براء موسىصفحات الناس

في إدارة الحقد/ براء موسى

 

 

رائد، (اسم لا على التعيين) شاب رزين، عُرف باللطف والوداعة لدى أصدقائه، وكان يحفظ الكثير من مقاطع الحب في شعر نزار قباني، ويهيم في أغاني ماجدة الرومي في قصّة حبّه الأولى. عندما أنهى رائد دراسته الثانوية بمجموع متوسط، نصحه الأهل والأصدقاء بالتطوّع في الجيش العربي السوري، ورغم أنّه كان يسمع الكثير عن الفساد في الجيش إلّا أنّه رضخ لرغبات أهله وأصدقائه، فغادر شقائق النعمان وأزهار الليمون، ليلتحق في دورته التدريبية الأولى في الحياة العسكرية، لينفرز بعد ذلك إلى أحد الأفرع الأمنيّة في البلاد، وفي ذلك الفرع الأمني عمل رائد محقّقاً، وكان راضياً بقرارات رؤسائه بمنع الضرب للمعتقلين سوى بعض الاستثناءات، فبعض المعتقلين كانوا يستثيرون فيه الحنق، لدرجةٍ زادته يقيناً أنّ الضرب وحده جدير بالكثير من المعتقلين.. ولكنّه بعد المظاهرات الأولى لانتفاضة السوريين في آذار/مارس 2011 نقم بشدّة على قرارات عدم الضرب في الفرع كما جميع رؤسائه، وشيئاً فشيئاً غدا ذلك القرار، كما كان في معظم الأوقات، لا يساوي الحبر الذي كُتب به، بل إنّه صار مدعاة للسخرية إذا صادف أن ذكره أحد الزملاء، وانمحى تماماً من ذاكرة الرؤساء والإدارة.

في الأفرع الأمنيّة السورية المنتشرة على طول البلاد، وكذلك السجون، قُتل الآلاف من السوريين تحت التعذيب، وقُتل أضعاف أضعافهم خارجها، ويكاد السؤال يحار في البحث عن أجوبة له: كيف تحوّل رائد -ذاك الشاب الرقيق- إلى قاتل؟ من أين أتى هذا الكمّ الهائل من الحقد؟ ومن يُدير هذا الحقد ويُمسك بخيوطه؟

المُعاينة التي عاشها السوريون على أرض الواقع، كما الوعي الجديد لديهم بفعل ثورتهم، فتح آفاقاً لمعرفة الكمّ الهائل من جرائم النظام، والوسائل التقنية الحديثة سهّلت الكشف عن جرائمه القديمة، وحدهم فقط أدوات هذا النظام والمُوالون له يرون في تلك الجرائم دفاعاً عن النفس لجرائم مضادة، وأنّها دفاع عن حقّ أُنجز من خلال مثابرتهم على بناء دولة قويّة كانوا ينعمون في ظلّها بـ “الأمن والاستقرار”، وبذلك تحوّلت جرائم النظام لدى هذا القطّاع من الناس إلى قَصاصٍ يُبيح المزيد من القتل..

كان ذلك أوّل الحقد.

تهديم الدولة من قِبل هؤلاء “الثوّار” استدعى آليّات الدفاع عن الدولة بكلّ الأساليب دون قيد أو شرط، حتّى لو وصل إلى قتل وتدمير الشعب لصالح المؤمنين بهذه الدولة والراضين بها، وأمّا هؤلاء “الجراثيم” الضارّة بمصالح الدولة وأنصارها فلا مناص من مكافحتهم، سواءً بالأسلحة البيولوجية، أو التعذيب الذي يروي شيئاً من غليل الحاقدين، ولو على أشلاء تلك الحثالة من أبناء الشعب الذين يزاحمونهم في العيش.

هذا الحنق الذي تحوّل إلى حقد، يبدو تسويغاً لقضيّة “محقّة” تتغاضى عن “أخطاء” لا بدّ منها في سبيل الدفاع عن الدولة، وتكاد هذه الرؤية تطغى على مؤيّدي النظام والمدافعين عنه، بصرف نظرٍ مُتعمّد تماماً عن البحث عمّا يُتعب ويُرهق الضمير المُحتضر.

لكن، ما الذي يجعل أنصار النظام يستسيغون أشكال التعذيب الرهيبة في المُعتقلات؟ بل ويستمتعون به؟ وعلى الأقل يتغاضون عنه؟

ثمّة فرق بين دافع الحقد الدفين، ودافع المجرم للدفاع عن جريمته المُستمرّة، والحصيلة بين اجتماع هذين الدافعين هو التوصيف الواقعيّ لدفاع النظام عن وجوده، كما جميع الديكتاتوريات في السياق التاريخي، والعدميّة التي يقوم بها من جرائم بغير حساب هي بالضبط ليقينه أنّ المحاسبة العادلة أصعب تخيّلاً من العدميّة التي يرتكبها، والتي يتشارك وداعش بها.

في البدء كان الحقد، ثمّ كبرت الجريمة باتساع قواعدها من المُنساقين إليها بقصدٍ، أم بقطيعيّة الانسياق، وقديماً سنّ حزب البعث مادّة الدستور الثامنة التي عنَت بالضبط: “حقد حزب البعث على الدولة والمجتمع”، الروّاد الأوائل لذلك التشريع هم الحاقدون الأوائل، ثمّ توزّع الحقد على دائرة أوسع لتغييب ملامحه، فعندما تكون الجريمة هيجاناً جماعيّاً، يكون عبء الضمير الفردي من ثقلها أقلّ، ومع الزمن تلاشى وجع الضمير الفردي ليذوب في سلوك “اعتياديٍّ” يرتكبه الجميع.

ترسخ الحكم الأسدي بديلاً عن البعثي المؤسّس بعد انتصار الأسد الساحق على المجتمع بمجموعة من المجازر تكاد تُنسى في ظلّ هول المجازر التي ارتكبها الوريث منذ انتفاضة السوريين لخمس سنوات خلت من عمر الثورة، ويطرح ذلك سؤالاً على علم الاجتماع: هل الحقد الموروث أكبر من الحقد المؤسّس؟

الحال يؤيّد تلك الفكرة ويُؤكّدها، ربّما لأنّ الحقد الموروث تراكميّ، ومن سوء حظ السوريين اليوم حصاد كلّ ذلك التراكم من الحقد المطبوخ بعناية.

بين المشاركين إصراراً وعمداً في الجرائم المُرتكبة، وأولئك الذين سيقوا لمشاركتها دون إرادة عاقلة، وبغفلة منهم في عمليّة سحبهم إليها، ذلك الفارق في الحقد، فأضحينا بين حقدين: أصيلٍ ومركبٍ؛ فأصحاب الحقد الدفين من مجرمي النظام الأوائل يحرصون تمام الحرص على إقحام أصحاب الحقد المُركّب في ذات السفينة التي أوغلت في دماء السوريين، لتتحوّل المقولة العدميّة: “عليَّ وعلى أعدائي” إلى “عليَّ وعلى أصدقائي” وبذلك يبلغ الحقد ذروة لا تُطاق بشاعتها.

في المادة المنشورة في جريدة نيويوركر مؤخراً حول وثائق مسرّبة تشي بارتباط بشار الأسد شخصياً بالإشراف على عمليات القتل والتعذيب من خلال اطّلاعه على قرارات ما كان يُدعى “خليّة الأزمة”، والتعديلات التي يُجريها على تلك القرارات الأمنيّة، أو يصدرها هو من دونهم، في هذه المادة نستطيع أن نلمح إدارة الحقد بعينها مهما ألصق الموالون تهمة “الأخطاء” لغير رأس النظام، ويعصى على الفهم متى سيُدرك هؤلاء أنّ إدارة الحقد كانت مركزيّة.

في وطن العذاب والتعذيب هذا، قُتل رائد في إحدى معارك الصراع بين الأسد ومعارضيه، وحرص إعلام النظام على تصوير أمّه وهي تُبدي استعدادها للتضحية ببقيّة أبنائها فداءً للوطن، وقائد الوطن.

 

طلعنا عالحرية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى