صفحات الثقافة

فعل الرائحة


عصام حسن

أقطف بضع وريقات من نبتة الحبق المتألقة باخضرارها على شرفة بيتنا.أداعبها بلطف بين راحتي،ثم أضعهما أمام أنفي واستنشق بعمق،ثم استنشق،واستنشق،وأخزن الفائض من الرائحة في رئتيّ.ولولا خوفي من المبالغة لقلت في قلبي،هاأنذا قد فعلت! أقطف بضع وريقات أخرى،أمررها فوق ياقة قميصي،وصدري حتى تتغلغل رائحتها في ثنايا ثيابي،كأنها العطر.أتوجه إلى الباب الخارجي.أفتحه،أخرج،يغمرني الضوء،أغلقه وأسير.بهذه البساطة أبدأ يومي.

مع أول ليرة  أدفعها زيادة عن عداد”التاكسي”،أوعن تعرفة “السرفيس”،يتبخر شيء من رائحة الحبق.وأفقد بعضاً منه بالتدريج  عند مشاهدتي كل ازدحام،وكل تجاوزٍ لإشارة ضوئية حمراء،وعند كل رشوة لشرطي مرور.وما تبقى يطير إذا صادفتُ موكباً لمسؤول.أصلُ إلى موعدي الغرامي،تستقبلني حبيبتي بابتسامة ساحرة.أقبلها،تشمّني،وبوجهها تشيح.أسألها ما بك؟تقول رائحتك مالٌ،ومخالفاتٌ،ورشواتٌ،وبقايا مسؤول.فأتساءل،أين اختفت رائحة الحبق؟ وما كنتُ إلا شاهداً ! فأيّ رائحةٍ كانت ستزكم أنف حبيبتي لو كنتُ متورطاً في شيءٍ من هذا.أو،لا سمح الله،لو كنتُ المسؤول؟!

هناك الكثير من الروائح غير المستحبة تداهمنا كل يوم.دخان السيارات،دخان السجائر،التعرق،رائحة القمامة المعتقة في الحاويات المنتشرة على جنبات الطريق…. الخ.هل ستستغربون لو أضفت رائحة الكذب،والرياء،والتزلف،والانتهازية.ورائحة النشرات الإخبارية،والإذاعية.هنا قد يتبادر للذهن سؤال.وما رائحة الانتهازية مثلاً.يا سادة،رائحة مثل هذا،الأفعال.لا فرق بين دخان أسود يخرج من مدخنة باص،ورأيٌ مُنمّق يُراد به مصلحة،وانتفاع.وعلى هذا يمكنكم القياس.

كذلك للأفعال الجميلة روائح.وبمثل هذا  تصدح الفنانة جاهدة وهبة في إحدى أغنياتها وتقول أبطال من يعبقون برائحة الأبطال وهو نص مترجم للشاعر الألماني غونتر غراس فيه ما فيه من البساطة في الصياغة،والعمق في المعنى،والكثيرمن الجمال،ولمن لم يسمع الأغنية بعد،ويريد الاستماع إليها أضيف له هذه المعلومة.أن اللحن الجميل هو أيضاً لجاهدة،وعنوان الأغنية لا تلتفت إلى الوراء،و عنوان الألبوم كتبتني الذي وجدت فيه قليلاً من رائحة حبقي.

عمتي نجيبة كانت تقول عن زهر الأكي دنيا رائحته تشق القلب.وكلما رأيت زهرة من هذا النوع كنت أشمها وأذكر عمتي وأقول في سري ضاحكاً يا عمتي الحبيبة عن أي رائحة تتكلمين؟ وأحياناً هناك روائح تكون مفضلة عندك.ولسبب ما يتغير شعورك تجاهها.أذكر أن زوجتي أهدتني مرةً زجاجةَ عطر غالية الثمن،من النوع الذي أحب.فاعترضتُ على شرائها بسبب ارتفاع ثمنها.لكنها أصرت وقالت أحب هذه الرائحة عليك.بعد فترة  قصيرة صارتْ كلّما شمّت رائحة عطري قلبت نفسها،وتقيأت. إلى أن تبين أنها حامل – لا أعلم إن كان للعطر دور في ذلك –  وأن هذا من أعراض”الوحام”.فخسرنا العطر وثمنه الباهظ.لكنا ربحنا بعد تسعة أشهر ابننا( ورد)الذي عطّرَ حياتنا أكثر من أي عطر.

كذلك بعض الناس تعجبهم روائح لا تروق لغيرهم،ولا يستسيغونها بأي حال.رائحة الشنكليش مثلاً،الأكلة المعروفة للجميع تجعل البعض يتقيئون.ولو ذاقوا طعمه.لا أعلم ماذا سيكون؟

روى لي أحدهم – وهو من كارهي الشنكليش – أنه بينما كانوا يتناولون طعام العشاء جلوساً على الأرض كما العادة قديماً في الأرياف،وبعض المدن.تأففتْ،واشتكت أخته من رائحة جوربيه،وطالبته بخلعهما قبل جلوسه لتناول الطعام.بل أضافت،أن عليه أن يغسل رجليه،من شدة قهره،وعصبيته قال لها وما الفرق بينهما وما تأكلين.وكان أمامها صحن شنكليش عرمرمي.فقالت له ببلادة وتحدٍ هذا يؤكل أما هذا فلا- وأشارت إلى جوربيه – فما كان منه إلا أن خلع فردة منهما،وأخذ يلوكها وسط دهشة الجميع.

في دمشق،إذا تجاهلتَ رائحةَ المازوت المنبعثة من عوادم السيارات نهاراً.وتمشيت في شوارعها مساءً،لاستنشقت عند كل زاوية من شوارعها رائحة الياسمين،أو عطر الليل،أو رائحة عطر لصبية  شامية تتهادى أمامك تختلط بنسيمات ليلها اللطيف.

في دمشق اليوم حوار.وهذا شيء جديد.فأي رائحة لدمشق سيزيد؟

عصام حسن – رسام كاريكاتير سوري – 2011.7.10

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى