجيد الشيخ، ولا نستطيع أن نعرف اليوم ما إذا كانت بموافقته أم لا، مثل:

امضي فينا يا محمود… درب الدعوة أنت تقود

للإسلام الجيل يعود… فلتحيا يا أبا القعقاع

أبو القعقاع في الذروة

اعتمدَ أبو القعقاع في مسجده على الخطب الحماسية التي أدرك نجاعتها من خلال تجربة من سبقوه في تلك المرحلة، وعمل على تنشيط الدور الإعلامي الذي كان قد فُتِحَ المجال أمامه في عهد الأسد الأب كما ذكرنا سابقاً، ليبدأ ببناء «غرباء الشام» من خلال تعزيز الفكر الجهادي هذه المرة، بالإضافة إلى الإسقاطات التي كان يزين خطبه بها، من أحاديث عن الظلم والخيانة والواقع الاقتصادي والحياتي.

هكذا وجد الناس في خطبه متنفساً لهم، ولسانَ حالٍ ينطقُ بما يعتمل في صدورهم، زاد على ذلك، خاصةً في عهد الأسد الابن، «سطوةُ الشيخ أبي القعقاع وخوفُ رجال الأمن منه» وفقَ الكلام الذي كان الناس يتناقلونه، وإلّا «لماذا لا يعتقله الأمن السوري رغم كل خطبه الرنانة التي تجاوز بها الحد؟؟».

تحوّلت الأشرطة إلى «سيديات» كانت تصدر عن مؤسسة غرباء الشام الخاصة بأبي القعقاع، وكانت تباع أمام المسجد بخمس ليرات سورية، بالإضافة إلى وريقات اعتبرها البعض منهجاً جديداً للفكر الذي بدأ يتشكل في تلك المرحلة، وكانت بعنوان «هذا سبيلي»، محتواها كان الحديث عن الجهاد ومبادئه وضرورته وأهميته ووجوبه.

ll_4.jpg

أحد بوسترات مؤسسة غرباء الشام، يظهر فيه أبو القعقاع وفي الخلفية المسجد الأقصى، وكان يستخدم غلافاً لمعظم السيديات التي تحتوي خطب أبي القعقاع

أحد بوسترات مؤسسة غرباء الشام، يظهر فيه أبو القعقاع وفي الخلفية المسجد الأقصى، وكان يستخدم غلافاً لمعظم السيديات التي تحتوي خطب أبي القعقاع

طغى أبو القعقاع وخطبه على معظم مشايخ المنطقة وسَحَبَ البساط من تحتهم، وبات اسمه لصيقاً بذاكرة أبناء الصاخور والأحياء المجاورة، وتحوَّل إلى ظاهرة يأتيها الناس حتى من بلدان مختلفة. ترافق ذلك مع الانتفاضة الفلسطينية 2001، والأحداث العراقية قبل سقوط بغداد 2003، وتنامي الدعوات للجهاد، لتتشكل ملامح دعوة الرجل بإنشاء مقاومة شبيهة بتلك المقاومة في جنوب لبنان، ومن هنا بدأ بالتوجه نحو إنشاء منظومة تشبه منظومة حزب الله، وبدأت التدريبات العسكرية.

كان عدد مريديه يزداد يومياً، وقدّره البعض وقتها بأكثر من 2000 رجل. كانت فئة اليافعين هي الفئة الأهم التي اعتمد عليها وأسماها «أبطال الحق»، الذينَ يُقالُ إن عددهم زادَ على 1000 طفل ويافع، كان يعمل على تدريبهم بدنياً في ساحة في حي الصاخور بالقرب من مدرسة مصطفى البدوي، مع عروض لنتائج تدريباتهم ولقاءات معهم داخل المسجد، بالإضافة إلى البناء العقائدي الذي كان يتم بالاعتماد على رجال يُعيّنُهُم الشيخ من مريديه، لتعزيز فكرة إنشاء جيل جديد يكون له الدور الأهم في «إعادة أمجاد الإسلام»، تطبيقاً للاسم الذي اختاره، «غرباء الشام»، اعتماداً على حديث نبوي شريف: «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، ألا فطوبى للغرباء. قيل: أين هم يا رسول الله؟ قال: في الشام».

استطاعَ أبو القعقاع أن يجعل معظم شباب حي الصاخور يحضرون خطبه ودروسه، وحدَّ من انتشار كثيرٍ من التجاوزات كجرائم السرقة والعراك والألفاظ النابية والشتائم، خاصة ما يتعلق بسب الله وشتم الأنبياء وتعاطي الحشيش وغيرها، حتى بات يشكِّلُ مع مريديه سطوةً على الحي. إلّا أن تكوين الحي الاجتماعي، الذي يشكّلُ رسوخُ الانتماءِ العشائري وضعفُ التعليمِ والالتزامِ الديني معالمَ أساسيةً فيه، حالَ دون تحوّلِ قسمٍ كبيرٍ منهم إلى الحركة الجهادية، بل اكتفوا بحضور صلاة الجمعة كتقليد وفضول.

حرب العراق بداية النهاية

مع الاستحقاق الجهادي الأهم، حرب العراق، خذل أبو القعقاع مريديه بخطبته الشهيرة التي رفض فيها الذهاب إلى العراق، محتجاً بعدم جاهزية الأمة في تلك المرحلة لتلك الحرب، وأن الأمر بحاجة الى تهيئة وتنشئة، ولم يحن الأوان بعد، وأن أي اندفاع سيصيب الأمة في مقتل.

ظهرت أولى حركات التمرد على الشيخ في تلك المرحلة، وإذا كان كثيرٌ من الناس قد تناقلوا دور أبي القعقاع في إرسال كثيرين إلى العراق للجهاد، إلّا أن الشائعات بدأت تسري بين الصفوف عن تواطؤ أبي القعقاع مع عناصر الأمن للإيقاع بكثيرٍ من الشباب المجاهد واعتقالهم أو قتلهم، حتى وصلت حدَّ اتهامه بالعمالة، وأنه صنيعة المخابرات، وبدأ التساؤل عن مصدر الثروة التي بنى بها مسجده ومنزله، وأدار بها مؤسسته الإعلامية ونشاطاته. ليغيب أبو القعقاع بعدها عن المشهد، وثم تُظهِرَهُ وسائل الإعلام الرسمية وبعض المواقع الإلكترونية المقربة من النظام، خاصةً بعد أن اتُّهِمَ بأنه مُخطِّطُ تفجير مبنى الإذاعة والتلفزيون في دمشق، كرجلٍ يحضر الحفلات ويدخن النارجيلة، بعد أن غيّر ملابسه وخفَّفَ لحيته، ليصبح خطيباً في مسجد الإيمان في حلب الجديدة غرب حلب، بعيداً عن أنصاره ومريديه، وتَصدُرَ بحقه فتوى بالقتل من قبل تنظيم القاعدة في العراق باعتباره مرتداً وعميلاً لنظام الأسد، ليتم اغتياله في 27/9/2007 أمام مسجد الإيمان من قبل أحد «المجاهدين» كما رُوِّجَ في تلك الفترة، إلّا أن هناك حديثاً متداولاً كانت الناس تتناقله بخوف عن قتل المخابرات للرجل بعد أن أنهى مهمته.

اختفت من الأسواق أوراقه، وسيديات خطبه ودروسه التي كانت تملأ بيوتات حلب. «ما يشبه السحر أخفاها حتى من البيوت»، هذا كان تعبير واحدٍ ممن التقيناهم.

حسن جزرة والثورة وحي الصاخور

ليست الصدفة وحدها هي ما يجمع أبا القعقاع مع حسن جزرة، أبو جارح (1980) من أبناء حي الصاخور وعشيرة الكيار، فكلاهما كان ينتمي للبيئة الاجتماعية ذاتها، وإن كان هناك اختلافٌ بينهما على المستوى الفكري. أبو القعقاع كان داعيةً يحمل شهادة الدكتوراه، وحسن جزرة بائع دخان وخضار في الحي، ولكن ما يجمعهما هو الاعتماد على أبناء الحي في تشكيل الحاضنة الشعبية اللازمة لظهورهما، بالإضافة إلى المكان، جامع الحضرمي الذي كان مقرّا لأبي القعقاع، وشكّل مع حديقة الصاخور الجبهةَ الأولى لحسن جزرة وعناصره. كذلك فإن للشخصين ذلك الاسم المميز الذي سهّلَ من عملية انتشارهما، وإن اختلفت الوسائل. وأخيراً ذلك الامتدادُ لحركة غرباء الشام، وتَشارُكِهما في حمل اسمها.

ظهرَ اسمُ حسن جزرة في أول فيديو تناقلته وسائل الإعلام عن تحرير حي الصاخور من نظام الأسد في عام 2012، وما لبث الرجل أن شكل كتيبته الأولى تحت اسم «طيور الأبابيل»، لينضمَّ بعدها إلى كتائب غرباء الشام -كانت وقتها تدعى بهذا الاسم- التي كانت قد أُسِّسَت في مدينة تل رفعت بريف حلب الشمالي على يد عمر هلال، الرجل الذي جاهدَ في العراق.

اعتُبِرَ ذلك التشكيل الذي انتمي إلى لواء الفتح وقتها امتداداً لغرباء الشام التي أسَّسها أبو القعقاع، إلّا أن معظم من انتموا إلى هذه الكتائب أكدّوا أنه لا حديثَ دارَ حول ذلك، مع قناعة بعضهم بأن عمر هلال كان معجباً بالاسم العالق في ذاكرته منذ ذلك الزمن، وأنه استفادَ من هذا الاسم لبناء هذه الكتائب، التي تحوَّلَ اسمُها فيما بعد إلى جبهة غرباء الشام  وضمت 22 كتيبة، كانت من أبرزها كتيبة طيور الأبابيل لقائدها حسن جزرة، وكتائب أبو الليث وبيبرس وأبو العباس وغيرها، التي برزَ اسمها بعد تمكنها من السيطرة على مدينة رأس العين في شهر تشرين الثاني من عام 2012، لتكون أول فصيل يسيطر على مدينة وحده دون مساعدة من فصائل أخرى.

شراسة حسن جزرة ومقاتليه (70-100 رجل معظمهم من حي الصاخور) هي ما أعطى شهرة لاسم غرباء الشام في مدينة حلب، وهذا ما جعل الارتباط وثيقاً بين حسن جزرة واسم غرباء الشام، وغالباً ما كان يُعَرَّفُ عنه بأنه قائدها، ونادراً ما كان يُذكَر اسم القائد الفعلي للجبهة. وهذا أيضاً ما أدى إلى زعزعة الثقة بهذا الاسم، إثر التجاوزات الكثيرة لحسن وعناصره.

لاسمِ الغرباء سطوةٌ جعلت كثيرين من أبناء الحي يرسمونه وشماً على أياديهم وعلى ظهورهم، وحتى بعد أن انفصل حسن جزرة عن الجبهة وشكَّلَ ما يسمّى لواء أحفاد المرسلين، بقيت ورقياته وراياته باسم غرباء الشام تأخذ مكانها في مقراته وعلى جدران المناطق التي ينتشر فيها.

على الرغم من الإساءات الكثيرة التي نُسبت إلى جزرة وعناصره في مناطق سيطرته، إلّا أن لحسن كاريزما قوية جعلت عناصره يتبعونه في كلّ ما يقوم به، بل ويدافعون عنه بأرواحهم، وتحوّل معظمهم -إن صح القول- إلى مريدين له. وبالمقابل كان حسن «روبن هود» ذلك المكان بالنسبة لأنصاره، بما أغدقه عليهم من حب وأموال وسلطة.

لا يختلف اثنان على شجاعة حسن، الذي كان يشكل رعباً حقيقياً لعناصر الأسد في ذلك الوقت، وباتت صفات من مثل «الشجاع السارق» أو «السارق النبيل» تلتصق به، يرافق ذلك دائماً ابتسامة فرح عند الحديث عنه، سواء ممن قابلوه أو سمعوا عنه. ربما كان لكلمة «جزرة» في اسمه ذلك الحظ الذي ساهم في شهرته، ثم قتله لاحقاً.

بدأ تنظيم الدولة الذي زادت سطوته في حلب 2013 يبحث عن كبش فداء، يستطيع من خلاله رفع أسهمه في المنطقة، لبناء مشروعه الجديد. كان حسن جزرة هو الشخص الذي تنطبق عليه المواصفات، فالرجل كان ذا شهرة واسعة حتى في الصحافة الأجنبية، بالإضافة إلى عجز معظم الفصائل عن الوقوف في وجهه، وخاصة بعد أن فشلت اللجنة الرباعية بقيادة عبد القادر الصالح، قائد لواء التوحيد، في محاسبته، وعودة جزرة إلى مقراته التي انسحب عنها في ذلك الوقت من خلال اتفاق.

التهمة كانت جاهزة، والشخصية أيضاً جاهزة، وتنظيمُ الدولة كان الأسرع في قطف ثمار قتل حسن جزرة بعد اعتقاله وتحويله، على حد قول داعش وقتها، إلى محكمة في الأتارب، التي اعترف أمامها بالتهم المنسوبة إليه، ليُقتَلَ مع مجموعة من عناصره في نهاية تشرين الثاني 2013، وترمى جثثهم في مكبّ للنفايات.

كانت طريقة داعش في تحطيم رمز جزرة برميه في القمامة، خطوةً لزيادة شعبية التنظيم، عبر ظهوره كتنظيم يحارب المسيئين، ولا يخشى في الحق لومة لائم مهما عظم شأن المسيء أو زادت قوته. وكذلك كانت خطوةً لتعظيم خوف الفصائل الأخرى منه، وهكذا فإن الرجل الذي لا يجيد القراءة والكتابة، والذي تحول إلى أسطورة ثورية، كان قد دفع الثمن عن جميع الفصائل المسلحة. لعلّ اسمه هو من اختاره للموت.

بين أبي القعقاع وحسن جزرة

مثّلَ أبو القعقاع نواةً لحركة جهادية اعتمدت الفكر السلفي في بنائها وتأثيرها على الناس، فيما اجتمع كثيرون حول شخصية حسن جزرة غير آبهين بتسمية أنفسهم «الجزر». وإذا كان الرجلان قد اعتمدا على فكرة النخوة في جمع مريديهما، إلّا أن الجزرة، خلافاً لأبي القعقاع، لم يخذل مقاتليه، بل كان دائماً في الصفوف الأولى من معاركهم.

لعبت الحاضنة الشعبية دوراً في إنهاء الظاهرتين، فأبناء الحي الفقير كانوا دوماً يمثلون مصدر الشباب المقاتل، ولكنهم في الوقت نفسه لم يكونوا يعيشون حالة من الرضى عن أحوالهم المعيشية في المرحلتين، خاصة أيام حسن جزرة، الذي كان كما أسلفنا «روبن هود» مع مقاتليه، ونسيَ أبناءَ حيّه الفقير، الذين كانوا يعانون ظروفاً قاسية دون الالتفات من حسن أو جزراته إليهم. كذلك مثَّلَ الطرفان حالةً دكتاتوريةً في الحي، وذلك من خلال محاولتهما فرض قوانينهما وأساليب حياتهما بالقوة.

استخدمَ أبو القعقاع الأغاني الجهادية، وخاصة أنشودة غرباء، ليدخل إلى قلوب الجميع، بينما كان لحسن فرقته الخاصة و«نشيده الوطني» الخاص: «نحنا الجزر نحنا الجزر… حسن جزرة ربانا». واعتمدَ أبو القعقاع على التأثير الديني والخطب الحماسية في لغته ومشروعه، وسيقت الأساطير حول قوته وأنه الرجل المخلّص للأمة الإسلامية، وقيلَ إن حسن نصر الله رفضَ لقاءه لتشكيل جبهة مقاومة واحدة، واتُّهم بعدها بالعمالة للنظام والتسبب بقتل عشرات المجاهدين في العراق وتسليم كثيرٍ من مريديه إلى الأمن لاعتقالهم، ليغدو ظهوره واختفاؤه لغزاً يصعب الحديث عنه أو الوصول إلى نتائج حقيقية بخصوصه. أما حسن جزرة فقد كان واضحاً، اعتمد على العفوية في خطاباته التي تناقلها الناس دون أن يشاهدوه أو يحتكوا به، وباتت كلماته من مثل: «لو حنا نخاف من الأرانب ما سمينا حالنا الجزر»، وأغنيته «نحنا الجزر»، حديثَ الشارع ومدعاةً للابتسامة والضحك، وربما دلالةً على فطرية الثورة التي لم يكن يتمثّل مبادئها، وإنما على حدّ قوله كان يشعر بأنها: «كونة (عراك) بينه وبين الأسد»، لتزيدَ من هذه الصورة الأحاديثُ عن والدته، وقصصها المتداولة من قبيل سؤالها عن رجل رشيد «يصالح حسن مع بشار ونخلص»، أو أنها كانت توقظه بقولها: «قوم شعبك يريدك»، وحتى الاتهامات التي وجِّهَت إليه حول وجوده في داريا كعميل للأسد، والتي أجاب عنها جزرة بكلام عفوي: «وين داريا؟! والله لو اندلّها لانكُتها نكت».

امتازت حياة الرجلين بالظهور المفاجئ، ثم تلاشى مريدوهما بعد موتهما بطريقة غريبة. لم يعد هناك أي ذكر أو حديث عنهما، ولم يكمل أيٌّ من المريدين مسيرة قائده المقتول، وكأن المكان الذي شغلاه لم يكن يصلح لغيرهما.

«قُتل حسن جزرة شجاعاً»، هكذا قال كثيرون ممن التقيناهم، بينما ضاعَ دم أبي القعقاع بين الجهاد والعمالة. وما زال مسجد العلاء الحضرمي، المسجد الذي شهد الحماسة الجهادية أيام أبي القعقاع، والمظاهرات الأولى والقصف الوحشي خلال سنوات الثورة السورية، شاهداً على الرجلين وحياتهما وأسرارهما. المسجد الذي ضاع اسمه أيضاً، حتى أن كلّ من يذهب إلى هناك، كان يكتفي بالإجابة عند سؤاله عن وجهته: «رايحين على جامع أبو القعقاع». أما حي الصاخور نفسه، فلا يزال يرتبط باسم جزرة حتى بعد سيطرة قوات الأسد عليه إِثرَ تدميره وقتل وتشريد معظم أهله، ليكون هذا شاهداً آخر على «انتصار» قوات الأسد، ولو كان ذلك «الانتصار» على حساب جثة.

موقع الجمهورية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى