صفحات سوريةعلي جازو

“غزوة” رأس العين أو خطر التحرير!

علي جازو

مسارُ العلاقة العربيّة الكرديّة السوريّة، مريضٌ معقَّد، ودور البعث السوري فيها مدمِّر، فقد باعد الطرفين عن بعضهما، ولم يترك وراءه سوى فراغ خاوٍ يُخشى أن يمتلئ بالعنف والفوضى. لم تنجح الثورة السورية في تقريب عرب الجزيرة السورية من كردها، على نحو جاد وواسع، ومردّ التوترات الأخيرة في مدينة رأس العين، يعود إلى اختلال هذه العلاقة. على أن بقاء العلاقة على عهدها السابق، من إنكار مبطن وتبادل سقيم لفقدان الثقة، ينذر بمخاطر مخيفة على عموم سكان المنطقة عرباً وكرداً. أما تعابير من قبيل “الأخوّة العربية الكردية” و”وحدة الدين” فليست سوى أقنعة تخفي واقعاً ألغى فيه الأخُ الكبير الأخ الصغير، ولم تحل وحدة الانتماء الديني دونه. ليست الكلمات السابقة مديحا للآخر الكردي السوري، المريض بميول قومية كردستانية خيالية، فإرساء علاقة جديدة يقتضي تنازلاً عاقلاً، وما الاحتكام إلى السلاح لغةً سوى قطيعة يحلّ فيها القتلُ محل العقل، والإنكار بدل الاعتراف. إن إيجاد انسجام عربي كردي على أساس وطنية رحبة هو المخرج من دوامة الرفض المزدوج، وعدم الخوض في هكذا مسائل الآن ليس دليل حكمة، قدر ما يوحي تفاقمها من خطر على الجميع.

وعرضاً للوقائع، لا العواطف، فقد أبدى الكرد السوريون تمسُّكهم بالمنحى السلمي لتغيير نظام الحكم. كانت مشاركتهم الواسعة والمستمرة علامة أكيدة على وطنية راسخة، ترافقت وتأكيدهم على أنّ حلّ القضية الكردية السورية جزء أساسي من التحول الديموقراطي. رغم التحول العسكري القسريّ في مسار الثورة، وما رافقه من دمار هائل، وتنوع غير مطمئن لجهة التشكيلات العسكرية التي تقاتل جيش النظام، حافظ الكرد على موقفهم، وقدموا الكثير لجهة الاستمرار في النهج السلمي والدعم الإغاثي، خصوصاً، وهم المهمشون الفقراء، استقبلوا اللاجئين والنازحين من كافة المدن السورية، ولم يقل كرد سوريا: هؤلاء عرب غرباء، فأهالي حمص ودير الزور وحلب يعيشون لدى كرد عامودا ودربيسية وقامشلو. في المقابل، وعلى عكس ما هو مرجو ومطلوب، شكلت العديد من مؤتمرات ولقاءات المعارضة صدمة لغالبية الكرد، إذ لم يحصلوا إلى الآن على تصور واضح عن الحقوق الكردية داخل “الجمهورية السورية”. إن المستقبل التالي لانتصار الثورة رهين الوضوح والانسجام، أما غيابهما فيبعث على الشك والخشية وفقدان الثقة. توفير مثل هكذا ضمانة واضحة وفعلية أمر في غاية الأهمية، ويعود الكثير من الالتباس وضبابية الرؤية إلى انعدام أو تأجيل توفير الضمانة من قبل الغالبية العربية السورية إزاء الأقلية الكردية السورية. ولا يسع كرد سوريا البقاء صامتين إزاء ما جرى مؤخراً ويجري الآن في رأس العين، المدينة التي تعرضت إلى محنة مزدوجة وغير متوقعة؛ فعشرات الآلاف من سكانها تركوا منازلها خلال يومين إثنين فقط، ولم يستقبلهم “الأصدقاء الأتراك” كما استقبلو نازحين آخرين، ويخشى الكرد تعرضهم لحملة تهجير قسري عنيفة، ومما نقله شهود عيان من أهالي المنطقة مريب ومقلق، ومما يدعو للأسف ترافُقُ طرد عناصرِ النظام السوري من المدينة مع توترات كردية عربية لم يكن الكرد من تسبّب في إشعالها. ومردّ ذلك سوء التخطيط للهجوم الذي بدا أشبه بغزو منه بتحرير، فأهالي المدينة تفاجأوا بعيد منتصف الليل بكتائب الجيش الحر، أو تلك التي تختبئ خلف هذه التسمية الواسعة والفضفاضة، يدخلون المدينة. وشكّلَ رفضُ مسلّحين رفْعَ العلم الكردي صدمة للكرد السوريين الذين وقفوا منذ بداية الثورة رافعين علَمَي الثورة والكردي كعلامتين على إبراز البعد الوطني السوري مع التأكيد على الخصوصية الكردية، ويعلم المتابعون أن المظاهرات الكردية قد خرجت قبل خروج “أخواتها” في مدن كدير الزور والرقة والحسكة وسواها، معلنين تضامنهم الصريح مع أهالي درعا المنكوبة، ولا أحد يشك في إخلاص كرد سوريا لوحدة الشعب السوري. وحريّ بالأغلبية حماية الأقلية، لا العكس، وكانت المدن الكردية، أو ذات الغالبية الكردية، ملاذ أمانٍ لأكثر من نصف مليون نازح من جحيم ممارسات النظام، ولا يكاد أحد يجمع على أهمية رأس العين العسكرية من أجل التسريع بإسقاط نظام الحكم الوحشي، فقوة النظام الأساسية تتخذ من مركز محافظة الحسكة مقراً لها، وساهمت “الغزوة” في مضاعفة العبء الإنساني وإضافة مدينة منكوبة إلى مدن أخرى منكوبة. وتركيا التي سمحت، سرّاً، بالتخطيط لهذه العملية الفاشلة والخطرة، مسؤولة عما تجره آثارها من مخاطر على السلم الأهلي في عموم المناطق المحاذية لحدودها. وإلى الآن لم يعلن الجيش الحر موقفاً واضحاً، وما يجري على الأرض يدعو إلى الحذر وسرعة المعالجة، ولم يقف المجلس الوطني الكردي موقفاً سلبياً إزاء الحدث المفاجئ، وسعيُهُ إلى تهدئة الأجواء هناك مستمر وواجب، ولا يتم من ذلك دون إخلاء المدينة من المسلحين مع عدم اللجوء إلى استخدام السلاح مرة أخرى من قبل أي طرف، والسماح للأهالي بالعودة إلى ما تبقى من بيوتهم. تعد رأس العين نموذجاً مصغراً عن مكوّنات المجتمع السوري، ويعكس سلمُها الأهلي وانفتاح المكونات بعضها على بعض، قدرة المجتمع السوري على سرعة التعافي من أمراض “البعث”، أما فشل تجربة “تحريرها” فما هي سوى إنذار بخيبة عامة على الصعيد الوطني. وإذا كانت الأغلبية العربية الإسلامية الوطنية صاحبة مشروع حقيقي يهدف إلى بناء دولة مدنية حديثة وديموقراطية في سوريا الجديدة، وجب عليها طمأنة “الشعب الكردي” في سوريا وحماية حقوقه، ولا يشكّلُ رفضُ مسلحين، مجهولين- غرباء الشام وسواهم، رفْعَ العلم الكرديّ في المناطق الكردية، إضافة إلى تعرّض خشن ذي صبغة دينية مستهجنة لمسيحيي المنطقة، دلالة على التفاؤل بمستقبل يتعافى فيه “الثوار” من ماض بعثيّ مخيف، يصار إلى مزجه الآن بإسلاموية إقصائية، يخشى أن ينجب مستقبلاً يتبادل فيه أحفادُ الأمس المرضَ بمرضٍ والدّمَ بدَمٍ. ولقد أثبتت الوقائع أن دخول رأس العين كان خطأ كبيرا جداً، ولم يعمل سوى تقطيع المناطق الكردية عن بعضها،

ومحاولة إشعال فتنة عرقية بين العرب والكرد. وفي المحصلة، لم تكن هذه الخطوة لتخدم الثورة بل جاءت في مصلحة النظام، ولم يعرف إلى الآن من كان وراء التخطيط لها وبث بذور فتنة لا تخدم الثورة في شيء.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى