صفحات الرأيطيب تيزيني

غياب الفكر السياسي


د. طيب تيزيني

ليس خفياً أن منظومة الفكر السياسي تعيش حالة من الاضطراب بل الإقصاء الفاقع من المجتمعات العربية، وذلك على امتداد بضعة عقود. والحديث ها هنا يتعلق بتلك البلدان، التي كانت قد عاشت تجارب سياسية انتهت إلى الإخفاق لأسباب مختلفة، تلتقي في هيمنة نظم أمنية تسخّر في خدمة مصالح أسياد السلطة والمال، مع امتدادات ذات طابع أسري وطائفي وطبقي وإثني وغيره. وعلى خلاف ذلك، كان على السياسة والمجتمع السياسي المدني والحراك السياسي أن تُقصى من تلك النظم، وأن تُشكَّل بدائل مناسبة عنها، مثل المخدرات والرياضة العابثة، إضافة إلى أنماط من الفن الهابط. ولا ينبغي أن تُنسى الجهود التي تُبذل في سبيل إيجاد أُطر تنظيمية ملحقة بالسلطة تستوعب الأطفال واليافعين والشباب، مع الإيهام بوجود حالة زائفة من أحزاب وتنظيمات تنضوي تحت ما يسمى “جبهات وطنية تقدمية”، يُراد منها الإيحاء بوجود تعددية حزبية وسياسية. لكن في هذا كله، تظل هيمنة “الحزب القائد وقائد المسيرة” فوق الجميع، لا يجوز مسُها، بل يُعلن في الدستور المعني أن تيْنك المرجعيتين إنما هما -في الخط الأول- مرجعيتا المجتمع برمته.

وكي تبقى المرجعيتان المذكورتان في حِزر حريز، يجب أن تُقونن صيغة ما من نظام التوريث، بحيث يظل الحكم الفعلي في أيدي الفئة أو الأسرة الأولى، دون احتمال وجود اختراقات تقف في وجه ذلك النظام. ومن أجل مزيد من الاطمئنان على سلامة هذا الأخير. ينبغي أن يكون من ضمن الجبهة الوطنية التقدمية أحزاب ذات طابع تقدمي تاريخي، كي توهم المواطنين بأن الأمر يتصل بالتقدم والنهوض والإصلاح.

بهذه الطريقة، تتضح معنا خيوط الاستراتيجية، التي وضعتها النظم الأمنية العربية، ومن ضمنها السوري. فهي خيوط تحاصر كل ما يتصل بالسياسة واقعاً حياتياً وفكراً نظرياً وخطاباً سياسياً. إذ مع هيمنة ذلك عربياً، تكف الصراعات غير المثمرة تاريخياً (كالصراع الطائفي والآخر المسلح والثالث العرقي…إلخ)، عن أن تكون خيارات قابلة للتحقق. أما الإجابة عن السؤال الحاسم التالي: ما البديل عن تلك الصراعات غير المثمرة، فيتحدد بالممارسة السياسية المتعددة بالحقول المذكرة. وفي هذا السياق يبرز التساؤل عما إذا كانت هذه الممارسة أكثر عقلانية في معالجتها للمشكلات، كهذه التي تواجهها الأمة في سوريا واليمن وغيرهما!

إن إعادة السياسة إلى المجتمعات العربية قد تكون خطوة عملاقة على طريق تقدمها. وها هنا نتناول ما يحدث الآن في سوريا. فثمة محاولة لفرض حلّ أمني عسكري، قد يفضي إلى إحداث خراب هائل في البلد يدفع ثمنه السوريون الوطنيون. أما انتهاج الطريق فيتأسس على النظر إلى الأزمة السورية على أنها إنتاج الداخل السوري، بالدرجة الأولى. وثمة ملاحظة ذات أهمية منهجية تتمثل في أن هيمنة السياسة نظراً وفعلاً، لا يعني الاعتقاد ببدء نهاية تلك الأزمة. فالمجتمع السياسي لا يفتقد المشكلات والصعوبات والصراعات، بل إن هذه جميعها يمكن أن توجد فيه. ولكنه يحلها على أساس ألا تتحول إلى صراعات غير مثمرة تاريخياً، أي إلى ما يمكن حله سلمياً وعلى نحو يسهم في اكتشاف المخاطر عن طريق ما نعتبره صراعات سلمية. هذا ما تحتاجه سوريا وبلدان الوطن العربي، لتنتقل على أساسه إلى مرحلة جديد

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى