صفحات الحوار

فيليب روث: أميركا تعيشُ الآن في كابوس

 

 

أصدرت “مكتبة لابلياد” الشهيرة في الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول 2017، المجلّد الأول من أعمال الكاتب الأميركي فيليب روث، وهو يضمّ رواياته من عام 1959 إلى عام 1977. وسبق لـ”مكتبة أميركا”، وهي معادلة لـ”لابلياد” لكنّها متخصّصة في الكتّاب الأميركيين، أن أصدرت في 12 سبتمبر/ أيلول الماضي المجلّد الثاني والأخير المكرّس لفيليب روث، بعنوان “لماذا أكتب؟”، وهو يجمع العديد من المقالات التي كتبها خلال مسيرته الأدبية.

هل يعود السبب في قبول روث الخروج عن الصمت، الّذي التزمه لسنواتٍ طويلة – إذ أنّه لا يكتب، ولا يتحدّث إلى الجمهور- إلى رغبته في أن يعرف القرّاء الفرنسيين رأيه بشأن كتاباته الأولى، خصوصًا أنّه يقول عن نفسه بشيءٍ من الرّضى والمزاح: “في فرنسا، أنا مقدّس”؟. هو حقيقةً لم يصرّح بذلك، لكنّه بعد أن رفض طلباتٍ كثيرة لإجراء حوارات، منذُ انتخاب دونالد ترامب، وافق هذه المرّة على الإجابة عن أسئلتنا، بما فيها المتعلّقة بترامب نفسه:

(*) سؤال: لماذا استبعدتَ في المجلّد الأول من طبعة “لابلياد” روايات ” دَعهُ يجري”، “حينما كانت طيّبة” و”تريكار ديكسون ورفاقه”؟

– أنا أجهل لماذا لا توجد هذه الروايات ضمن المجلّد، لقد تركتُ الحرّية للناشر في اختيار العناوين.

(*) سؤال: لنفترض أنّك قُمت بالاختيار، هل كنت ستستبعد “الرواية الأميركية الكبرى”، الّتي لا يتضمّنها المجلد أيضًا؟ وهل سيكون السبب هو لعبة البيسبول، الّتي تأخذ حيّزًا كبيرًا من الرواية، وحسب رأيك، فإنّ الأوروبيين لا يفقهون شيئًا في هذه اللعبة؟

– “الرواية الأميركية العظمى” ليست فقط كتابًا عن البيسبول، إنّها محاكاة ساخرة لفولكلور وأساطير هذه اللّعبة. وقد يبدو الكتاب غير مفهومٍ لشخص أوروبيّ مثلما تبدو “يقظة فينيغان” غير مفهومة بالنسبة إليّ.

كل كتاب يستدعي صوتًا خاصًّا به

(*) سؤال: منذ أن اعتزلتَ الكتابة شرعتَ أوّلًا في إعادة قراءة الكتّاب الّذين أحببتهم منذ زمن بعيد، ثمّ قراءة أعمالك نفسها. لكنّك توقّفتَ عند كتاب “بورتنوي”، علمًا أنّ هذا الكتاب يحظى بمكانة كبرى ضمن أعمالك. هل السبب أنّك عثرتَ فيه على صوتك الخاصّ؟

– في كتاباتي الأولى، حاولتُ معرفةَ إلى أيّ نوعٍ من الكتّاب أنتمي. في تلك الفترة لم أكن على وعيٍ بما أفعل، وكان دليلي الوحيد أسئلة من قبيل: ما هي نقطة قوّتي؟ ما الّذي يدفعني إلى الكتابة؟ عن ماذا أبحث؟ في “شكوى بورتنوي”، عثرتُ على صوت. لم يكن ذلك صوتي الخاصّ بقدر ما كان الصّوت المناسب لذلك الكتاب، أو إن شئت، المناسب لدور البطل. لقد علّمتني التجربة أنّ كل كتاب يستدعي صوتًا خاصًّا به وتنويعاتٍ في النبرة، تخدم بدقّة الموضوع المطروح. لـ”بورتنوي” موسيقاهُ الخاصة: تلك المتعلّقة بلعبة البيسبول. أمّا بالنسبة لكتاب “النّهد”، فلهُ موسيقى مختلفة.  يمكن ملاحظة أنّ هذا صحيح بالنسبة لمعظم الروايات التي كتبتها.

(*) سؤال: تقول دائمًا، وكتبتَ هذا أيضًا، “أنا باختصار كاتب أميركي”، و”لستُ كاتبًا يهوديًا أميركيًا”. “بورتنوي” يريد غزو أميركا من خلال غزوه للنساء؟ هل يريد هو أيضًا أن يكون أميركيًا فقط وليس يهوديًا مقيمًا في الولايات المتحدة؟

– بدايةً، لم يكن “بورتنوي” كاتبًا، وعليه تستحيل المقارنة بيني وبينه، سيكون ذلك بلا معنى. تجربتي الحياتية كيهوديّ في أميركا هي تجربة أيّ أميركي آخر يعيش في أميركا. في “بورتنوي”، حاولتُ تقديم وضعية أكثر صعوبةً من كلّ ما استطعتُ أن أُجرّبَه ككاتب. حين ذهب “بورتنوي” إلى إسرائيل، لم تسِر الأمور على ما يُرام بينه وبين النساء، وذلك على نحو غريب…لأنّه هناك كان يُعتبر أجنبيًا – أي كائنا قادما من عالم آخر، لكن لا بدّ من القول إنّه يبدو أجنبيًا في كلّ مكان- بصرف النّظر عن اللّحظات التي لعبَ فيها البيسبول حينما كان طفلًا.

(*) سؤال: تعود “شكوى بورتنوي” في رواية أخرى، هي “زوكرمان غير المقيّد”. كتب “زوكرمان” رواية ناجحة وفضائحية، بعنوان “كارنوفسكي”. إنّها كتابه الرابع، مثلما كان “بورتنوي” كتابك الرابع أيضًا…

– الحديث هنا عن رواية كتبها “زوكرمان” حينما كان شابًا، وجلبَت له المجد، مع كلّ السلبيّات الّتي ينطوي عليها ذلك. في “زوكرمان  غير المقيّد”، استندتُ إلى ما كنتُ أعرفه خلال تلك الفترة، إلى تجربتي الخاصّة في أغلب الأحيان، لأنّني بدوري كنتُ قد صرت مشهورًا بعد نشر كتابٍ أثارَ فضيحة. وفكّرتُ أنّ هذه التّجربة يمكن أن تكون موضوعًا واعدًا لكتابة رواية هزلية.

(*) سؤال: هل ترى اليوم قرابةً بين “بورتنوي” و”ميكي ساباث”، باعتبار الأوّل بطل الثلاثينيات المُستفِزّة، والآخر بطل الستينيات الصارمة؟

– لا، أعتقد أنّ الأمر يتعلّق بشخصين مختلفين. “بورتنوي” يجد نفسه في ورطة، إنّه عالق بين  قيم المجتمع الأخلاقية وبين رغبته الجنسيّة، بسبب ميلهِ إلى التحرّر. في “مسرح ساباث”، يقدّم “ميكي سابات” نفسه بأنه متحرّر جامح، وأَلمُه غير ناجم عن قمع لحياته الجنسية، حقيقيٍّ أو متخيّل. إنّه يعاني من كلّ ما تعلّمَه في الحياة عن الموت، وعما يسبقُ الموت وفقدان شخص عزيز.  إنّ الحزن هو الّذي يدفعُه إلى الهلاك. ربّما لم أكن لأكتب “النّهد” مطلقًا لولا قراءتي لـ”التحوّل”، وهو كتاب أحبّه كثيرًا. وبالنسبة إليّ، هذا الكتاب ليس نسخة هزلية لكتاب كافكا، كما أنه ليس تكريمًا له، ولكن لا يضرّني أن يعتقد الآخرون ذلك.  وُلد هذا الكتاب، مثل “زوكرمان غير المقيّد” أيضًا، من تجربّة خاصّة حين شاع أنّني من مشاهير الجنس بعد صدور “بورتنوي”. وكان يمكن حتّى لجمهور مستنير أن يصوّرني في شكل نهدٍ بحجم رجل.

(*) سؤال: إنّه أوّل ظهور لـ”كيبيش” قبل” أستاذ الرغبة” و”الحيوان المحتضر”. هل هي ثلاثية عن الجنس؟ استكشاف للرغبة الجنسية في إطلاقيتها وجنونها، من خلال الرواية الأولى الهزلية، والروايتين الأخريين الأكثر مأساوية؟

– نعم، نعم، نعم. تحليلُك لكتاب “كيريش” صائب. أردتُ أن أقدّم بورتريه لرجلٍ واحد عرفَ ثلاث حيواتٍ جنسية مختلفة، الأولى متنافرة، الثانية تقليدية، والثالثة متحرّرة، من دون أدنى ضبطٍ للنفس وكلّها متّجهة فقط نحو البحث عن المتعة – “كيبيش” المهووس، الشهواني، ثمّ المتذوّق للجنس- أردتُ هنا الحديث عن الحياة الجنسية لشخصٍ واحد طيلة حياته، وهذا الشخص نفسه يمثّل الآخرين جميعًا، أليس كذلك؟

(*) سؤال: “حياتي كرجل” رواية لم يُفهم حسُّها الفكاهي خصوصًا من طرف النساء، هل تعتقد أنّهن لا يتقبّلن السخرية؟

– لا، على الإطلاق. السّخرية الفجّة بدورها شائعة جدًّا – أو غير شائعة- عند النساء كما هي عند الرجال.  وهذا من خلال تجربتي على الأقلّ. في رواية “خداع”، نجد البطلة حادّة الطباع، وفي رواية “حياة مضادّة”، نجدها مختلفة تمامًا، فهي رقيقة وأكثر مرونة.

دلالة رواية

“حياتي كرجل”

(*) سؤال: ألا ترى أنّ رواية “حياتي كرجل” كانت السبب في أن تُوصف بـ”كاره النساء”؟ البعض اعتبرها سيرة ذاتية كشفتَ فيها عن كُرهك للنساء. ومع ذلك، البطل “تارنوبول” يقول إنّه لا يكره النساء، وإنّما يكره زوجته؟

– في الواقع، “تارنوبول” يكرهُ زوجته لأنّها مخادعة، وشرّيرة. استحضر “مورياك” في روايته “تيريز ديسكيرو” زوجةً مجرمة، وزوجها يكرهها لأنّها حاولت تسميمه. في الحياة كما في الكتب، من المألوف أن نصادف أشخاصًا يكرهون بعضهم حين تُرتكب بينهم أخطاءٌ لا علاج لها. “إيما بوفاري” كانت  تكرهُ “شارل”، وهو لم يكن مجرمًا ولا شريرًا. أتذكّر جيّدًا مشهدًا حينما ينهض “شارل” للخروج من الغرفة، وهي تنظر إليه وتكرهُ حتّى شكلَ ظَهره. ربّما هذا شيءٌ تافِه، لكن هذا لا يجعل من “إيما” كارهةً للرجال، وبنفس القدر لا يُلام “تارنوبول” بسبب ما فعلته به زوجته الرّهيبة، ولا يُلام كاتب الرواية، أو يُنعت بكارِهٍ النساء.

(*) سؤال: هل تعتقد أنّنا أسَأنا فهمَ انتقادك للتحليل النفسي؟

– هل المقصود بورتريه المحلّل النفسي “تارنوبول” في رواية “حياتي كرَجل”؟ إذا كان الجواب بنعم، فيمكنني أن أقول لك إنّ هذا الانتقاد للتّحليل النفسي لم يكن من طرفي. أنا أتحّدث عن المشاكل الّتي تنشأ بين المحلّل والمريض، حين يكتشف هذا الأخير أنّ الطبيب استغلّ حالته لكتابة مقالٍ ونشرِه بمجلّة متخصّصة في التحليل النفسي. المريض، وهو “تارنوبول” في هذه الحالة، احتجّ بشدّة على الطريقة الّتي قُدّم بها في المقال المذكور وعلى التّفسير الّذي طرحه الطبيب لما يعانيهُ من مرض. لقد تناقشَا بقسوة، جلسةً بعد أخرى، إلى أن طلب الطبيب من المريض التوقّف عن مُهاجمته ولَومه على ما كتَب، وأنّ عليه استئناف العلاج، وإلّا فسوف يوقفه نهائيًّا. لم يكن في نيّتي أن أنتقد أيّ شيء مهما كان في هذه المواجهة، العنيفة بعض الشيء. أظنّ أنّها وضعية رائعة تجمع بين رجلين، وهذا يمنح انسجامًا في رؤية القارئ للصّعوبات الّتي اعترضت البطل. أي أنّ بحثه عن الخلاص لم يكن سهلًا.

لا حدود للأخطار الّتي يمكن لجنون رئيس أميركا أن يجُرّها على العالم أجمع!

(*) سؤال: رواية “مؤامرة ضدّ أميركا” هي كابوس لم يحدث قطّ، أي انتخاب رئيس من اليمين المتطرّف في عام 1940. لكن، ألا تعيش أميركا اليوم نفس الكابوس؟

– الكابوس الّذي تعيشه أميركا اليوم – وهو في الحقيقة كابوس- يرجع إلى أنّ الرجل الّذي انتُخب رئيسًا يعاني من نرجسيّة مفرطة، إنّه كذّاب كبير، جاهل، متعجرف، كائنٌ وقِح تُحرّكه روح الانتقام ومُصاب بالخرف مسبقًا. وإذ أقول ذلك، فأنا أُقلّل من عيوبه إلى أدنى حدّ. إنّه، يومًا بعد يوم، يثير سخطنا بسلوكه، ونقص خبرته وانعدام كفاءته. ولا حدود للأخطار الّتي يمكن لجنون هذا الرجل أن يجُرّها على البلاد وعلى العالم أجمع.

(*) سؤال: هل ترى في ذلك انبعاثًا لمعاداة السامية؟

– لا. معاداة السامية تتجلّى في أوساط اليمين القومي المتطرّف، لكن لا يمكننا القول إنّ البلد سيصير معادياً للسامية، أو إنّه سيكون مستعدّاً للسقوط في فخّ كراهية اليهود بشكلٍ كبير.

(*) سؤال: وماذا عن العنصرية تجاه الأفارقة الأميركيين؟

– لا شكّ في أنّ مشاكل كثيرة تولّدت من التّاريخ الطويل لقمعِ الأفارقة الأميركيين، وهذه المشاكل ما زالت موجودة اليوم، فضلًا عن بعض السلوكات المُقرفة بشكلٍ واضح. بالنسبة إليّ، لا أعتقد مثلًا أنّ أغلبية الأميركيين عنصريون متحمّسون. أظنّ أنّ هناك حفنةً من العنصريين المستعدّين لفعل أيّ شيء، وأنهم بين المنتخبين في الكونغرس وأنّ هناك واحدًا منهم في البيت الأبيض. ثمّة أيضًا شريحة من العنصريين منظّمة جيّدًا في مناطق مختلفة من البلاد. لكن العنصرية هي مشكلٌ قديم العهد في تاريخ أميركا، وقد بدأَ مع العبودية، خطيئتنا الأصلية. لذلك، فإنّ جذور الكراهية العرقيّة وانعدام الثّقة في الآخر منغرسة عميقًا في تراب هذه البلاد. ولا تُحصى الخسائر الّتي نتجت عن ذلك، منذ فجر تاريخنا الوطني وعلى مدى قرون. ولم يعد مُستغربًا أن نجد بعض الآثار البغيضة لهذه الخسائر ما تزال ماثلةً في النفوس حتّى اليوم وتستمرّ معها الأعمال المدمّرة.

(*) سؤال: أنت تستنكر “نُدرة القرّاء الجادّين”، وذلك بسبب نقص التّركيز الناجم عن وسائل الاتصال الجديدة. ألستَ متشائمًا جدًّا؟ هل تعتقد أنّ الوضع يسير من سيّئ إلى أسوأ؟

– نعم، أعتقد أنّ تراجع عدد قرّاء الروايات الجادّين يتفاقم مع كلّ عقدٍ من السنين. ولا أرى شيئًا يمكنه أن يغيّر اتّجاه هذا المسار.

أقرأ كُتبًا عن

التاريخ الأميركي

(*) سؤال: منذ أن بدأت حياتك الجديدة بدون كتابة، بدون آيباد، ولا أيفون، ولا بريد إلكتروني، وكلّ هذا رفضتَه من قبل، لكنّك مع ذلك بقيتَ قارئًا جادًّا. ماذا تقرأ الآن؟

– منذ سنوات طويلة وأنا أقرأ كُتبًا عن التاريخ الأميركي. لقد قضيتُ حياتي كلّها مدافعًا عن القراءة، وعن دراسة الرواية وتعليمها، وكانت الرواية دائمًا في صُلب حياتي وانشغالاتي. لكنّني، اليومَ، بعد أن اخترتُ إنهاء مسيرتي الروائية، أظنّ أنّ لديّ الرّغبة في الاهتمام بشيء آخر. يحدث من حينٍ لآخر أن أقرأ بعض الروايات الّتي يقترحونها عليّ، وأعيدُ قراءة كتابٍ ما أحببتُه كثيرًا وأجد متعة كبيرة في قراءته من جديد. لكن، بخصوص سرد الحكايات، هذا الشّيء الّذي طالما كان ثمينًا بالنسبة إليّ على امتداد العمر، لم يعد له مكانٌ في صميم حياتي. وهذا أمرٌ غريب. لم أتوقّع أبدًا أن يحدث ذلك. لكن، ما هو صحيحٌ أنّ أشياءً كثيرة تحدث ولم أكن أتخيّل حدوثها على الإطلاق.

نص حوار أجرته حوسلين سافينيو لصحيفة “ليبيراسيون” الفرنسية، ونُشر بتاريخ 15 سبتمبر/ أيلول 2017.

المترجم: نجيب مبارك

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى