صفحات المستقبلوليد بركسية

“فوتوشوب” المشاهير.. عالم الوهم/ وليد بركسية

 

 

جدل كبير أثارته صور نجمة التنس الأميركية، سيرينا ويليامز، بعد نشرها على غلاف مجلة “بيبول” الأميركية. فالمجلة الشعبية اختارت مؤخراً ويليامز ضمن أجمل 100 امرأة في العالم، إلا أن النجمة السمراء بدت نحيلة أكثر من المعتاد نتيجة التلاعب بالصورة، ما أثار حفيظة جمهورها الذي شنّ حملات واسعة ضد الصورة عبر مواقع التواصل، الأمر الذي أحرج ويليامز ودفعها لاحقاً لنشر الصورة الأصلية عبر حسابها في “انستغرام”.

صورة الغلاف وما استتبعها من سجال إعلامي، لا تنفصل عن ظاهرة حيوية في مجتمع الفن والنجوم، حيث تجتاح عمليات تعديل المشاهير لصورهم، بشكل مبالغ فيه وعبر برامج مثل “فوتوشوب”، هذه الأوساط. وبالرغم من أنّ ذلك لا يعدّ بالخبر الحديث، إلا أن عمليات تحديث الصور لم يخفت بريقها بتاتاً، خصوصاً حينما يتعلق الأمر بكشف الصور الحقيقية لأولئك “الآلهة الجدد” الذين لا يكبرون في العمر وفقاً للصور، بل يحافظون على جمالهم سنة تلو الأخرى، ويتمتعون بالشهرة والنجاح والثروة، وكأنهم لا ينتمون للجمهور إلا في مواصفات عامة بعيدة.

وإن كان لمعظم المشاهير نية بالظهور بشكل أجمل وأكثر إثارة ولفتاً للأنظار، إلا أنه العملية أكثر تعقيداً مما يبدو، حيث تصبح عملية التقاط الصورة ثم تعديلها، جزءاً من صناعة صورة ذهنية أكبر تكرس الشخصية المشهورة كرمز للكمال عند الجمهور. ومن هنا يكتسب المشاهير قوتهم ضمن عالم شديد التعقيد تحكمه الشركات متعددة الجنسيات، كونهم الناقلين الأساسيين لمفاهيم ثقافية وفكرية ترتكز عليها صناعة الإعلانات العالمية، لترويج مختلف البضائع من عالم الموضة والجمال إلى مساحيق الغسيل وأغذية الأطفال.

بالتالي لا تتوقف عملية تعديل الصورة لدى المشاهير على مجرد تغيير طفيف في الإضاءة أو إضافة “رتوش” بسيطة، بل تتحول لتعديل في مواصفات الجسم نفسه. فالمشاهير كرمز للكمال البشري، عليهم المحافظة على هذا الكمال المرهق، كالنحافة الزائدة وعضلات المعدة المشدودة والشعر الجذاب أو الكلام المنمق ومواكبة الأحداث، وغيرها من صفات شكلية أو فكرية على اختلاف مجال الشهرة نفسه، ويشرف على ذلك غالباً فريق متخصص، والأمر ذاته ينطبق على وسائل الإعلام الناشرة للصور المعدلة.

والحال أن حادثة ويليامز أثارت استهجاناً واسعاً، نظراً لأن النجمة ألأميركية خالفت صورتها الذهنية لدى الجمهور عنها كرمز للاختلاف. فهي منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، تعتبر من المشاهير الذين لا يصنفون في خانة الجمال الهوليوودي. ولطالما تحدثت عن اكتشاف الجمال داخلها بعد سنوات من الصراع مع المفاهيم السائدة، كونها صاحبة عضلات كبيرة وانحناءات كثيرة لا تطابق حتى الجمال الرياضي، الذي يحدد ملامح الرياضية بالطول والنحافة والرشاقة. وهي بهذه الصورة تروج لمفاهيم فكرية محددة تدر عليها أرباحاً كبيرة من الإعلانات لمنتجات رياضية وماركات ملابس رياضية عالمية.

في السياق، ثمة الكثير من المواقع الالكترونية المتخصصة في كشف التزوير وعرض الصور الأصلية للمشاهير، والتي تبدأ بوجه مادونا وخصر بينولوبي كروز، ولا تنتهي بمؤخرة كيم كارديشيان. ويتم عرض الأساليب التي استخدمت في التعديل، مع تعليقات ساخرة غالباً، ويشكل ذلك تياراً معارضاً يتمسك بنظرة واقعية “محافظة”، مقارنة بمن لا يبالي كثيراً بوجود التعديل طالما أن النتيجة تأتي مع عامل الإبهار للمعبود “Idol”.

والواقع أن صور المشاهير المعدلة التي تغزو الشاشات حول العالم، تسهم في تغيير نظرة الإنسان لمعايير الجمال وتقبل الآخر، وتجعل بالتالي مهمة التواصل البشري والانخراط في العلاقات أصعب مما كانت عليه قبل سنوات قليلة فقط، حيث يضع العقل البشري بوعي أو من دون وعي، مجموعة من المعايير العليا لتصنيف الناس شكلياً بشكل مسبق، وهي معايير قد لا يمكن تحصيلها في الواقع، ما يؤدي للإحباط أو العزلة.

تأثير ذلك يتفاقم حينما يكون الأمر متعلقاً بالمراهقين، وفقاً لبعض الدراسات، التي تشير إلى أن هذا الأمر قد يؤدي لمشاكل نفسية متعددة تتعلق بتقدير الذات المنخفض أو النظرة الدونية للآخرين وتقييم العالم الخارجي، وكلها مشاكل تبعد صفة السطحية عند التطرق للموضوع، حتى أن الحكومة البريطانية العام 2013 أجرت مشاورات مع شركات الإعلانات والأزياء لدفعها باتجاه تحمل مزيد من المسؤولية في معالجة الصور، حسب تقرير لـ”بي بي سي”.

ويمكن الربط بين تأثير الصور المعدلة على الإنسان وبين عمليات التجميل المتزايدة، وأمراض نفسية مثل “فقدان الشهية” (أنوركسيا) وظهور مفاهيم متطرفة للجمال، مثل تحدي ورقة “A4” الذي انتشر مطلع العام الجاري، وكله جزء من تنميط عام للمرأة والرجل على حد سواء، وإن بقي بعض التأثيرات الإيجابية، مثل تشجيع الناس على الرياضة والاعتناء بأجسادهم للوصول إلى الكمال الذي يمثله المشاهير على اختلاف مجالاتهم (تمثيل، غناء، نجوم مجتمع، رياضيون، ..).

الصور المعدلة لم تعد حكراً على المجلات الفنية والاجتماعية، فعشرات مواقع التواصل الاجتماعي مثل “فايسبوك” و”إنستغرام”، تمتلئ بهذا النوع من الصور وهي تخلق واقعاً جديداً من الوهم أمام الأطفال والمراهقين، فيما يتطلب الأمر جهداً حقيقياً لمكافحة نزعات الكمال المشوهة التي تختصر الحياة بالشكل الجميل الجذاب فقط، ابتداء من كشف زيف الصور البراقة فقط في مواقع فضائحية، إلى ما تقوم به الحكومة البريطانية من نشر للمعلومات الأساسية حول تعديل الصور في المدارس مثلاً.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى