صفحات العالم

في الحرص على سوريا


فواز طرابلسي

لم يتغيّر شيء يُذكر في أداء النظام السوري إزاء الازمة الدموية العاصفة بالبلد الجار والشقيق.

يتأكد الآن اكثر من اي وقت مضى ان المعادلة التي تتحكم بسلوكه كانت ولا تزال هي معادلة القمع للشعب في الداخل والمكاراة والتفاوض على مشاريع الإصلاح مع الدول، على اختلافها، في الخارج. وعبثا يبحث المرء في خطاب النظام عن أدنى تعارض بين دفاعه العنيد ضد أي تدخل خارجي في الشؤون الداخلية لسوريا، ولو من طرف عربي رسمي مشترك مثل الجامعة العربية، وبين النشاط المحموم الذي تبذله الدبلوماسية السورية مع كافة الاطراف العربية والاقليمية والدولية خلال الاسبوع الاخير خصوصا في وقت يتزايد فيه الضغط عبر مجلس الامن الدولي لطرح الاوضاع في سوريا.

النظام ضد التعريب والأقلمة والتدويل؟ ها هو نفسه يعرّب أزمته ويأقلمها ويدوّلها.

مهدت موسكو لزيارة السيدة بثينة شعبان بخطوتين متضاربتين ـ لقاء مع ممثلين عن المعارضة السورية واتهام المعارضة ذاتها بأنها تحوي «إرهابيين» في صفوفها، على امل اكتساب روسيا لمزيد من المصداقية عندما سوف تتقدم بمشروع قرار الى مجلس الامن يدين العنف السلطوي في سوريا بلهجة شديدة لكنه لا يصل الى فرض عقوبات.

وفي وقت يبدو فيه ان تركيا خسرت اي امكانية جدية للعب دور الوسيط في الازمة السورية، بعد اعلان المسؤولين فيها ان النظام السوري يفقد شرعيته وتحذيرهم حكام دمشق بأن الذي يحكم بالدم يسقط بالدم، يقدّم النظام الايراني نفسه بمظهر متوازن، فيحذّر من الفراغ في حال سقوط النظام لكنه يؤكد ان العنف ليس حلا ويتحدث عن ضرورة «تلبية المطالب الشعبية» وصولا الى بيت القصيد وهو السعي لأخذ مكان تركيا في الدعوة الى حل يتم في «الاطار الاسلامي».

على مسار آخر، انتهت زيارة امين عام الجامعة العربية، نبيل العربي، لدمشق وقد اكتفى منها بأن اعلن من القاهرة ان الاتفاق قد تم «على خطوات الاصلاح» وأدان أي تدخل عسكري في سوريا. لم يقابل تصريح العربي من دمشق بغير التحذير بعدم الانسياق وراء «حملة تزوير الحقائق» التي «تستهدف أمن سوريا واستقرارها».

لا حاجة للتكهن بأن السيد العربي سمع ردودا على «خطوات الإصلاح» التي تقدّم بها فحواها انها جميعا قيد التنفيذ. فالحوار الوطني المقترح قد بوشر به في «حوار المحافظات» تختار السلطة فيه «محاوريها». وبديلا من فتح ابواب المعتقلات السورية لإطلاق سراح معتقلي الرأي والسياسة، كما تطالب مبادرة الجامعة العربية، هناك امين عام الصليب الاحمر الدولي يزور السجن المركزي في دمشق، وهو ليس معروفا بأنه من الامكنة التي يعتقل او يسجن او يعذَّب فيها المعتقلون السياسيون.

اما الاصلاحات ذاتها، فالمذهل هو كيف تتقصد ان لا تلتقي او بالكاد مع أي مطلب جاد من المطالب التي يرفعها مئات الالوف من السوريين المتظاهرين والمحتجين ليل نهار في الشوارع والقرى والضواحي والاحياء. ولسنا نتحدث هنا عن مطالبة هؤلاء بتغيير النظام حتى لا نتحدث عن اسقاطه. بل بما هو أدنى من ذلك بكثير.

يتم الترخيص للاحزاب في لجنة يرأسها وزير الداخلية ويعيّن أعضاءها رئيس الدولة، أي الامين العام للحزب القائد دستوريا للدولة والمجتمع، وهو الحزب الذي يملك امتياز إنشاء فروع له خارج الوطن إضافة الى احتكاره العمل الحزبي في الجيش وبين الطلاب، وكلاهما محظور على سائر الاحزاب تحت طائلة العقوبات. أي لا بحث في تعديل المادة الثامنة من الدستور.

قانون انتخابات لا يزال قائما على اساس الترسيمة الموجودة منذ مطلع حكم البعث في الستينيات، حيث نصف الاعضاء للمستقلين والنصف الآخر لمندوبي العمال والفلاحين، ولم يعد يوجد بينهم الا من بات ذا صلة قريبة او بعيدة باستغلال العمال والفلاحين والتحكم بهم. اما الانتخابات الرئاسية فتعددية للعام ٢٠١٤ وهو ما قدمه النظام السوري للادارة الاميركية منذ مطلع الازمة. أي لا بحث في اي تعديل جدي في الصلاحيات التنفيذية الاستثنائية للرئيس السوري، كائنا من كان.

وأما قانون الإعلام فيوحي بأنه قد سُنّ للإعلام الرسمي، لتركيزه على ضمان حرية الرأي ـ المشروطة ـ للصحفيين، فيما الموضوع الفعلي هو حرية الصحافة الحرة التعددية وحرية الرأي للمواطنين.

وللذين لم يقتنعوا بعد بأن الحرب ضد «الجماعات الارهابية المسلحة» نموذج عن مبتكرات الذهن المخابراتي حيث كل إجراء يخدم أكثر من غرض ولو كان متناقضا احيانا. تزايد تلك الرواية على القوى الغربية بـ«لغتها» مدعيا انها تؤيد تلك الجماعات التي تشن هي ذاتها عليها «الحرب الكونية ضد الارهاب، وتوفر، داخليا، ذريعة لحملات عسكرية أمنية غرضها الأساسي ترويع المدنيين والسعي لثنيهم عن النزول الى الشارع. فلو افترضنا جدلا أن مصطلح «إرهاب» ينطبق على مسلحين متمردين على السلطة السورية، وهو تعريف يصعب ان ينطبق على التعريف الدولي المتداول عن «الارهاب» بما هو ممارسة للعنف او التهديد به ضد مدنيين لاغراض سياسية. مهما يكن، لنفترض ان ٥٠٠ قتيل من أفراد الجيش وقوى الامن قد سقطوا برصاص تلك «المجموعات»، حسب الارقام الرسمية، يبقى السؤال: من قتل الالفي ضحية اضافية من ضحايا هذه الاشهر الستة من العنف المنفلت من عقاله؟ ومن اعتقل العشرين الف معتقل او يزيد؟ ومن المسؤول عن اختفاء آلاف المخطوفين؟ وعن العشرات من المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب؟ وهل ان الآلاف المؤلفة التي تنزل الى الشارع يوميا هي ذاتها «مجموعات ارهابية المسلحة»؟ وإذا كانت المعركة الدائرة رحاها هي حصرا معركة ضد «المجموعات الارهابية المسلحة»، ما مبرر صدور المرسوم التشريعي رقم ١١٠ الذي يزيد العقوبات على «أعمال الشغب» التي يجري تعريفها كالاتي: «كل حشد او تجمع على الطرق العامة او في مكان مباح للجمهور يعدّ تجمعا للشغب ويعاقب عليه بالحبس من شهر الى سنة وبالغرامة بخمسين ألف ليرة سورية»، وهذا يعني ان أجهزة الأمن تستطيع اعتقال مواطنين متجمعين عند فرن للخبز او حول كشك لشراب التوت الشامي عند مدخل سوق الحميدية!

ثمة حريصون على سوريا يتذكرون رأيا ساد بعد حرب تشرين ينهي عن أي مغامرة عسكرية ضد إسرائيل لتحرير الجولان لأنها سوف تؤدي الى تدمير المدن السورية والبنية التحتية وما حققه نظام البعث من إنجازات. بغض النظر عن وجاهة هذا الرأي، في نظرة استرجاعية، ومهما تكن قيمة الانجازات المعنية، لا بد ان نسجّل اننا الشهود المفجوعون عن وحدات من الجيش المعدّ لتحرير الجولان تدمّر في المدن والقرى السورية التي أريد حمايتها من الدمار الاسرائيلي!

وثمة حريصون على سوريا يضعون اليد على القلب عندما تتصاعد دعوات من الشارع أو من أطراف من المعارضة تطالب بالحماية الدولية. ولكنهم يرفضون في الآن ذاته لوم الضحية عندما يكون في مواجهتها من لا يقدّم لها من خيار غير الاستغاثة من الرمضاء بالنار.

ومع ذلك فكثيرون من الحريصين على سوريا لا زالوا يأملون بأنه لا يزال من خيار آخر غير ان يستجيروا من الرمضاء بالنار.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى