صفحات سورية

في البعث الواحد.. المعارضة وفقدان القيادة الموحدة


علي جازو

ظل الشأن السياسي السوري الداخلي خاوياً لعقود طويلة. كثير، ممن عارض الحكم الأبدي، ومصائب التوريث العائلي، قضى في المعتقلات أو هرم داخل سجون ‘الوحدة الوطنية’ الإجبارية. لم يستشر أحد فيما إذا كان راضياً عن أحوال بلده. لم ينتخب ولا دار في باله فرق بين انتخاب واستفتاء. لم يسمح القمع السري والعلني لأية قوة سياسية معارضة بتشكيل وعي وجمهور سياسي بديل، مختلف المشارب والطموحات نظراً لتعدد مكونات المجتمع السوري، خا رج قيود فكر البعث الشمولي الفكر الواحد المنغلق والمنتشر عنوة بدءاً من مدرسة الطفل (حيث يجبر التلاميذ ترداد شعار البعث ويمتحنون في حفظ انجازاته العملاقة) وانتهاء بالجيش الذي شوهت وظيفته الأساسية من حماية حدود الدولة والحفاظ على أمنها إلى التضحية المجانية، إلى الأبد، من ‘أجل تحقيق أهداف الأمة العربية’ ثم هدر الاقتصاد في جيوب ‘المقاومة والمما نعة’ ذات ‘الأقداس’ المؤلهة لا تتأثر بالواقع السوري المركب، ولا صلة لها بتجربة وحياة المجتمع الفعلية ومعاناته ومشاغله الأساسية. والحال أن السياسة لم تكن سوى منع من أي حركة سياسية، كانت جموداً قاهراً وقبولاً بالأمر كرهاً.

ومنذ الاحتجاجات أواسط آذار الماضي، التي لم يخطط لها أحد لا في الداخل ولا الخارج، وإن كان الاحتقان الداخلي المديد بيئة مناسبة لاندلاع أية شرارة بعيد الزلزالين التونسي والمصري، لم يظهر نظام القمع في سورية سوى أنيابه. استسهل وتمادى في القتل الفوري مقابل تواصل الاحتجاج السلمي و لم يتوقف عن الاعتقال والتعذيب. كذب وتضليل في الإعلام، وقسوة مريعة في القمع. ومع ذلك لم يكف يوماً عن الدعوة إلى الحوار، ولم يكف عن تأجيله إلى غد لا يسمح القتل بحلوله. يتبخر الحوار في سخف الحجج وتصنع الحرص وضبابية اللغة المجردة التي تزيد الواقع اختناقاً وتحجباً، ولا يلبث أن يسقط في خواء مقيت ومتاهة قاحلة. يحتاج الحوار إلى فضاء حر، إلى محد دات علنية مفصلة وقابلة للترجمة العملية، لكن فضاء النظام مغلق وبلا جهة عدا المضي في القتل والترويع والاعتقال وخلط الحقا ئق بغية تفريغها من مضمونها السياسي وقوتها الأخلاقية. هذا نظام مبني ضد مفاعيل الزمن، ضد التحول داخله وخارجه. وكلما تقدم به الوقت بدا أكثر عنفاً وتخبطاً. من ليس له رؤية قا بلة للحياة لا يرى سوى تفجير الدم في وجه من يريد أن يرى حياته كما يريد، ويتكلم في مآل مجتمعه ودولته. القمع لغة من لا يتكلم ولا يصغي، لغة من يحتقر الكلام ويهين الفكر، ويزدري الحوار.

كانت السياسة جائعة إلى واقع يغذي قواها المتهالكة، وكان الواقع مغلقاً في وجهها وفمها، ومنذ أن سال دم، دم كثير في الشوارع، حتى عادت إلى ما ينبغي أن تكون: فعلاً عاماً وهماً يستوي في إبداء الرأي فيه الطالب والعامل اليومي، صاحب المال والعا طل عن العمل، الفقير والغني، الكاتب والمثقف، والمرأة سيدة المنزل والرجل الأب العادي. كانت من قبل وجهاً واحداً يخفي بظلامه كل وجه، وصارت الآن وجوهاً لا تحــــصى وأصواتاً لا تعد.

من أخفى الحقيقة بالقهر، صار يخشى صوت الحقيقة في العلن. من لم يتكلم من قبل استعا د قيمة صوته وجدوى كلامه. صار له حضور مادي، امتلك معنى وهدفاً لوجوده على الأرض وفي الشارع، على الكومبيوتر وفي أفق الكتابة.

استعاد الناس إرادة أعدمت زمناً طويلاً، أظهروا حرارة إرادة وبسالة استثنائية لم يحسوا بقوتها وضرورتها الإنسانية قبل السياسية منذ أكثر من نصف قرن. عبر درب الآلام يتعرف السوريون إلى بعضهم اليوم، آلامهم تحركهم وتضمهم، توحدهم وتعيدهم إلى حياتهم التي عطلت وفرغت من أي معنى. هذه العودة إلى الحياة، هذه الصحوة غير المتوقعة، لم تأت إلا من خلال الدم، دم الضحايا والمعذبين. جاءت الصحوة من صرخة الألم ومن قلب الخسارة. النظام الذي خنق الناس وأخرسهم بدأ يختنق بأصواتهم وكلماتهم. إنه يظهر شراسة سافلة لكنها شراسة الخاوي والساقط، شراسة من لا يمتلك أي ضمير ولا رادع إنساني.

يؤخذعلى المعارضة في سورية تشتتها وافتقا رها إلى الحيوية والسرعة في تجميع قواها داخل أطر واسعة وفاعلة. لكن هذا التشتت ربما يحسب في صالحها. إنها غير موجودة في مركز سياسي جامع ومحدد، تفتقر إلى زعامات شخصية وقد رات فاعلة على الارض. غير أن افتقارها إلى التحديد الجامع يرهق من قوة النظام في تحجيمها وإضعافها. هكذا يغدو عدم انتظامها في إطار واحد سمة قوة لها. يمكن أن تظهر في أية بلدة أو حي أو مدينة. إنها بلا وقت وبلا مكان لأنها داخل وقتها ومكانها. يغدو شاب غفل قائداً، وتغدو لوحة كرتونية بسيطة شعاراً عاماً.

إنها تشع، تتسع وتتنامى دونما أن يكون خلفها حزب بعينه أو حركة معروفة القيادات. وهذا يربك النظام أكثر فأكثر وينهك من قوته ويشتتها. إن قوة أجهزة القمع تتأتى من قدرتها على تحديد خصومها الأساسيين، وفي الحالة السورية الراهنة، حيث يعجز النظام عن تحديد وبالتالي حبس خصمه، تتمكن المعارضة المشتتة من الإفلات من قبضته. كان القمع شبحيا، فغدا مرئياً، وكانت المعارضة سرية وشبه سرية فصارت علنية وعامة وشعبية. كلما تماسك العام والشعبي واتسع مدى صبره وقدرة تحمله، كلما تقلص وتيبس فائض العنف لدى القامع. رهان المعارضة الآن على الوقت، لا على دور تركي غامض، ولا أمريكي غير مطمئن، فمطالب المحتجين غدت أكثر وضوحاً وتمركزاً، فيما قواهم الفاعلة تزداد عدداً وانتشاراً. من يصبر الآن يربح الغد، من يعض على الألم يكسر طغيان من فقد الإحساس به. لا ولم تبحث الثورة عن قيادات، إنها ماضية في النصر، وستنتصر.

‘ كاتب من سورية

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى