صفحات الرأي

غربة» الجهاديين والترقّي الاجتماعي/ محمد برهومة

 

 

من ضمن ما يقوم عليه الفكر السلفي الجهادي، أنه يتوجّه أساساً إلى تغيير نمط حياة الناس وطريقة/ طرائق عيشهم. فهو، بالعادة، يفرّغ ما يزعم أنه احتجاج ضد السلطات الحاكمة، بالاقتصاص من هامش الحريات الاجتماعية، «الضيق» أصلاً، المتاح للناس العاديين في مدنهم وقراهم. هذه إحدى نقاط الضعف الأساسية للفكر الجهادي المتطرف، فهو إذ يضمّ أنصاراً هنا وهناك، إنّما يُنجز ذلك تحت مظلة خطاب احتجاجي راديكالي ضد السلطات القائمة غير الديموقراطية، لكنه لا يقدّم، أبعد من ذلك، أيّ صورة مستقبلية جاذبة على مستوى الترقي الاجتماعي ورفع مستوى العيش وأسلوب الحياة. لعلّ هذا ما يصيب مستقبل هذا الفكر بمقتل، عاجلاً أو آجلاً، من حيث كونه على الضد من حرية الناس وشوقهم لأن يتمكنوا من التحكّم بمصيرهم وشكل حياتهم وشروط واقعهم. لهذه الأسباب الأخيرة، ثار الناس على مرّ التاريخ ضد الظلم والاستبداد والتهميش، والثورة ضد أي حكم ديني يحمل مثل هذه الصفات ليس استثناء بالطبع.

فكر «القاعدة – داعش» على اختلاف ألوانه، يتحاشى الإقامة في المتن الاجتماعي، ويفضّل الهوامش والأطراف والخواصر المكانية الرخوة. ومن أسباب ذلك التي لا يتم التركيز عليها عند رصد هذه المسألة، أن الفكر الديني المتطرف، بنزوعه العولميّ عادة، عدو للأماكن التي تحمل ذاكرة محلية وسرديات شعبية وروايات فلكلورية وحياة اجتماعية غنية، وتاريخاً طويلاً من التمدن والعادات والتقاليد الراسخة والمتأصلة في أجيال ممتدة. من هنا، تقسّر انتعاشه على امتداد الصحراء المترامية في الأنبار، من هنا، يمكن تفسير سبب عجز تنظيم «داعش» عن الاحتفاظ بأي منطقة غرب مدينة حلب، أو إحداث أي اختراق في دمشق. يمكن بسهولة ذكر تفسيرات سياسية وأمنية لذلك، لكنّ التفسير السوسيولوجيّ مهمٌ أيضاً، وبه نفسّر شعور التنظيم بـ «الغربة» في مناطق شرق سورية؛ إذ على رغم وجوده القهري وتحت سطوة السلاح، لم يتمكن «داعش» من بناء جذور حقيقية له على الأرض في المناطق التي يسيطر عليها في محافظات الرقة ودير الزور والحسكة، مقارنة بانتعاشه جغرافياً على الحدود العراقية – السورية.

وقد لفت حازم الأمين النظر قبل سنوات إلى أنه سبق لعبدالله عزام الملقب بـ «شيخ الأفغان العرب»، والذي اغتيل أواخر عام 1989 في مدينة بيشاور الباكستانية، أن أشار إلى ندرة اللبنانيين الذين هاجروا إلى أفغانستان للقتال هناك، وقد أكد عزام هذه «الندرة» أثناء تشييع شاب فلسطيني من مخيم صبرا (لبنان) في مدينة بيشاور. وشرح عزام حينذاك أن الإغراءات التي يمثلها لبنان للشباب، هي التي تعوق اندفاعهم إلى «الجهاد».

الاشتغال على البيئات المحلية وتنميتها، وشحذ تراثها وذاكرتها، وحراسة هويتها وأدبها وفنونها وتنوعها وثرائها وتسامحها وتعايشها، من الطرق المهمة لمواجهة الفكر المتطرف، فكل بيئة محلية تتوافر على شخصية مكانية واجتماعية واضحة وراسخة، هي أضعف قبولاً للتشدد والتطرف أو فرض نمط حياة آخر خشن ووافد وغير متنوع عليها. وخسارة الناس ترقّيهم الاجتماعي وذوقهم الحضاري وخفة روحهم ونمط عيشهم الجميل والبسيط والإنساني، هي أكثر ما يحول دون انجذابهم للأفكار المتطرفة. ضمن هذا الفهم، يمكن على القائمين على الإنتاج السينمائي والتلفزيوني في العالم العربي ردم هذه الحلقة الغائبة تقريباً في أعمالهم الفنية والإبداعية، كما أن على الدول أن تضع سياساتها الاستراتيجية لمواجهة التطرف ومكافحة مشاريع العنف المحتملة، وليس الاقتصار على الحلول الأمنية فقط.

* كاتب أردني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى