صبحي حديديصفحات مميزة

فرنسا والنظام السوري: ايهما الثعلب؟ ايهما الديك؟

 


صبحي حديدي

بعد أيام معدودات سوف تمرّ الذكرى الرابعة للزيارة الرسمية التي قام بها بشار الأسد إلى فرنسا، بدعوة من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، للمشاركة في قمّة الإتحاد المتوسطي؛ ومع هذه الذكرى سوف تمرّ أخرى، هي العاشرة على زيارة الأسد الرسمية الأولى إلى باريس، بدعوة من الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، صيف 2001. كذلك، ثالثاً، سوف تكون 12 سنة قد مرّت على زيارة الأسد غير الرسمية، بصفته الوحيدة المتوفرة آنذاك (نجل حافظ الأسد)، بدعوة خاصة من شيراك نفسه، تلبية لرغبة رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري (الذي كان، آنذاك، بين أخلص رجالات النظام السوري).

واليوم، تبدو حكاية الإستقالة الكاذبة لسفيرة النظام في باريس، لمياء شكور، وكأنها ترسم ـ في صيغة ملهاة بائسة، مبتذلة، فقيرة الخيال… ـ خاتمة سنوات العسل بين النظام السوري وقصر الإليزيه، خاصة بعد تصريحات وزير الخارجية الفرنسي ألان جوبيه، من أنّ ‘الموقف واضح تماماً. عملية الإصلاح ميتة في سورية، ونعتقد أن بشار فقد شرعيته لحكم البلاد’. ولعلّ هذه المواقف الفرنسية الأخيرة هي التي فتّقت قريحة ذلك ‘الثعلب’ الذي خطّط، من قلب أحد أجهزة النظام في دمشق، لنصب مصيدة لقناة ‘فرانس 24’، مستبشراً بأنّ الصيد لن يقتصر على مصداقية القناة وحدها، بل سيشمل ‘الديك’ الفرنسي الشهير، أي سمعة فرنسا بأسرها، في الحصيلة. وإذا كانت الأيام القادمة كفيلة بتبيان معدّلات الدهاء أو الحمق بين ‘الثعلب’ و’الديك’، ومَنْ أوقع بالآخر في حسابات الربح والخسارة، أو حتى مَنْ بينهما كان الثعلب ومَنْ كان الديك؛ فإنّ الجلي والأكيد، اليوم، هو أنّ سنوات العسل التي استغرقت 12 سنة بلغت خاتمة عجيبة، تبدو فيها الحصص متكافئة بين الملهاة والمأساة.

ذلك لأنّ ما جرى لا يطمس البتة، بل ينبغي أن يشدّد دائماً على، حقيقة أنّ قصر الإليزيه ـ سواء في عهد شيراك، أم في عهد ساركوزي ـ يتحمّل مسؤولية مباشرة، سياسية وأخلاقية، عن تلميع صورة هذا الطاغية، بشار الأسد، منذ الأطوار الأبكر في سيرورات تأهيله لوراثة النظام من أبيه، وحتى تظاهرات درعا التي أطلقت مسارات الإنتفاضة السورية.

وكان من الخطأ الفادح أن يلجأ أيّ مراقب حصيف إلى ترسيم العلاقات الفرنسية مع النظام السوري إتكاء على التوتّر الذي اكتنفها، من جانب شيراك شخصياً وعلى نحو ساهمت في صياغته اعتبارات ذاتية محضة، إثر اغتيال رفيق الحريري. المؤشرات الأخرى لم تكن أقلّ قيمة، ولعلّها عكست مزاج شيراك الفعلي تجاه نظام الأسد، الأب قبل الابن، إذْ كان الرئيس الغربي الوحيد الذي شارك في جنازة الأسد، كما تولّى قبلئذ كسر عزلة الأخير الدولية حين دعاه إلى زيارة باريس رسمياً في صيف 1998، وكان أوّل من أسبغ شرعية سياسية وأمنية على وجود القوّات السورية في لبنان خلال خطبة افتتاح القمّة الفرنكفونية في بيروت، سنة 2002.

وهكذا فإنّ ساركوزي لم يكن أوّل مَنْ راقص طغاة الشرق الأوسط، سواء في العقود الأخيرة من عمر الجمهورية الخامسة في فرنسا، أم في عقودها الوسطى (أوّل زيارة للأسد الأب تمّت في عهد فاليري جيسكار ـ ديستان، 1976، بعد أشهر قليلة على دخول القوّات السورية إلى لبنان)؛ هذا إذا اعتبر المرء الأنشطة الدبلوماسية في العقود الأولى بمثابة تمرينات مبكّرة واستطلاعية على ما ستطلق عليه التنظيرات الديغولية صفة ‘السياسة العربية لفرنسا’. بل، في وجهة أخرى لنقاش الأمر، لعلّ المرء لا يبالغ إذا اعتبر أنّ خيار ساركوزي في الإنفتاح على النظام السوري كان أقرب إلى السلوك الطبيعي، المنتظَر، غير المستغرب البتة، من هذا الرجل بالذات.

فمن جانب أوّل، كلّ ما يعرفه ساركوزي (كما صرّح، بنبرة سخرية غثة) أنّ سورية بلد متوسطي، وليس ثمة سبب واحد يبرّر عدم دعوتها إلى القمة المتوسطية، غير المكرّسة لمناقشة احترام أو انتهاك حقوق الإنسان على ضفاف المتوسط.

وهذا كان منطقاً صورياً سليماً تماماً، وكان استبعاد سورية من هذه القمة هو الذي سيبدو بمثابة قرار شاذّ غير طبيعي. ومن جانب ثانٍ، كيف يعيب المرء على ساركوزي أنه دعا الأسد إلى منصّة الإحتفال بالثورة الفرنسية، يوم العيد الوطني لفرنسا، إذا كان الحابل اختلط بالنابل على تلك المنصة: ديمقراطيات غربية، ودكتاتوريات شرقية أو أفريقية، جنباً إلى جنب مع إسرائيل… ‘واحة الديمقراطية’ في الشرق الأوسط؟ وضمن المنطق الصوري إياه، كيف يستقيم أن يُدعى زعيم من هؤلاء، ويُستثنى آخر؟

ولهذا، وبصرف النظر عن قيمته الأخلاقية العالية، فإنّ النداء الذي وجهته إلى ساركوزي ثماني منظمات حقوق إنسان دولية (بينها ‘العفو الدولية’، و’ميدل إيست واتش’، و’الإتحاد الدولي لروابط حقوق الإنسان’، و’الشبكة الأورو ـ متوسطية’، و’المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب’…)، ظلّت حبراً على ورق في ما يخصّ مطلب الفقرة الأولى: ‘تناشدكم منظمات حقوق الإنسان الموقعة على هذه الرسالة إيلاء اهتمام لوضع حقوق الإنسان في ذلك البلد في إطار محادثاتكم مع الرئيس الأسد’. والحال أنّ وزير الخارجية الفرنسي (برنار كوشنر آنذاك، صاحب نظرية التدخّل الإنساني في الشؤون السيادية للدول، و’غير المبتهج شخصياً’ بزيارة الأسد إلى باريس) تكفّل بهذا الأمر: تردّد أنه دسّ في جيب وزير خارجية النظام، وليد المعلّم، لائحة بأسماء حفنة من المعتقلين السياسيين السوريين، الذين ستبتهج فرنسا بإطلاق سراحهم!

وبالطبع، كان من المحال اجتراح معجزة تقنع ساركوزي بأنّ السيدة فداء الحوراني، رئيس المجلس الوطني لـ ‘إعلان دمشق’، تمتلك أياً من سجايا ‘القدّيسة إنغريد بيتانكور’، الرهينة الكولومبية ـ الفرنسية آنذاك، بحيث يتذكّر ساركوزي أنه يصافح سجّان الحوراني على ملأ من الإنسانية، إنْ نفعت الذكرى! ولم يكن بالأمر الأسهل إقناع صحيفة فرنسية عريقة مثل الـ’فيغارو’ بأنّ أيّ حجم للنفاق السياسي لا يمكن أن يغطّي شائنة إجراء حوار مفصّل مع الأسد، على الصفحة الأولى، دون التجاسر على طرح سؤال واحد يخصّ مجزرة سجن صيدنايا، آخر فظائع النظام؟ ولكي لا يقتصر الأمر على صفّ اليمين الساركوزي وحده، ماذا فعل برتران دولانوي (عمدة العاصمة الفرنسية، الإشتراكي، المولود في تونس) لكي يعطي باريس ـ مقام الثورة، وموئل حقوق الإنسان، وملاذ أحرار العالم غرباً وشرقاً… ـ فرصة واحدة للتضامن مع الشعب السوري؟

المرء عدوّ ما يجهل، قال دولانوي، مقتبساً الإمام عليّ بن أبي طالب، في مخاطبة ضيفه الأسد أثناء المأدبة الرسمية التي أقامها على شرفه في زيارة 2001، بهدف حثّه على ‘الإحترام المطلق للكرامة الإنسانية’ وشجب ‘العنصرية، والعداء للسامية، والإقصاء، ونقض التاريخ’. لكنّ منطوق العبارة، وبصرف النظر عن مقدار ‘الخبث’ في اقتباس الإمام علي تحديداً، كان ينطبق على دولانوي نفسه أكثر من الأسد. فالجاهل، في أخفّ النعوت، هو ذاك الذي يطنب في الإشفاق على شعب إسرائيل وما يتعرّض له من ‘جرائم ضدّ الحياة والسلام والأمل’؛ ثمّ يتجاهل تماماً، لأنه لم يكن يجهل في الواقع، جرائم المؤسسة الصهيونية في مختلف أطوارها، منذ اغتصاب فلسطين، وأيّاً كان الساسة الحاكمون أو الأحزاب الحاكمة.

ونتذكّر أنّ الأسد عاد من منصة الإحتفال بعيد الثورة الفرنسية، صيف 2008، وكأنه عاد لتوّه من منصة اختتام دورة تأهيل لضبّاط مخابرات النظام، وإلا كيف يفسّر المرء أنّ آخر تقنيات الإستبداد السوري (إرغام الناشط الحقوقي الشاب حسن يونس قاسم على توقيع بيان انسحاب من ‘إعلان دمشق’، تحت العدسات، ثمّ نشر الصور في مواقع إلكترونية تابعة لأجهزة السلطة ومافيات النهب والفساد)، جرى اعتمادها بعد عودة الأسد من باريس؟ ثمّ إذا كان مضيفه ساركوزي، وقبله مضيفه الأوّل شيراك، فضلاً عن غالبية محاوريه الآخرين من القادة الأوروبيين، ليسوا كبار الأساتذة في إقناع أنظمة الإستبداد بالإنتساب إلى مدارس تعليم حقوق الإنسان، فلماذا توجّب على الأسد أن يعود من باريس في إهاب غير ذاك الذي اتصف به عندما وصلها؟

وليس للمرء أن يتناسى الوقائع الدراماتيكية التي أعقبت تلك الزيارة، مثل سقوط نظام زين العابدين بن علي في تونس، وتفكيك قسط كبير من نظام حسني مبارك في مصر، من جهة؛ ولعبة الكراسي الموسيقية التي شملت مهندسي التقارب بين ساركوزي والأسد (انتقال كلود غيان من الأمانة العامة لقصر الإليزيه إلى وزارة الداخلية، وانتقال آصف شوكت إلى طور الإعتكاف بعد رئاسة المخابرات العسكرية)، من جهة ثانية. لكنّ العامل الأشدّ تأثيراً في مسارات هذه العلاقة كان وقع أعمال الإنتفاضة السورية على الرأي العام الفرنسي، وحجم الضغوطات التي مارستها لإيقاظ الضمير الشعبي العريض، واتبداء العدّ العكسي لحملة الإنتخابات الرئاسية القادمة، وما تفرضه على ساركوزي من ضرورات تبييض الصفحة وتنقية الصورة.

وكما أنّ بنية النظام السوري عصيّة على الإصلاح، فإنّ النظام أثبت ويثبت أنه عصيّ على، أو عاجز موضوعياً عن، ذلك الطراز من العلاقات الدولية التي تستوجب تقويض بعض ركائز البنية في ميادين تهمّ الرأي العام الدولي، مثل حقوق الإنسان وأنساق قمع الحرّيات العامة. استطراداً، الأسد الابن لم يكن وريث أجهزة الإستبداد والقمع والفساد والنهب المنظّم، فحسب؛ بل كان أيضاً وريث سلسلة من السياسات الخارجية التي ليس في مقدوره تعديلها دون إدخال تعديلات مماثلة، أو نظيرة، في السياسات الداخلية. وهذه لن تمرّ بسلاسة في جسم النظام الأمني ـ العسكري، لأنّ أيّ تعديل ذي معنى سوف يخلّ بالبنية، المتصلّبة المتحجّرة، وسيخلق المزيد من عقابيل وضع عالق أصلاً.

وفي واقع الحال، لم تكن إشكالية السياسية الخارجية في هذا الوضع العالق ناجمة عن حقيقة أنّ الغرب راغب في الإنفتاح على النظام تماماً كرغبة النظام في الإنفتاح على الغرب، بل عن إمكانية أن يُترجَم أيّ مقدار من الإنفتاح إلى مقدار مماثل من قدرة النظام على التبدّل. وتستوي في هذا مقادير التبدّل على صعيد الداخل السوري، سياسياً وأمنياً واقتصادياً، ومقاديره في السياسات الخارجية التي كانت، وتظلّ، تصنع وضعاً للنظام معلّقاً عند حلقة مفرغة من ‘الممانَعة’ في قلب ‘المسالَمة’. هنا، ضمن هذه المعادلة، لا يتورّع النظام عن استئناف جسر الشغور 1982 في جسر الشغور 2011، دون اكتراث بأيّ تحسينات في وظائف النظام على صعيد العلاقات العامة الدولية، في الإرسال كما الإستقبال.

إلا، بالطبع، حين يرسل على طريقة تنظيم هجوم معاكس ضدّ الموقف الفرنسي في مجلس الأمن الدولي، بوسيلة نصب فخّ لاصطياد الديك الفرنسي عبر موجات أثير ‘فرنسا 24’؛ أو حين يستقبل الموقفين الروسي والصيني بصفة حرب بالإنابة، يخوضها المجتمع الدولي في سبيل نصرة النظام السوري، ‘الممانِع’ و’المقاوِم’ و’المستهدَف’… وما رثاثة الإرسال وغوغائية الإستقبال إلا العبرة الأولى في حيرة المرء إزاء أي تمييز منطقي بين الديك والثعلب، وأيهما أوقع بالآخر، ولماذا… في الأساس!

 

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى