صفحات العالم

في الأزمة السورية


يوسف مكي

في مناقشة الأزمة السورية، أجد صعوبة بالغة في الحديث عنها بلغة المراقب والمحايد، والمحلل السياسي . فهنا تتداخل العواطف والوشائج والمكونات الفكرية والنفسية، وموقع سوريا في الخارطة السياسية للوطن العربي لتشكل مكابح تجعل القراءة حذرة ومترددة . ولعل هذه الأسباب هي مرد التأخر عن تناول ما يجري في هذا البلد العزيز بعد اندلاع حركة الاحتجاجات الشعبية .

من الصعب عزل ما يجري على الساحة السورية، من حراك شعبي عما جرى في تونس ومصر وليبيا واليمن وعدد آخر من البلدان العربية، فيما أصبح معروفاً بالربيع العربي . فهذه البلدان ترتبط بعلاقة الجغرافيا والتاريخ، وفي انتمائها لأمة واحدة، وأيضاً بالتشابه في كثير من مشكلاتها . ففي سورية أيضاً، كما في بقية البلدان العربية، هناك شعور عام بعجز النخب السياسية عن مقابلة استحقاقات الناس، على كل الصعد . لقد أخفقت النظم العربية في برامجها التنموية والسياسية، وحجبت عن الشعب حقه في تقرير مصائره وأقداره، من خلال حرمانه من تشكيل مؤسساته المعبرة عن تطلعاته في الحرية . وكان غياب المؤسسات الديمقراطية، بعناصرها المختلفة، وأهمها سيادة دولة القانون والفصل بين السلطات وتداول السلطة، وانتشار ظاهرة الفساد، وتغول البيروقراطية قد أدى إلى سيادة الاحتقان، وغياب الثقة في مؤسسات الحكم وانتهاء الأوضاع إلى ما هي عليه الآن .

ولأن مطلب الحرية هو الشعار الذي طغى على مختلف الشعارات في موسم الربيع العربي، بمختلف البلدان التي اندلعت فيها حركات احتجاجية، فإن نداء الحرية والمطالبة بالاصلاح الديمقراطي والسياسي في سوريا، جاء متماهياً مع بقية النداءات التي عمت عدداً من العواصم والمدن العربية .

وكان المؤمل أن تتنبه القيادة السورية للمستجدات التي تجري من حولها، خاصة بعد الأحداث الدراماتيكية التي أخذت مكانها في تونس ومصر . لقد تسلم حزب البعث السلطة في سوريا، في ظرف تاريخي عالمي مغاير، حيث كان العالم أثناءها منقسماً بين معسكرين، رأسمالي واشتراكي . وفي النظام الاشتراكي كان مقبولاً أن يتفرد حزب سياسي بقيادة السلطة والمجتمع، أما في النظام الرأسمالي، فرغم القول بالتعددية، جرت العادة أن تكون القوة السياسية لحزبين، يتناوبان على السلطة، وتحدد السياسات الاقتصادية والحاجة إلى تصعيد الضرائب أو تخفيضها، من يكون في موقع السلطة، ومن يكون في المعارضة . في مرحلة الثنائية القطبية لم يكن مستنكرا تفرد حزب سياسي على السلطة، وكانت قيادة حزب البعث للسلطة في سوريا ضمن تلك الظروف متسقة مع طابع المرحلة التاريخية .

تدفقت مياه كثيرة منذ سقوط حائط برلين في نهاية الثمانينات من القرن المنصرم، وبرزت مرحلة جديدة في التاريخ الإنساني، غدا فيها النضال من أجل التعددية والديمقراطية وتداول السلطة وتدشين مؤسسات المجتمع المدني من بديهياتها، وخلال الثلاثة عقود التي مضت توقع كثيرون أن يحدث في الوطن العربي، ما يقترب من الأحداث التي شهدتها أوروبا الشرقية، لكن ذلك لم يتحقق  لأسباب تاريخية وموضوعية، سنتناول مناقشتها في أحاديث قادمة، لكن مطالب التغيير والاصلاح بقيت كامنة منتظرة فرصتها .

توقع الذين تابعوا مسيرة النظام السوري، في ما يقرب من خمسة عقود، التي اتسمت بتبني سياسات براجماتية، قادرة على احتواء الأزمات، أن يتنبه النظام للمتغيرات الدراماتيكية التي تجري من حوله، وأن تكون الأحداث العاصفة في تونس ومصر فرصة للمراجعة، وتبني سياسات استباقية تحول دون بروز الأزمة بالشكل الذي آلت إليه، لكن ذلك للأسف لم يحدث رغم أن بوادر الوعي بالأزمة قد برزت لدى القيادة السورية منذ عدة سنوات، لكن الوعي بالأزمة شيء، واتخاذ خطوات استباقية بشأنها هو شيء آخر .

حدث ما هو محتوم، وبدأت المظاهرات الاحتجاجية المطالبة بالتغيير والاصلاح في عدد من المحافظات السورية، وتوقع كثيرون أن يعلن الرئيس بشار الأسد في خطابه الأول عن حزمة كبيرة من الإصلاحات، يكون لها تأثير مباشر في حركة الشارع، وتؤدي في نتائجها إلى انتقال سلمي في بنية النظام السياسية، من نموذج الحزب الواحد، إلى التعددية وتداول السلطة .

خلال الأربعة أشهر المنصرمة، أعلنت القيادة السورية عن مجموعة من الإصلاحات السياسية، لكنها لم تحدث الأثر المطلوب بسبب تراكمات الماضي، ولأنها جاءت بصيغة الجرعات البطيئة، التي لا تتناسب مع زخم حركة الاحتجاج، وأيضا لأنها تزامنت مع معالجات أمنية واسعة للأزمة، تجاوزها الزمن ولن تعود قادرة على تحقيق الأهداف التي يبتغيها النظام .

لا مناص من الحوار الخلاق والمبدع بين مختلف مكونات النسيج الاجتماعي والسياسي في سوريا، وصولا إلى الاتفاق على ميثاق وطني شامل، يجري طرحه لاحقا على الشعب للاقتراع عليه . إن ذلك وحده الذي ينقل الأزمة من حالتها المستعصية، المضمخة بالدم إلى حالة نهوض تزج بقوى الشعب في معركة الديمقراطية والحرية والبناء، حفاظا على وحدة سوريا وأمنها واستقرارها الوطني، وتمكينها من مواصلة دورها القومي الريادي في التصدي مع شقيقاتها الدول العربية للمشروع الاستيطاني الصهيوني، وتفعيل العمل العربي المشترك .

في هذا السياق، نأمل بأن تأخذ القيادة السورية والمعارضة الوطنية، بالحسبان المبادرة القومية الحكيمة التي تقدم بها عدد من المفكرين والمناضلين العرب، وغالبيتهم من الشخصيات التي كان لها حضور قوي في العمل الوطني والقومي، والتي وجهوها للقيادة السورية، وأعلنوا فيها عن خوفهم وخشيتهم على مستقبل سوريا، وأبدوا استعدادهم للعمل مع القيادة السورية والمعارضة الوطنية للتوصل إلى سياقات عملية تتحقق من خلالها مطالب التغيير والإصلاح، وتضمن في ذات الوقت انتقالا سلميا نحوها إن الشخصيات التي وقعت على هذه المبادرة تحظى بتقدير واحترام من مختلف الأطراف بما يؤهلها للعب دور حقيقي في إنقاذ سوريا، ولكن ذلك على أية حال، هو رهن لموافقة القيادة والمعارضة عليها، وتبني خطوات عملية لتفويضها بذلك .

نتضرع إلى المولى في هذا الشهر الكريم، أن ينقذ سوريا ويحمي شعبها، وأن يتوقف شلال الدم، والنزيف السياسي والاقتصادي لهذا البلد الشقيق، وأن تعود البهجة والفرح على شفاه الجرحى والثكالى، إنه سميع مجيب .

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى