صفحات الثقافة

غوطة الشام.. أنزه جنان الأرض الأربع/ محمود الزيباوي

 

 

 

مع تواصل الحرب السورية التي لا تهدأ ولا تستكين، تحوّلت غوطة دمشق بمدنها وبلداتها إلى ساحة قتال مفتوحة وأرض خراب تفوح منها رائحة الموت، وهي في كتب التراث أرض “التين والزيتون”، و”أنزه بلاد الله”، وأنزه “جنان الأرض الأربع” وأجلّها.

وضع الشريف الإدريسي موسوعته الجغرافية “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” في منتصف القرن الثاني عشر، وقال في وصف دمشق: “مدينة من أجمل بلاد الشام وأحسنها مكاناً وأعدلها هواء وأطيبها ثرىً وأكثرها مياهاً وأغزرها فواكه وأعمها خصباً وأوفرها مالاً وأكثرها جنداً وأشمخها بناء،ً ولها جبال ومزارع تُعرف بالغوطة”. “والغوطة أيضاً هي أشجار وأنهار، ومياهها مخترقة تشق البساتين والديارات وبها من أنواع الفواكه ما لا يحيط به تحصيل ولا يأتي به تمثيل كثرةً وخصباً وطيباً، ودمشق أنزه بلاد الله”.

تتكرر هذه التعابير في وصف الغوطة، وتتحوّل معها هذه البقعة من بقاع الشام إلى جنة من جنات الله على الأرض. نقرأ في “معجم البلدان” الذي وضعه ياقوت الحموي في زمن نهاية الخلافة العباسية: “الغوطة من الغائط، وهو المطمئن من الأرض، وجمعه غيطان وأغواط، وقال ابن الأعرابي: الغوطة مجتمع النبات، وقال ابن شميل: الغوطة الوهدة في الأرض المطمئنة، والغوطة هي الكورة التي منها دمشق”، “بها جبال عالية من جميع جهاتها، ولا سيما من شماليها، فان جبالها عالية جدّا ومياهها خارجة من تلك الجبال، وتمدّ في عدة أنهر فتسقي بساتينها وزروعها”، “وهي بالإجماع أنزه بلاد الله وأحسنها منظرا، وهي إحدى جنان الأرض الأربع: وهي الصّغد والأبلّة وشعب بوّان والغوطة، وهي أجلّها”.

تغنّى أهل الأدب والشعر بجنان الأرض الأربع، وجعلوا منها أرضاً متخيلة تماثل جنّة السماء في الحسن. الجنّة الأولى، الضغد، وهي في سمرقند. والثانية، الأبلّة، وهي على شاطئ دجلة البصرة. والثالثة، شعب بوّان، وهي أرض بفارس بين أرجان والنوبندجان. والرابعة غوطة دمشق. في “آثار البلاد وأخبار العباد”، يستعيد القزويني وصف ياقوت الحموي، وينقل عن أبي بكر الخوارزمي: “جنان الدنيا أربع: غوطة دمشق، وصغد سمرقند، وشعب بوان، وجزيرة الأبلة، وقد رأيتها كلها، فأحسنها غوطة دمشق”. يستشهد الومخشري بهذا القول في “ربيع الأبرار”، مع اختلاف في التعبير، ونصّه هنا: “قد رأيتها كلّها، فكان فضل الغوطة على الثلاث كفضل الأربع على غيرهن، كأنها الجنة صُوّرت على وجه الأرض”.

تبدو الغوطة بمياهها وأشجارها وثمارها روضة متخيّلة تماثل بحسنها ألواح الفسيفساء التي تزيّن المسجد الأموي الكبير في دمشق. أنجزت هذه الزينة حوالى العام 715، وهي تتألّف بشكل اساسي من مناظر طبيعية تحضر فيها مجموعة من المنازل ترتفع وسط أصناف عديدة من الأشجار المورقة في فضاء ذهبي. أشهر هذه الألواح لوحة تزيّن الرواق الغربي تُعرف باسم “بردى”، وفيها نرى نهراً يمتد في الجانب السفل من التأليف، وكأنّه النهر الذي يجتاز دمشق. وقد احتار أهل الاختصاص في تحديد هوية هذه الصور، فقال البعض انها مستلهمة من طبيعة المدينة، وقال البعض الآخر انها تحاكي رمزيا ديار الجنّة، وجمع فريق ثالث بين القرائتين.

في منتصف القرن الخامس عشر، استعاد الحميري في “الروض المعطار في خبر الأقطار” الوصف التقليدي للغوطة، واستشهد بردّ النعمان بن جبلة التنوخى على معاوية في موقعة صفين: “سنقاتل عن تين الغوطة وزيتونها إذ حُرمنا ثمار الجنة وأنهارها”. وفي هذا القول إشارة إلى الآيات الأولى من سورة التين: “التين والزيتون. وطور سينين. وهذا البلد الأمين”. نقع في كتب المفسّرين على قولين في معنى الآية الأولى. فمنهم من قال “التين الذي يؤكل، والزيتون الذي يُعصر”. ومنهم من قال “التين مسجد دمشق، والزيتون بيت المقدس”، وقد جمع إمام المفسّرين الطبري بين التأويلين، “لأنّ دمشق بها منابت التين، وبيت المقدس بها منابت الزيتون”.

تغيّرت أوال الشام في القرون التالية، غير أن صورة الغوطة لم تتغيّر كما تشهد كتابات الرحالة الذي مروا بها ووصفوها في مدوّناتهم. في مطلع القرن الخامس عشر، زار برتراندو دو لابروكير دمشق، ووصفها في “رحلة إلى ما وراء البحار”، وقال: “مدينة كبيرة واسعة، وفيها حدائق جميلة جداً هي من أكبر ما رأيت، وفيها أفضل الفواكه ووفرة المياه، لأنه من النادر، كما يقال، أن تجد بيتا ليس فيه نبعة ماء”. وفي نهاية القرن السادس عشر، كتب الأب جان باليرن في مدوّنته “من الإسكندرية إلى اسطنبول”: “لا يمكن لمن يرى دمشق إلا وأن يعترف من تلقاء نفسه بأنها في الموقع الأجمل في العالم”، فهي “وسط سهل جميل مغروس بأشجار متنوعة دائمة الخضرة”، تحدها الجبال العالية من جهة، والصحراء من جهة أخرى، وفيها “كل أنواع الفواكه الموجودة في أوروبا”. وفي مطلع القرن الثامن عشر، تحدّث العالم  قسطنطين فرنسوا فولني متعجبا عن ثمار المدينة وقال: “في دمشق أثمار نواحينا جميعا، فتربتها تصلح لتفاح نورمانديا وخوخ لاتورين ودراق باريس، وفيها من المشمش عشرون نوعا، واللوزي منه يرغبه الناس في كل تركيا”. تعود هذه الصور في كتابات القرن التاسع عشر. في هذه الحقبة، سافر الطبيب البيطري لويس داموازو إلى الشرق، وفي طريقه إلى دمشق، وجد نفسه وسط “بستان واسع ريان”. وسلك الرحالة دو فوغ هذه الدرب، فعبر “منطقة كثيفة من الخضرة”، شاهد فيها “بساتين الحور والدلب والصفصاف والسرو والأشجار المثمرة”.

تلك هي الغوطة التي باتت في زمننا البائس مسرحاً للحرب والهلاك، وهي في ذاكرتنا أجلّ جنان الأرض وأكثرها حسناً. في الأمس القريب، قال الشاعر بدوي الجبل: “حبذا عهدنا على الغوطة الخضراء والحسن دائم التجديد”. وغنّت فيروز من شعر سعيد عقل في دمشق: “ويحه ذات تلاقينا على سندس الغوطة والدنيا غروب/ قال لي أشياء لا أعرفها كالعصافير تنائي وتؤوب”.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى