صفحات الرأي

فـرانـز فـانـون.. الـعـائـد إلـينـا بعـد خمسـين عـامـاً


الاستبداد نموذج غربي والحرية تخشاها أوروبا

نصري الصايغ

علينا أن نقترف خطأ فاضلا: أن لا ننسى، أي، نستعير من الزمن الإنساني ما يلزمنا لهذا الوقت، أو لهذا الزمن العربي، وقد بدأ بعد ثورة تونس، يشعرنا أنه مؤهل لحمل الشرط الإنساني التاريخي، ولا يتحصل لنا زمن إنساني محدث، إلا بالتقاء زمن إنساني أصيل، سطع في لحظة القبض على التاريخ، عندما اندلعت ثورة الإنسان الجزائري، في مواجهة البربرية الاستعمارية الفرنسية.

بعد خمسين عاماً على فقدانه، وبعد عقود على نسيانه، جاءت لحظة استعادة الثائر والمفكر والملتزم، فرانز فانون… إن زمن الثورة العربية الديموقراطية الراهن، المثقل بالوعود، والمثخن بالجراح، بحاجة إلى ان يسمع صوت مناضل، صفته الأولى إنسانيته، ميزته الراسخة التزامه، فضيلته العميقة علميته وعقلانيته، أما ثوريته فمتأتية من موقعه في قلب الثورة وفي وعيه الصميمي لبنية الاستعمار واستبداده العنفي، برموزه كافة.

لم يكن جزائري المولد، لم يكن عربي الهوية، لم يكن غربي التوجه، لم يكن مؤمناً بدين أو إله، وله لون بشرة تدل على أن أصله مارتينيكي، التزامه بالثورة الجزائرية، في موقع قيادي بارز، جعل منه مناضلاً أممياً بنكهة عالمثالثية، تهدف إلى تحرير المستعمَر من سيده والمستعمِر من عنفه.

الاتصال بفانون، في لحظة المواجهة التي تخوضها الثورات العربية، بعد كسر حاجز الخوف، وتحطيم جدار المستحيل، وخرق الاستبداد العربي الرهيب والمزمن والمجرم، تبدو ضرورية وملحة، فكتابه، «معذبو الأرض»، انجيل الانقياء الواقعيين، للثوار الجديرين بالانتصار، وتخطي العجزين: عجز تدمير بنية الاستبداد، وعجز بناء نظام الحرية. يحمل في فصوله كافة، رسائل جديرة بالتأمل والنقاش و… الاعتبار.

علينا ان نقترف خطأ مفيداً: أن نسمع أصواتنا المختلفة، لا بل المتناقضة، وأن نسمع بإصغاء نقدي، ما كتبه الثوار الملتزمون، الذين حملوا عبء المساهمة في القتال، وأعباء الكتابة لرسم معالم ثورات بقيم إنسانية يبتدعها الإنسان الثائر، من شخصيته ومن مبادئ رسالته.

فالثورة عند فرانز فانون، ليست في نهاية المطاف غير فعل إنساني راق، لخلق إنسان جديد، بقيم يستولدها من حاجته إلى التعبير عن جوهره، ومصالحه العليا، وانتمائه المشرف إلى بشرية، لا تشبه أوروبا، ولا تقلّد أميركا، ولا تقعد عند رد الفعل على الاستبداد الداخلي.

الثورة العربية الديموقراطية، بعدما خطت خطواتها الأولى الحاسمة، في تونس ومصر وليبيا، وأزالت استبداداً مزمناً، مريضاً، مشوّهاً، قاتلاً، تاجراً، فاجراً، وبعد استمرارها في دفع ثمن الحرية من دمائها في اليمن والبحرين وسوريا، وبعد بشارة قادمة تنبئ بإمكانية انتقالها إلى قلاع الاستبداد الملكي والأميري والسلطاني والجمهوري، الباقية في منأى مؤقت عن رياح التغيير… هذه الثورة العربية تعيش مخاض الخيارات الصعبة، لمرحلة استكمال إزالة أنظمة الاستبداد، واستكمال نظام ما بعد الاستبداد.

أمام الثورات العربية في تونس ومصر أسئلة بالغة التعقيد: أي نظام نريد ولأي إنسان؟ هل هو نظام يقيد الإنسان بماضيه، ولقد كان ماضياً قهرياً، أكان دينياً، أم عربياً، أم إسلامياً، أم أعجمياً؟

أي نظام نريد ولأي إنسان؟ هل هو نظام يقلد أنظمة الغرب الأوروبية، التي رفعت من شأن إنسانها على حساب الإنسان في المستعمرات القديمة، فاستعبدته واستنزفته وقتلته وشوّهته وأذلّته وأنزلته في مرتبة وسطى، بين البهيمية والبشرية. وكان الحفاظ على جزء من بشريته لكونه إنساناً قادراً على العمل غير المأجور، وبالسخرة، خدمة لإقطاع مركزي أوروبي، أو لتكديس أرباح شركات وصناعات عبر جعل «العبيد العرب» كلاب حراسة لأسواقه وسلعه؟

أي نظام نريد ولأي إنسان؟ هو نظام حرية بالطبع، إنما بحدود إطلاق ما تمنحه الحرية من فرص، للسيادة الفعلية، على الأرض وما فوقها وما فيها، ومن تحرير للإرادة الإنسانية، ومن تحرير الإنسان والمجتمع من قيم قديمة عفنة وحقيرة، ومن قيم استهلاكية، هي بنت السوق، صاحب عبقرية الإبادة للإنتاج والأرض والبيئة والإنسان.

أي نظام وأي علاقة له بشعبه؟ إن تبنّي الغرب الكذوب والمنافق للثورات العربية الديموقراطية، يلزم أن يخيف الثوار العرب في العمق. هذا الغرب، الأوروبي والأميركي، اغتال حقوق الإنسان خارج بلاده، قتل الحرية خارج حدوده، أيد الاستبداد واصطنع الانقلابات العسكرية في أي بلد اختاره ليكون موطنا لنفوذه. هذا الغرب الجهنمي الذي ارتكب مجازر التقسيم ودفع إلى الحروب الأهلية وغزا العالم الآخر (عالمنا) بالسلاح والسلع والثقافة والاعلام، وعرّض شعوبا للنهب، نهب ما في أرضهم ونهب ما تنتجه سواعدهم وعقولهم، ليس نموذجاً حاسماً للاحتذاء، بل هو رجس سياسي واجب تجنبه والحذر منه، ما يعني الحرص على الذات خوفاً منه.

إنه غرب يقترب كل يوم من إلغاء الحرية والديموقراطية عنده في بلاده. غرب السوق، أو غرب الأسواق الاستبدادية، لم يعد يطيق حتى صناديق الاقتراع في بلاده، لم يعد يرغب في سماع صوت شعبه عبر الاستفتاءات… غرب، يقوده «متوحشو المال» المتمركزون في المصارف، أكانت خاصة أم مركزية. منعوا باباندريو في اليونان من العودة إلى الشعب. يريدونه منفذا لمجزرة اجتماعية. يريدونه ان يوقع على اتفاقات مبرمة، من صناديق النهب الدولي. دفعوه إلى الاستقالة، وعينوا حاكما عرفيا ماليا، كان موظفا ماليا مرموقاً، في مصرف غولدمان ساكس، (ولقبه «حكومة ساكس»). كما كان رئيسا للمصرف المركزي الأوروبي ونائب رئيس المصرف الدولي الذي ساعد اليونان على الزعبرة بديونه التي أوقعته في العجز… دكتاتورية السوق هذه، أبعدت رئيس حكومة ايطاليا، المنتخب، واستعاضت عنه بموظف متدرب في حلبات المتوحشين ماليا. فماريو مونتي، رئيس الحكومة الايطالية الجديدة، كان ايضا مستشاراً أساسيا في مصرف غولدمان ساكس، المسبب الأول للانهيارات المالية في عالم المال وحلبات البورصة.

أوروبا هذه استبدلت الديموقراطية الخاصة بها، والتي أسستها نضالات اجتماعية، دخلت في زمن الاستبداد الكلي للسوق، ولم تعد تطيق سماع صوت إنساني من شرائح واسعة من شعوبها. هذه الشعوب التي يئست من أحزاب يمينية فاجرة، وأحزاب يسارية تبارزها في تبنيها أنظمة القصاص الجماعي لفقراء بلدانها، نزلت إلى الشارع، مقلدة الانسان العربي الذي انفجر ضد مستبديه وطغاته ولا يزال.

هل جائز ربط الثورة العربية، بأنظمة الاستبداد الغربية، في أوروبا وأميركا، أم انه من الواجب إقامة الرابطة النضالية مع شعوب أوروبا، التي تظلمها حكومات الأسهم والتحويلات المالية، والتي تضمها حركات البورصة، التي ان شاءت، جوّعت بشراً، وهي تفعل ذلك الآن، وان ثارت، تركت مرضى العالم الثالث بلا دواء ولا كساء ولا ماء.

لدى فرانز فانون رسالة يوجهها للثوار. كتبها منذ نصف قرن وأكثر، وتبدو لدى قراءتها، كأنه كتبها غدا، أو غداة اندلاع الثورة العربية الديموقراطية المجيدة والمظفرة.

جدير أن نقيم العروة الوثقى بين ثورة اليوم، وثوار الأزمنة كلها، ثوار رأوا ان وظيفة الثورة الكبرى، بعد إزالة الاستبداديْن، الداخلي المحلي، والخارجي الأجنبي، هو المساهمة في خلق إنسان جديد، ومجتمع جديد، وعالم جديد.

العالم العربي القديم، لا فائدة منه سياسياً. فيه عظيم الفائدة كتراث ومعارف وتجارب وإنجازات وثقافات. وهذه لا تنسخ ولا تقلد، بل يستفاد منها، لبناء إنسان جديد. العالم الاوروبي، القديم والحديث، لا فائدة منه. إنه عالم الحروب والكوارث، وعالم الانحياز الى مصالح القلة المتجبرة والمتخمة، كما هو منحاز للظلم التاريخي الذي أوقعه بفلسطين، التي حرمها من حق الوجود، ولو كان وجوداً رمزياً في بعض المحافل الدولية الثانوية.

أخشى على الثورة، إذا اضطرتها ظروف القمع الدموي، إلى طلب الدعم من الغرب. ولقد حصل ذلك في ليبيا، والعواقب وخيمة. وقد يحصل غداً في سوريا، أيضا بسبب القمع، والعواقب كارثية.

يقال إن أهل الثورة أدرى بشعابها وبحاجاتها الملحة، خاصة وهي تتعرض للذبح. وليس لنا سوى ان نقول: مخاض الثورة لا يلغي أبداً آفاق ما بعد إنجاز الثورة. الدم الذي تسفكه، ثمناً للحرية والديموقراطية والكرامة ورغيف الخبز، يجب أن ينزّه من أن توظفه قوى الغرب البربرية، في حروبها الدائمة، لنصرة الجشع والاستملاك الرأسمالي.

أفق الثورة لصيق بمخاضها المؤلم، بل ان الأفق، هو إحدى شرعيات الثورة، لأنه بوابة انتصارها ورحم ولادة إنسانها… ألا يجب كشح الغرب عن هذا الأفق؟

علينا ألا نقترف خطيئة الاطمئنان إلى ابتسامات الغرب للثورات العربية.. ان الليوث الكاسرة لا تبتسم أبداً.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى