صفحات سورية

فلم سوري أسمه “شيء من الخوف”

 


محمد غازي الاخرس

شر البلية ما يضحك وأغرب القصص هي تلك القادمة من سوريا الأسد، الشبيهة بعراق صدام. ولديّ هذه المرة ما ينتمي لما يمكن تسميته “تصنيع الخوف”، ذلك الذي رأيناه وخبرناه في العراق لدرجة أنه لا يزال يهيمن على أرواحنا. في أحدى الحكايات السورية التي نقلها لي أحد أقربائي القادمين من دمشق يستخدم الأطفال دون العاشرة للتجسس على أهليهم فبعد شيوع خبر يفيد أن كل من يشاهد قنوات “الجزيرة” و” العربية” و”الحرة” و”صفا” يعتقل فورا وجدت السلطات الأمنية حلا عبقريا ؛ يؤتى برجال أمن بهيئة باحثين اجتماعيين إلى المدارس ثم يبدأ هؤلاء الرجال في استنطاق الطفل عن مشاكل عائلته، يسأل ـ أبوك شو بيحضر من القنوات يا حبيبي؟ فيجيب ـ بيحضر “الجزيرة” و”العربية” و”صفا”. في اليوم التالي يخطر الأب المسكين للحضور إلى المدرسة لأن ابنه يعاني من مشاكل نفسية، ثم ما أن يحضر حتى يؤخذ إلى درب الصد ما رد، أقصد لأحد المكاتب الأمنية، تلك القلاع الشبيهة بـ”الشعبة الخامسة” التي كنا في بغداد نعبر جسر الأئمة ونخشى مجرد الالتفات لرؤية مدخلها.

المهم أن الجماعة في سوريا ربما يعيدون الأسطورة ذاتها، أسطورة الخوف الجماعي الذي يتلصص فيها الجميع على الجميع ولا يستثنى من ذلك حتى الأطفال.

أتذكر في الثمانينيات نكتة شاعت في العراق؛ ذات يوم هرع أحدهم لإلقاء التحية على صدام حسين، وكان معه ابنه الصغير، ثم ما أن نظر الطفل الى “الريّس” حتى قال لأبيه ـ بابا بابا هذا هو الرجال اللي يوميه يطلع بالتفلزيون وتبصق عليه! وهنا رفع الرجل ابنه على كتفيه وصاح ـ منو ضايع له هذا الولد.. منو ضايع له هذا الولد..!!

كانت تلك النكتة تنفيسا بليغا عن خوف يضرب المجتمع كله. كان الناس لا يتوقفون عن توصية أبنائهم بعدم البوح بأي شيء يتعلق بمشاعرهم تجاه السلطة. كانوا يقولون لهم ـ إذا سألك المعلم عن صدام قل أنا أحبه لأنه ” بابا صدام “، وقل أن أبويّ يحبانه ويعلقان صورته في البيت. وكان الأطفال مضطرين للكذب استجابة لوصايا ماما وبابا المقدسة.

كان ثمة يقين شبه كامل قد شاع حتى تفوق على كل يقينياتنا وهو أن السلطة تعرف كل شيء وهي مثل الله لا تخفى عليها خافية، لا بل أنني أتذكر جيدا تلك الخرافة التي راجت في العراق آنذاك وهي أن السلطة كانت تستخدم الهواتف الأرضية في التنصت على العوائل حتى دون أن تستعمل. يكفي ان يكون في بيتك سلك يتصل بالبدالة لتكون مراقبا ليل نهار.

لا تنسوا شائعات استخدام سواق التكسي ووضع اللواقط في السيارات وفي الدوائر الحكومية والمدارس والمتنزهات وكل ما يخطر في البال. كنا مراقبين حد اللعنة، وكانت السلطة تعمل جاهدة لإشاعة هذه الحقيقة بغية ايصال الجميع للحظة مفصلية حين نفقد ثقتنا بأنفسنا وبأهلينا وجيراننا ونتعامل مع الجميع بوصفهم مخبرين سريين. هذا ما آمن به العقل الجماعي آنذاك كما يؤمن به العقل السوري هذه الأيام.

أجل، فقريبي القادم من سوريا حدثني عن خوف عارم يجتاح البلد من طرق المراقبة التي لا تخطر في الذهن مثلما حدثني عن قصص اضطهاد من نوع عرفناه في العراق ونبدو اليوم خبراء في تخيله، ومن ذلك ـ مثلا ـ منع الأطباء من اجراء العمليات للمصابين في التظاهرات، وزرق بعضهم أبر الهواء كي يموتوا، واستخدام برادات الطعام في نقل الجثث، وإطفاء الكهرباء قبل القيام بالمداهمات الليلية، والتصويب بالبنادق على براميل المياه الموضوعة فوق العمارات وأسطح المنازل لمحاصرة المدن في حاجاتها الأساسية وغير ذلك مما يشيب له الرضيع ويصفر من هوله الربيع.

أخيرا وكي أجعل من مقولة ان شر البلية ما يضحك خاتمة وبدءا، أعود إلى قريبي القادم من دمشق ففي معرض حديثه ذكر لي أن أحد أصدقائه السوريين جاءه صباح أحد الأيام وهو يبتسم ثم قال له ـ البارحة أجو في مدرسة ابني باحثين اجتماعييين من أياهم.. وغمز بعينه. فقال له قريبي ـ أي..وشو صار خبّرني؟

فأجاب السوري وهو يضحك ـ سألوه ـ شو بيحضر ابوك وامك من قنوات؟ فقال الولد ـ بيحضرو “سوريا دراما” و”الاخبارية” السورية وقناة “المنار” بتاع حزب الله!!

وهنا أجاب قريبي ـ يا سلام.. محفضو منيح.. برافو عليك!!

ايلاف

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى