صفحات سوريةهوشنك بروكا

في “إسطانبوليات” بعض المعارضات السورية


هوشنك بروكا

دخلت الثورة السورية شهرها السادس، ولا يزال النظام السوري “الراكب رأسه”، غصباً عن الذي يريد أو لا يريد، هو هو. فلا نور يؤدي إلى نهاية النفق السوري الأكثر من مظلم، حتى الآن. هكذا تقول تصريحات ومقابلات المسؤولين السوريين الكبار، وعلى رأسهم الرئيس الأسد. هكذا تقول دباباته في الشوارع، وهكذا يحكي لنا الرصاص، وتقول أجهزة الأمن والمعتقلات.

النظام لا يهمه غضب الداخل، كما لا يعطي لغضب المجتمع الدولي عليه، أي اعتبار.

في آخر تصريحاته الطازجة، قالها الأسد بكلّ وضوح: “لا قيمة لدعوات المجتمع الدولي الذي يطالبه بالتنحي”.

هذا يعني بلغة سيف الإسلام القذافي: “طز” بالمجتمع الدولي وقراراته.

إقليمياً، وبالتوازي مع هذا السلوك الأمني الثابت للنظام السوري، منذ أكثر من أربعة عقودٍ، وغير القابل للتغيير، هناك التذبذب التركي، الذي لا يزال هو هو. فتركيا القلقة من راهن سوريا وقادمها المجهول، لا هي ب”ضد النظام” ولا ب”ضد الثورة”؛ لا هي مع بقاء النظام، ولا هي مع بقاء الثورة. هذا هو الظاهر في الموقف التركي من الأزمة السورية، أو بعضاً مما تريده تركيا إيصاله إلى العالم في الأقل. لكن الباطن من هذا الموقف القلق جداً، يقول أكثر.

المواقف التركية الأخيرة من الثورة السورية وأهلها، كشفت بعضاً من أسرار اللعب التركي في الملعب السوري. فتركيا التي تخاف من سوريا القادمة وتداعيات ثورتها، كثيراً، لا تريد تغييراً في “ثوابتها”، يمكن أن يطيح بمصالحها الثابتة المؤتمنة والمؤمنّة عليها، راهناً، في ظلّ نظامٍ ثابت، كنظام الأسد.

تركيا لا تضمن القادم من سوريا، ولا تضمن القادم من تغيّرها، في القادم الممكن من حريتها وديمقراطيتها ودولتها. فسوريا في اليد، أفضل من عشر سوريات على الشجرة.

تركيا لا تريد أن تفرط حبات المسبحة السورية، التي يسبّح بها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، منذ سنوات، كما يشاء وحين يشاء.

لكنها في المقابل، ولكي لا تضع كلّ بيوضها في سلّة النظام، أو لكي لا تبدو هكذا في الأقل، مع النظام على المكشوف، أمام الرأي العام العالمي والتركي، راحت تلعب مع بعض أطراف المعارضة السورية المقربّة منها، وتعزف لها، بين الحين والآخر، معزوفات أو “إسطانبوليات” على الطريقة التركية، لتُرقص عليها بعض المعارضين السوريين، حسب هواها بالطبع، هنا وهناك.

فمرةً تدعوهم إلى أنقرة للتشاور، وآخرى لإسطانبول للتحضير لإستكمال التشاور والبحث عن البدائل السورية الممكنة، وثالثة إلى أنطاليا ل”إسقاط النظام”، ورابعة إلى إسطانبول 2 لتشكيل “حكومة في المنفى” وأخواتها، وخامسة إلى إسطانبول 3 لمناقشة سبل دعم تنسيقيات الثورة السورية، وسادسة إلى إسطانبول 4 لتشكيل “المجلس الوطني السوري”، كما جرى بالأمس، وحبل اللعب في إسطانبول، على الإسطانبوليات، لا يزال على الجرّار.

فلا يكاد يمرّ إسبوعٌ إلا ونسمع نشاطاً “إسطانبولياً” لهذا البعض السوري المعارض، الذي يخرج على الشعب السوري وثورته المشتعلة، ببيانات ومجالس وخرائط طريق وحكومات “إسطانبولية” جديدة، وكأن لا شغل لهؤلاء سوى عقد المؤتمرات لأجل المؤتمرات، والمشاورات لأجل المشاورات، والرقص على “الإسطانبوليات” لأجل “الإسطانبوليات”، فقط لخاطر عيون إسطانبول وأخواتها.

لا ضير بالطبع من أن تبحث المعارضات السورية عن تحالفات ممكنة لها مع العالم، سواء في الشرق أو في الغرب؛ على اليمين أو على اليسار، فالمهم هو البحث عن مصالح الشعب السوري في تحالفات تمكنه من إنجاح ثورته، في إسقاط النظام وتحقيق دولة المواطنة: سوريا من الكلّ إلى الكل، مدنية، علمانية، ديمقراطية تعددية.

لكن تركيا، أثبتت بعد أكثر من خمسة أشهر من اشتعال الغضب السوري، بأنها مع نظام دمشق، ضد الشعب السوري وثورته، وتريد الأسد أكثر مما تريد الثورة السورية. والسبب بالطبع، واضح وجليّ، وهو لأنّ مصالحها الحيوية والإستراتيجية في سوريا، تفرض عليها الآن، ذلك، على أكثر من صعيد، وفي أكثر من ملف عالق.

ولا عتب على الدوّل(وتركيا أولها) في ذلك. فالدوّل تبحث عن مصالحها أولاً وآخراً. فلا عتاب في السياسة، ولا مكان ولا محل للإعراب فيها للمعاتبين.

العتب الأكبر هو على هذا البعض من المعارضات السورية، الذي يستمع إلى أردوغان أكثر من استماعه لأهل الثورة السورية، ويرفع صوته في إسطانبول وأخواتها، أكثر من صوت الثورة داخل سوريا، من درعا إلى قامشلو مروراً بدمشق وريفها، ومن البوكمال إلى اللاذقية وما بينهما من حماة وحمص وإدلب..إلخ.

كان من الأولى بهذا البعض الراقص على وقع “الإسطانبوليات”، بين حينٍ وآخر، أن يستمع لنبض الثورة، بدلاً من الإستمتاع بنبض تركيا، وأن يتحلى بصبر الثورة، بدلاً من التحلي بصبر أردوغان وحكومته على النظام السوري، الذي ما نفذ، ولن ينفذ، إلا بعد أن يدقّ الراس في الفأس، على حدّ قول المثل.

كان على هؤلاء، أن يسألو أنفسهم، وهم يدعون في آخر “اسطانبولياتهم” إلى “المجلس الوطني السوري”، كيف لتركيا أن تكون مع “مجلس وطني سوري” لا يمكن أن يُقبل من أعضائه، سورياً، بأقل من إسقاط النظام، فيما تركيا لا تزال مع هذا النظام تصبر عليه “صبراً جميلاً”، وتقدّم له الخريطة تلو الآخرى، والمخرج تلو الآخر، والنصيحة تلو الأخرى، وكلها عليه صبرٌ كثير وبالٌ طويل؟

ألم يمهل أردوغان عبر وزير خارجيته الذي أوفده في التاسع من الشهر الجاري إلى سوريا، النظام مهلة إسبوعين، كي يخرج الأسد دباباته وشبيحته من المدن، ويكفّ عن استخدام العنف ضد المدنيين، للدخول في حوار فوري مع المعارضة، وما إلى ذلك من نقاط وشروط أخرى تضمنتها خرائط الطريق التركية الكثيرة؟

ماذا كانت نتيجة هذا الصبر التركي الطويل “الجميل” بدون نفاذ، على نظام الأسد؟

النتيجة واضحة بالطبع، ألا وهي المزيد من القتلى وسفك الدماء واجتياح المدن وضربها بالدبابات والطائرات، والمزيد من خطف المدنيين والإعتقال والتعذيب بالجملة، على أيدي شبيحة النظام، وأخوانهم في أجهزة القمع السورية.

النتيجة، هي المزيد من إصرار الأسد ونظامه على العناد، والإستمرار في سلوك الحل الأمني والعسكري، بإعتباره أول حلول النظام وآخرها: إما الأسد أو لا أحد، على تعبير الزميل سمير الحجاوي.

أما تركياً، فنتيجة صبر أردوغان الطويل جداً على النظام، ومهله المفتوحة على الزمان، وخرائط الطريق الكثيرة، التي تُقدّم له بين الحين والآخر، فلا تزال الهروب إلى المزيد من الصبر، والمزيد من التاريخ، والمزيد من خرائط الطريق، لإنقاذ النظام من أزمته، لا سيما وإن “أمن تركيا واستقرارها، هو من أمن النظام واستقراره”، على حدّ قول الأسد أو إيحائه.

آن لهذا البعض السوري المعارض، الذي يسيطر عليه دائماً لون سوريّ واحد، وأقصد تحديداً لون أهل “الإسلام هو الحل”، أي “أخوان” أردوغان، آن لهم أن يدركوا أن تركيا الصبورة جداً على الأسد، تلعب بهم على وقع “الإسطانبوليات”، في ذات الوقت الذي تلاعب النظام، أما الضحية الأولى والأخيرة، فهي الثورة السورية وأهلها.

آن لهم أن يدركوا بأنّهم يشوشون ب”إسطانبوليتاهم” المكررورة هذه، والمجرورة دائماً ب”حروف جرّ” تركية، على الثورة السورية وأهلها، كما يُراد لها أن تركياً أن تكون، أكثر من دعمهم لها، كما يقولون.

آن لهم أن يدركوا بأنّ السياسة في الممكن، لعبٌ، شرط أن تكون فيها لاعباً لا ملعوباً به، كما تريد تركيا لهذا البعض السوري المعارض، دائماً مع كل إسطانبول، أن يكون.

آن لهم أن يدركوا بأن الثورة السورية، في شهرها السادس، قد تجاوزت “الإسطانبوليات” وما حولها من مؤتمراتٍ شكلية، تخرج علينا بين إسطانبول وضحاها، بجعجعة دون أن نرى طحيناً.

آن لهم أن يفهموا بأنّ شعوب المنطقة وعلى رأسها شعوب الثورات العربية، قد تجاوزت “إسطورة أردوغان”، ومعزوفاته ال”فوق عاطفية”، التي تعوّدت عليها شعوب العالمين العربي والإسلامي، ابتداءً من “معزوفته” الشهيرة التي قدّمها في قمة دافوس في 29 يناير 2009، وليس انتهاءً بآخر معزوفاته “الرحيمة”، التي قدمها لضحايا الجوع في الصومال.

أردوغان ما عاد “معلماً” كما كان. ولا عاد “خليفةً”، كما أُريد له أن يكون.

كان الأولى بهؤلاء أن يمشوا وراء الثورة السورية كتلاميذ، بدلاً من المشي وراء أردوغان “معلماً”.

السوريون في الداخل المشتعل، قالوا كلمتهم “لا” لتركيا التي لعبت ولا تزال تلعب حتى الآن بثورتهم، كملعوبٍ بها، فإلى متى سيصبر هذا البعض السوري المعارض على هذا اللعب التركي المكشوف بالثورة السورية وبدماء أهلها، كما يصبر أردوغان على الأسد “صبراً جميلاً”؟

كان الأولى بهؤلاء أن يفهموا بأنّ صبر الشعب السوري على نظام الأسد وصبر أردوغان “الجميل جداً”عليه، قد نفذ، فهل في هذا البعض السوري المعارض من إسطانبول إلى إسطانبول، من يسمع؟

ايلاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى