صفحات العالم

الثورة السورية… وسقوط الأقنعة!


د. عبدالله خليفة الشايجي

كتبنا مراراً وتكراراً على مدى الأشهر الماضية عن مرحلة اللاحسم والضبابية والتذبذب في منطقتنا… ولاشك أن الثورة السورية هي الحراك الثوري الأقرب لمفهوم وتعريف الثورة الذي شرحناه في سلسلة المقالات والتحليلات خلال الأشهر الماضية في تعليقنا على ما يجري في أرض العرب من المحيط إلى الخليج.

وفي الوقت الذي أبقت فيه تدافعات الربيع العربي بقايا وقادة وشخصيات من الأنظمة السابقة، وغيرت الوجوه والأسماء وأبقت على مؤسسات النظام في حالة تونس بعودة الباجي قايد السبسي، وفي الحالة المصرية راوح القرار الحاسم لجمهورية تُحكم اليوم برأسين بين الجنرال والرئيس الإسلامي. والقول الفصل أقرب لطنطاوي ومؤسسته العسكرية القوية وليس للرئيس المنتخب الذي فاز بعد تنافس شرس وبالكاد بنصف الأصوات ضد مرشح المؤسسة العسكرية الفريق أحمد شفيق آخر رؤساء وزراء مبارك. وحتى أن نائب مبارك عمر سليمان الذي توفي مؤخراً رشح لمنصب رئاسة مصر، ولكنه لم يحصل على الأصوات الكافية ليدخل سباق الرئاسة. وفي اليمن من يحكم اليوم بفعل المبادرة الخليجية التي أوجدت مخرجاً للرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، هو نائبه عبد ربه منصور هادي.

وتبقى الحالة السورية هي الحالة الوحيدة التي إذا سارت إلى نهاياتها المتوقعة من شأنها أن تغير النظام برمته، وتُحدث نقلة كاملة تسقطه من جذوره ولا تسمح لفلول النظام وبقاياه بلعب أي دور مستقبلي. هذا إذا لم يلقوا مصير القذافي في ليبيا، أو زين العابدين في تونس، أو مبارك في مصر.

وما يجري في سوريا مفصلي ومصيري. هي الثورة الأكثر دموية وطولاً ودرامية. ووسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من تويتر وفيسبوك ويوتيوب مع الفضائيات الإخبارية تنقل على مدار الساعة صوراً وتقارير ومقاطع فيديو للفظائع ومناظر الموت والأشلاء والمجازر والمقابر الجماعية في مشهد بشع وغير مقبول في عصرنا الحالي، فيما يبقى العالم متفرجاً وعاجزاً عن وقف حمامات الدم، وسط عجز النظامين العربي والدولي، وانقسام وشلل كلي في مجلس الأمن بسبب رهانات وحسابات الكبار، و”الفيتو” المزدوج لروسيا والصين وللمرة الثالثة منذ أكتوبر الماضي فيما يعيد أجواء الحرب الباردة!

في كل ثورة وحركة تغيير كبيرة هناك لحظات فارقة ومفصلية. رأينا ذلك في مصر وإجبار الرئيس المصري السابق على التنحي. ورأينا ذلك في ليبيا بسقوط باب العزيزية معقل القذافي ودخول طرابلس أجواء الانتفاضة والثورة. وتكرر ذلك أيضاً في اليمن برضوخ علي عبدالله صالح وقبوله مرغماً المبادرة الخليجية، والتوقيع عليها في الرياض.

الكثيرون توقعوا بعد تفجير مبنى الأمن القومي الغامض ومقتل العقول المدبرة والمخططة والمنفذة للخطة الأمنية والعمليات العسكرية لقمع الانتفاضة والثورة السورية أن لحظة الحسم قد أتت في سوريا، وخاصة بعد مقتل وزير الداخلية، ووزير الدفاع ونائبه ورئيس خلية الأزمة ومسؤول الاستخبارات والأمن القومي. وقد سقط أربعة من أعمدة النظام الأمني والعسكري بضربة نوعية واحدة في عملية تزامنت أيضاً مع انشقاقات نوعية في القطاعات العسكرية (مناف طلاس) وتسارع وتيرة وارتفاع رتب المنشقين من ألوية وعمداء وعقداء. وانشقاق دبلوماسيين (سفراء وقائمين بالأعمال في العراق والإمارات وروسيا البيضاء وقبرص). فهل هذه هي اللحظة الفارقة في الثورة السورية التي تشابه اللحظات الحاسمة التي مرت بها ثورات التغيير في مصر وتونس وليبيا واليمن؟ أم أن ذلك تفاؤل مبالغ فيه؟ أم هي بداية النهاية؟

الرئيس الأميركي والناطق باسمه ووزيرة الخارجية كلينتون مع المندوبة الأميركية الدائمة سوزان رايس يتوعدون ويحذرون ويكررون، أن أيام الأسد باتت معدودة، وأن عليه أن يرحل. والروس يتحدثون عن مخرج مشرف ويرفضون الاتهامات بانحيازهم للنظام السوري بل يقولون إن هدفهم منع الفوضى. والأتراك، ممثلون برئيس وزرائهم، يكررون: لن نبقى صامتين على ما يجري! وما برز خلال الأسبوعين الأخيرين ليس القلق على عدد القتلى السوريين الذين سقطوا خلال سبعة عشر شهراً من عمر الثورة الدامية، الذي زاد بشكل مرعب ويقترب من عشرين ألف قتيل. ولكن مكمن القلق يتركز حول ترسانة السلاح الكيماوي القاتل وغاز الأعصاب والخردل السام، وقد تعهد الأسد بعدم استخدامه.

والراهن أن العجز الدولي والعربي والغربي -وخاصة الأميركي- كان واضحاً في تعليق الناطقة باسم الخارجية الأميركية بعد تقارير عن حشد آلاف الجنود من الجيش السوري النظامي لمهاجمة وقصف حلب كبرى المدن السورية والعاصمة الاقتصادية والصناعية للبلاد! ولم تملك سوى القول بشكل واهن ومتخوف من ارتكاب النظام السوري لمجازر في حلب، بأن “قلوبنا مع السوريين في حلب!”.

وأنا أكتب هذا المقال صباح السبت بدأ الهجوم على حلب، التي يسكنها خمسة ملايين سوري. حلب المدينة التاريخية لسيف الدولة الحمداني، وقد بدأ دك المدينة وخاصة حي صلاح الدين! وبدأت معركة حلب بينما الجميع يتابع بعجز واستسلام.

لم يعد الصراع والمواجهات الدامية على مستقبل حلب أو دمشق، التي لا تزال الاشتباكات مستمرة في أكثر من حي من أحيائها. بل إن ما يجري في سوريا والكيفية التي ستنتهي بها الثورة السورية مما سيغير دينامكية وجيوبوليتيكية الشرق الأوسط برمته! ويسقط مشروع إيران في المنطقة، ويعيد التوازن للطرف العربي، ويقضي على ما يُسمى بمحور الممانعة والمقاومة الذي استخدم طويلًا لتقسيم المنطقة بين حلفاء إيران وخصومها ممن تتهمهم هي وحلفاؤها في سوريا و”حزب الله” في لبنان، بأنهم حلفاء الغرب وأميركا. ولا حاجة للتذكير بأن تلك التهمة لم تعد مقنعة ولا منطقية بعد الربيع العربي وسقوط حلفاء الغرب!

لقد أسقطت الثورة السورية وأحرجت أدعياء حقوق الإنسان ورفض الطغيان ومحاربة الطغاة والديكتاتورية في الغرب قبل الشرق. وسقطت أقنعة في الشرق من إيران إلى البحر المتوسط، من أدعياء دعم الثائرين والمقاومين والمستضعفين والانحياز للشعوب ضد الأنظمة التي تقمع وتقتل بشكل منهجي.

قضت الثورة السورية وأسقطت أقنعة عمن حتى قبل ستة أعوام كان العرب من المحيط إلى الخليج ينظرون إليهم كمقاومين و”أبطال” و”مجاهدين”! ولم يعد الغرب هو الوحيد الذي يكيل بمكيالين. ولا الوحيد الذي يتعامل مع قضايانا بازدواجية.. بل فضحت الثورة السورية هؤلاء الذين أشبعونا محاضرات وتعليقات بحق تقرير المصير ومحاربة الطغيان والقمع والاحتلال وحق الجهاد والتحرر! واكتشفنا أن ذلك كله كان شعارات جوفاء يلوح بها بشكل انتقائي!

نجاح الثورة السورية سيغير دينامكية وجيوبوليتيكية ووجه منطقة الشرق الأوسط بأسرها. ويعيد رسم خريطة توازن القوى والحسابات في المنطقة. وربما يدشن لمشروع عربي ويقضي على مشاريع القوى غير العربية في المنطقة. ولهذا مقال ووقفة قادمة إن شاء الله.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى