صفحات الرأي

في أن الثورة لا تنتهي


روجيه عوطة

أظهرت الثورة في العالم العربي أنها غير مركزة في مكان سياسي (حزب أو تيار)، بالإضافة إلى أنها من دون غطاء إيديولوجي، ولا تراتبية فيها. روابطها تتفكك وتتوسع وتُعدّل دائماً، مداخلها عدة، كل خط ثوري يتعين عليه الإتصال بخط آخر، ولا يتم تقويمه وفق مبدأ المقارنة بخطوط أخرى. تكمن قيمته في ذاته، لا خارجها أو أعلى منها. تالياً، تبدو الثورة المعاصرة أنها لا تحتاج إلى صورة خارجية، بل تركب نفسها وترتب أفعالها مع الخارج من دون الدوران حول متن نظري. ذلك لأن الثورة لا تقاس بمستقبلها فقط، إنها رهن الصيرورة، “صيرورة الوسط”، هذا المكان الذي يؤمّن الاتصال بين الشبكات الاجتماعية، ومنه يخرج “الدفق الثوري” غير المقيّد باجتهادات سياسية مجردة. يجتهد الوسط الثوري مبادئه المتعددة والمختلفة، ولا يحكم عليها بالفشل المطلق، إذ يترك المجال للجزيئيات أن تلعب دورها في تفعيل نفسها وإظهار مدى اكتفاء الثورة بها وبمكانها الوسطي.

يمكن تحديد الإطار المكاني للثورة بحسب خريطة تتكوّن أولاً بأول من دون أي تماهٍ مع القوالب القائمة سياسياً والبائدة في لحظة انفصال حقيقية بين جغرافيا وأخرى، ومنطق تراتبي وآخر لا يدرك الثورة على أنها سيرة تنتهي بسقوط الزعيم والقائد والطاغية أو بتحقيق أهدافها العامة. أساس الثورة صيرورتها، لا مرجعيتها. سبب ذلك أن الحدث الثوري لا يحصل وفق خطة قبلية ومسبقة. معنى الثورة كلي على صعيد نشوء أحداثها، وجزيئي على صعيد تتالي هذه الأحداث واستمرارها في إمداد الثورة ببدايات جديدة وخطوات لا تلتزم إلا دلالاتها المتغيرة. إذ أنها محكومة بلانهائيتها الرافضة كل معيار ثبتته الأنظمة التعسفية كقانون عام، وكقاعدة كبرى تسقط مع سقوط تطابقها مع شخص النظام أو الديكتاتور. هذا الحدث الأولي هو بداية تُستكمَل ببدايات مقبلة، وخصوصاً أنه حصيلة حراك ثوري مفتوح على احتمالات أخلاقية النظام القديمة وعقله الإستبدادي. من واجب الحراك ردم مكامن الأخلاقية هذه، وإلا فإنها ستستأنف عملها وتنتشر كما لو أنها جزء من الحدث الجديد، ما يؤدي إلى وقفه وتضمينه معاني أحادية، تستند إلى معجم سياسي تسلطي، لا يختلف عن معجم النظام الساقط، وإلى أسلوب سردي تتبعه الديكتاتوريات في سرد الوقائع التي تنتجها البنى السياسية المتتداخلة والمتصلة لتنسج نصها الفكري المدموغ ببعدين، بعد البداية، إنقلاب عسكري مثلاً، وبعد النهاية، توريث الحكم، وبينهما صلب “السياسة الكبرى”. هذه الأخيرة قائمة على مبدأ “التشميل”، بسب دولوز، فتشمل الأبعاد كلها، وتضمّها في إطار واحد، تلتقي الشبكات الإجتماعية داخله ولا تفترق باسم الأكثرية والوحدة، التي يحافظ النظام عليها باستثماره الكتل البشرية سياسياً واستغلال قوتها جماهيرياً، وإدراج رغباتها في كلٍّ يمحو إرهاصاته ويحافظ على نفسه بالتوازي مع القضاء على الظواهر الشاذة عن “السياسة الكبرى”، التي يتماهى الأطراف الاجتماعيون معها ويحاكونها بفرض ما يرونه مناسباً في تحقيق النهاية المطلوبة من الكل الشامل. لا بد من الإشارة هنا إلى أن الثورة كحدث متتالٍ، تصنع سياستها المتحررة من المواقف والعلاقات والتراتبيات والأنساق والبنى المتماسكة، لتكون بذلك سياسة بلا سلطة مركزية قادرة على ترؤسها أو السيطرة عليها، وبلا مخططات وتنظيمات تقليدية تُفسر الأحدات على ضوئها. ليست الثورة نظام أبعاد سياسية، مفاصله الفكرية ممنهجة على أساس سماكتها التاريخية، ولا تجري أحداثها الواقعية وفق خطوط قمعية سلبية، يكون الفرد فيها مأموراً أو مسيّراً، فالناس الذين نزلوا إلى ميادينها ونظموا أفعالهم الثورية، لا تحركهم يد سلطوية أو أجندة خارجية، بل يسعون إلى أن يتواصلوا جزيئياً بشبكات خارجة على  معايير وقواعد نهائية. وإذا كان للثورة أبعاد فهي حتماً أبعاد صيرورتها، الصانعة ديموقراطية الأفراد قبل ديموقراطية النظام، والفرق واضح بين الإثنتين. ديموقراطية الفرد لا تتأسس على نقطة ارتكاز خارجية تساعدها في خلق سياستها باستمرار، فهي “ديموقراطية في ذاتها”. أما النظام، فيعتبر أنه الوحيد الذي يستوعب “ديموقراطيته”، ولا بد للفرد المهيمن عليه من أن يحصل على مشروعية حياته السياسية من خلال هذا الإستيعاب. أي أنها ديموقراطية بعيدة عن ذاتها إلى حد إقصاء الفرد بعد ربطه بصلب السرد السياسي وإرساء علاقة قاسية بينه وبين البداية والنهاية.

تتشكل الثورة، عندما تتوتر العلاقة القائمة بين الفرد والنص السردي السلطوي، ولا يجد في استعاراته السياسية أي منفذ إصلاحي أو باب مفتوح على ديموقراطية مباشرة، تعيد إليه حقوقه ووجوده الفاعل على سطح بنيوي، يشبّهه كثيرون برقعة شطرنج تتحكم بتنقلات مكوّناتها التي تحدد مصيرها من النقلة الأولى. كي لا يبقى الفرد رهينة هذا السطح، يقرر التفلت من سرده واستعارته الإيديولوجية، الطائفية والعنصرية الأقلوية، ويبادر إلى التحرر من تقسيمات البنية، وتصير كل نقلة يقوم بها بمثابة نقلة أولى تمتاز بثوريتها الغيرية، التي تبغي تحرير الغير من مختلف أنماط التحركات على الرقعة السياسية حتى إسقاط “الملك” وإعادة النظر في أشكال الرقعة نفسها. تتسم النقلة الثورية بعدم ارتباطها بالنهاية الأولى، كما أشرنا في السابق، فكل نقلة تستوجب نقلات أخرى، تبني رقعة جديدة وتستغني عن قواعدها، بما فيها تبديل مواقع الطاغية ومراكزه السياسية والسردية .

ذهبت الثورة في العالم العربي إلى أن النظام لا يتكوّن من ملك أو قائد فقط، وإن دفقها هو مرجعها الوحيد، المتصف بالتغير والاختلاف بين حدث وآخر. شككت شوارعها المنتفضة في شرعية التاريخ وذاكرته، في موقع السلطة وإيديولوجياتها، ولا تزال تطرح علامات استفهامها على كل فرد يحمل أخلاقية نظامه القديم ويسعى إلى ولوج الحدث الثوري برجعيته أو فاشيته، غير عالم بأنه عصر السؤال الدائم والتشكيك في الجواب.

من الدروس الأولى التي يمكن استخلاصها من الربيع العربي، غير المكتمل مكانياً حتى اليوم، أن الثورة لا تنتهي عند حدود سقوط الطاغية، وأن معانيها مرتبطة بصيرورتها، من غير أن تعتمد، تاريخياً، على نقطة أصل ونهاية. فالمعاني الثورية تحاول الانخراط في نفسها، بدل محاكاة خط إنطلاقها دوماً، وتعمل على إحداث حركتها الخاصة وطريقة النظر إليها، ومعاينتها من خلال الإقامة داخلها والتأمل في خصائصها. يبقى لنا أن نعرف أن الثورة المعاصرة “موجودة في الوسط”، وتتحالف مع كل الأمكنة الأخرى بروابطها وتجلياتها ولغتها، التي تخلّت عن الأفكار القصدية ووحدات الجهة الدلالية، لتنطلق من وسطها الذاتي وتجترح أدواتها الديموقراطية، غير الغائية، ومفاهيمها السياسية البعيدة عن أي بنية أو رقعة أفهومية تحكمت بعقول الناس على مدى عقود من الزمن، وستستمر بذلك في حال لم تتغير هذه البنية وتصبح في خدمة مكوّناتها، التي ما عليها سوى أن ترغب بثورتها التي لا تنتهي، وأن تثق بصيرورتها الثورية.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى